قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
62 سورة الجمعة - 1 - 8
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يُسبِّحُ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى
الأَرْضِ المَْلِكِ الْقُدّوسِ الْعَزِيزِ الحَْكِيمِ (1) هُوَ الّذِى بَعَث فى
الأُمِّيِّينَ رَسولاً مِّنهُمْ يَتْلُوا عَلَيهِمْ ءَايَتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ
وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَب وَ الحِْكْمَةَ وَ إِن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِى
ضلَلٍ مّبِينٍ (2) وَ ءَاخَرِينَ مِنهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بهِمْ وَ هُوَ
الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (3) ذَلِك فَضلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ
ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التّوْرَاةَ ثمّ لَمْ
يحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يحْمِلُ أَسفَارَا بِئْس مَثَلُ الْقَوْمِ
الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِ اللّهِ وَ اللّهُ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ
(5) قُلْ يَأَيهَا الّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنّكُمْ أَوْلِيَاءُ للّهِ
مِن دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا المَْوْت إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (6) وَ لا
يَتَمَنّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدّمَت أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمُ
بِالظلِمِينَ (7) قُلْ إِنّ الْمَوْت الّذِى تَفِرّونَ مِنْهُ فَإِنّهُ
مُلَقِيكمْ ثُمّ تُرَدّونَ إِلى عَلِمِ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ فَيُنَبِّئُكُم
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
بيان
غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة و القيام بواجب أمرها
فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها و الاهتمام بأمرها صلاح أخراهم و
دنياهم، و قد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه و الثناء عليه
بما من على قوم أميين برسول منهم أمي يتلو عليهم آياته و يزكيهم بصالحات
الأعمال و الزاكيات من الأخلاق و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيحملهم كتاب الله و
معارف دينه أحسن التحميل هم و من يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين
فليحملوا ذلك أحسن الحمل، و ليحذروا أن يكونوا كاليهود حملوا التوراة ثم لم
يحملوا معارفها و أحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفارا.
ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع و السعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة، و قرعهم على ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما يخطب و
الانفضاض و الانسلال إلى التجارة و اللهو، و ذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من
معارف كتاب الله و أحكام، و السورة مدنية.
قوله تعالى: "يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض الملك القدوس العزيز
الحكيم" التسبيح تنزيه الشيء و نسبته إلى الطهارة و النزاهة من العيوب و
النقائص، و التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، و الملك هو الاختصاص
بالحكم في نظام المجتمع، و القدوس مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و
العزيز هو الذي لا يغلبه غالب، و الحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو
جزاف.
و في الآية توطئة و تمهيد برهاني لما يتضمنه قوله: "هو الذي بعث" إلخ، من بعثة
الرسول لتكميل الناس و إسعادهم و هدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.
و ذلك أنه تعالى يسبحه و ينزهه الموجودات السماوية و الأرضية بما عندهم من
النقص الذي هو متممه و الحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا و هو
المرجو في تمامها و قضائها فهو المسبح المنزهعن كل نقص و حاجة فله أن يحكم في
نظام التكوين بين خلقه بما شاء، و في نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟
و هو ملك له أن يحكم في أهل مملكته و عليهم أن يطيعوه.
و إذا حكم و شرع بينهم دينا لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم و نقص فيه يتممه
بعبادتهم لأنه قدوس منزه عن كل نقص و حاجة.
ثم إذا حكم و شرع و بلغه إياهم عن غنى منه و دعاهم إليه بوساطة رسله فلم
يستجيبوا دعوته و تمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز
لا يغلبه فيما يريده غالب.
ثم إن الذي حكم و شرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغى لا
أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة و لا يريد منهم ما
يريد إلا لنفع يعود إليهم و خير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم و أخراهم.
و بالجملة فتشريعه الدين و إنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته، و
يزكيهم و يعلمهم من منه تعالى و فضل كما قال: "هو الذي بعث" إلخ.
قوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم" إلخ، الأميون جمع أمي و هو
الذي لا يقرأ و لا يكتب، و المراد بهم - كما قيل - العرب لقلة من كان منهم يقرأ
و يكتب و قد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم أي من جنسهم و هو غير
كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم و كان مرسلا إلى الناس كافة.
و احتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود - على ما حكى
الله عنهم -: "ليس علينا في الأميين سبيل": آل عمران: 75.
و فيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية: "يتلوا عليهم آياته" إلخ، فإنه (صلى
الله عليه وآله وسلم) لم يخص غير العرب و غير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم
يلقه إليهم.
و احتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.
و فيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير "يزكيهم و يعلمهم" راجعا
إلى المهاجرين و من أسلم من أهل مكة بعد الفتح و أخلافهم و هو بعيد من مذاق
القرآن.
و لا منافاة بين كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأميين مبعوثا فيهم و بين
كونه مبعوثا إليهم و إلى غيرهم و هو ظاهر، و تلاوته عليهم آياته و تزكيته و
تعليمه لهم الكتاب و الحكمة لنزوله بلغتهم و هو أول مراحل دعوته و لذا لما
استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو اليهود و
النصارى و المجوس و كاتب العظماء و الملوك.
و كذا دعوة إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) على ما حكى الله تعالى: "ربنا و
اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك - إلى أن قال - ربنا و ابعث فيهم
رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم": البقرة:
129، تشمل جميع آل إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة و غيرهم، و لا ينافي كونه
(صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوثا إليهم و إلى غيرهم.
و قوله: "يتلوا عليهم آياته" أي آيات كتابه مع كونه أميا.
صفة للرسول.
و قوله: "و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة" التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى
النمو الصالح الذي يلازم الخير و البركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحا
بتعويدهم الأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم
حالهم في دنياهم و آخرتهم يعيشون سعداء و يموتون سعداء.
و تعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته و تفسير ما أشكل من ذلك، و يقابله تعليم
الحكمة و هي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن، و التعبير عن القرآن تارة
بالآيات و تارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها -
كما قيل -.
و قد قدم التزكية هاهنا على تعليم الكتاب و الحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم
(عليه السلام) لأن هذه الآية تصف تربيته (صلى الله عليه وآله وسلم) لمؤمني
أمته، و التزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة و المعارف
الحقيقية و أما ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) فإنها دعاء و سؤال أن يتحقق
في ذريته هذه الزكاة و العلم بالكتاب و الحكمة، و العلوم و المعارف أقدم مرتبة
و أرفع درجة في مرحلة التحقق و الاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال و
الأخلاق.
و قوله: "و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" "إن" مخففة من الثقيلة و المراد
أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضلال مبين، و
الآية تحميد بعد تسبيح و مسوقة للامتنان كما سيأتي.
قوله تعالى: "و آخرين منهم لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم" عطف على الأميين
و ضمير "منهم" راجع إليهم و "من" للتبعيض و المعنى: بعث في الأميين و في آخرين
منهم لم يلحقوا بهم بعد و هو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا
يلغو و لا يجازف في فعله.
قوله تعالى: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم" الإشارة بذلك
إلى بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - و قد فخم أمره بالإشارة البعيدة -
فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) المخصوص بالفضل، و المعنى: ذلك البعث و كونه
يتلو آيات الله و يزكي الناس و يعلمهم الكتاب و الحكمة من فضل الله و عطائه
يعطيه من تعلقت به مشيته و قد شاء أن يعطيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الله ذو الفضل العظيم كذا قال المفسرون.
و من الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من
المرسل و المرسل إليهم، و المعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء و قد
شاء أن يخص بهذا الفضل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فاختاره رسولا، و أمته
فاختارهم لذلك فجعله منهم و أرسله إليهم.
و الآية و الآيتان قبلها أعني قوله: "هو الذي بعث - إلى قوله - العظيم" مسوقة
سوق الامتنان.
قوله تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا"
إلخ، قال الراغب: السفر - بالفتح فالسكون - كشف الغطاء و يختص ذلك بالأعيان نحو
سفر العمامة عن الرأس و الخمار عن الوجه - إلى أن قال - و السفر - بالكسر
فالسكون - الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى: "كمثل الحمار يحمل أسفارا"
انتهى.
و المراد بتحميل التوراة تعليمها، و المراد بحملها العمل بها على ما يؤيده
السياق و يشهد به ما في ذيل الآية من قوله: "بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات
الله"، و المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله
التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام) فعلمهم ما فيها من المعارف و الشرائع
فتركوها و لم يعملوا بها فحملوها و لم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل
أسفارا و هو لا يعرف ما فيها من المعارف و الحقائق فلا يبقى له من حملها إلا
التعب بتحمل ثقلها.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على
المسلمين من بعث نبي أمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه و يزكيهم و
يعلمهم الكتاب و الحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى و من حضيض الجهل
إلى أوج العلم و الحكمة و سيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب و توبيخ إلى ما
صنعوه من الانفضاض و الانسلال إلى اللهو و التجارة و النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قائم يخطبهم يوم الجمعة و هو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك
الدينية و يكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها و لا نزلوها منزلتها.
فاعترض الله سبحانه بهذا المثل و ذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم
يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا و لا ينتفع بما فيها من المعرفة و الحكمة،
فعليهم أن يهتموا بأمر الدين و يراقبوا الله في حركاتهم و سكناتهم و يعظموا
رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يوقروه و لا يستهينوا بما جاء به، و ليحذروا
أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدهم الله
جهلة ظالمين و شبههم بالحمار يحمل أسفارا.
و في روح المعاني،: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك
الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة و على السنة أنبياء
بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي
الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها و علمه ثم لم يؤمن به مثل
الحمار.
انتهي.
و أنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.
قوله تعالى: "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين" احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم
أولياء الله و أحباؤه، و قد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله: "و قالت
اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه": المائدة: 18، و قوله: "قل إن كانت
لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس": البقرة: 94، و قوله: "و قالوا
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا": البقرة: 111.
و محصل المعنى: قل لليهود مخاطبا لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم
أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي
يحب لقاء وليه و من أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة و لا حاجب بينه و بينها إلا
الموت أحب الموت و تمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة و يتخلص من هذه الحياة
الدنية التي ما فيها إلا الهم و الغم و المحنة و المصيبة.
قيل: و في قوله: "أولياء لله" من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير
حقيقة.
قوله تعالى: "و لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم و الله عليم بالظالمين" أخبر
تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم لا يتمنونه أبدا بعد ما أمره أن
يعرض عليهم تمني الموت.
و قد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم و هو كناية عن الظلم و الفسوق،
فمعنى الآية: و لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا
ظالمين و الله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية
بينه و بينهم و لا محبة.
و الآيتان في معنى قوله تعالى: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من
دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم و
الله عليم بالظالمين": البقرة: 95.
قوله تعالى: "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب
و الشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون" الفاء في قوله: "فإنه ملاقيكم" في معنى
جواب الشرط، و فيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال
أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردون إلى ربهم الذي خرجوا من زي عبوديته
بمظالمهم و عادوه بأعمالهم و هو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها و باطنها فإنه عالم
الغيب و الشهادة فينبؤهم بحقيقة أعمالهم و تبعاتها السيئة و هي أنواع العذاب.
ففي الآية إيذانهم أولا: أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم و يلاقيهم،
و ثانيا: أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم
السيئة، و ثالثا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها و باطنها و لا
يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب و الشهادة.
ففي الآية إشارة أولا: إلى أن الموت حق مقضي كما قال: "كل نفس ذائقة الموت":
الأنبياء: 35، و قال: "نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين": الواقعة: 60.
و ثانيا: أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.
و ثالثا: أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.
و رابعا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم و للإشارة إلى ذلك بدل اسم
الجلالة من قوله: "عالم الغيب و الشهادة".
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم": عن أبيه
عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية
قال: كانوا يكتبون و لكن لم يكن معهم كتاب من عند الله و لا بعث إليهم رسول
فنسبهم الله إلى الأميين.
و فيه،: في قوله تعالى: "و آخرين منهم لما يلحقوا بهم" قال: دخلوا الإسلام
بعدهم.
و في المجمع، و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية فقيل
له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان بالثريا لنالته
رجال من هؤلاء.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من جوامع الحديث منها صحيح البخاري و
مسلم و الترمذي و النسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و
فيه: فوضع يده على رأس سلمان الفارسي و قال: و الذي نفسي بيده لو كان العلم
بالثريا لناله رجال من هؤلاء.
و روي أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة: أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو أن الإيمان بالثريا لناله رجال من أهل
فارس.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة - ثم لم يحملوها
كمثل الحمار" قال: الحمار يحمل الكتب و لا يعلم ما فيها و لا يعمل به كذلك بنو
إسرائيل قد حملوا مثل الحمار لا يعلمون ما فيه و لا يعملون.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من تكلم يوم الجمعة و الإمام يخطب فهو كالحمار
يحمل أسفارا و الذي يقول له: أنصت ليس له جمعة.
أقول: و فيه تأييد لما قدمناه في وجه اتصال الآية بما قبلها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "قل يا أيها الذين هادوا" الآية، قال: إن في
التوراة مكتوب: أولياء الله يتمنون الموت.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم
الدنيا و خربتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب
كلام في معنى تعليم الحكمة
لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمرها في هذه النشأة من سنة يستن بها
فيما يريد و يكره، و يجري عليها في حركاته و سكناته و بالجملة جميع مساعيه في
الحياة.
و تتبع هذه السنة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العام و
حقيقة نفسه و ما بينهما من الربط، و يدل على ذلك ما نجد من اختلاف السنن و
الطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود و الإنسان الذي هو جزء
منها.
فمن لا يرى لما وراء المادة وجودا، و يقصر الوجود في المادي، و ينهي الوجود إلى
الاتفاق، و يرى الإنسان مركبا ماديا محدود الحياة بين التولد و الموت لا يرى
لنفسه من السعادة إلا سعادة المادة و لا غاية له في أعماله إلا المزايا المادية
من مال و ولد و جاه و غير ذلك، و لا بغية له إلا التمتع بأمتعة الدنيا و الظفر
بلذائذها المادية أو ما يرجع إليها و تنتهي جميعا إلى الموت الذي هو عنده
انحلال للتركيب و بطلان.
و من يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزه عن المادة، و أن وراء الدار دارا و
بعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنته و طريقته الطائفة المتقدم ذكرها فيتوخى في
أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى و يختلف صور أعمالهم و غاياتهم و آراؤهم
مع الطائفة الأولى.
و يختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيين من
البرهميين و البوذيين و غيرهم و المليين من المجوسية و الكليمية و المسيحية و
المسلمين فلكل وجهة هو موليها.
و بالجملة الملي يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبدة
و يذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادعائه أنه يجب على الإنسان أن يمهد لعالم
البقاء و أن يتوجه إلى ربه، و أن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا
الفانية و غير الملي الخاضع للمادة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كله مما لا ريب فيه.
غير أن الإنسان لما كان بحسب طبعه المادي رهينا للمادة مترددا بين الأسباب
الظاهرية فاعلا بها منفعلا عنها لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك،
يرى - بحسب ما يخيل إليه - أن الأصالة لحياته الدنيوية المنقطعة، و أنها و ما
تنتهي إليه من المقاصد و المزايا هي الغاية الأخيرة و الغرض الأقصى من وجوده
الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.
فالحياة الدنيا هي الحياة و ما عند أهلها من القنية و النعمة و المنية و القوة
و العزة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، و ما يعدونه فقرا و نقمة و حرمانا و ضعفا و
ذلة و رزية و مصيبة و خسرانا هي هي و بالجملة كل ما تهواه النفس من خير معجل أو
نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق و نفع مطلق، و كل ما لا تهواه فهو شر أو ضر.
فمن كان منهم من غير أهل الملة جرى على هذه الآراء و لا خبر عنده عما وراء ذلك،
و من كان منهم من أهل الملة جرى عليها عملا و هو معترف بخلافها قولا فلا يزال
في تدافع بين قوله و فعله قال تعالى: "كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم
قاموا": البقرة: 20.
و الذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد و العمل هو ما يطابق مقتضى
الفطرة الإنسانية التي فطر عليها الإنسان و تثبت عليه خلقته كما قال: "فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم": الروم: 30.
و من المعلوم أن الفطرة لا تهتدي علما و لا تميل عملا إلا إلى ما فيه كمالها
الواقعي و سعادتها الحقيقية فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ و
المعاد و ما يتفرع عليها من الآراء و العقائد الفرعية علوم و آراء حقة لا تتعدى
سعادة الإنسان و كذا ما تميل إليه من الأعمال.
و لذا سمى الله تعالى هذا الدين المبني على الفطرة بدين الحق في مواضع من كلامه
كقوله: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق": الصف: 9.
و قال في القرآن المتضمن لدعوته: "يهدي إلى الحق": الأحقاف: 30.
و ليس الحق إلا الرأي و الاعتقاد الذي يطابقه الواقع و يلازمه الرشد من غير غي،
و هذا هو الحكمة - الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، و في نفعه فلا
يعقبه ضرر - و قد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله: "و أنزل الله
عليك الكتاب و الحكمة": النساء: 113، و وصف كلامه المنزل بها فقال: "و القرآن
الحكيم": يس: 2، و عد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) معلما للحكمة في مواضع
من كلامه كقوله: "و يعلمهم الكتاب و الحكمة": الجمعة: 2.
فالتعليم القرآني الذي تصداه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المبين لما نزل
من عند الله من تعليم الحكمة و شأنه بيان ما هو الحق في أصول الاعتقادات
الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود و حقيقة الإنسان
الذي هو جزء منه - كما تقدمت الإشارة إليه - و ما هو الحق في الاعتقادات
الفرعية المترتبة على تلك الأصول مما كان مبدأ للأعمال الإنسانية و عناوين
لغاياتها و مقاصدها.
فالناس - مثلا - يرون أن الأصالة لحياتهم المادية حتى قال قائلهم: "ما هي إلا
حياتنا الدنيا": الجاثية: 24، و القرآن ينبههم بقوله: "و ما هذه الحياة الدنيا
إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان": العنكبوت: 64، و يرون أن العلل
و الأسباب هي المولدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة و موت و صحة و مرض و غنى و
فقر و نعمة و نقمة و رزق و حرمان "بل مكر الليل و النهار": سبأ: 33، و القرآن
يذكرهم بقوله: "ألا له الخلق و الأمر": الأعراف: 54، و قوله: "إن الحكم إلا
لله": يوسف: 67، و غير ذلك من آيات الحكمة، و يرون أن لهم الاستقلال في المشية
يفعلون ما يشاءون و القرآن يخطئهم بقوله: "و ما تشاءون إلا أن يشاء الله":
الإنسان: 30، و يرون أن لهم أن يطيعوا و يعصوا و يهدوا و يهتدوا و القرآن
ينبئهم بقوله: "إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء": القصص: 56.
و يرون أن لهم قوة و القرآن ينكر ذلك بقوله: "إن القوة لله جميعا": البقرة:
165.
و يرون أن لهم عزة بمال و بنين و أنصار و القرآن يحكم بخلافه بقوله: "أ يبتغون
عندهم العزة إن العزة لله جميعا": النساء: 139.
و قوله: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين": المنافقون: 8.
و يرون أن القتل في سبيل الله موت و انعدام و القرآن يعده حياة إذ يقول: "و لا
تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون": البقرة: 154،
إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يدعو بها الناس قال: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة": النحل: 125.
و هي علوم و آراء جمة صورت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس و زينة فنبه
تعالى لها في كتابه و أمر بتعليمها رسوله و ندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما
قال: "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق":
العصر: 3، و قال: "يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و
ما يذكر إلا أولوا الألباب": البقرة: 269.
فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم و العمل حديث و يصوغه صوغا
جديدا فيحيي حياة لا يتعقبها موت أبدا، و إليه الإشارة بقوله تعالى: "استجيبوا
لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم": الأنفال: 24، و قوله: "أ و من كان ميتا
فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
منها": الأنعام: 122.
و قد بينا وجه الحكمة في كل من آياتها عند التعرض لتفسيرها على قدر مجال البحث
في الكتاب.
و مما تقدم يتبين فساد قول من قال: إن تفسير القرآن تلاوته، و إن التعمق في
مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.
62 سورة الجمعة - 9 - 11
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِى لِلصلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيرٌ لّكُمْ إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصلَوةُ فَانتَشِرُوا فى الأَرْضِ
وَ ابْتَغُوا مِن فَضلِ اللّهِ وَ اذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لّعَلّكمْ
تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذَا رَأَوْا تجَرَةً أَوْ لهَْواً انفَضوا إِلَيهَا وَ
تَرَكُوك قَائماً قُلْ مَا عِندَ اللّهِ خَيرٌ مِّنَ اللّهْوِ وَ مِنَ
التِّجَرَةِ وَ اللّهُ خَيرُ الرّزِقِينَ (11)
بيان
تأكيد إيجاب صلاة الجمعة و تحريم البيع عند حضورها و فيها عتاب لمن انفض إلى
اللهو و التجارة عند ذلك و استهجان لفعلهم.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله و ذروا البيع" إلخ، المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة الأذان كما
في قوله: "و إذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا و لعبا": المائدة: 58.
و الجمعة بضمتين أو بالضم فالسكون أحد أيام الأسبوع و كان يسمى أولا يوم
العروبة ثم غلب عليه اسم الجمعة، و المراد بالصلاة من يوم الجمعة صلاة الجمعة
المشرعة يومها، و السعي هو المشي بالإسراع، و المراد بذكر الله الصلاة كما في
قوله: "و لذكر الله أكبر": العنكبوت: 45، على ما قيل و قيل: المراد به الخطبة
قبل الصلاة و قوله: "و ذروا البيع" أمر بتركه، و المراد به على ما يفيده السياق
النهي عن الاشتغال بكل عمل يشغل عن صلاة الجمعة سواء كان بيعا أو غيره و إنما
علق النهي بالبيع لكونه من أظهر مصاديق ما يشغل عن الصلاة.
و المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أذن لصلاة الجمعة يومها فجدوا في المشي إلى
الصلاة و اتركوا البيع و كل ما يشغلكم عنها.
و قوله: "ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" حث و تحريض لهم لما أمر به من الصلاة و
ترك البيع.
قوله تعالى: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و ابتغوا من فضل الله" إلخ،
المراد بقضاء الصلاة إقامة صلاة الجمعة، و الانتشار في الأرض التفرق فيها، و
ابتغاء فضل الله طلب الرزق نظرا إلى مقابلته ترك البيع في الآية السابقة لكن
تقدم أن المراد ترك كل ما يشغل عن صلاة الجمعة، و على هذا فابتغاء فضل الله طلب
مطلق عطيته في التفرق لطلب رزقه بالبيع و الشري، و طلب ثوابه بعيادة مريض و
السعي في حاجة مسلم و زيارة أخ في الله، و حضور مجلس علم و نحو ذلك.
و قوله: "فانتشروا في الأرض" أمر واقع بعد الحظر فيفيد الجواز و الإباحة دون
الوجوب و كذا قوله: "و ابتغوا، و اذكروا".
و قوله: "و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي
فيشمل ذكره تعالى قلبا بالتوجه إليه باطنا، و الفلاح النجاة من كل شقاء، و هو
في المورد بالنظر إلى ما تقدم من حديث التزكية و التعليم و ما في الآية التالية
من التوبيخ و العتاب الشديد، الزكاة و العلم و ذلك أن كثرة الذكر يفيد رسوخ
المعنى المذكور في النفس و انتقاشه في الذهن فتنقطع به منابت الغفلة و يورث
التقوى الديني الذي هو مظنة الفلاح قال تعالى: "و اتقوا الله لعلكم تفلحون": آل
عمران: 200.
قوله تعالى: "و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما" إلخ،
الانفضاض - على ما ذكره الراغب - استعارة عن الانفضاض بمعنى انكسار الشيء و
تفرق بعضه من بعض.
و قد اتفقت روايات الشيعة و أهل السنة على أنه ورد المدينة عير معها تجارة و
ذلك يوم الجمعة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يخطب فضربوا بالطبل و
الدف لإعلام الناس فانفض أهل المسجد إليهم و تركوا النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) قائما يخطب فنزلت الآية.
فالمراد باللهو استعمال المعازف و آلات الطرب ليجتمع الناس للتجارة، و ضمير
"إليها" راجع إلى التجارة لأنها كانت المقصودة في نفسها و اللهو مقصود لأجلها،
و قيل: الضمير لأحدهما كأنه قيل: انفضوا إليه و انفضوا إليها و ذلك أن كلا
منهما سبب لانفضاض الناس إليه و تجمعهم عليه، و لذا ردد بينهما و قال: "تجارة
أو لهوا" و لم يقل: تجارة و لهوا و الضمير يصلح للرجوع إلى كل منهما لأن اللهو
في الأصل مصدر يجوز فيه الوجهان التذكير و التأنيث.
و لذا أيضا عد "ما عند الله" خيرا من كل منهما بحياله فقال: "من اللهو و من
التجارة" و لم يقل: من اللهو و التجارة.
و قوله: "قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين" أمر
للنبي أن ينبههم على خطئهم فيما فعلوا - و ما أفظعه - و المراد بما عند الله
الثواب الذي يستعقبه سماع الخطبة و الموعظة.
و المعنى قل لهم: ما عند الله من الثواب خير من اللهو و من التجارة لأن ثوابه
تعالى خير حقيقي دائم غير منقطع، و ما في اللهو و التجارة من الخير أمر خيالي
زائل باطل و ربما استتبع سخطه تعالى كما في اللهو.
و قيل: خير مستعمل في الآية مجردا عن معنى التفضيل كما في قوله تعالى: "أ أرباب
متفرقون خير أم الله الواحد القهار": يوسف: 39، و هو شائع في الاستعمال.
و في الآية أعني قوله: "و إذا رأوا" التفات من الخطاب إلى الغيبة، و النكتة فيه
تأكيد ما يفيده السياق من العتاب و استهجان الفعل بالإعراض عن تشريفهم بالخطاب
و تركهم في مقام الغيبة لا يواجههم ربهم بوجهه الكريم.
و يلوح إلى هذا الإعراض قوله: "قل ما عند الله خير" حيث لم يشر إلى من يقول له،
و لم يقل: قل لهم كما ذكرهم بضميرهم أولا من غير سبق مرجعه فقال: "و إذا رأوا"
و اكتفى بدلالة السياق.
و خير الرازقين من أسمائه تعالى الحسنى كالرزاق و قد تقدم الكلام في معنى الرزق
فيما تقدم.
بحث روائي
في الفقيه، روي: أنه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد: حرم
البيع لقول الله عز و جل: "يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة
- فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع".
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن
ميمون بن مهران و لفظه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ينادون في
الأسواق: حرم البيع حرم البيع.
و تفسير القمي،: و قوله: "فاسعوا إلى ذكر الله" قال: الإسراع في المشي، و في
رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في الآية يقال: فاسعوا أي امضوا،
و يقال: اسعوا اعملوا لها و هو قص الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و الغسل
و لبس أنظف الثياب و التطيب للجمعة فهو السعي يقول الله: "و من أراد الآخرة و
سعى لها سعيها و هو مؤمن".
أقول: يريد أن السعي ليس هو الإسراع في المشي فحسب.
و في المجمع، و روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في قوله:
"فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض" الآية ليس بطلب الدنيا و لكن عيادة مريض
و حضور جنازة و زيارة أخ في الله:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن جرير
عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن ابن مردويه عن ابن عباس عنه
(صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الصلاة يوم الجمعة و
الانتشار يوم السبت.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و فيه، و روى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إني لأركب في
الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله أضحي في طلب
الحلال أ ما تسمع قول الله عز اسمه: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض - و
ابتغوا من فضل الله"؟. أ رأيت لو أن رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال:
رزقي ينزل علي أ كان يكون هذا؟ أما أنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال:
قلت: من هؤلاء؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأن
عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها، و الرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد
عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنه ترك ما أمر به، و الرجل يكون
عنده الشيء فيجلس في بيته و لا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو
فلا يستجاب له.
و فيه، قال جابر بن عبد الله: أقبل عير و نحن نصلي مع رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية
"و إذا رأوا تجارة أو لهوا".
و عن عوالي اللئالي، روى مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة، و كان إذا قدم
لم يبق في المدينة عاتق إلا أتته، و كان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه الناس
من دقيق و بر و غيره ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج الناس فيبتاعون
منه. فقدم ذات جمعة، و كان قبل أن يسلم، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يخطب على المنبر فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر فقال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): لو لا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء و أنزل الله
الآية في سورة الجمعة.
أقول: و القصة مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة و اختلفت الأخبار في
عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين.
و فيه "انفضوا" أي تفرقوا، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
انصرفوا إليها و تركوك قائما تخطب على المنبر.
قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب إلا و هو
قائم فمن حدثك أنه خطب و هو جالس فكذبه.
أقول: و هو مروي أيضا في روايات أخرى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: خطب رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) قائما و أبو بكر و عمر و عثمان، و إن أول من جلس على المنبر
معاوية بن أبي سفيان.
63 سورة المنافقون - 1 - 8
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إِذَا جَاءَك الْمُنَفِقُونَ قَالُوا
نَشهَدُ إِنّك لَرَسولُ اللّهِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنّك لَرَسولُهُ وَ اللّهُ
يَشهَدُ إِنّ الْمُنَفِقِينَ لَكَذِبُونَ (1) اتخَذُوا أَيْمَنهُمْ جُنّةً
فَصدّوا عَن سبِيلِ اللّهِ إِنهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِك
بِأَنهُمْ ءَامَنُوا ثُمّ كَفَرُوا فَطبِعَ عَلى قُلُوبهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ (3) وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُك أَجْسامُهُمْ وَ إِن
يَقُولُوا تَسمَعْ لِقَوْلهِِمْ كَأَنهُمْ خُشبٌ مّسنّدَةٌ يحْسبُونَ كلّ
صيْحَةٍ عَلَيهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَتَلَهُمُ اللّهُ أَنى
يُؤْفَكُونَ (4) وَ إِذَا قِيلَ لهَُمْ تَعَالَوْا يَستَغْفِرْ لَكُمْ رَسولُ
اللّهِ لَوّوْا رُءُوسهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصدّونَ وَ هُم مّستَكْبرُونَ (5)
سوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَستَغْفَرْت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَستَغْفِرْ لهَُمْ لَن
يَغْفِرَ اللّهُ لهَُمْ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ (6) هُمُ
الّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلى مَنْ عِندَ رَسولِ اللّهِ حَتى يَنفَضوا
وَ للّهِ خَزَائنُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَكِنّ الْمُنَفِقِينَ لا
يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئن رّجَعْنَا إِلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ
الأَعَزّ مِنهَا الأَذَلّ وَ للّهِ الْعِزّةُ وَ لِرَسولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَ لَكِنّ الْمُنَفِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
بيان
تصف السورة المنافقين و تسمهم بشدة العداوة و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يحذرهم و تعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في
مهلكته و لا يجرهم إلى النار، و السورة مدنية.
قوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك
لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون" المنافق اسم فاعل من النفاق و هو في
عرف القرآن إظهار الإيمان و إبطان الكفر.
و الكذب خلاف الصدق و هو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق و ربما
اعتبرت مطابقة الخبر و لا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته
لاعتقاد المخبر صدقا منه و عدم مطابقته له كذبا فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق
خبره الخارج و فلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده و يسمى النوع الأول صدقا و
كذبا خبريين، و الثاني صدقا و كذبا مخبريين.
فقوله: "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله" حكاية لإظهارهم الإيمان
بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول
(صلى الله عليه وآله وسلم) و يتضمن الإيمان بوحدانيته تعالى و بالمعاد، و هو
الإيمان الكامل.
و قوله: "و الله يعلم إنك لرسوله" تثبيت منه تعالى لرسالته (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و إنما أورده مع أن وحي القرآن و مخاطبته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
كافيا في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم
بما يقولون و إن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا
خبريا فقوله: "و الله يشهد أن المنافقين لكاذبون" أريد به الكذب المخبري لا
الخبري.
قوله تعالى: "اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله" إلخ، الأيمان جمع يمين
بمعنى القسم، و الجنة الترس و المراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، و الصد
يجيء بمعنى الإعراض و عليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله و هو الدين و
بمعنى الصرف و عليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين و هم في وقاية من
إيمانهم الكاذبة.
و المعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل
الله و دينه - أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف
بتقليب الأمور و إفساد العزائم.
و قوله: "إنهم ساء ما كانوا يعملون" تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ
نافقوا إلى حين نزول السورة.
قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" الظاهر
أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، و قيل: الإشارة إلى جميع ما تقدم من
كذبهم و استجنانهم بالأيمان الفاجرة و صدهم عن سبيل الله و مساءة أعمالهم.
و المراد بإيمانهم - على ما قيل - إيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا
الله و أن محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم: "و
إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما
نحن مستهزءون": البقرة: 14.
و لا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد و كتم ارتداده فلحق بالمنافقين
يتربص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض
آيات سورة التوبة كقوله: "فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا
الله ما وعدوه": التوبة: 77، و قد عبر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم
بمثل قوله: "و كفروا بعد إسلامهم": التوبة: 74.
فالظاهر أن المراد بقوله: "آمنوا ثم كفروا" إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون
عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء
بالدين و رد بعض الأحكام.
و قوله: "فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل
على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آيس من
الإيمان محروم من الحق.
و الطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق و لا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما
قال تعالى: "طبع الله على قلوبهم و اتبعوا أهواءهم": سورة محمد: 16، فلا يفقه و
لا يسمع و لا يعلم كما قال تعالى: "و طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون": التوبة:
87، و قال: "و نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون": الأعراف: 100، و قال: "و طبع
الله على قلوبهم فهم لا يعلمون": التوبة: 93، و الطبع على أي حال لا يكون منه
تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال و الذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو
الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي و قد مر مرارا.
قوله تعالى: "و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم" إلخ، الظاهر
أن الخطاب في "رأيتهم" و "تسمع" خطاب عام يشمل كل من رآهم و سمع كلامهم لكونهم
في أزياء حسنة و بلاغة من الكلام، و ليس خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم)، و المراد أنهم على صباحة من المنظر و تناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي
أعجبته أجسامهم، و فصاحة و بلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى
الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره و حسن نظمه.
و قوله: "كأنهم خشب مسندة" ذم لهم بحسب باطنهم و الخشب بضمتين جمع خشبة، و
التسنيد نصب الشيء معتمدا على شيء آخر كحائط و نحوه.
و الجملة مسوقة لذمهم و هي متممة لسابقتها، و المراد أن لهم أجساما حسنة معجبة
و قولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها و لا
فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.
و قوله: "يحسبون كل صيحة عليهم" ذم آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر و كتمانهم
ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف و وجل و وحشة يخافون ظهور أمرهم و اطلاع الناس
على باطنهم و يظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم و أنهم المقصودون بها.
و قوله: "هم العدو فاحذرهم" أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى
أعدائك من يعاديك و أنت تحسبه صديقك.
و قوله: "قاتلهم الله أنى يؤفكون" دعاء عليهم بالقتل و هو أشد شدائد الدنيا و
كان استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.
و قيل: المراد به الطرد و الإبعاد من الرحمة، و قيل: المراد به الإخبار دون
الدعاء، و المعنى: أن شمول اللعن و الطرد لهم مقرر ثابت، و قيل: الكلمة مفيدة
للتعجب كما يقال: قاتله الله ما أشعره، و الظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.
و قوله: "أنى يؤفكون" مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ و قيل: هو توبيخ و
تقريع و ليس باستفهام.
قوله تعالى: "و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم" إلخ،
التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال.
و المعنى: و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - و ذلك عند ما ظهر منهم
بعض خياناتهم و فسوقهم - أمالوا رءوسهم إعراضا و استكبارا و رآهم الرائي يعرضون
عن القائل و هم مستكبرون عن إجابة قوله.
قوله تعالى: "سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم" إلخ،
أي يتساوى الاستغفار و عدمه في حقهم و تساوي الشيء و عدمه كناية عن أنه لا يفيد
الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك و لا ينفعهم.
و قوله: "لن يغفر الله لهم" دفع دخل كان سائلا يسأل: لما ذا يتساوى الاستغفار
لهم و عدمه؟ فأجيب: لن يغفر الله لهم.
و قوله: "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" تعليل لقوله: "لن يغفر الله لهم"، و
المعنى: لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة و الجنة و هم
فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر و الطبع على قلوبهم و الله لا
يهدي القوم الفاسقين.
قوله تعالى: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" إلخ،
الانفضاض التفرق، و المعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على
المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله و اجتمعوا عنده لنصرته و إنفاذ أمره و
إجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.
و قوله: "و لله خزائن السماوات و الأرض" جواب عن قولهم: لا تنفقوا إلخ، أي إن
الدين دين الله و لا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات و الأرض ينفق منها
و يرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار
ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر و يتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما و يهديهم
صراطا مستقيما و المنافقون في جهل من ذلك.
و هذا معنى قوله: "و لكن المنافقين لا يفقهون" أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك
و احتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله و هو
الرازق لا رازق غيره فلو شاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى و الفقر بيد
الأسباب فلو لم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم.
قوله تعالى: "يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل و لله
العزة و لرسوله و للمؤمنين و لكن المنافقين لا يعلمون" القائل هو عبد الله بن
أبي بن سلول، و كذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا إلخ، و إنما عبر بصيغة
الجمع تشريكا لأصحابه الراضين بقوله معه.
و مراده بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يريد بهذا
القول تهديد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجه من المدينة بعد المراجعة
إليها و قد رد الله عليه و على من يشاركه في نفاقه بقوله: "و لله العزة و
لرسوله و للمؤمنين و لكن المنافقين لا يعلمون" فقصر العزة في نفسه و رسوله و
المؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة و نفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا
الذلة و الجهالة.
بحث روائي
في المجمع،: نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق و أصحابه و ذلك أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه و قائدهم
الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما سمع
بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من
مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم
الله بني المصطلق و قتل منهم من قتل و نفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أبناءهم و نساءهم و أموالهم. فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس و
مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه
فازدحم جهجاه و سنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني
يا معشر الأنصار و صرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من
المهاجرين يقال له: جعال و كان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك
فقال: و ما يمنعني أن أفعل ذلك؟ و اشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله:
و الذي يحلف به لأزرنك و يهمك غير هذا. و غضب ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم
زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا، و الله ما
مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم
أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل
الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و
مواليهم. فقال زيد بن أرقم: أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك
بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحيل و أرسل إلى عبد الله فأتاه فقال:
ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله و الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من
ذلك قط و إن زيدا لكاذب، و قال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا و كبيرنا
لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه.
فعذره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فشت الملامة من الأنصار لزيد. و
لما استقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه
بتحية النبوة ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ و ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه
إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت و الله يا رسول
الله تخرجه إن شئت. هو و الله الذليل و أنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق
به فو الله لقد جاء الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه و إنه ليرى أنك
قد استلبته ملكا. و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد
قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت
الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا
تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل
مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل ترفق به و تحسن
صحبته ما بقي معنا. قالوا: و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس
يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل
بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، إنما فعل ذلك ليشغل الناس
عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز
فويق البقيع يقال له: بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم و تخوفوها و ضلت ناقة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك ليلا فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق
بالمدينة قيل: من هو؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم
الغيب و لا يعلم مكان ناقته؟ أ لا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره
بقول المنافق و بمكان الناقة، و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك
أصحابه و قال: ما أزعم أني أعلم الغيب و ما أعلمه و لكن الله تعالى أخبرني بقول
المنافق و بمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاءوا بها و آمن ذلك
المنافق. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع و
كان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم. قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) المدينة جلست في البيت لما بي من الهم و الحياء فنزلت
سورة المنافقون في تصديق زيد و تكذيب عبد الله بن أبي. ثم أخذ رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك، و وعت
أذناك، و وعى قلبك، و قد أنزل الله فيما قلت قرآنا. و كان عبد الله بن أبي بقرب
المدينة فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ
على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك؟ فقال: و الله لا تدخلها إلا بإذن رسول
الله و لتعلمن اليوم من الأعز؟ و من الأذل؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى
اشتكى و مات. فلما نزلت هذه الآيات و بان كذب عبد الله قيل له: نزل فيك آي شداد
فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال:
أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا
أن أسجد لمحمد فنزل: "و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - لووا رءوسهم
إلى قوله لا يعلمون".
أقول: ما أورده من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم و ابن
عباس و عكرمة و محمد بن سيرين و ابن إسحاق و غيرهم دخل حديث بعضهم في بعض.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إذا جاءك المنافقون" الآية قال: قال: نزلت
في غزوة المريسيع و هي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر و كان الماء
قليلا فيها. و كان أنس بن سيار حليف الأنصار، و كان جهجاه بن سعيد الغفاري
أجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه فقال سيار:
دلوي و قال جهجاه: دلوي فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم فنادى سيار
بالخزرج و نادى جهجاه بقريش و أخذ الناس السلاح و كاد أن تقع الفتنة. فسمع عبد
الله بن أبي النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثم قال: قد
كنت كارها لهذا المسير إني لأذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا
فلا يكن عندي تغيير. ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم و
واسيتموهم بأموالكم و وقيتموهم بأنفسكم و أبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم و
أيتم صبيانكم و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال: لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. و كان في القوم زيد بن أرقم و كان غلاما قد
راهق، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظل شجرة في وقت الهاجرة و
عنده قوم من أصحابه من المهاجرين و الأنصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله
بن أبي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لعلك وهمت يا غلام، قال: لا
و الله ما وهمت. قال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا و الله ما غضبت عليه، قال:
فلعله سفه عليك، فقال: لا و الله. فقال رسول الله لشقران مولاه: أحدج فأحدج
راحلته و ركب و تسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة فقال: السلام
عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك السلام، فقال: ما كنت
لترحل في مثل هذا الوقت، فقال: أ و ما سمعت قولا قال صاحبكم؟ قال: و أي صاحب
لنا غيرك يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله فإنك و أصحابك الأعز و هو و
أصحابه الأذل. فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومه كله لا يكلمه أحد
فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من
ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه فلوى عنقه. فلما جن الليل
سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما
كان من الغد نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل أصحابه و قد أمهدهم
الأرض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك، و أنه يشهد أن لا إله إلا الله و
أنك لرسول الله و إن زيدا قد كذب علي، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) منه و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه و يقولون له: كذبت على عبد
الله سيدنا. فلما رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان زيد معه يقول:
اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي فما سار إلا قليلا حتى أخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي
فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) و هو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل
ثم قال: يا غلام صدق قولك و وعى قلبك و أنزل الله فيما قلت قرآنا. فلما نزل جمع
أصحابه و قرأ عليهم سورة المنافقين: "بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك
المنافقون إلى قوله و لكن المنافقين لا يعلمون" ففضح الله عبد الله بن أبي.
و في تفسير القمي أيضا، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في
قوله: "كأنهم خشب مسندة" يقول: لا يسمعون و لا يعقلون "يحسبون كل صيحة عليهم"
يعني كل صوت "هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون". فلما أنبأ الله رسوله
خبرهم مشى إليهم عشائرهم و قالوا افتضحتم ويلكم فأتوا رسول الله يستغفر لكم
فلووا رءوسهم و زهدوا في الاستغفار، يقول الله: "و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر
لكم رسول الله - لووا رءوسهم و رأيتهم يصدون و هم مستكبرون".
و في الكافي، بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله
تبارك و تعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها، و لم يفوض إليه أن يذل نفسه أ لم تر
قول الله سبحانه و تعالى هاهنا "لله العزة و لرسوله و للمؤمنين" و المؤمن ينبغي
أن يكون عزيزا و لا يكون ذليلا:. أقول: و روي هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي
و الحسن الأحمسي و بطريق آخر عن سماعة.
و فيه، بإسناده عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا ينبغي
للمؤمن أن يذل نفسه. قلت: بما يذل نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه.
كلام حول النفاق في صدر الإسلام
يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماما بالغا و يكر عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي
أخلاقهم و أكاذيبهم و خدائعهم و دسائسهم و الفتن التي أقاموها على النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و على المسلمين، و قد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة
البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و العنكبوت و الأحزاب
و الفتح و الحديد و الحشر و المنافقون و التحريم.
و قد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم و جعل
الغشاوة على سمعهم و على أبصارهم و إذهاب نورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون و
في الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
و ليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام و المسلمين من كيدهم و مكرهم و
أنواع دسائسهم فلم ينل المشركون و اليهود و النصارى من دين الله ما نالوه، و
ناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير إليهم: "هم العدو
فاحذرهم": المنافقون: 4.
و قد ظهر آثار دسائسهم و مكائدهم أوائل ما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة و قد نزلت - على ما قيل - على رأس
ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من
دسائسهم و فنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد و هم ثلثهم
تقريبا، و عقدهم الحلف مع اليهود و استنهاضهم على المسلمين و بنائهم مسجد
الضرار و إشاعتهم حديث الإفك، و إثارتهم الفتنة في قصة السقاية و قصة العقبة
إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد و تقليب الأمور على
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حيث هددهم الله بمثل قوله: "لئن لم ينته
المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا
يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا": الأحزاب:
61.
و قد استفاضت الأخبار و تكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول و أصحابه من
المنافقين و هم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
و يتربصون به الدوائر و كانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم و هم
الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم و رجعوا إلى المدينة قائلين لو
نعلم قتالا لاتبعناكم و هم عبد الله بن أبي و أصحابه.
و من هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة و استمرت إلى
قرب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا ما ذكره جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
و الإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة و الاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة
يقضي عليه بالنظر: أما أولا: فلا دليل مقنعا على عدم تسرب النفاق في متبعي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين بمكة قبل الهجرة، و قول القائل: إن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من
القوة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس و يتقوهم أو يرجوا منهم خيرا
حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهرا و يتقربوا منهم بالإسلام، و هم مضطهدون مفتنون
معذبون بأيدي صناديد قريش و مشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعد الهجرة فإنه (صلى الله عليه وآله
وسلم) هاجر إليها و قد كسب أنصارا من الأوس و الخزرج و استوثق من أقوياء رجالهم
أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم و أهليهم، و قد دخل الإسلام في بيوت عامتهم
فكان مستظهرا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به و بقوا على شركهم و لم
يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم و يظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام
فآمنوا به ظاهرا و هم على كفرهم باطنا فدسوا الدسائس و مكروا ما مكروا.
غير تام، فما القدرة و القوة المخالفة المهيبة و رجاء الخير بالفعل و الاستدرار
المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيرا ما نجد في
المجتمعات رجالا يتبعون كل داع و يتجمعون إلى كل ناعق و لا يعبئون بمخالفة
القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، و يعيشون على خطر مصرين على ذلك رجاء أن
يوفقوا يوما لإجراء مرامهم و يتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع
و العلو في الأرض و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر في دعوته
لقومه أن لو آمنوا به و اتبعوه كانوا ملوك الأرض.
فمن الجائز عقلا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعا في البلوغ بذلك
إلى أمنيته و هي التقدم و الرئاسة و الاستعلاء، و الأثر المترتب على هذا النوع
من النفاق ليس هو تقليب الأمور و تربص الدوائر على الإسلام و المسلمين و إفساد
المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن و تفديته بالمال و الجاه لينتظم بذلك الأمور
و يتهيأ لاستفادته منه و استدراره لنفع شخصه.
نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة و المضادة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما
يخالف أمنية تقدمه و تسلطه إرجاعا للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.
و أيضا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد و يكتم ارتداده كما
مرت الإشارة إليه في قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا" الآية، و كما يظهر
من لحن مثل قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي
الله بقوم": المائدة: 54.
و أيضا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان
صدق و إخلاص و من البديهي عند من تدبر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة و ما
والاها و خاصة صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لو لا سواد جنود غشيتهم و بريق سيوف مسلطة فوق رءوسهم يوم الفتح و كيف يمكن مع
ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم و الظرف هذا الظرف نور الإيمان و في نفوسهم
الإخلاص و اليقين فآمنوا بالله طوعا عن آخرهم و لم يدب فيهم دبيب النفاق أصلا.
و أما ثانيا: فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و انقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة و انعقاد
الخلافة و انمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة و المكائد
و الدسائس المشئومة.
فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام و أخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟
أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه
أمنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم
و بين المسلمين فوردوا جميعا في مشرعة سواء فارتفع التصاك و التصادم؟.
و لعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الفتن
الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الأسئلة.
و الذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجمالية إلى سبيل البحث.
63 سورة المنافقون - 9 - 11
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكمْ أَمْوَلُكُمْ وَ لا أَوْلَدُكمْ عَن
ذِكرِ اللّهِ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك فَأُولَئك هُمُ الْخَسِرُونَ (9) وَ
أَنفِقُوا مِن مّا رَزَقْنَكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت
فَيَقُولَ رَب لَوْ لا أَخّرْتَنى إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدّقَ وَ أَكُن
مِّنَ الصلِحِينَ (10) وَ لَن يُؤَخِّرَ اللّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا
وَ اللّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
بيان
تنبيه للمؤمنين أن يتجنبوا عن بعض الصفات التي تورث النفاق و هو التلهي بالمال
و الأولاد و البخل.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله"
إلخ، الإلهاء الإشغال، و المراد بالهاء الأموال و الأولاد عن ذكر الله إشغالها
القلب بالتعلق بها بحيث يوجب الإعراض عن التوجه إلى الله بما أنها زينة الحياة
الدنيا، قال تعالى: "المال و البنون زينة الحياة الدنيا": الكهف: 46، و
الاشتغال بها يوجب خلو القلب عن ذكر الله و نسيانه تعالى فلا يبقى له إلا القول
من غير عمل و تصديق قلبي و نسيان العبد لربه يستعقب نسيانه تعالى له، قال
تعالى: "نسوا الله فنسيهم": التوبة: 67، و هو الخسران المبين، قال تعالى في صفة
المنافقين: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم": البقرة: 16.
و إليه الإشارة بما في ذيل الآية من قوله: "و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون".
و الأصل هو نهي المؤمنين عن التلهي بالأموال و الأولاد و تبديله من نهي الأموال
و الأولاد عن إلهائهم للتلويح إلى أن من طبعها الإلهاء فلا ينبغي لهم أن
يتعلقوا بها فتلهيهم عن ذكر الله سبحانه فهو نهي كنائي آكد من التصريح.
قوله تعالى: "و أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت" إلخ، أمر
بالإنفاق في البر أعم من الإنفاق الواجب كالزكاة و الكفارات أو المندوب، و
تقييده بقوله: "مما رزقناكم" للإشعار بأن أمره هذا ليس سؤالا لما يملكونه دونه،
و إنما هو شيء هو معطيه لهم و رزق هو رازقه و ملك هو ملكهم إياه من غير أن يخرج
عن ملكه يأمرهم بإنفاق شيء منه فيما يريد فله المنة عليهم في كل حال.
و قوله: "من قبل أن يأتي أحدكم الموت" أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في
ماله بالإنفاق في سبيل الله.
و قوله: "فيقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب" عطف على قوله: "أن يأتي" إلخ، و
تقييد الأجل بالقريب للإشعار بأنه قانع بقليل من التمديد - و هو مقدار ما يسع
الإنفاق من العمر - ليسهل إجابته، و لأن الأجل أيا ما كان فهو قريب، و من كلامه
(صلى الله عليه وآله وسلم): كل ما هو آت قريب.
و قوله: "فأصدق و أكن من الصالحين" نصب "فأصدق" لكونه في جواب التمني، و جزم
"أكن" لكونه في معنى جزاء الشرط، و التقدير إن أتصدق أكن من الصالحين.
قوله تعالى: "و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها" إياس لهم من استجابة دعاء من
يسأل تأخير الأجل بعد حلوله و الموت بعد نزوله و ظهور آيات الآخرة، و قد تكرر
في كلامه تعالى أن الأجل المسمى من مصاديق القضاء المحتوم كقوله: "و إذا جاء
أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون": يونس: 49.
و قوله: "و الله خبير بما تعملون" حال من ضمير "أحدكم" أو عطف على أول الكلام و
يفيد فائدة التعليل، و المعنى: لا تتلهوا و أنفقوا فإن الله عليم بأعمالكم
يجازيكم بها.
بحث روائي
في الفقيه،: و سئل عن قول الله تعالى: "فأصدق و أكن من الصالحين" قال: "أصدق"
من الصدقة، و "أكن من الصالحين" أحج.
أقول: الظاهر أن ذيل الحديث من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.
و في المجمع، عن ابن عباس قال: ما من أحد يموت و كان له مال فلم يؤد زكاته و
أطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت. قالوا: يا ابن عباس اتق الله
فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال: أنا أقرأ به عليكم قرآنا ثم قرأ هذه
الآية يعني قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم إلى قوله من الصالحين" قال:
الصلاح هنا الحج:، و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام). أقول: و رواه في
الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله:
"و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها" قال: إن عند الله كتبا موقوفة يقدم منها
ما يشاء و يؤخر ما يشاء فإذا كان ليلة القدر أنزل الله فيها كل شيء يكون إلى
مثلها فذلك قوله: "و لن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها" إذا نزله الله و كتبه
كتاب السماوات و هو الذي لا يؤخر.
64 سورة التغابن - 1 - 10
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يُسبِّحُ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى
الأَرْضِ لَهُ الْمُلْك وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (1)
هُوَ الّذِى خَلَقَكمْ فَمِنكمْ كافِرٌ وَ مِنكم مّؤْمِنٌ وَ اللّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالحَْقِّ وَ صوّرَكمْ
فَأَحْسنَ صوَرَكمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ
الأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَ مَا تُعْلِنُونَ وَ اللّهُ عَلِيمُ
بِذَاتِ الصدُورِ (4) أَ لَمْ يَأْتِكمْ نَبَؤُا الّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ
فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَ لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِك بِأَنّهُ
كانَت تّأْتِيهِمْ رُسلُهُم بِالْبَيِّنَتِ فَقَالُوا أَ بَشرٌ يهْدُونَنَا
فَكَفَرُوا وَ تَوَلّوا وّ استَغْنى اللّهُ وَ اللّهُ غَنىّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ
الّذِينَ كَفَرُوا أَن لّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبى لَتُبْعَثُنّ ثمّ
لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيرٌ (7) فَئَامِنُوا
بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ النّورِ الّذِى أَنزَلْنَا وَ اللّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يجْمَعُكمْ لِيَوْمِ الجَْمْع ذَلِك يَوْمُ
التّغَابُنِ وَ مَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صلِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ
سيِّئَاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ
فِيهَا أَبَداً ذَلِك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الّذِينَ كَفَرُوا وَ
كذّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب النّارِ خَلِدِينَ فِيهَا وَ بِئْس
الْمَصِيرُ (10)
بيان
السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها و نظم كنظمها كأنها ملخصة منها و
غرضها تحريض المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله و رفع ما يهجس في
قلوبهم و يدب في نفوسهم من الأسى و الأسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل
مشاق الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله و الإنفاق فيها بأن ذلك كله بإذن
الله.
و الآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمه و تمهيد لبيان الغرض المذكور تبين
أن أسماءه تعالى الحسنى و صفاته العليا تقضي بالبعث و رجوع الكل إليه تعالى
رجوعا يساق فيه أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنة خالدة، و أهل الكفر و
التكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله و رسوله و الصبر على المصائب
و الإنفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع و لا خوف من لومة لائم.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: "يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو
على كل شيء قدير" تقدم الكلام في معنى التسبيح و الملك و الحمد و القدرة، و أن
المراد بما في السماوات و الأرض يشمل نفس السماوات و الأرض و من فيها و ما
فيها.
و قوله: "له الملك" مطلق يفيد إطلاق الملك و عدم محدوديته بحد و لا تقيده بقيد
أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه، و لا حكم له إلا نافذا على ما أراد.
و كذا قوله: "و له الحمد" مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد - و الحمد هو
الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لأن الخلق و الأمر إليه فلا ذات و لا
صفة و لا فعل جميلا محمودا إلا منه و إليه.
و كذا قوله: "و هو على كل شيء قدير" بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير
محدودة و لا مقيدة بقيد أو شرط.
و إذ كانت الآيات - كما تقدمت الإشارة إليه - مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية
كالمقدمة الأولى لإثباته، و تفيد أن الله منزه عن كل نقص و شين في ذاته و صفاته
و أفعاله يملك الحكم على كل شيء و التصرف فيه كيفما شاء و أراد، - و لا يتصرف
إلا جميلا - و قدرته تسع كل شيء فله أن يتصرف في خلقه بالإعادة كما تصرف فيهم
بالإيذاء - الإحداث و الإبقاء - فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته و لا تتعلق
إلا بحكمه.
قوله تعالى: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن و الله بما تعملون بصير"
الفاء في "فمنكم" تدل على مجرد ترتب الكفر و الإيمان على الخلق فلا دلالة في
التفريع على كون الكفر و الإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، و إنما
المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و قدم ذكر الكافر لكثرة
الكفار و غلبتهم.
و "من" في قوله: "فمنكم" و "منكم" للتبعيض أي فبعضكم كافر و بعضكم مؤمن.
و قد نبه بقوله: "و الله بما تعملون بصير" على أن انقسامهم قسمين و تفرقهم
فرقتين حق كما ذكر، و هم متميزون عنده لأن الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها و
باطنها و الله بما يعملون بصير لا تخفى عليه و لا تشتبه.
و تتضمن الآية مقدمة أخرى لإثبات المعاد و تنجزه و هي أن الناس مخلوقون له
تعالى متميزون عنده بالكفر و الإيمان و صالح العمل و طالحه.
قوله تعالى: "خلق السماوات و الأرض بالحق و صوركم فأحسن صوركم و إليه المصير"
المراد بالحق خلاف الباطل و هو خلقها من غير غاية ثابتة و غرض ثابت كما قال:
"لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا": الأنبياء: 17، و قال: "و ما خلقنا
السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا
يعلمون": الدخان: 39.
و قوله: "و صوركم فأحسن صوركم" المراد بالتصوير إعطاء الصورة و صورة الشيء
قوامه و نحو وجوده كما قال: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم": التين: 4، و
حسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض و المجموع لغاية وجودها، و ليس هو الحسن
بمعنى صباحة المنظر و ملاحته بل الحسن العام الساري في الأشياء كما قال تعالى:
"الذي أحسن كل شيء خلقه": الم السجدة: 7.
و لعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع
إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدمت
الإشارة إليه.
و بهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث و رجوع الخلق إليه تعالى فإنه
تعالى لما كان ملكا قادرا على الإطلاق له أن يحكم بما شاء و يتصرف كيف أراد و
هو منزه عن كل نقص و شين محمود في أفعاله، و كان الناس مختلفين بالكفر و
الإيمان و هو بصير بأعمالهم، و كانت الخلقة لغاية من غير لغو و جزاف كان من
الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة
باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر و الإيمان و هو الجزاء الذي يسعد به
مؤمنهم و يشقى به كافرهم.
و إلى هذه النتيجة يشير بقوله: "و إليه المصير".
قوله تعالى: "يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما تعلنون و الله
عليم بذات الصدور" دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد و هي أنه كيف
يمكن إعادة الموجودات و هي فانية بائدة و حوادث العالم لا تحصى و الأعمال و
الصفات لا تعد، منها ظاهرة علنية و منها باطنة سرية و منها مشهودة و منها
مغيبة، فأجيب بأن الله يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرون و ما
تعلنون.
و قوله: "و الله عليم بذات الصدور" قيل: إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه
تعالى بما يسرون و ما يعلنون و المعنى: أنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة
في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شيء مما تسرونه و ما
تعلنونه.
و في قوله: "و الله عليم" إلخ، وضع الظاهر موضع الضمير و الأصل "و هو عليم" إلخ
و النكتة فيه الإشارة إلى علة الحكم، و ليكون ضابطا يجري مجرى المثل.
قوله تعالى: "أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب
أليم" وبال الأمر تبعته السيئة و المراد بأمرهم كفرهم و ما تفرع عليه من
فسوقهم.
لما كان مقتضى أسمائه الحسنى و صفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب
معاد الناس و مصيرهم إلى ربهم للحساب و الجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب
عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه و هو الشرع، و الطريق إلى ذلك الرسالة فمن
الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار و التبشير بعقاب الآخرة و ثوابها و سخطه
تعالى و رضاه.
ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الذين كفروا من قبل و أنهم ذاقوا
وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم و هو تكذيب
الرسالة ثم إلى سبب ذلك و هو إنكار البعث و المعاد.
ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله و رسوله و الدين الذي أنزله عليه و
ختم التمهيد المذكور بالتبشير و الإنذار بالإشارة إلى ما هيىء للمؤمنين
الصالحين من جنة خالدة و لغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة.
فقوله: "أ لم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل" الخطاب للمشركين و فيه إشارة إلى
قصص الأمم السالفة الهالكة كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، ممن أهلكهم الله
بذنوبهم، و قوله: "فذاقوا وبال أمرهم" إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب
الاستئصال و قوله: "و لهم عذاب أليم" إشارة إلى عذابهم الأخروي.
قوله تعالى: "ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أ بشر يهدوننا" إلخ،
بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال و عذاب الآخرة، و لذلك جيء بالفصل
دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من
العذاب؟ فقيل: "ذلك بأنه كانت" إلخ، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.
و في التعبير عن إتيان الرسل و دعوتهم بقوله: "كانت تأتيهم" الدال على
الاستمرار، و عن كفرهم و قولهم بقوله: "فقالوا و كفروا و تولوا" الدال
بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل
عنها و ثبتوا عليها و هو العناد و اللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى: "تلك
القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما
كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين": الأعراف: 101، و قوله: "ثم
بعثنا من بعده أي بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا
بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين": يونس: 74.
و قوله: "فقالوا أ بشر يهدوننا" يطلق البشر على الواحد و الجمع و المراد به
الثاني بدليل قوله: "يهدوننا" و التنكير للتحقير، و الاستفهام للإنكار أي قالوا
على سبيل الإنكار: أ آحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا؟.
و هذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الأمم الهالكة كانوا
وثنيين و هم منكرون للنبوة و هو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، و لذلك فرع تعالى
على قولهم: "أ بشر يهدوننا" قوله: "فكفروا و تولوا" أي بنوا عليه كفرهم و
إعراضهم.
و قوله: "و استغنى الله" الاستغناء طلب الغنى و هو من الله سبحانه - و هو غني
بالذات - إظهار الغنى و ذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم و القوة و
الاستطاعة ما يدفع عن جمعهم الفناء و يضمن لهم البقاء كأنه لا غنى للوجود عنهم
كما حكى الله سبحانه عن قائلهم: "قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا": الكهف: 35، و
قال: "و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة
قائمة": حم السجدة: 50.
و مآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم و فيهم - و هو الغني
بالذات - فإهلاكه تعالى لهم و إفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، و على هذا
فالمراد بقوله: "و استغنى الله" استئصالهم المدلول عليه بقوله: "فذاقوا وبال
أمرهم".
على أن الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كان من الواجب عليه
أن يحسن إليه أينما كان كان لله سبحانه حاجة إلى إسعاده و الإحسان إليه كما
يشير إليه قوله تعالى: "و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده
للحسنى": حم السجدة: 50، و قوله: "و ما أظن الساعة قائمة و لئن رددت إلى ربي
لأجدن خيرا منها منقلبا": الكهف: 36.
و مآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما
كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم و تعذيبهم في الآخرة إظهار منه
تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله: "فذاقوا
وبال أمرهم و لهم عذاب أليم".
فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: "و استغنى الله" و الثاني منهما أشمل، و في
الكلمة على أي حال من سطوع العظمة و القدرة ما لا يخفى، و هو في معنى قوله: "ثم
أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا و جعلناهم
أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون": المؤمنون: 44.
و قيل: المراد و استغنى الله بإقامة البرهان و إتمام الحجة عليهم عن الزيادة
على ذلك بإرشادهم و هدايتهم إلى الإيمان.
و قيل: المراد و استغنى الله عن طاعتهم و عبادتهم أزلا و أبدا لأنه غني بالذات،
و الوجهان كما ترى.
و قوله: "و الله غني حميد" في محل التعليل لمضمون الآية، و المعنى: و الله غني
في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم و تعذيبهم بعذاب
أليم على كفرهم و توليهم من غناه و عدله لأنه مقتضى عملهم المردود إليهم.
قوله تعالى: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما
عملتم و ذلك على الله يسير" ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين و هو إنكارهم
الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على
الأمر و النهي و الحساب و الجزاء و يصلح تعليلا لإنكار الرسالة إذ لا معنى
حينئذ للتبليغ و الوعيد.
و المراد بالذين كفروا عامة الوثنيين و منهم من عاصر النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) منهم كأهل مكة و ما والاها، و قيل: المراد أهل مكة خاصة.
و قوله: "قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم" أمر النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من
أصناف التأكيد بالقسم و اللام و النون.
و "ثم" في "ثم لتنبؤن" للتراخي بحسب رتبة الكلام، و في الجملة إشارة إلى غاية
البعث و هو الحساب و قوله: "و ذلك على الله يسير" أي ما ذكر من البعث و الإنباء
بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، و فيه رد لإحالتهم أمر البعث على الله
سبحانه استبعادا، و قد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: "و هو الذي
يبدؤ الخلق ثم يعيده و هو أهون عليه": الروم: 27.
و الدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى و صفاته من الخلق و الملك
و العلم و أنه مسبح محمود، و يجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.
و يظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: "و ذلك على الله
يسير" للإيماء إلى التعليل، و المفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لأنه الله، و
الكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة.
و ذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)
أن يقسم بربه على وقوع المعاد و هي ثلاث: إحداها قوله: "و يستنبؤنك أ حق هو قل
إي و ربي": يونس: 53، و الثانية قوله: "و قال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل
بلى و ربي لتأتينكم": سبأ: 3، و الثالثة الآية التي نحن فيها.
قوله تعالى: "فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون
خبير" تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما
عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزله على رسوله و هو
القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، و يبين شرائع الدين.
و في قوله: "و النور الذي أنزلنا" التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير و لعل
النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة و هي أقطع للعذر فكم فرق بين
قولنا: و النور الذي أنزل و هو إخبار، و قوله: "و النور الذي أنزلنا" ففيه
شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، و الشهادة آكد
من الإخبار المجرد.
لا يقال: ما ذا ينفع ذلك و هم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده و
لو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد و أغنى عن التمسك بذيل الالتفات
المذكور.
لأنه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي
المثبتة لكونه كلام الله، و الشهادة على أي حال آكد و أقوى من الإخبار و إن كان
مدللا.
و قوله: "و الله بما تعملون خبير" تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به
الأمر في قوله: "فآمنوا" و المعنى: آمنوا و جدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق
أعمالكم لا يغفل عن شيء منها و هو مجازيكم بها لا محالة.
قوله تعالى: "يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن" إلخ، "يوم" ظرف لقوله
السابق: "لتبعثن ثم لتنبؤن" إلخ، و المراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع
فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى: "و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا":
الكهف: 99، و قد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، و يفسره أمثال
قوله تعالى: "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون": الجاثية:
17، و قوله: "فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون": البقرة:
113، و قوله: "إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون":
السجدة: 25، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم.
و قوله: "ذلك يوم التغابن" قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك و
بينه بضرب من الإخفاء.
قال: و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله:
"و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" و بقوله: "إن الله اشترى من
المؤمنين" الآية، و بقوله: "الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا"
فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة و فيما تعاطوه من ذلك جميعا.
و سئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا.
انتهى موضع الحاجة.
و ما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم
لمعاملة خاسرة و تركهم معاملة رابحة، و هو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب
التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.
و ما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، و يؤيده مثل قوله تعالى: "فلا تعلم
نفس ما أخفي لهم من قرة أعين": الم السجدة: 17، و قوله: "لهم ما يشاءون فيها و
لدينا مزيد": ق: 35، و قوله: "و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون": الزمر:
47.
و مقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن و كافر أما المؤمن
فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مما عمل، و أما الكافر فلأنه لم يعمل أصلا، و
الوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدرا اليوم حق قدره.
و يرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.
و هناك وجه ثالث و هو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم و تابعيهم
فالمتبوعون و هم المستكبرون يغبنون تابعيهم و هم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ
الدنيا و ترك الآخرة فيضلون، و التابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في
استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره و مغبون من غيره.
و هناك وجه رابع وردت به الرواية و هو أن لكل عبد منزلا في الجنة لو أطاع الله
لدخله، و منزلا في النار لو عصى الله لدخله و يوم القيامة يعطى منازل أهل النار
في الجنة لأهل الجنة، و يعطى منازل أهل الجنة في النار لأهل النار فيكون أهل
الجنة و هم المؤمنون غابنين لأهل النار و هم الكفار و الكفار هم المغبونون.
و قال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: و قد فسر التغابن قوله ذيلا: "و من
يؤمن بالله - إلى قوله - و بئس المصير" انتهى.
و ليس بظاهر ذاك الظهور.
و قوله: "و من يؤمن بالله و يعمل صالحا - إلى قوله - و بئس المصير" تقدم تفسيره
مرارا.
بحث روائي
في صحيح البخاري، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما من
عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل
النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة و الخاصة و قد تقدم بعضها في
تفسير أول سورة المؤمنون.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و الأرض، و يوم التناد يوم
ينادي أهل النار أهل الجنة "أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" و يوم
التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، و يوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.
أقول: و في ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات
بشئون الولاية كالذي ورد أن الإيمان و الكفر هما الإيمان و الكفر بالولاية يوم
أخذ الميثاق، و ما ورد أن المراد بالبينات الأئمة، و ما ورد أن المراد بالنور
الإمام و هي جميعا ناظرة إلى بطن الآيات و ليست بمفسرة البتة.
64 سورة التغابن - 11 - 18
مَا أَصاب مِن مّصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللّهِ وَ مَن يُؤْمِن بِاللّهِ يهْدِ
قَلْبَهُ وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (11) وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ
أَطِيعُوا الرّسولَ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَإِنّمَا عَلى رَسولِنَا الْبَلَغُ
الْمُبِينُ (12) اللّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَ عَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ
الْمُؤْمِنُونَ (13) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِنّ مِنْ أَزْوَجِكُمْ وَ
أَوْلَدِكمْ عَدُوّا لّكمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِن تَعْفُوا وَ تَصفَحُوا وَ
تَغْفِرُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (14) إِنّمَا أَمْوَلُكُمْ وَ
أَوْلَدُكمْ فِتْنَةٌ وَ اللّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتّقُوا اللّهَ
مَا استَطعْتُمْ وَ اسمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنفِقُوا خَيراً لأَنفُسِكمْ وَ
مَن يُوقَ شحّ نَفْسِهِ فَأُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضوا
اللّهَ قَرْضاً حَسناً يُضعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّهُ شكُورٌ
حَلِيمٌ (17) عَلِمُ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (18)
بيان
شروع فيما هو الغرض من السورة بعد ما مر من التمهيد و التوطئة و هو الندب إلى
الإنفاق في سبيل الله و الصبر على ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في
الله سبحانه.
و قدم ذكر المصيبة و الإشارة إلى الصبر عليها ليصفو المقام لما سيندب إليه من
الإنفاق و ينقطع العذر.
قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله و من يؤمن بالله يهد قلبه و الله
بكل شيء عليم" المصيبة صفة شاع استعمالها في الحوادث السوء التي تصحب الضر، و
الإذن الإعلام بالرخصة و عدم المانع و يلازم علم الإذن بما أذن فيه، و ليس هو
العلم كما قيل.
فظهر بما تقدم أولا أن إذنه تعالى في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه و بين
مسببيه برفع الموانع التي تتخلل بينه و بين مسببه فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه
بسببيته كالنار تقتضي إحراق القطن مثلا لو لا الفصل بينهما و الرطوبة فرفع
الفصل بينهما و الرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما
تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.
و قد كان استعمال الإذن في العرف العام مختصا بما إذا كان المأذون له من
العقلاء لمكان أخذ معنى الإعلام في مفهومه فيقال: أذنت لفلان أن يفعل كذا و لا
يقال: أذنت للنار أن تحرق، و لا أذنت للفرس أن يعدو، لكن القرآن الكريم يستعمله
فيما يعم العقلاء و غيرهم بالتحليل كقوله: "و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن
الله": النساء: 64،.
و قوله: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه": الأعراف: 58، و لا يبعد أن يكون
هذا التعميم مبنيا على ما يفيده القرآن من سريان العلم و الإدراك في الموجودات
كما قدمناه في تفسير قوله: "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء": حم السجدة:
21.
و كيف كان فلا يتم عمل من عامل و لا تأثير من مؤثر إلا بإذن من الله سبحانه فما
كان من الأسباب غير تام له موانع لو تحققت منعت من تأثيره فإذنه تعالى له في أن
يؤثر رفعه الموانع، و ما كان منها تاما لا مانع له يمنعه فإذنه له عدم جعله له
شيئا من الموانع فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.
و ثانيا: أن المصائب و هي الحوادث التي تصيب الإنسان فتؤثر فيه آثارا سيئة
مكروهة إنما تقع بإذن من الله سبحانه كما أن الحسنات كذلك لاستيعاب إذنه تعالى
صدور كل أثر من كل مؤثر.
و ثالثا: أن هذا الإذن إذن تكويني غير الإذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن
الفعل فإصابة المصيبة تصاحب إذنا من الله في وقوعها و إن كانت من الظلم الممنوع
فإن كون الظلم ممنوعا غير مأذون فيه إنما هو من جهة التشريع دون التكوين.
و لذا كانت بعض المصائب غير جائزة الصبر عليها و لا مأذونا في تحملها و يجب على
الإنسان أن يقاومها ما استطاع كالمظالم المتعلقة بالأعراض و النفوس.
و من هنا يظهر أن المصائب التي ندب إلى الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب
عندها بالذب و الامتناع عن تحملها كالمصائب العامة الكونية من موت و مرض مما لا
شأن لاختيار الإنسان فيها، و أما ما للاختيار فيها دخل كالمظالم المتعلقة نوع
تعلق بالاختيار من المظالم المتوجهة إلى الأعراض فلإنسان أن يتوقاها ما استطاع.
و قوله: "و من يؤمن بالله يهد قلبه" كان ظاهر سياق قوله: "ما أصاب من مصيبة إلا
بإذن الله" يفيد أن لله سبحانه في الحوادث التي تسوء الإنسان علما و مشية فليست
تصيبه مصيبة إلا بعد علمه تعالى و مشيته فليس لسبب من الأسباب الكونية أن يستقل
بنفسه فيما يؤثره فإنما هو نظام الخلقة لا رب يملكه إلا خالقه فلا تحدث حادثة و
لا تقع واقعة إلا بعلم منه و مشية فلم يكن ليخطئه ما أصابه و لم يكن ليصيبه ما
أخطأه.
و هذه هي الحقيقة التي بينها بلسان آخر في قوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و
لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير": الحديد: 22.
فالله سبحانه رب العالمين و لازم ربوبيته العامة أنه وحده يملك كل شيء لا مالك
بالحقيقة سواه، و النظام الجاري في الوجود مجموع من أنحاء تصرفاته في خلقه فلا
يتحرك متحرك و لا يسكن ساكن إلا عن إذن منه، و لا يفعل فاعل و لا يقبل قابل إلا
عن علم سابق منه و مشية لا يخطىء علمه و مشيته و لا يرد قضاؤه.
فالإذعان بكونه تعالى هو الله يستعقب اهتداء النفس إلى هذه الحقائق و اطمئنان
القلب و سكونه و عدم اضطرابه و قلقه من جهة تعلقه بالأسباب الظاهرية و إسناده
المصائب و النوائب المرة إليها دون الله سبحانه.
و هذا معنى قوله تعالى: "و من يؤمن بالله يهد قلبه".
و قيل: معنى الجملة: و من يؤمن بتوحيد الله و يصبر لأمر الله يهد قلبه
للاسترجاع حتى يقول: إنا لله و إنا إليه راجعون، و فيه إدخال الصبر في معنى
الإيمان.
و قيل: المعنى: و من يؤمن بالله يهد قلبه إلى ما عليه أن يفعل فإن ابتلي صبر و
إن أعطي شكر و إن ظلم غفر، و هذا الوجه قريب مما قدمناه.
و قوله: "و الله بكل شيء عليم" تأكيد للاستثناء المتقدم، و يمكن أن يكون إشارة
إلى ما يفيده قوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من
قبل أن نبرأها": الحديد: 22.
قوله تعالى: "و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا
البلاغ المبين" ظاهر تكرار "أطيعوا" دون أن يقال: أطيعوا الله و الرسول اختلاف
المراد بالإطاعة، فالمراد بإطاعة الله تعالى الانقياد له فيما شرعه لهم من
شرائع الدين و المراد بإطاعة الرسول الانقياد له و امتثال ما يأمر به بحسب
ولايته للأمة على ما جعلها الله له.
و قوله: "فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين" التولي الإعراض، و البلاغ
التبليغ، و المعنى: فإن أعرضتم عن إطاعة الله فيما شرع من الدين أو عن إطاعة
الرسول فيما أمركم به بما أنه ولي أمركم، فلم يكرهكم رسولنا على الطاعة فإنه لم
يؤمر بذلك، و إنما أمر بالتبليغ و قد بلغ.
و من هنا يظهر أن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما وراء الأحكام و
الشرائع من تبليغ رسالة الله فأمره و نهيه فيما توليه من أمر الله و نهيه، و
طاعته فيهما من طاعة الله تعالى كما يدل عليه إطلاق قوله تعالى: "و ما أرسلنا
من رسول إلا ليطاع بإذن الله": النساء: 64.
الظاهر في أن طاعة الرسول فيما يأمر و ينهى مطلقا مأذون فيه بإذن الله، و إذنه
في طاعته يستلزم علمه و مشيته لطاعته، و إرادة طاعة الأمر و النهي إرادة لنفس
الأمر و النهي فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نهيه من أمر الله و نهيه
و إن كان فيما وراء الأحكام و الشرائع المجعولة له تعالى.
و لما تقدم من رجوع طاعة الرسول إلى طاعة الله التفت من الغيبة إلى الخطاب في
قوله: "رسولنا" و فيه مع ذلك شيء من شائبة التهديد.
قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو و على الله فليتوكل المؤمنون" في مقام التعليل
لوجوب إطاعة الله على ما تقدم أن طاعة الرسول من طاعة الله، توضيح ذلك أن
الطاعة بمعنى الانقياد و الائتمار للأمر و الانتهاء عن النهي من شئون العبودية
حيث لا أثر لملك المولى رقبة عبده إلا مالكيته لإرادته و عمله فلا يريد إلا ما
يريد المولى أن يريده و لا يعمل إلا ما يريد المولى أن يعمله فالطاعة نحو من
العبودية كما يشير إليه قوله: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان": يس: 60، يعاتبهم بعبادة الشيطان و إنما أطاعوه.
فطاعة المطيع بالنسبة إلى المطاع نوع عبادة له، و إذ لا معبود إلا الله فلا
طاعة إلا لله عز اسمه أو من أمر بطاعته فالمعنى: أطيعوا الله سبحانه إذ لا طاعة
إلا لمعبود و لا معبود بالحق إلا الله فيجب عليكم أن تعبدوه و لا تشركوا به
بطاعة غيره و عبادته كالشيطان و هوى النفس و هذا معنى كون الجملة في مقام
التعليل.
و بما مر يظهر وجه تخصيص صفة الألوهية التي تفيد معنى المعبودية، بالذكر دون
صفة الربوبية فلم يقل: الله لا رب غيره.
و قوله: "و على الله فليتوكل المؤمنون" تأكيد لمعنى الجملة السابقة أعني قوله:
"الله لا إله إلا هو".
توضيحه: أن التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إدارة أموره و لازم ذلك
قيام إرادته مقام إرادة موكلة و فعله مقام فعله فينطبق بوجه على الإطاعة فإن
المطيع يجعل إرادته و عمله تبعا لإرادة المطاع فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته
و يعود عمله متعلقا لإرادة المطاع صادرا منها اعتبارا فترجع الإطاعة توكيلا
بوجه كما أن التوكيل إطاعة بوجه.
فإطاعة العبد لربه اتباع إرادته لإرادة ربه و الإتيان بالفعل على هذا النمط و
بعبارة أخرى إيثار إرادته و ما يتعلق بها من العمل على إرادة نفسه و ما يتعلق
بها من العمل.
فطاعته تعالى فيما شرع لعباده و ما يتعلق بها نوع تعلق من التوكل عليه، و طاعته
واجبة لمن عرفه و آمن به فعلى الله فليتوكل المؤمنون و إياه فليطيعوا، و أما من
لم يعرفه و لم يؤمن به فلا تتحقق منه طاعة.
و قد بان بما تقدم أن الإيمان و العمل الصالح نوع من التوكل على الله تعالى.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم"
إلخ "من" في "أزواجكم" للتبعيض، و سياق الخطاب بلفظ "يا أيها الذين آمنوا" و
تعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي إنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، و العداوة
من جهة الإيمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الإيمان أو عن
الأعمال الصالحة كالإنفاق في سبيل الله و الهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم
على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الإنفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد
و الأزواج و الغصب و اكتساب المال من غير طريق حله.
فالله سبحانه يعد بعض الأولاد و الأزواج عدوا للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم
على ترك الإيمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر
الموبقة و ربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم و حبا لهم فأمرهم الله بالحذر
منهم.
و قوله: "و إن تعفوا و تصفحوا و تغفروا فإن الله غفور رحيم" قال الراغب: العفو
القصد لتناول الشيء يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولا ما عنده - إلى أن قال
- و عفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه، و قال: الصفح ترك التثريب و هو أبلغ
من العفو، و لذلك قال تعالى: "فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره" و قد يعفو
الإنسان و لا يصفح، و قال: الغفر البأس ما يصونه عن الدنس، و منه قيل: اغفر
ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، و الغفران و المغفرة من الله هو
أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال: "غفرانك ربنا" و "مغفرة من ربكم" "و من
يغفر الذنوب إلا الله" انتهى.
ففي قوله: "فاعفوا و اصفحوا و اغفروا" ندب إلى كمال الإغماض عن الأولاد و
الأزواج.
إذا ظهر منهم شيء من آثار المعاداة المذكورة - مع الحذر من أن يفتتن بهم.
و في قوله: "فإن الله غفور رحيم" إن كان المراد خصوص مغفرته و رحمته للمخاطبين
أن يعفوا و يصفحوا و يغفروا كان وعدا جميلا لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله
تعالى: "و ليعفوا و ليصفحوا أ لا تحبون أن يغفر الله لكم": النور: 22.
و إن أريد مغفرته و رحمته العامتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أن المغفرة
و الرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا و صفحوا و غفروا فقد اتصفوا بصفات الله
و تخلقوا بأخلاقه.
قوله تعالى: "إنما أموالكم و أولادكم فتنة و الله عنده أجر عظيم" الفتنة ما
يبتلى و يمتحن به، و كون الأموال و البنين فتنة إنما هو لكونهما زينة الحياة
تنجذب إليهما النفس انجذابا فتفتتن و تلهو بهما عما يهمها من أمر آخرته و طاعة
ربه، قال تعالى: "المال و البنون زينة الحياة الدنيا": الكهف: 46.
و الجملة كناية عن النهي عن التلهي بهما و التفريط في جنب الله باللي إليهما و
يؤكده قوله: "و الله عنده أجر عظيم".
قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" إلخ، أي مبلغ استطاعتكم - على ما يفيده
السياق فإن السياق سياق الدعوة و الندب إلى السمع و الطاعة و الإنفاق و
المجاهدة في الله - و الجملة تفريع على قوله: "إنما أموالكم" إلخ، فالمعنى:
اتقوه مبلغ استطاعتكم و لا تدعوا من الاتقاء شيئا تسعه طاقتكم و جهدكم فتجري
الآية مجرى قوله: "اتقوا الله حق تقاته": آل عمران: 102، و ليست الآية ناظرة
إلى نفي التكليف بالاتقاء فيما وراء الاستطاعة و فوق الطاقة كما في قوله: "و لا
تحملنا ما لا طاقة لنا به": البقرة: 286.
و قد بان مما مر: أولا: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله: "فاتقوا الله ما
استطعتم" و قوله: "اتقوا الله حق تقاته" و أن الاختلاف بينهما كالاختلاف
بالكمية و الكيفية، فقوله: "فاتقوا الله ما استطعتم" أمر باستيعاب جميع الموارد
التي تسعها الاستطاعة بالتقوى، و قوله: "اتقوا الله حق تقاته" أمر بالتلبس في
كل من موارد التقوى بحق التقوى دون شبحها و صورتها.
و ثانيا: فساد قول بعضهم: إن قوله: "فاتقوا الله ما استطعتم" ناسخ لقوله:
"اتقوا الله حق تقاته" و هو ظاهر.
و قوله: "و اسمعوا و أطيعوا و أنفقوا خيرا لأنفسكم" توضيح و تأكيد لقوله:
"فاتقوا الله ما استطعتم" و السمع الاستجابة و القبول و هو في مقام الالتزام
القلبي، و الطاعة الانقياد و هو في مقام العمل، و الإنفاق المراد به بذل المال
في سبيل الله.
و "خيرا لأنفسكم" منصوب بمحذوف - على ما في الكشاف، - و التقدير آمنوا خيرا
لأنفسكم، و يحتمل أن يكون "أنفقوا" مضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة
المقام، و في قوله: "لأنفسكم" دون أن يقال: خيرا لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إن
الإنفاق خير لكم لا ينتفع به إلا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم و سعة قدرتكم
على رفع حوائج مجتمعكم.
و قوله: "و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" تقدم تفسيره في تفسير سورة
الحشر.
قوله تعالى: "إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و الله شكور
حليم" المراد بإقراض الله الإنفاق في سبيله سماه الله إقراضا لله و سمي المال
المنفق قرضا حسنا حثا و ترغيبا لهم فيه.
و قوله: "يضاعفه لكم و يغفر لكم" إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا و الآخرة.
و الشكور و الحليم و عالم الغيب و الشهادة و العزيز و الحكيم خمسة من أسماء
الله الحسنى تقدم شرحها، و وجه مناسبتها لما أمر به في الآية من السمع و الطاعة
و الإنفاق ظاهر.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله
تعالى: "إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم" و ذلك أن الرجل إذا أراد
الهجرة تعلق به ابنه و امرأته و قالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك
فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذرهم الله أبناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم، و
منهم من يمضي و يذرهم و يقول: أما و الله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني
و بينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا. فلما جمع الله بينه و بينهم أمر
الله أن يتوق بحسن وصله فقال: "و إن تعفوا و تصفحوا و تغفروا فإن الله غفور
رحيم":. أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن
ابن عباس.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "إنما أموالكم و أولادكم فتنة": عن ابن
مردويه عن عبادة بن الصامت و عبد الله بن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم): لكل أمة فتنة و فتنة أمتي المال:. أقول: و روي مثله أيضا عنه عن
كعب بن عياض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و
الحاكم و ابن مردويه عن بريدة قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب
فأقبل الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق و واحدا من ذا
الشق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله قال: "إنما أموالكم و أولادكم فتنة"، إني
لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان و يعثران لم أصبر إن قطعت كلامي و نزلت
إليهما.
أقول: و الرواية لا تخلو من شيء و أنى تنال الفتنة من النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و هو سيد الأنبياء المخلصين معصوم مؤيد بروح القدس.
و أفظع لحنا من هذا الحديث ما رواه عن ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن
علي فوطأ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عن المنبر. فلما رأى الناس أسرعوا إلى الحسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى
وقع في يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قاتل الله الشيطان إن
الولد لفتنة، و الذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري.
و مثله ما عن ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير قال: سمع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بكاء حسن أو حسين فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الولد فتنة
لقد قمت إليه و ما أعقل.
فالوجه طرح الروايات إلا أن تؤول.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع حدثنا سفيان بن مرة الهمداني
عن عبد خير سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: "اتقوا الله حق تقاته" قال: و
الله ما عمل بها غير أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). نحن ذكرنا
الله فلا ننساه و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن أطعناه فلم نعصه. فلما نزلت هذه
قالت الصحابة: لا نطيق ذلك فأنزل الله: "فاتقوا الله ما استطعتم". الحديث.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الفضل بن أبي مرة قال: رأيت أبا عبد الله (عليه
السلام) يطوف من أول الليل إلى الصباح و هو يقول: اللهم و قني شح نفسي فقلت:
جعلت فداك ما رأيتك تدعو بغير هذا الدعاء فقال: و أي شيء أشد من شح النفس؟ إن
الله يقول: "و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
65 سورة الطلاق - 1 - 7
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيهَا النّبىّ إِذَا طلّقْتُمُ النِّساءَ
فَطلِّقُوهُنّ لِعِدّتهِنّ وَ أَحْصوا الْعِدّةَ وَ اتّقُوا اللّهَ رَبّكمْ لا
تخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَ لا يخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَحِشةٍ
مّبَيِّنَةٍ وَ تِلْك حُدُودُ اللّهِ وَ مَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ
ظلَمَ نَفْسهُ لا تَدْرِى لَعَلّ اللّهَ يحْدِث بَعْدَ ذَلِك أَمْراً (1)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ
بِمَعْرُوفٍ وَ أَشهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِّنكمْ وَ أَقِيمُوا الشهَدَةَ للّهِ
ذَلِكمْ يُوعَظ بِهِ مَن كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ مَن
يَتّقِ اللّهَ يجْعَل لّهُ مخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْث لا يحْتَسِب
وَ مَن يَتَوَكلْ عَلى اللّهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنّ اللّهَ بَلِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللّهُ لِكلِّ شىْءٍ قَدْراً (3) وَ الّئِى يَئسنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن
نِّسائكمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتهُنّ ثَلَثَةُ أَشهُرٍ وَ الّئِى لَمْ
يحِضنَ وَ أُولَت الأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَن يَضعْنَ حَمْلَهُنّ وَ مَن يَتّقِ
اللّهَ يجْعَل لّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسراً (4) ذَلِك أَمْرُ اللّهِ أَنزَلَهُ
إِلَيْكمْ وَ مَن يَتّقِ اللّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سيِّئَاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً (5) أَسكِنُوهُنّ مِنْ حَيْث سكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَ لا
تُضارّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عَلَيهِنّ وَ إِن كُنّ أُولَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا
عَلَيهِنّ حَتى يَضعْنَ حَمْلَهُنّ فَإِنْ أَرْضعْنَ لَكمْ فَئَاتُوهُنّ
أُجُورَهُنّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكم بمَعْرُوفٍ وَ إِن تَعَاسرْتمْ فَسترْضِعُ
لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سعَةٍ مِّن سعَتِهِ وَ مَن قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّا ءَاتَاهُ اللّهُ لا يُكلِّف اللّهُ نَفْساً إِلا
مَا ءَاتَاهَا سيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسرٍ يُسراً (7)
بيان
تتضمن السورة بيان كليات من أحكام الطلاق تعقبه عظة و إنذار و تبشير، و السورة
مدنية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن و أحصوا العدة"
إلى آخر الآية، بدىء الخطاب بنداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه الرسول
إلى الأمة و إمامهم فيصلح لخطابه أن يشمله و أتباعه من أمته و هذا شائع في
الاستعمال يخص مقدم القوم و سيدهم بالنداء و يخاطب بما يعمه و قومه فلا موجب
لقول بعضهم: إن التقدير يا أيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء إلخ.
و قوله: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء و
أشرفتم على ذلك إذ لا معنى لتحقق الطلاق بعد وقوع الطلاق فهو كقوله: "إذا قمتم
إلى الصلاة فاغسلوا" الآية: المائدة: 6.
و العدة قعود المرأة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة شرعا، و المراد بتطليقهن
لعدتهن تطليقهن لزمان عدتهن بحيث يأخذ زمان العدة من يوم تحقق التطليقة و ذلك
بأن تكون التطليقة في طهر لا مواقعة فيه حتى تنقضي أقراؤها.
و قوله: "و أحصوا العدة" أي عدوا الأقراء التي تعتد بها، و هو الاحتفاظ عليها
لأن للمرأة فيها حق النفقة و السكنى على زوجها و للزوج فيها حق الرجوع.
و قوله: "و اتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن" ظاهر السياق كون "لا
تخرجوهن" إلخ، بدلا من "اتقوا الله ربكم" و يفيد ذلك تأكيد النهي في "لا
تخرجوهن" و المراد ببيوتهن البيوت التي كن يسكنه قبل الطلاق أضيفت إليهن بعناية
السكنى.
و قوله: "و لا يخرجن" نهي عن خروجهن أنفسهن كما كان سابقه نهيا عن إخراجهن.
و قوله: "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" أي ظاهرة كالزنا و البذاء و إيذاء أهلها
كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و قوله: "و تلك حدود الله و من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه" أي الأحكام
المذكورة للطلاق حدود الله حد بها أعمالكم و من يتعد و يتجاوز حدود الله بأن لم
يراعها و خالفها فقد ظلم نفسه أي عصى ربه.
و قوله: "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" أي أمرا يقضي بتغير الحال و تبدل
رأي الزوج في طلاقها بأن يميل إلا الالتيام و يظهر في قلبه محبة حب الرجوع إلى
سابق الحال.
قوله تعالى: "فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف - إلى قوله -
و اليوم الآخر" المراد من بلوغهن أجلهن اقترابهن من آخر زمان العدة و إشرافهن
عليه، و المراد بإمساكهن الرجوع على سبيل الاستعارة، و بمفارقتهن تركهن ليخرجن
من العدة و يبن.
و المراد بكون الإمساك بمعروف حسن الصحبة و رعاية ما جعل الله لهن من الحقوق، و
بكون فراقهن بمعروف أيضا استرام الحقوق الشرعية فالتقدير بمعروف من الشرع.
و قوله: "و أشهدوا ذوي عدل منكم" أي أشهدوا على الطلاق رجلين منكم صاحبي عدل، و
قد مر توضيح معنى العدل في تفسير سورة البقرة.
و قوله: "و أقيموا الشهادة لله" تقدم توضيحه في تفسير سورة البقرة.
و قوله: "ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر" أي ما مر من الأمر
بتقوى الله و إقامة الشهادة لله و النهي عن تعدي حدود الله أو مجموع ما مر من
الأحكام و البعث إلى التقوى و الإخلاص في الشهادة و الزجر عن تعدي حدود الله
يوعظ به المؤمنون ليركنوا إلى الحق و ينقلعوا عن الباطل، و فيه إيهام أن في
الإعراض عن هذه الأحكام أو تغييرها خروجا من الإيمان.
قوله تعالى: "و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب - إلى قوله
- قدرا" أي "و من يتق الله" و يتورع عن محارمه و لم يتعد حدوده و احترم لشرائعه
فعمل بها "يجعل له مخرجا" من مضائق مشكلات الحياة فإن شريعته فطرية يهدي بها
الله الإنسان إلى ما تستدعيه فطرته و تقضي به حاجته و تضمن سعادته في الدنيا و
الآخرة "و يرزقه" من الزوج و المال و كل ما يفتقر إليه في طيب عيشه و زكاة
حياته "من حيث لا يحتسب" و لا يتوقع فلا يخف المؤمن أنه إن اتقى الله و احترم
حدوده حرم طيب الحياة و ابتلي بضنك المعيشة فإن الرزق مضمون و الله على ما ضمنه
قادر.
"و من يتوكل على الله" باعتزاله عن نفسه فيما تهواه و تأمر به و إيثاره إرادة
الله سبحانه على إرادة نفسه و العمل الذي يريده الله على العمل الذي تهواه و
تريده نفسه و بعبارة أخرى تدين بدين الله و عمل بأحكامه "فهو حسبه" أي كافيه
فيما يريده من طيب العيش و يتمناه من السعادة بفطرته لا بواهمته الكاذبة.
و ذلك أنه تعالى هو السبب الأعلى الذي تنتهي إليه الأسباب فإذا أراد شيئا فعله
و بلغ ما أراده من غير أن تتغير إرادته فهو القائل: "ما يبدل القول لدي": ق:
29، أو يحول بينه و بين ما أراده مانع فهو القائل: "و الله يحكم لا معقب
لحكمه": الرعد: 41، و أما الأسباب الآخر التي يتشبث بها الإنسان في رفع حوائجه
فإنما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه و هو المالك لما ملكها و القادر
على ما عليه أقدرها و لها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه.
فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره "إن الله بالغ أمره" يبلغ حيث أراد، و هو
القائل: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" "قد جعل الله لكل شيء
قدرا" فما من شيء إلا له قدر مقدور و حد محدود و الله سبحانه لا يحده حد و لا
يحيط به شيء و هو المحيط بكل شيء.
هذا هو معنى الآية بالنظر إلى وقوعها في سياق آيات الطلاق و انطباقها على
المورد.
و أما بالنظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: "و
من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب" مفاده أن من اتقى الله
بحقيقة معنى تقواه و لا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه و صفاته ثم تورعه و
اتقائه بالاجتناب عن المحرمات و تحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم، و لازمه
أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أو ترك، و لازمه أن يستهلك إرادته في
إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.
و لازم ذلك أن يرى نفسه و ما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكا طلقا لله سبحانه
يتصرف فيها بما يشاء و هو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك
بحقيقة معناه شيء إلا ما ملكه الله سبحانه و هو المالك لما ملكه و الملك لله عز
اسمه.
و عند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم و سجن الشرك بالتعلق بالأسباب الظاهرية "و
يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب" أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من
عطايا سعيه و الأسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها و ما كان يعلم من الأسباب
إلا قليلا من كثير كقبس من نار يضيء للإنسان في الليلة الظلماء موضع قدمه و هو
غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالأسباب و هو الناظم لها ينظمها كيف
يشاء و يأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها.
و أما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي يعيش به النفس الإنسانية و تبقى
فهو مما لم يكن يحتسبه و لا يحتسب طريق وروده عليه.
و بالجملة هو سبحانه يتولى أمره و يخرجه من مهبط الهلاك و يرزقه من حيث لا
يحتسب، و لا يفقد من كماله و النعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا لأنه توكل
على الله و فوض إلى ربه ما كان لنفسه "و من يتوكل على الله فهو حسبه" دون سائر
الأسباب الظاهرية التي تخطىء تارة و تصيب أخرى "إن الله بالغ أمره" لأن الأمور
محدودة محاطة له تعالى و "قد جعل الله لكل شيء قدرا" فهو غير خارج عن قدره الذي
قدره به.
و هذا نصيب الصالحين من الأولياء من هذه الآية.
و أما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث
المعرفة و العمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الإيمان و العمل
الصالح و قد قال تعالى و أطلق: "و الله ولي المؤمنين": آل عمران: 68، و قال و
أطلق: "و الله ولي المتقين": الجاثية: 19.
و تدينهم بدين الحق و هي سنة الحياة و ورودهم و صدورهم في الأمور عن إرادته
تعالى هو تقوى الله و التوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون
من سعادة الحياة بحسبه و يجعل الله لهم مخرجا و يرزقهم من حيث لا يحتسبون، و
حسبهم ربهم فهو بالغ أمره و قد جعل لكل شيء قدرا.
و عليهم من حرمان السعادة قدر ما دب من الشرك في إيمانهم و عملهم و قد قال
تعالى: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون": يوسف: 106، و قال و أطلق:
"إن الله لا يغفر أن يشرك به": النساء: 48.
و قال: "و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا": طه: 82، أي لمن تاب من الشرك
و قال و أطلق: "و استغفروا الله إن الله غفور رحيم": المزمل: 20.
فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفي الشرك الذي
دونها.
و الآية من غرر الآيات القرآنية و للمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها.
قوله تعالى: "و اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر"
المراد بالارتياب الشك في يأسهن من المحيض أ هو لكبر أم لعارض، فالمعنى: و
اللائي يئسن من المحيض من نسائكم و شككتم في أمر يأسهن أ هو لبلوغ سنهن سن
اليأس أم لعارض فعدتهن ثلاثة أشهر.
و قوله: "و اللائي لم يحضن" عطف على قوله: "و اللائي يئسن" إلخ، و المعنى: و
اللائي لم يحضن و هو في سن من تحيض فعدتهن ثلاثة أشهر.
و قوله: "و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" أي منتهى زمان عدتهن وضع الحمل.
و قوله: "و من يتق الله يجعل له من أمره يسرا" أي يسهل عليه ما يستقبله من
الشدائد و المشاق، و قيل: المراد أنه يسهل عليه أمور الدنيا و الآخرة إما بفرج
عاجل أو عوض آجل.
قوله تعالى: "ذلك أمر الله أنزله إليكم" أي ما بينه في الآيات المتقدمة حكم
الله أنزله إليكم، و في قوله: "و من يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا"
دلالة على أن اتباع الأوامر من التقوى كاجتناب المحرمات و لعله باعتبار أن
امتثال الأمر يلازم اجتناب تركه.
و تكفير السيئات سترها بالمغفرة، و المراد بالسيئات المعاصي الصغيرة فيبقى
للتقوى كبائر المعاصي، و يكون مجموع قوله: "و من يتق الله يكفر عنه سيئاته و
يعظم له أجرا" في معنى قوله: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
و ندخلكم مدخلا كريما": النساء: 31، و من الآيتين يظهر أن المراد بالمحارم في
قوله (عليه السلام) في تعريف التقوى: أنها الورع عن محارم الله المعاصي
الكبيرة.
و يظهر أيضا أن مخالفة ما أنزله الله من الأمر في الطلاق و العدة من الكبائر إذ
التقوى المذكورة في الآية تشمل ما ذكر من أمر الطلاق و العدة لا محالة فهو غير
السيئات المكفرة و إلا اختل معنى الآية.
قوله تعالى: "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم" إلى آخر الآية، قال في المفردات،:
و قوله تعالى: "من وجدكم" أي تمكنكم و قدر غناكم، و يعبر عن الغنى بالوجدان و
الجدة، و قد حكي فيه الوجد و الوجد و الوجد - بالحركات الثلاث في الواو -
انتهى.
و ضمير "هن" للمطلقات على ما يؤيده السياق، و المعنى: اسكنوا المطلقات من حيث
سكنتم من المساكن على قدر تمكنكم و غناكم على الموسر قدره و على المعسر قدره.
و قوله: "و لا تضاروهن لتضيقوا عليهن" أي لا توجهوا إليهن ضررا يشق عليهن تحمله
من حيث السكنى و الكسوة و النفقة لتوردوا الضيق و الحرج عليهن.
و قوله: "و إن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن" معناه ظاهر.
و قوله: "فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن" فلهن عليكم أجر الرضاعة و هو من نفقة
الولد التي على الوالد.
و قوله: "و ائتمروا بينكم بمعروف" الائتمار بشيء تشاور القوم فيه بحيث يأمر
بعضهم فيه بعضا، و هو خطاب للرجل و المرأة أي تشاوروا في أمر الولد و توافقوا
في معروف من العادة بحيث لا يتضرر الرجل بزيادة الأجر الذي ينفقه و لا المرأة
بنقيصته و لا الولد بنقص مدة الرضاع إلى غير ذلك.
و قوله: "و إن تعاسرتم فسترضع له أخرى" أي و إن أراد كل منكم من الآخر ما فيه
عسر و اختلفتم فسترضع الولد امرأة أخرى أجنبية غير والدته أي فليسترضع الوالد
غير والدة الصبي.
قوله تعالى: "لينفق ذو سعة من سعته" الإنفاق من سعة هو التوسعة في الإنفاق و هو
أمر لأهل السعة بأن يوسعوا على نسائهم المطلقات المرضعات أولادهم.
و قوله: "و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله" قدر الرزق ضيقه، و الإيتاء
الإعطاء، و المعنى: و من ضاق عليه رزقه و كان فقيرا لا يتمكن من التوسع في
الإنفاق فلينفق على قدر ما أعطاه الله من المال أي فلينفق على قدر تمكنه.
و قوله: "لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها" أي لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما
أعطاها من القدرة فالجملة تنفي الحرج من التكاليف الإلهية و منها إنفاق
المطلقة.
و قوله: "سيجعل الله بعد عسر يسرا" فيه بشرى و تسلية.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة النساء
القصرى بعد التي في البقرة بسبع سنين.
أقول: سورة النساء القصرى هي سورة الطلاق.
و فيه، أخرج مالك و الشافعي و عبد الرزاق في المصنف و أحمد و عبد بن حميد و
البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن
المنذر و أبو يعلى و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عمر أنه طلق امرأته و
هي حائض فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتغيظ فيه رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: ليراجعها ثم يمسها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر
فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن
يطلق لها النساء، و قرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء - فطلقوهن في قبل عدتهن".
أقول: قوله: "في قبل عدتهن" قراءة ابن عمر و ما في المصحف "لعدتهن".
و فيه، أخرج ابن المنذر عن ابن سيرين في قوله: "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"
قال: في حفصة بنت عمر طلقها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة فنزلت "يا
أيها النبي إذا طلقتم النساء إلى قوله يحدث بعد ذلك أمرا" قال: فراجعها.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل طلاق لا
يكون على السنة أو على العدة فليس بشيء. قال زرارة فقلت لأبي جعفر (عليه
السلام): فسر لي طلاق السنة و طلاق العدة فقال: أما طلاق السنة فإذا أراد الرجل
أن يطلق امرأته فينتظر بها حتى تطمث و تطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من
غير جماع و يشهد شاهدين على ذلك ثم يدعها حتى تطمث طمثين فتنقضي عدتها بثلاث
حيض و قد بانت منه و يكون خاطبا من الخطاب إن شاءت تزوجته و إن شاءت لم تتزوجه،
و عليه نفقتها و السكنى ما دامت في مدتها، و هما يتوارثان حتى تنقضي العدة.
قال: و أما طلاق العدة الذي قال الله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن و أحصوا العدة"
فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض و تخرج
من حيضتها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع و يشهد شاهدين عدلين و يراجعها من يومه
ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و تكون
معه حتى تحيض فإذا حاضت و خرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع و يشهد
على ذلك ثم يراجعها أيضا متى شاء قبل أن تحيض و يشهد على رجعتها و يواقعها و
تكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلقها
التطليقة الثالثة بغير جماع و يشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه و لا تحل
له حتى تنكح زوجا غيره. قيل له: فإن كانت ممن لا تحيض؟ قال: مثل هذه تطلق طلاق
السنة.
و في قرب الإسناد، بإسناده عن صفوان قال: سمعت يعني أبا عبد الله: و جاء رجل
فسأله فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس فقال: ليس بشيء. ثم قال: أ ما تقرأ
كتاب الله تعالى "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - و أحصوا
العدة و اتقوا الله ربكم - لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن - إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة". ثم قال: أ لا تدري "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا" ثم قال: كلما
خالف كتاب الله و السنة فهو يرد إلى كتاب الله و السنة.
و في تفسير القمي،: في معنى قوله: "لا تخرجوهن من بيوتهن و لا يخرجن - إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة" قال: لا يحل لرجل أن يخرج امرأته إذا طلقها و كان له عليها
رجعة من بيته و هي لا تحل لها أن تخرج من بيته إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. و
معنى الفاحشة أن تزني أو تسرق على الرجل، و من الفاحشة أيضا السلاطة على زوجها
فإن فعلت شيئا من ذلك حل له أن يخرجها.
و في الكافي، بإسناده عن وهب بن حفص عن أحدهما (عليهما السلام) في المطلقة تعتد
في بيتها، و تظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
أقول: و في هذه المعاني و معاني جمل الآيتين روايات أخرى عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام).
و فيه، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أعطي
ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و من أعطي الشكر أعطي
الزيادة، و من أعطي التوكل أعطي الكفاية. قال: أ تلوت كتاب الله عز و جل؟ "و من
يتوكل على الله فهو حسبه" و قال: "و لئن شكرتم لأزيدنكم" و قال: "ادعوني أستجب
لكم".
و فيه، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول
الله عز و جل: "و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب" قال: في
دنياه.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سالم بن أبي
الجعد قال: نزلت هذه الآية: "و من يتق الله يجعل له مخرجا" في رجل من أشجع
أصابه جهد و بلاء و كان العدو أسروا ابنه فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: اتق الله و اصبر، فرجع ابن له كان أسيرا قد فكه الله فأتاهم و قد أصاب
أعنزا فجاء فذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت فقال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): هي لك.
و فيه، أخرج أبو يعلى و أبو نعيم و الديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "و من يتق الله يجعل
له مخرجا" قال: من شبهات الدنيا و من غمرات الموت و من شدائد يوم القيامة.
و فيه، أخرج الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي عن أبي ذر قال: جعل رسول
الله يتلو هذه الآية "و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب"
فجعل يرددها حتى نعست. ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبراني و الخطيب عن عمران بن حصين قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة و رزقه
من حيث لا يحتسب و من انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، و من أحب أن يكون
أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، و من أحب أن يكون أكرم
الناس فليتق الله.
أقول: و قد تقدم في ذيل الكلام على الآيات معنى هذه الروايات.
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عدة المرأة
التي لا تحيض و المستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، و عدة التي تحيض و يستقيم
حيضها ثلاثة قروء، و سألته عن قول الله عز و جل: "إن ارتبتم" ما الريبة؟ فقال:
ما زاد على شهر فهو ريبة فلتعتد ثلاثة أشهر و ليترك الحيض الحديث.
و فيه، بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: عدة الحامل أن
تضع حملها و عليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها.
و فيه، بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا
طلق الرجل المرأة و هي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فإذا وضعته أعطاها أجرها
و لا تضارها إلا أن يجد من هي أرخص أجرا منها فإن رضيت بذلك الأجر فهي أحق
بابنها حتى تفطمه.
و في الفقيه، بإسناده عن ربعي بن عبد الله و الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله
(عليه السلام) في قوله عز و جل: "و من قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله"
قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع الكسوة و إلا فرق بينهما:. أقول: و رواه
في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله: "و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن" قال:
المطلقة الحامل أجلها أن تضع ما في بطنها إن وضعت يوم طلقها زوجها فلها أن
تتزوج إذا طهرت، و أن تضع ما في بطنها إلى تسعة أشهر لم تتزوج إلا أن تضع.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:
سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت سقطا تم أو لم يتم أو وضعته مضغة؟ قال:
كل شيء وضعته يستبين أنه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن مغيرة قال: قلت للشعبي: ما أصدق إن علي
بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين. قال: بلى فصدق به
كأشد ما صدقت بشيء كان علي يقول: إنما قوله: "و أولات الأحمال أجلهن أن يضعن
حملهن" في المطلقة.
و فيه، أخرج عبد الرزاق عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص
بن المغيرة خرج مع علي إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت
بقيت من طلاقها، و أمر لها الحارث بن هشام و عباس بن أبي ربيعة بنفقة فاستقلتها
فقالا لها و الله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) فذكرت له أمرها فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نفقة
لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها. فأرسل إليها مروان يسألها عن ذلك فحدثته
فقال مروان: لم أسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس
عليها فقالت فاطمة: بيني و بينكم كتاب الله قال الله عز و جل: "و لا يخرجن -
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" حتى بلغ "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"
قالت: هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ فكيف تقولون: لا نفقة
إذا لم تكن حاملا؟ فعلا م تحبسونها؟. و لكن يتركها حتى إذا حاضت و طهرت طلقها
تطليقة فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، و إن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، و
إن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها و أن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد
على ذلك رجلين كما قال الله: "و أشهدوا ذوي عدل منكم" عند الطلاق و عند
المراجعة. فإن راجعها فهي عنده على طلقتين و إن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها
فقد بانت عدتها منه بواحدة و هي أملك لنفسها ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.
65 سورة الطلاق - 8 - 12
وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَت عَنْ أَمْرِ رَبهَا وَ رُسلِهِ فَحَاسبْنَهَا
حِساباً شدِيداً وَ عَذّبْنَهَا عَذَاباً نّكْراً (8) فَذَاقَت وَبَالَ
أَمْرِهَا وَ كانَ عَقِبَةُ أَمْرِهَا خُسراً (9) أَعَدّ اللّهُ لهَُمْ
عَذَاباً شدِيداً فَاتّقُوا اللّهَ يَأُولى الأَلْبَبِ الّذِينَ ءَامَنُوا قَدْ
أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكمْ ذِكْراً (10) رّسولاً يَتْلُوا عَلَيْكمْ ءَايَتِ
اللّهِ مُبَيِّنَتٍ لِّيُخْرِجَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ مِنَ
الظلُمَتِ إِلى النّورِ وَ مَن يُؤْمِن بِاللّهِ وَ يَعْمَلْ صلِحاً يُدْخِلْهُ
جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسنَ
اللّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللّهُ الّذِى خَلَقَ سبْعَ سمَوَتٍ وَ مِنَ الأَرْضِ
مِثْلَهُنّ يَتَنزّلُ الأَمْرُ بَيْنهُنّ لِتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَلى كلِّ
شىْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاط بِكلِّ شىْءٍ عِلْمَا (12)
بيان
موعظة و إنذار و تبشير تؤكد التوصية بالتمسك بما شرع الله لهم من الأحكام و من
جملتها ما شرعه من أحكام الطلاق و العدة و لم يوص القرآن الكريم و لا أكد في
التوصية في شيء من الأحكام المشرعة كما وصى و أكد في أحكام النساء، و ليس إلا
لأن لها نبأ.
قوله تعالى: "و كأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله فحاسبناها حسابا شديدا و
عذبناها عذابا نكرا" قال الراغب: العتو النبوء عن الطاعة انتهى.
فهو قريب المعنى من الاستكبار، و قال: النكر الدهاء و الأمر الصعب الذي لا يعرف
انتهى.
و المراد بالنكر في الآية المعنى الثاني، و في المجمع، النكر المنكر الفظيع
الذي لم ير مثله انتهى.
و المراد بالقرية أهلها على سبيل التجوز كقوله: "و اسأل القرية": يوسف: 82، و
في قوله: "عتت عن أمر ربها و رسله" إشارة إلى أنهم كفروا بالله سبحانه بالشرك و
كفروا كفرا آخر برسله بتكذيبهم في دعوتهم.
على أنهم كفروا بالله تعالى في ترك شرائعه المشرعة و كفروا برسله فيما أمروا به
بولايتهم لهم كما مر نظيره في قوله: "و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول فإن توليتم
فإنما على رسولنا البلاغ المبين": التغابن: 12.
و شدة الحساب المناقشة فيه و الاستقصاء لتوفية الأجر كما هو عليه، و المراد به
حساب الدنيا غير حساب الآخرة و الدليل على كونه حساب الدنيا قوله تعالى: "و ما
أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير": الشورى: 30، و قوله: "و لو
أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا يكسبون": الأعراف: 96.
فما يصيب الإنسان من مصيبة - و هي المصيبة في نظر الدين - هو حاصل محاسبة
أعماله و الله يعفو عن كثير منها بالمسامحة و المساهلة في المحاسبة غير أنه
تعالى يحاسب العاتين المستكبرين عن أمره و رسله حسابا شديدا بالمناقشة و
الاستقصاء و التثريب فيعذبهم عذابا نكرا.
و المعنى: و كم من أهل قرية عتوا و استكبروا عن أمر ربهم و رسله فلم يطيعوا
الله و رسله فحاسبناها حسابا شديدا ناقشنا فيه و استقصيناه، و عذبناهم عذابا
صعبا غير معهود و هو عذاب الاستئصال في الدنيا.
و ما قيل: إن المراد به عذاب الآخرة، و التعبير بالفعل الماضي للدلالة على تحقق
الوقوع غير سديد.
و في قوله: "فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها" التفات من الغيبة إلى التكلم مع
الغير، و نكتته الدلالة على العظمة.
قوله تعالى: "فذاقت وبال أمرها و كان عاقبة أمرها خسرا" المراد بأمرها عتوها و
استكبارها، و المعنى: فأصابتهم عقوبة عتوهم و كان عاقبة عتوهم خسارا كأنهم
اشتروا العتو بالطاعة فانتهى إلى أن خسروا.
قوله تعالى: "أعد الله لهم عذابا شديدا" هذا جزاؤهم في الأخرى كما كان ما في
قوله: "فحاسبناها حسابا شديدا و عذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها" جزاؤهم
في الدنيا.
و الفضل في قوله: "أعد الله لهم" إلخ، لكونه في مقام دفع الدخل كأنه لما قيل:
"و كان عاقبة أمرها خسرا"، قيل: ما المراد بخسرهم؟ فقيل: "أعد الله لهم عذابا
شديدا".
قوله تعالى: "فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم
ذكرا" استنتاج مما تقدم خوطب به المؤمنون ليأخذوا حذرهم و يقوا أنفسهم أن يعتوا
عن أمر ربهم و يطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عتوهم و خسران عاقبتهم كما ابتليت
بذلك القرى الهالكة.
و قد وصف المؤمنين بأولى الألباب فقال: "اتقوا الله يا أولي الألباب الذين
آمنوا" استمدادا من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى فإنهم لما سمعوا أن
قوما عتوا عن أمر ربهم فحوسبوا حسابا شديدا و عذبوا عذابا نكرا و كان عاقبة
أمرهم خسرا ثم سمعوا أن ذلك تكرر مرة بعد مرة و أباد قوما بعد قوم، قضت عقولهم
بأن العتو و الاستكبار عن أمر الله تعرض لشديد حساب الله و منكر عذابه فتنبههم
و تبعثهم إلى التقوى و قد أنزل الله إليهم ذكرا يذكرهم به ما لهم و ما عليهم و
يهديهم إلى الحق و إلى طريق مستقيم.
قوله تعالى: "رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات" إلخ، عطف بيان أو بدل من
"ذكرا" فالمراد بالذكر الذي أنزله هو الرسول سمي به لأنه وسيلة التذكرة بالله و
آياته و سبيل الدعوة إلى دين الحق، و المراد بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) على ما يؤيده ظاهر قوله: "يتلوا عليكم آيات الله مبينات" إلخ.
و على هذا فالمراد بإنزال الرسول بعثه من عالم الغيب و إظهاره لهم رسولا من
عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون كما في قوله: "و أنزلنا الحديد": الحديد: 25.
و قد دعي ظهور الإنزال في كونه من السماء بعضهم كصاحب الكشاف إلى أن فسر
"رسولا" بجبريل و يكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) بما أنه متبوع لقومه و وسيلة الإبلاغ لهم لكن ظاهر قوله:
"يتلوا عليكم" إلخ، خلاف ذلك.
و يحتمل أن يكون "رسولا" منصوبا بفعل محذوف و التقدير أرسل رسولا يتلو عليكم
آيات الله، و يكون المراد بالذكر المنزل إليهم القرآن أو ما بين فيه من الأحكام
و المعارف.
و قوله: "ليخرج الذين آمنوا و عملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" تقدم
تفسيره في نظائره.
و قوله: "و من يؤمن بالله و يعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدا" وعد جميل و تبشير.
و قوله: "قد أحسن الله له رزقا" وصف لإحسانه تعالى إليهم فيما رزقهم به من
الرزق و المراد بالرزق ما رزقهم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا و الجنة
في الآخرة، و قيل المراد به الجنة.
قوله تعالى: "الله الذي خلق سبع سماوات و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن"
إلخ، بيان يتأكد به ما تقدم في الآيات من حديث ربوبيته تعالى و بعثة الرسول و
إنزاله الذكر ليطيعوه فيه و أن في تمرده و مخالفته الحساب الشديد و العذاب
الأليم و في طاعته الجنة الخالدة كل ذلك لأنه قدير عليم.
فقوله: "الله الذي خلق سبع سماوات" تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة حم
السجدة.
و قوله: "و من الأرض مثلهن" ظاهره المثلية في العدد، و عليه فالمعنى: و خلق من
الأرض سبعا كما خلق من السماء سبعا فهل الأرضون السبع سبع كرات من نوع الأرض
التي نحن عليها و التي نحن عليها إحداها؟ أو الأرض التي نحن عليها سبع طبقات
محيطة بعضها ببعض و الطبقة العليا بسيطها الذي نحن عليه؟ أو المراد الأقاليم
السبعة التي قسموا إليها المعمور من سطح الكرة؟ وجوه ذهب إلى كل منها جمع و
ربما لاح بالرجوع إلى ما تقدم في تفسير سورة حم السجدة محتمل آخر غيرها.
و ربما قيل: إن المراد بقوله: "و من الأرض مثلهن" أنه خلق من الأرض شيئا هو مثل
السماوات السبع و هو الإنسان المركب من المادة الأرضية و الروح السماوية التي
فيها نماذج سماوية ملكوتية.
و قوله: "يتنزل الأمر بينهن" الظاهر أن الضمير للسماوات و الأرض جميعا و الأمر
هو الأمر الإلهي الذي فسره بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن":
يس: 83، و هو كلمة الإيجاد، و تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر إلى سماء
بعد سماء حتى ينتهي إلى العالم الأرضي فيتكون ما قصد بالأمر من عين أو أثر أو
رزق أو موت أو حياة أو عزة أو ذلة أو غير ذلك قال تعالى: "و أوحى في كل سماء
أمرها": حم السجدة: 12، و قال: "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه
في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون": الم السجدة: 5.
و قيل: المراد بالأمر الأمر التشريعي يتنزل ملائكة الوحي به من السماء إلى
النبي و هو بالأرض.
و هو تخصيص من غير مخصص و ذيل الآية "لتعلموا أن الله" إلخ، لا يلائمه.
و قوله: "إن الله على كل شيء قدير و أن الله قد أحاط بكل شيء علما" من الغايات
المترتبة على خلقة السماوات السبع و من الأرض مثلهن و تنزيله الأمر بينهن، و في
ذلك انتساب الخلق و الأمر إليه و اختصاصهما به فإن المتفكر في ذلك لا يرتاب في
قدرته على كل شيء و علمه بكل شيء فليتق مخالفة أمره أولوا الألباب من المؤمنين
فإن سنة هذا القدير العليم تجري على إثابة المطيعين لأوامره، و مجازاة العاتين
المستكبرين و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و كأين من قرية" قال: أهل القرية.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن الريان بن الصلت عن الرضا (عليه
السلام) في حديث المأمون قال: الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و نحن
أهله و ذلك بين في كتاب الله حيث يقول في سورة الطلاق: "فاتقوا الله يا أولي
الألباب الذين آمنوا - قد أنزل الله إليكم ذكرا - رسولا يتلوا عليكم آيات الله
مبينات" قال: فالذكر رسول الله و نحن أهله.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه
السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول الله عز و جل: "و السماء ذات الحبك" فقال:
هي محبوكة إلى الأرض و شبك بين أصابعه فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و الله
يقول: رفع السماوات بغير عمد ترونها؟ فقال: سبحان الله أ ليس الله يقول: بغير
عمد ترونها؟ قلت: بلى. قال: فثم عمد و لكن لا ترونها. قلت: فكيف ذلك جعلني الله
فداك؟ قال: فبسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: هذه أرض الدنيا و السماء
الدنيا فوقها قبة، و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا و السماء الثانية فوقها
قبة، و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية و السماء الثالثة فوقها قبة، و الأرض
الرابعة فوق السماء الثالثة و السماء الرابعة فوقها قبة، و الأرض الخامسة فوق
السماء الرابعة و السماء الخامسة فوقها قبة، و الأرض السادسة فوق السماء
الخامسة و السماء السادسة فوقها قبة، و الأرض السابعة فوق السماء السادسة و
السماء السابعة فوقها قبة و عرش الرحمن تبارك و تعالى فوق السماء السابعة و هو
قول الله عز و جل: الذي خلق سبع سماوات - و من الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن.
فأما صاحب الأمر فهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوصي بعد رسول
الله قائم على وجه الأرض فإنما يتنزل الأمر إليه من فوق السماء من بين السماوات
و الأرضين. قلت: فما تحتنا إلا أرض واحدة؟ فقال: ما تحتنا إلا أرض واحدة و إن
الست لهن فوقنا:. أقول: و عن الطبرسي عن العياشي عن الحسين بن خالد عن الرضا
(عليه السلام): مثله.
و الحديث نادر في بابه، و هو و خاصة ما في ذيله من تنزل الأمر أقرب إلى الحمل
على المعنى منه إلى الحمل على الصورة و الله أعلم.
66 سورة التحريم - 1 - 9
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيهَا النّبىّ لِمَ تحَرِّمُ مَا أَحَلّ
اللّهُ لَك تَبْتَغِى مَرْضات أَزْوَجِك وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (1) قَدْ
فَرَض اللّهُ لَكمْ تحِلّةَ أَيْمَنِكُمْ وَ اللّهُ مَوْلَاشْ وَ هُوَ
الْعَلِيمُ الحَْكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسرّ النّبىّ إِلى بَعْضِ أَزْوَجِهِ
حَدِيثاً فَلَمّا نَبّأَت بِهِ وَ أَظهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّف بَعْضهُ وَ
أَعْرَض عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَت مَنْ أَنبَأَك هَذَا قَالَ
نَبّأَنىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلى اللّهِ فَقَدْ صغَت
قُلُوبُكُمَا وَ إِن تَظهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَ
جِبرِيلُ وَ صلِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلَئكةُ بَعْدَ ذَلِك ظهِيرٌ (4) عَسى
رَبّهُ إِن طلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَجاً خَيراً مِّنكُنّ مُسلِمَتٍ
مّؤْمِنَتٍ قَنِتَتٍ تَئبَتٍ عَبِدَتٍ سئحَتٍ ثَيِّبَتٍ وَ أَبْكاراً (5)
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسكمْ وَ أَهْلِيكمْ نَاراً وَقُودُهَا
النّاس وَ الحِْجَارَةُ عَلَيهَا مَلَئكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصونَ اللّهَ
مَا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَأَيهَا الّذِينَ كَفَرُوا
لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنّمَا تجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلى اللّهِ تَوْبَةً نّصوحاً عَسى
رَبّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سيِّئَاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكمْ جَنّتٍ تجْرِى
مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ يَوْمَ لا يخْزِى اللّهُ النّبىّ وَ الّذِينَ
ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمَنهِمْ
يَقُولُونَ رَبّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَ اغْفِرْ لَنَا إِنّك عَلى كلِّ
شىْءٍ قَدِيرٌ (8) يَأَيهَا النّبىّ جَهِدِ الْكفّارَ وَ الْمُنَفِقِينَ وَ
اغْلُظ عَلَيهِمْ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَ بِئْس الْمَصِيرُ (9)
بيان
تبدأ السورة بالإشارة إلى ما جرى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين
بعض أزواجه من قصة التحريم فيعاتب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتحريمه ما
أحل الله له ابتغاء لمرضاة بعض أزواجه و مرجعه إلى عتاب تلك البعض و الانتصار
له (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدل عليه سياق الآيات.
ثم تخاطب المؤمنين أن يقوا أنفسهم من عذاب الله النار التي وقودها الناس و
الحجارة و ليسوا يجزون إلا بأعمالهم و لا مخلص منها إلا للنبي و الذين آمنوا
معه ثم تخاطب النبي بجهاد الكفار و المنافقين.
و تختتم السورة بضربه تعالى مثلا من النساء للكفار و مثلا منهن للمؤمنين.
و ظهور السياق في كون السورة مدنية لا ريب فيه.
قوله تعالى: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك و الله
غفور رحيم" خطاب مشوب بعتاب لتحريمه (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه بعض ما
أحل الله له، و لم يصرح تعالى به و لم يبين أنه ما هو؟ و ما ذا كان؟ غير أن
قوله: "تبتغي مرضاة أزواجك" يومىء أنه كان عملا من الأعمال المحللة التي
يقترفها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ترتضيه أزواجه فضيقن عليه و آذينه
حتى أرضاهن بالحلف على أن يتركه و لا يأتي به بعد.
فقوله: "يا أيها النبي" علق الخطاب و النداء بوصف النبي دون الرسول لاختصاصه به
في نفسه دون غيره حتى يلائم وصف الرسالة.
و قوله: "لم تحرم ما أحل الله لك" المراد بالتحريم التسبب إلى الحرمة بالحلف
على ما تدل عليه الآية التالية فإن ظاهر قوله: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم"
إلخ، إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حلف على ذلك و من شأن اليمين أن يوجب عروض
الوجوب إن كان الحلف على الفعل و الحرمة إن كان الحلف على الترك، و إذ كان (صلى
الله عليه وآله وسلم) حلف على ترك ما أحل الله له فقد حرم ما أحل الله له
بالحلف.
و ليس المراد بالتحريم تشريعه (صلى الله عليه وآله وسلم) على نفسه الحرمة فيما
شرع الله له فيه الحلية فليس له ذلك.
و قوله: "تبتغي مرضاة أزواجك" أي تطلب بالتحريم رضاهن بدل من تحرم إلخ، أو حال
من فاعله، و الجملة قرينة على أن العتاب بالحقيقة متوجه إليهن، و يؤيده قوله
خطابا لهما: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" إلخ، مع قوله فيه: "و الله
غفور رحيم".
قوله تعالى: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم و هو العليم الحكيم"
قال الراغب: كل موضع ورد فرض الله عليه ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما
ورد من فرض الله له فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو "ما كان على النبي من حرج
فيما فرض الله له" و قوله: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم".
انتهي.
و التحلة أصلها تحللة على وزن تذكرة و تكرمة مصدر كالتحليل، قال الراغب: و قوله
عز و جل: "قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم" أي بين ما تحل به عقدة أيمانكم من
الكفارة.
فالمعنى: قد قدر الله لكم - كأنه قدره نصيبا لهم حيث لم يمنعهم عن حل عقدة
اليمين - تحليل أيمانكم بالكفارة و الله وليكم الذي يتولى تدبير أموركم
بالتشريع و الهداية و هو العليم الحكيم.
و في الآية دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد حلف على
الترك، و أمر له بتحلة يمينه.
قوله تعالى: "و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به و أظهره الله
عليه عرف بعضه و أعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم
الخبير" السر هو الحديث الذي تكتمه في نفسك و تخفيه، و الإسرار إفضاؤك الحديث
إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه، و ضمير "نبأت" لبعض أزواجه، و ضمير "به" للحديث
الذي أسره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليها، و ضمير "أظهره" للنبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، و ضمير "عليه" لإنبائها به غيرها و إفشائها السر، و ضمير
"عرف" و أعرض" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير "بعضه" للحديث، و
الإشارة بقوله: "هذا" لإنبائها غيره و إفشائها السر.
و محصل المعنى: و إذ أفضى النبي إلى بعض أزواجه - و هي حفصة بنت عمر بن الخطاب
- حديثا و أوصاها بكتمانه فلما أخبرت به غيرها و أفشت السر خلافا لما أوصاها
به، و أعلم الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها نبأت به غيرها و أفشت
السر عرف و أعلم بعضه و أعرض عن بعض آخر، فلما خبرها النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) بالحديث قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أنبأك و أخبرك أني
نبأت به غيري و أفشيت السر؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نبأني و
خبرني العليم الخبير و هو الله العليم بالسر و العلانية الخبير بالسرائر.
قوله تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه فإن الله هو
مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك ظهير" أي إن تتوبا إلى الله
فقد تحقق منكما ما يستوجب عليكما التوبة و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه،
إلخ.
و قد اتفق النقل على أنهما عائشة و حفصة زوجا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم).
و الصغو الميل و المراد به الميل إلى الباطل و الخروج عن الاستقامة و قد كان ما
كان منهما من إيذائه و التظاهر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكبائر و قد
قال تعالى: "إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد
لهم عذابا مهينا": الأحزاب: 57، و قال: "و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب
أليم": التوبة: 61.
و التعبير بقلوبكما و إرادة معنى التثنية من الجمع كثير النظير في الاستعمال.
و قوله: "و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه" إلخ، التظاهر التعاون، و أصل "و
إن تظاهرا" و إن تتظاهرا، و ضمير الفصل في قوله: "فإن الله هو مولاه" للدلالة
على أن لله سبحانه عناية خاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصره و يتولى أمره
من غير واسطة من خلقه، و المولى الولي الذي يتولى أمره و ينصره على من يريده
بسوء.
و "جبريل" عطف على لفظ الجلالة، و "صالح المؤمنين" عطف كجبريل، و المراد بصالح
المؤمنين على ما قيل الصلحاء من المؤمنين فصالح المؤمنين واحد أريد به الجمع
كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد به الجنس كقولك لا يفعله من صلح منه و
مثله قولك: كنت في السامر و الحاضر.
و فيه قياس المضاف إلى الجمع إلى مدخول اللام فظاهر صالح المؤمنين غير ظاهر
"الصالح من المؤمنين".
و وردت الرواية من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق
الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد بصالح المؤمنين علي عليه
أفضل السلام، و ستوافيك إن شاء الله.
و في المراد منه أقوال أخر أغمضنا عنها لعدم دليل عليها.
و قوله: "و الملائكة بعد ذلك ظهير" إفراد الخبر للدلالة على أنهم متفقون في
نصره متحدون صفا واحدا، و في جعلهم بعد ذلك أي بعد ولاية الله و جبريل و صالح
المؤمنين تعظيم و تفخيم.
و لحن الآيات في إظهار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من يؤذيه و يريده
بسوء و تشديد العتاب على من يتظاهر عليه عجيب، و قد خوطب فيها النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) أولا و عوتب على تحريمه ما أحل الله له و أشير عليه بتحلة
يمينه و هو إظهار و تأييد و انتصار له و إن كان في صورة العتاب.
ثم التفت من خطابه إلى خطاب المؤمنين في قوله: "و إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه"
يشير إلى القصة و قد أبهمها إبهاما و قد كان أيد النبي و أظهره قبل الإشارة إلى
القصة و إفشائها مختوما عليها، و فيه مزيد إظهاره.
ثم التفت من خطاب المؤمنين إلى خطابهما و قرر أن قلوبهما قد صغت بما فعلتا و لم
يأمرهما أن تتوبا من ذنبهما بل بين لهما أنهما واقعتان بين أمرين إما أن تتوبا
و إما أن تظاهرا على من الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد
ذلك أجمع ثم أظهر الرجاء إن طلقهن أن يرزقه الله نساء خيرا منهن.
ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ
عليهم.
و انتهى الكلام إلى ضربه تعالى مثلين مثلا للذين كفروا و مثلا للذين آمنوا.
و قد أدار تعالى الكلام في السورة بعد التعرض لحالهما بقوله: إن تتوبا إلى الله
فقد صغت قلوبكما و إن تظاهرا عليه" إلخ، بين التعرض لحال المؤمنين و التعرض
لحال الكفار فقال: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم" إلخ، و "يا أيها
الذين كفروا لا تعتذروا" إلخ، و قال: "يا أيها الذين آمنوا توبوا" إلخ، و "يا
أيها النبي جاهد" إلخ، و قال: "ضرب الله مثلا للذين كفروا"، "و ضرب الله مثلا
للذين آمنوا".
قوله تعالى: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" إلى آخر الآية
استغناء إلهي فإنهن و إن كن مشرفات بشرف زوجية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
لكن الكرامة عند الله بالتقوى كما قال تعالى: "فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا
عظيما": الأحزاب: 29، انظر إلى مكان "منكن" و قال: "يا نساء النبي من يأت منكن
بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على الله يسيرا و من يقنت منكن
لله و رسوله و تعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين و أعتدنا لها رزقا كريما: الأحزاب:
31.
و لذا ساق الاستغناء بترجي إبداله إن طلقهن أزواجا خيرا منهن، و علق الخبر بما
ذكر لأزواجه الجديدة من صفات الكرامة و هي أن يكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات
عابدات سائحات - أي صائمات - ثيبات و أبكارا.
فمن تزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كانت متصفة بمجموع هذه الصفات
كانت خيرا منهن و ليس إلا لأجل اختصاص منها بالقنوت و التوبة أو القنوت فقط مع
مشاركتها لهن في باقي الصفات، و القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع.
و يتأيد هذا المعنى بما في مثل مريم الآتي في آخر السورة من ذكر القنوت "و كانت
من القانتين" فالقنوت هو الذي يفقدنه و هو لزومهن طاعة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) التي فيها طاعة الله و اتقاؤهن أن يعصين النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و يؤذينه.
و بما مر يظهر فساد قول من قال إن وجه خيرية أزواجه اللاحقة من أزواجه السابقة
إن طلقهن، هو تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن و انفصال الأزواج
السابقة و زوجيته (صلى الله عليه وآله وسلم) شرف لا يقدر قدره.
و ذلك أنه لو كان ملاك ما ذكر في الآية من الخير هو الزوجية كان كل من تزوج
(صلى الله عليه وآله وسلم) من النساء أفضل و أشرف منهن إن طلقهن و إن لم تتلبس
بشيء مما ذكر من صفات الكرامة فلم يكن مورد لعد ما عد من الصفات.
قال في الكشاف،: فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف و وسط بين الثيبات و
الأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر
الصفات.
انتهي.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و
الحجارة" إلخ، "قوا" أمر من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره، و
الوقود بفتح الواو اسم لما توقد به النار من حطب و نحوه.
و المراد بالنار نار جهنم و كون الناس المعذبين فيها وقودا لها معناه اشتعال
الناس فيها بأنفسهم كما في قوله تعالى: "ثم في النار يسجرون": المؤمن: 72.
فيناسب تجسم الأعمال كما هو ظاهر الآية التالية "يا أيها الذين كفروا" إلخ، و
فسرت الحجارة بالأصنام.
و قوله: "عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون"
أي وكل عليها لإجراء أنواع العذاب على أهلها ملائكة غلاظ شداد.
و الغلاظ جمع غليظ ضد الرقيق و الأنسب للمقام كون المراد بالغلظة خشونة العمل
كما في قوله الآتي: "جاهد الكفار و المنافقين و أغلظ عليهم" الآية 9 من السورة،
و الشداد جمع شديد بمعنى القوي في عزمه و فعله.
و قوله: "لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون" كالمفسر لقوله: "غلاظ
شداد أي هم ملتزمون بما أمرهم الله من أنواع العذاب لا يعصونه بالمخالفة و الرد
و يفعلون ما يؤمرون به على ما أمروا به من غير أن يفوت منهم فائت أو ينقص منه
شيء لضعف فيهم أو فتور فهم غلاظ شداد.
و بهذا يظهر أن قوله: "لا يعصون الله ما أمرهم" ناظر إلى التزامهم بالتكليف، و
قوله: "و يفعلون" إلخ، ناظر إلى العمل على طبقه فلا تكرار كما قيل.
قال في التفسير الكبير، في ذيل الآية: و فيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في
الآخرة بما أمرهم الله تعالى به و بما ينهاهم عنه، و العصيان منهم مخالفة للأمر
و النهي.
و فيه أن الآية و غيرها مما تصف الملائكة بمحض الطاعة من غير معصية مطلقة تشمل
الدنيا و الآخرة فلا وجه لتخصيص تكليفهم بالآخرة.
ثم إن تكليفهم غير سنخ التكليف المعهود في المجتمع الإنساني بمعنى تعليق المكلف
- بالكسر - إرادته بفعل المكلف - بالفتح - تعليقا اعتباريا يستتبع الثواب و
العقاب في ظرف الاختيار و إمكان الطاعة و المعصية بل هم خلق من خلق الله لهم
ذوات طاهرة نورية لا يريدون إلا ما أراد الله و لا يفعلون إلا ما يؤمرون، قال
تعالى: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون": الأنبياء، 27 و
لذلك لا جزاء لهم على أعمالهم من ثواب أو عقاب فهم مكلفون بتكليف تكويني غير
تشريعي مختلف باختلاف درجاتهم، قال تعالى: "و ما منا إلا له مقام معلوم":
الصافات: 164، و قال عنهم: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا و ما
خلفنا": مريم: 64.
و الآية الكريمة بعد الآيات السابقة كالتعميم بعد التخصيص فإنه تعالى لما أدب
نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان ما لإيذائهم النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) من الأثر السيىء عمم الخطاب فخاطب المؤمنين عامة أن يؤدبوا أنفسهم و
أهليهم و يقوهم من النار التي وقودها نفس الداخلين فيها أي إن أعمالهم السيئة
تلزمهم و تعود نارا تعذبهم و لا مخلص لهم منها و لا مناص عنها.
قوله تعالى: "يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون"
خطاب عام للكفار بعد ما جوزوا بالنار فإنهم يعتذرون عن كفرهم و معاصيهم
فيخاطبون أن لا تعتذروا اليوم - و هو يوم الجزاء إنما تجزون نفس ما كنتم تعملون
أي إن العذاب الذي تعذبون بها هو عملكم السيىء الذي عملتموه و قد برز لكم اليوم
حقيقته و إذ عملتموه فقد لزمكم أنكم عملتموه و الواقع لا يتغير و ما حق عليكم
من كلمة العذاب لا يعود باطلا فهذا ظاهر الخطاب.
و قيل: المعنى: لا تعتذروا - اليوم - بعد دخول النار فإن الاعتذار توبة و
التوبة غير مقبولة بعد دخول النار إنما تجزون ما لزم في مقابل عملكم من الجزاء
في الحكمة.
و في اتباع الآيات السابقة بما في هذه الآية من خطاب القهر تهديد ضمني و إشعار
بأن معصية الله و رسوله ربما أدى إلى الكفر.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر
عنكم سيئاتكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار" إلخ، النصح تحري فعل أو قول
فيه صلاح صاحبه، و يأتي بمعنى الإخلاص نحو نصحت له الود أي أخلصته - على ما
ذكره الراغب - فالتوبة النصوح ما يصرف صاحبه عن العود إلى المعصية أو ما يخلص
العبد للرجوع عن الذنب فلا يرجع إلى ما تاب منه.
لما أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم و أهليهم من النار أمرهم جميعا ثانيا بالتوبة و
فرع عليه رجاء أن يستر الله سيئاتهم و يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار.
و قوله: "يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه" قال الراغب: يقال: خزي
الرجل يخزى من باب علم يعلم إذا لحقه انكسار إما من نفسه و إما من غيره فالذي
يلحقه من نفسه و هو الحياء المفرط مصدره الخزاية، و الذي يلحقه من غيره و يعد
ضربا من الاستخفاف مصدره الخزي و الإخزاء من الخزاية و الخزي جميعا قال: و على
نحو ما قلنا في خزي ذل و هان فإن ذلك متى كان من الإنسان نفسه يقال له الهون -
بفتح الهاء - و الذل و يكون محمودا، و متى كان من غيره يقال له: الهون - بضم
الهاء - و الهوان و الذل و يكون مذموما.
انتهى ملخصا.
"فقوله: "يوم" ظرف لما تقدمه، و المعنى: توبوا إلى الله عسى أن يكفر عنكم
سيئاتكم و يدخلكم الجنة في يوم لا يخزي و لا يكسر الله النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) بجعلهم محرومين من الكرامة و خلفه ما وعدهم من الوعد الجميل.
و في قوله: "النبي و الذين آمنوا معه" اعتبار المعية في الإيمان في الدنيا و
لازمه ملازمتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و طاعتهم له من غير مخالفة و
مشاقة.
و من المحتمل أن يكون قوله: "الذين آمنوا" مبتدأ خبره "معه" و قوله: "نورهم
يسعى" إلخ، خبرا ثانيا، و قوله: "يقولون" إلخ، خبرا ثالثا فيفيد أنهم لا
يفارقون النبي و لا يفارقهم يوم القيامة، و هذا وجه جيد لازمه كون عدم الخزي
خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سعي النور و سؤال إتمامه خاصا بالذين
معه من المؤمنين و تؤيده آية الحديد الآتية.
و من الممكن أن يكون "معه" متعلقا بقوله: "آمنوا" و قوله: "نورهم يسعى" إلخ،
خبرا أولا و ثانيا للموصول.
و قوله: "يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم" تقدم بعض الكلام في معناه في قوله
تعالى: "يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم":
الحديد: 12، و لا يبعد أن يكون ما بين أيديهم من النور نور الإيمان و ما
بأيمانهم نور العمل.
و قوله: "يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا إنك على كل شيء قدير" يفيد
السياق أن المغفرة المسئولة سبب لتمام النور أو هو ملازم لتمام النور فيفيد أن
في نورهم نقصا و النور نور الإيمان و العمل فلهم نقائص بحسب درجات الإيمان أو
آثار السيئات التي خلت محالها في صحائفهم من العبودية في العمل فيسألون ربهم أن
يتم لهم نورهم و يغفر لهم، و إليه الإشارة بقوله تعالى: "و الذين آمنوا بالله و
رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم لهم أجرهم و نورهم:" الحديد: 19.
قوله تعالى: "يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم و مأواهم
جهنم و بئس المصير" المراد بالجهاد بذل الجهد في إصلاح الأمر من جهتهم و دفع
شرهم ففي الكفار ببيان الحق و تبليغه فإن آمنوا و إلا فالحرب و في المنافقين
باستمالتهم و تأليف قلوبهم حتى تطمئن قلوبهم إلى الإيمان و إلا فلم يقاتل النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) منافقا قط.
و قيل: المراد اشدد عليهم في إقامة الحدود لأن أكثر من يصيب الحد في ذلك الزمان
المنافقون.
و هما كما ترى.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن ابن سيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله:
"يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك - تبتغي مرضات أزواجك" قال: اطلعت عائشة
و حفصة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو مع مارية فقال النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): و الله لا أقربها فأمر الله أن يكفر بها عن يمينه.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل
قال لامرأته: أنت علي حرام فقال: لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه و قلت: الله
أحلها لك فما حرمها عليك؟ أنه لم يزد على أن كذب فزعم أن ما أحل الله له حرام و
لا يدخل عليه طلاق و لا كفارة. فقلت: قول الله عز و جل: "يا أيها النبي لم تحرم
ما أحل الله لك" فجعل فيه كفارة؟ فقال: إنما حرم عليه جاريته مارية القبطية و
حلف أن لا يقربها، و إنما جعل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكفارة في
الحلف و لم يجعل عليه في التحريم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه
بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشرب من
شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحا، فدخل على حفصة
فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة و الله لا أشربه،
فأنزل الله: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك" الآية.
أقول: و الحديث مروي بطرق متشتتة و ألفاظ مختلفة، و في انطباقها على الآيات - و
هي ذات سياق واحد - خفاء.
و فيه، أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كانت عائشة و حفصة متحابتين
فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدث عنده فأرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
جاريته فظلت معه في بيت حفصة و كان اليوم الذي يأتي فيه عائشة فوجدتهما في
بيتها فجعلت تنتظر خروجها و غارت غيرة شديدة فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) جاريته و دخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك و الله لقد سوأتني، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله لأرضينك و إني مسر إليك سرا فاحفظيه،
قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضا لك. فانطلقت حفصة إلى
عائشة فأسرت إليها أن أبشري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حرم عليه
فتاته فلما أخبرت بسر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر الله النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) عليه فأنزل الله: "يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
لك".
أقول: انطباق ما في الحديث على الآيات و خاصة قوله: "عرف بعضه و أعرض عن بعض"
فيه خفاء.
و فيه، أخرج الطبراني و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "و إذ أسر النبي إلى
بعض أزواجه حديثا" قال: دخلت حفصة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
بيتها و هو يطأ مارية، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تخبري
عائشة حتى أبشرك بشارة فإن أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا مت. فذهبت حفصة
فأخبرت عائشة فقالت عائشة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أنبأك هذا؟ قال:
نبأني العليم الخبير، فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها فأنزل
الله "يا أيها النبي لم تحرم".
أقول: و الآثار في هذا الباب كثيرة على اختلاف فيها، و في أكثرها أنه (صلى الله
عليه وآله وسلم) حرم مارية على نفسه لقول حفصة لا لقول عائشة، و أن التي قالت
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أنبأك هذا" هي حفصة تريد من أخبرك أني
أفشيت السر دون عائشة.
و هي مع ذلك لا تزيل إبهام قوله تعالى: "عرف بعضه و أعرض عن بعض".
نعم فيما رواه ابن مردويه عن علي قال: ما استقصى كريم قط لأن الله يقول: "عرف
بعضه و أعرض عن بعض"، و روي عن أبي حاتم عن مجاهد، و ابن مردويه عن ابن عباس:
أن الذي عرف أمر مارية و الذي أعرض عنه قوله: إن أباك و أباها يليان الناس بعدي
مخافة أن يفشو.
و يتوجه عليه أنه ما وجه الكرم في أن يعرف (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله
من تحريم مارية و يعرض عما أخبرها من ولايتهما مع أن العكس أولى و أقرب.
و قد روي بعده طرق عن عمر بن الخطاب سبب نزول الآيات و لم يذكر ذلك ففي عدة من
جوامع الحديث منها البخاري و مسلم و الترمذي عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن
أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي اللتين قال الله: "أن تتوبا إلى الله فقد
صغت قلوبكما" حتى حج عمر و حججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر و عدلت معه
بالإداوة فتبرز ثم أتى فصببت على يديه فتوضأ. فقلت: يا أمير المؤمنين من
المرأتان من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اللتان قال الله: "أن تتوبا
إلى الله فقد صغت قلوبكما" فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة و حفصة ثم
أنشأ يحدثني. فقال: كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما
تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي
تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر من ذلك؟ فو الله إن أزواج النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قلت: قد خابت
من فعلت ذلك منهن و خسرت. قال: و كان منزلي بالعوالي و كان لي جار من الأنصار
كنا نتناوب النزول إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فينزل يوما فيأتيني
بخبر الوحي و غيره و أنزل يوما فآتيه بمثل ذلك. قال: و كنا نحدث أن غسان تنعل
الخيل لتغزونا فجاء يوما فضرب على الباب فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت:
أ جاءت غسان؟ قال: أعظم من ذلك طلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه.
قلت في نفسي: قد خابت حفصة و خسرت قد كنت أرى ذلك كائنا فلما صلينا الصبح شددت
علي ثيابي ثم انطلقت حتى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: أ طلقكن رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت: لا أدري هو ذا معتزل في المشربة فانطلقت
فأتيت غلاما أسود فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فلم يقل
شيئا فانطلقت إلى المسجد فإذا حول المسجد نفر يبكون فجلست إليهم. ثم غلبني ما
أجد فانطلقت فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فلم
يقل شيئا فوليت منطلقا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فإذا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متكىء على حصير قد رأيت أثره في جنبه فقلت: يا
رسول الله أ طلقت نساءك؟ قال: لا. قلت: الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله و كنا
معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق
نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك
فقالت: ما تنكر؟ فو الله إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليراجعنه و
تهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن، فدخلت على حفصة
فقلت: أ تراجع إحداكن رسول الله و تهجره اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. فقلت: قد
خابت من فعلت ذلك منكن و خسرت أ تأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم). فقلت لحفصة: لا تراجعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا
تسأليه شيئا و سليني ما بدا لك و لا يغرنك إن كانت جارتك أوسم منك و أحب إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتبسم أخرى. فقلت: يا رسول الله أستأنس
قال: نعم. فرفعت رأسي فما رأيت في البيت إلا أهبة ثلاثة فقلت: يا رسول الله ادع
الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس و الروم و هم لا يعبدون الله فاستوى
جالسا و قال: أ و في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في
الحياة الدنيا، و كان قد أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا فعاتبه الله في ذلك و
جعل له كفارة اليمين.
أقول: و هذا المعنى مروي عنه مفصلا و مختصرا بطرق مختلفة، و الرواية - كما ترى
- لا تذكر ما أسره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بعض أزواجه؟ و ما هو
بعض النبإ الذي عرفه و ما هو الذي أعرض عنه و له شأن من الشأن.
و هي مع ذلك ظاهرة في أن المراد بالتحريم في الآية تحريم عامة أزواجه و ذلك لا
ينطبق عليها و فيها قوله تعالى: "لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك"
مضافا إلى أنه لا تبين به وجه التخصيص في قوله: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما و إن تظاهرا عليه" إلخ.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:
"إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما - و إن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه - و
جبريل و صالح المؤمنين" قال: صالح المؤمنين علي (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يقول: "و صالح المؤمنين" قال: علي بن أبي طالب.
أقول: ذكر صاحب البرهان بعد إيراد رواية أبي بصير السابقة أن محمد بن العباس
أورد في هذا المعنى اثنين و خمسين حديثا من طرق الخاصة و العامة ثم أورد نبذة
منها.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: لما نزلت هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا" جلس
رجل من المؤمنين يبكي و قال: أنا عجزت عن نفسي و كلفت أهلي. فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، و تنهاهم عما
تنهى عنه نفسك.
و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي بصير في قوله: "قوا أنفسكم و أهليكم نارا" قلت:
كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله و تنهاهم عما نهى الله فإن أطاعوك كنت قد
وقيتهم و إن عصوك كنت قد قضيت ما عليك:. أقول: و رواه بطريق آخر عن ذرعة عن أبي
بصير عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و سعيد بن منصور و عبد بن حميد
و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و البيهقي في المدخل عن علي بن أبي
طالب: في قوله: "قوا أنفسكم و أهليكم نارا" قال: علموا أنفسكم و أهليكم الخير و
أدبوهم.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) هذه الآية "قوا أنفسكم و أهليكم نارا" فقالوا: يا رسول الله كيف نقي
أهلنا نارا؟ قال: تأمرونهم بما يحبه الله و تنهونهم عما يكره الله.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه
السلام) عن قول الله عز و جل: "يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا"
قال: يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه. قال محمد بن الفضيل: سألت عنها أبا
الحسن (عليه السلام) فقال: يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه، الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول
الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى
الله ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة من الفريقين.
و في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني قال: قال أبو عبد الله (عليه
السلام): في قوله: "يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم" أئمة المؤمنين يوم
القيامة يسعى بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية:
من كان له نور يومئذ نجا، و كل مؤمن له نور.
66 سورة التحريم - 10 - 12
ضرَب اللّهُ مَثَلاً لِّلّذِينَ كَفَرُوا امْرَاَت نُوحٍ وَ امْرَأَت لُوطٍ
كانَتَا تحْت عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صلِحَينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ
يُغْنِيَا عَنهُمَا مِنَ اللّهِ شيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ
الدّخِلِينَ (10) وَ ضرَب اللّهُ مَثَلاً لِّلّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَت
فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَت رَب ابْنِ لى عِندَك بَيْتاً فى الْجَنّةِ وَ نجِّنى
مِن فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نجِّنى مِنَ الْقَوْمِ الظلِمِينَ (11) وَ
مَرْيمَ ابْنَت عِمْرَنَ الّتى أَحْصنَت فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن
رّوحِنَا وَ صدّقَت بِكلِمَتِ رَبهَا وَ كُتُبِهِ وَ كانَت مِنَ الْقَنِتِينَ
(12)
بيان
تتضمن الآيات الكريمة مثلين يمثل بهما الله سبحانه حال الكفار و المؤمنين في أن
شقاء الكفار و هلاكهم إنما كان بخيانتهم لله و رسوله و كفرهم و لم ينفعهم اتصال
بسبب إلى الأنبياء المكرمين، و أن سعادة المؤمنين و فلاحهم إنما كان بإخلاصهم
الإيمان بالله و رسوله و القنوت و حسن الطاعة و لم يضرهم اتصال بأعداء الله
بسبب فإنما ملاك الكرامة عند الله التقوى.
يمثل الحال أولا: بحال امرأتين كانتا زوجين لنبيين كريمين عدهما الله سبحانه
عبدين صالحين - و يا له من كرامة - فخانتاهما فأمرتا بدخول النار مع الداخلين
فلم ينفعهما زوجيتهما للنبيين الكريمين شيئا فهلكتا في ضمن الهالكين من غير
أدنى تميز و كرامة.
و ثانيا: بحال امرأتين إحداهما امرأة فرعون الذي كانت منزلته في الكفر بالله أن
نادى في الناس فقال: أنا ربكم الأعلى، فآمنت بالله و أخلصت الإيمان فأنجاها
الله و أدخلها الجنة و لم يضرها زوجية مثل فرعون شيئا، و ثانيتهما مريم ابنة
عمران الصديقة القانتة أكرمها الله بكرامته و نفخ فيها من روحه.
و في التمثيل تعريض ظاهر شديد لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث
خانتاه في إفشاء سره و تظاهرتا عليه و آذتاه بذلك، و خاصة من حيث التعبير بلفظ
الكفر و الخيانة و ذكر الأمر بدخول النار.
قوله تعالى: "ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين
من عبادنا صالحين فخانتاهما" إلخ، قال الراغب: الخيانة و النفاق واحد إلا أن
الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم
يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر و نقيض الخيانة الأمانة،
يقال: خنت فلانا و خنت أمانة فلان.
انتهي.
و قوله: "للذين كفروا" إن كان متعلقا بالمثل كان المعنى: ضرب الله مثلا يمثل به
حال الذين كفروا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالعباد الصالحين، و إن كان متعلقا
بضرب كان المعنى: ضرب الله الامرأتين و ما انتهت إليه حالهما مثلا للذين كفروا
ليعتبروا به و يعلموا أنهم لا ينفعهم الاتصال بالصالحين من عباده و أنهم
بخيانتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل النار لا محالة.
و قوله: "امرأة نوح و امرأة لوط" مفعول "ضرب" و المراد بكونهما تحتهما زوجيتهما
لهما.
و قوله: "فلم يغنيا عنهما من الله شيئا" ضمير التثنية الأولى للعبدين، و
الثانية للامرأتين، و المراد أنه لم ينفع المرأتين زوجيتهما للعبدين الصالحين.
و قوله: "و قيل ادخلا النار مع الداخلين" أي مع الداخلين فيها من قوميهما كما
يلوح من قوله في امرأة نوح: "حتى إذا جاء أمرنا و فار التنور قلنا احمل فيها من
كل زوجين اثنين و أهلك إلا من سبق عليه القول": هود: 40، و قوله في امرأة لوط:
"فأسر بأهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما
أصابهم": هود: 81، أو المعنى مع الداخلين فيها من الكفار.
و في التعبير بقيل بالبناء للمفعول، و إطلاق الداخلين إشارة إلى هوان أمرهما و
عدم كرامة لهما أصلا فلم يبال بهما أين هلكتا.
قوله تعالى: "و ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك
بيتا في الجنة" إلخ، الكلام في قوله: "للذين آمنوا" كالكلام في قوله: "للذين
كفروا".
و قوله: "إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة" لخص سبحانه جميع ما كانت
تبتغيه في حياتها و ترومه في مسير عبوديتها في مسألة سألت ربها و ذلك أن
الإيمان إذا كمل تواطأ الظاهر و الباطن و توافق القلب و اللسان فلا يقول
الإنسان إلا ما يفعل و لا يفعل إلا ما يقول فيكون ما يرجوه أو يتمناه أو يسأله
بلسانه هو الذي يريده كذلك بعمله.
و إذ حكى الله فيما يمثل به حالها و يشير إلى منزلتها الخاصة في العبودية دعاء
دعت به دل ذلك على أنه عنوان جامع لعبوديتها و على ذلك كانت تسير مدى حياتها، و
الذي تتضمنه مسألتها أن يبني الله لها عنده بيتا في الجنة و ينجيها من فرعون و
عمله و ينجيها من القوم الظالمين فقد اختارت جوار ربه و القرب منه على أن تكون
أنيسة فرعون و عشيقته و هي ملكة مصر و آثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون
الذي فيه مما تشتهيه الأنفس و تتمناه القلوب ما تقف دونه الآمال فقد كانت عزفت
نفسها ما هي فيه من زينة الحياة الدنيا و هي لها خاضعة و تعلقت بما عند ربه من
الكرامة و الزلفى فآمنت بالغيب و استقامت على إيمانها حتى قضت.
و هذه القدم هي التي قدمتها إلى أن جعلها الله مثلا للذين آمنوا و لخص حالها و
ما كانت تبتغيه و تعمل له مدى حياتها في مسير العبودية في مسألة حكى عنها و ما
معناها إلا أنها انتزعت من كل ما يلهوها عن ربها و لاذت بربها تريد القرب منه
تعالى و الإقامة في دار كرامته.
فقوله: "امرأة فرعون" اسمها على ما في الرواية آسية، و قوله: "إذ قالت رب ابن
لي عندك بيتا في الجنة" الجمع بين كون البيت المبني لها عند الله و في الجنة
لكون الجنة دار القرب من الله و جوار رب العالمين كما قال تعالى: "بل أحياء عند
ربهم يرزقون": آل عمران: 169.
على أن الحضور عنده تعالى و القرب منه كرامة معنوية و الاستقرار في الجنة كرامة
صورية، و سؤال الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين.
و قوله: "و نجني من فرعون و عمله" تبر منها و سؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون
و من عمله الذي تدعو ضرورة المصاحبة و المعاشرة إلى الشركة فيه و التلبس به، و
قيل: المراد بالعمل الجماع.
و قوله: "و نجني من القوم الظالمين" و هم قوم فرعون و هو تبر آخر و سؤال أن
ينجيها الله من المجتمع العام كما أن الجملة السابقة كانت سؤال أن ينجيها من
المجتمع الخاص.
قوله تعالى: "و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" إلخ،
عطف على امرأة فرعون و التقدير و ضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم إلخ.
ضربها الله مثلا باسمها و أثنى عليها و لم يذكر في كلامه تعالى امرأة باسمها
غيرها ذكر اسمها في القرآن في بضع و ثلاثين موضعا في نيف و عشرين سورة.
و قوله: "التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" ثناء عليها على عفتها، و قد
تكرر في القرآن ذكر ذلك و لعل ذلك بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها كما
قال تعالى: "و قولهم على مريم بهتانا عظيما": النساء: 156، و في سورة الأنبياء
في مثل القصة: "و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها": الأنبياء: 91.
و قوله: "و صدقت بكلمات ربها" أي بما تكلم به الله سبحانه من الوحي إلى أنبيائه
كما قيل، و قيل: المراد بها وعده تعالى و وعيده و أمره و نهيه، و فيه أنه
يستلزم كون ذكر الكتب مستدركا.
و قوله: "و كتبه" و هي المشتملة على شرائع الله المنزلة من السماء كالتوراة و
الإنجيل كما هو مصطلح القرآن و لعل المراد من تصديقها كلمات ربها و كتبه كونها
صديقة كما في قوله تعالى: "ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل و
أمه صديقة": المائدة: 75.
و قوله: "و كانت من القانتين" أي من القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين
عليه غلب فيه المذكر على المؤنث.
و يؤيد هذا المعنى كون القنوت بهذا المعنى واقعا فيما حكى الله من نداء
الملائكة لها "يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين": آل عمران: 43،
و قيل: يجوز أن يراد بالقانتين رهطها و عشيرتها الذين كانت مريم منهم و كانوا
أهل بيت صلاح و طاعة، و هو بعيد لما تقدم.
على أن المناسب لكون المثل تعريضا لزوجي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يراد بالقانتين مطلق أهل الطاعة و الخضوع لله تعالى.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه
قال قوله تعالى: "ضرب الله مثلا للذين كفروا - امرأة نوح و امرأة لوط" الآية
مثل ضربه الله لعائشة و حفصة أن تظاهرتا على رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) و أفشتا سره.
و في المجمع،: عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كمل من
الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم
بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال
رسول الله: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم) و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله
علينا من خبرهما في القرآن "قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة".
و فيه، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران و امرأة فرعون و أخت موسى.
أقول: و امرأة فرعون على ما وردت به الروايات مقتولة قتلها زوجها فرعون لما
اطلع أنها آمنت بالله وحده، و قد اختلفت الروايات في كيفية قتلها.
ففي بعضها أنه لما اطلع على إيمانها كلفها الرجوع إلى الكفر فأبت إلا الإيمان
فأمر بها أن ترمى عليها بصخرة عظيمة حتى ترضح تحتها ففعل بها ذلك.
و في بعضها لما أحضرت للعذاب دعت بما حكى الله عنها في كلامه من قولها: "رب ابن
لي عندك بيتا في الجنة" إلخ، فاستجاب الله لها و رأت بيتها في الجنة و انتزعت
منها الروح و ألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح.
و في بعضها أن فرعون وتد لها أربعة أوتاد و أضجعها على صدرها و جعل على صدرها
رحى و استقبل بها عين الشمس.
و الله أعلم.
67 سورة الملك - 1 - 14
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ تَبَرَك الّذِى بِيَدِهِ الْمُلْك وَ هُوَ
عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (1) الّذِى خَلَقَ الْمَوْت وَ الحَْيَوةَ
لِيَبْلُوَكُمْ أَيّكمْ أَحْسنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
الّذِى خَلَقَ سبْعَ سمَوَتٍ طِبَاقاً مّا تَرَى فى خَلْقِ الرّحْمَنِ مِن
تَفَوُتٍ فَارْجِع الْبَصرَ هَلْ تَرَى مِن فُطورٍ (3) ثمّ ارْجِع الْبَصرَ
كَرّتَينِ يَنقَلِب إِلَيْك الْبَصرُ خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4) وَ لَقَدْ
زَيّنّا السمَاءَ الدّنْيَا بِمَصبِيحَ وَ جَعَلْنَهَا رُجُوماً لِّلشيَطِينِ
وَ أَعْتَدْنَا لهَُمْ عَذَاب السعِيرِ (5) وَ لِلّذِينَ كَفَرُوا بِرَبهِمْ
عَذَاب جَهَنّمَ وَ بِئْس الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سمِعُوا لهََا
شهِيقاً وَ هِىَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيزُ مِنَ الْغَيْظِ كلّمَا أُلْقِىَ
فِيهَا فَوْجٌ سأَلهَُمْ خَزَنَتهَا أَ لَمْ يَأْتِكمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا
بَلى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذّبْنَا وَ قُلْنَا مَا نَزّلَ اللّهُ مِن
شىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلا فى ضلَلٍ كَبِيرٍ (9) وَ قَالُوا لَوْ كُنّا نَسمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنّا فى أَصحَبِ السعِيرِ (10) فَاعْترَفُوا بِذَنبهِمْ
فَسحْقاً لأَصحَبِ السعِيرِ (11) إِنّ الّذِينَ يخْشوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ
لَهُم مّغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَ أَسِرّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ إِنّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَ هُوَ اللّطِيف الخَْبِيرُ (14)
بيان
غرض السورة بيان عموم ربوبيته تعالى للعالمين تجاه قول الوثنية إن لكل شطر من
العالم ربا من الملائكة و غيرهم و إنه تعالى رب الأرباب فقط.
و لذا يعد سبحانه كثيرا من نعمه في الخلق و التدبير - و هو في معنى الاحتجاج
على ربوبيته - و يفتتح الكلام بتباركه و هو كثرة صدور البركات عنه، و يكرر
توصيفه بالرحمن و هو مبالغة في الرحمة التي هي العطية قبال الاستدعاء فقرا و
فيها إنذار ينتهي إلى ذكر الحشر و البعث.
و تتلخص مضامين آياتها في الدعوة إلى توحيد الربوبية و القول بالمعاد.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: "تبارك الذي بيده الملك و هو على كل شيء قدير" تبارك الشيء كثرة
صدور الخيرات و البركات عنه.
و قوله: "الذي بيده الملك" يشمل بإطلاقه كل ملك، و جعل الملك في يده استعارة
بالكناية عن كمال تسلطه عليه و كونه متصرفا فيه كيف يشاء كما يتصرف ذو اليد
فيما بيده و يقلبه كيف يشاء فهو تعالى يملك بنفسه كل شيء من جميع جهاته، و يملك
ما يملكه كل شيء.
فتوصيفه تعالى بالذي بيده الملك أوسع من توصيفه بالمليك في قوله: "عند مليك
مقتدر": القمر: 55، و أصرح و آكد من توصيفه في قوله: "له الملك": التغابن: 1.
و قوله: "و هو على كل شيء قدير" إشارة إلى كون قدرته غير محدودة بحد و لا
منتهية إلى نهاية و هو لازم إطلاق الملك بحسب السياق، و إن كان إطلاق الملك و
هو من صفات الفعل من لوازم إطلاق القدرة و هي من صفات الذات.
و في الآية مع ذلك إيماء إلى الحجة على إمكان ما سيأتي من أمر المعاد.
قوله تعالى: "الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا و هو العزيز
الغفور" الحياة كون الشيء بحيث يشعر و يريد، و الموت عدم ذلك لكن الموت على ما
يظهر من تعليم القرآن انتقال من نشأة من نشآت الحياة إلى نشأة أخرى كما تقدم
استفادة ذلك من قوله تعالى: "نحن قدرنا بينكم الموت - إلى قوله - فيما لا
تعلمون": الواقعة: 61، فلا مانع من تعلق الخلق بالموت كالحياة.
على أنه لو أخذ عدميا كما عند العرف فهو عدم ملكة الحياة و له حظ من الوجود
يصحح تعلق الخلق به كالعمى من البصر و الظلمة من النور.
و قوله: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" غاية خلقه تعالى الموت و الحياة، و البلاء
الامتحان و المراد أن خلقكم هذا النوع من الخلق و هو أنكم تحيون ثم تموتون خلق
مقدمي امتحاني يمتاز به منكم من هو أحسن عملا من غيره و من المعلوم أن الامتحان
و التمييز لا يكون إلا لأمر ما يستقبلكم بعد ذلك و هو جزاء كل بحسب عمله.
و في الكلام مع ذلك إشارة إلى أن المقصود بالذات من الخلقة هو إيصال الخير من
الجزاء حيث ذكر حسن العمل و امتياز من جاء بأحسنه فالمحسنون عملا هم المقصودون
بالخلقة و غيرهم مقصودون لأجلهم.
و قد ذيل الكلام بقوله: "و هو العزيز الغفور" فهو العزيز لأن الملك و القدرة
المطلقين له وحده فلا يغلبه غالب و ما أقدر أحدا على مخالفته إلا بلاء و
امتحانا و سينتقم منهم و هو الغفور لأنه يعفو عن كثير من سيئاتهم في الدنيا و
سيغفر كثيرا منها في الآخرة كما وعد.
و في التذييل بالاسمين مع ذلك تخويف و تطميع على ما يدعو إلى ذلك سياق الدعوة.
و اعلم أن مضمون الآية ليس مجرد دعوى خالية عن الحجة يراد به التلقين كما ربما
يتوهم بل هي مقدمة قريبة من الضرورة - أو هي ضرورية - تستدعي الحكم بضرورة
البعث للجزاء فإن الإنسان المتلبس بهذه الحياة الدنيوية الملحوقة للموت لا يخلو
من أن يحصل له وصف حسن العمل أو خلافه و هو مجهز بحسب الفطرة بما لو لا عروض
عارض السوء لساقه إلى حسن العمل، و قلما يخلو إنسان من حصول أحد الوصفين
كالأطفال و من في حكمهم.
و الوصف الحاصل المترتب على وجود الشيء الساري في أغلب أفراده غاية في وجوده
مقصودة في إيجاده فكما أن الحياة النباتية لشجرة كذا إذ كانت تؤدي في الغالب
إلى أثمارها ثمرة كذا يعد ذلك غاية لوجودها مقصودة منها كذلك حسن العمل و
الصلاح غاية لخلق الإنسان، و من المعلوم أيضا أن الصلاح و حسن العمل لو كان
مطلوبا لكان مطلوبا لغيره لا لنفسه، و المطلوب بالذات الحياة الطيبة التي لا
يشوبها نقص و لا يعرضها لغو و لا تأثيم فالآية في معنى قوله: "كل نفس ذائقة
الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة": الأنبياء: 35.
قوله تعالى: "الذي خلق سبع سماوات طباقا" إلخ، أي مطابقة بعضها فوق بعض أو
بعضها يشبه البعض - على ما احتمل - و قد مر في تفسير حم السجدة بعض ما يمكننا
من القول فيها.
و قوله: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" قال الراغب: الفوت بعد الشيء عن
الإنسان بحيث يتعذر إدراكه، قال تعالى: "و إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى
الكفار".
قال: و التفاوت الاختلاف في الأوصاف كأنه يفوت وصف أحدهما الآخر أو وصف كل واحد
منهما الآخر، قال تعالى: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" أي ليس فيها ما يخرج
عن مقتضى الحكمة.
انتهي.
فالمراد بنفي التفاوت اتصال التدبير و ارتباط الأشياء بعضها ببعض من حيث
الغايات و المنافع المترتبة على تفاعل بعضها في بعض، فاصطكاك الأسباب المختلفة
في الخلقة و تنازعها كتشاجر كفتي الميزان و تصارعهما بالثقل و الخفة و الارتفاع
و الانخفاض فإنهما في عين أنهما تختلفان تنفقان في إعانة من بيده الميزان فيما
يريده من تشخيص وزن السلعة الموزونة.
فقد رتب الله أجزاء الخلقة بحيث تؤدي إلى مقاصدها من غير أن يفوت بعضها غرض بعض
أو يفوت من بعضها الوصف اللازم فيه لحصول الغاية المطلوبة.
و الخطاب في "ما ترى" خطاب عام لكل من يمكنه الرؤية و في إضافة الخلق إلى
الرحمن إشارة إلى أن الغاية منه هي الرحمة العامة، و تنكير "تفاوت" و هو في
سياق النفي و إدخال "من" عليه لإفادة العموم.
و قوله: "فارجع البصر هل ترى من فطور" الفطور الاختلال و الوهي، و المراد
بإرجاع البصر النظر ثانيا و هو كناية عن المداقة في النظر و الإمعان فيه.
قوله تعالى: "ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير" الخاسىء
من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، و قال أيضا: الخاسر المعيا
لانكشاف قواه، و يقال للمعيا: حاسر و محسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر
قوته، و أما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، و قوله عز و جل: "ينقلب إليك
البصر خاسئا و هو حسير" يصح أن يكون بمعنى حاسر و أن يكون بمعنى محسور.
انتهي.
و قوله: "كرتين" الكرة الرجعة و المراد بالتثنية التكثير و التكرير، و المعنى:
ثم ارجع البصر رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب إليك البصر منقبضة مهينة و
الحال أنه كليل معيا لم يجد فطورا.
فقد أشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الأجزاء
مرتبط الأبعاض.
قوله تعالى: "و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح" إلى آخر الآية، المصابيح جمع
مصباح و هو السراج سمي الكواكب مصابيح لإنارتها و إضاءتها و قد تقدم كلام في
ذلك في تفسير سورة حم السجدة.
و قوله: "و جعلناها رجوما للشياطين" أي و جعلنا الكواكب التي زينا بها السماء
رجوما يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى: "إلا من استرق السمع
فأتبعه شهاب مبين": الحجر: 18، و قال: "إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب":
الصافات: 10.
قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب
الأصلية و الشهب السماوية فإن الكواكب الأصلية لا تزول عن مستقرها و الكواكب و
النجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الأجرام الأصلية.
و قيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست
تزول إلا أن يريد الله إفناءها.
و هذا الوجه أوفق للأنظار العلمية الحاضرة، و قد تقدم بعض الكلام في معنى رمي
الشياطين بالشهب.
و قوله: "و أعتدنا لهم عذاب السعير" أي و هيأنا للشياطين و هم أشرار الجن عذاب
النار المسعرة المشتعلة.
قوله تعالى: "و للذين كفروا بربهم عذاب جهنم و بئس المصير" لما أورد بعض آيات
ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من
تداخل الحجج و الوعيد و الإنذار.
و المراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم
القائلين بأنه تعالى رب الأرباب فقط، و النافين لها مطلقا و المثبتين لربوبيته
مع التفريق بينه و بين رسله كاليهود و النصارى حيث آمنوا ببعض رسله و كفروا
ببعض.
و الآية مع ذلك متصلة بقوله: "الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا
و هو العزيز الغفور" لما فيها من الإشارة إلى البعث و الجزاء متصلة بما قبلها
كالتعميم بعد التخصيص.
قوله تعالى: "إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا و هي تفور تكاد تميز من الغيظ"
قال الراغب: الشهيق طول الزفير و هو رد النفس و الزفير مدة انتهي.
و الفوران
كما في المجمع، ارتفاع الغليان، و التميز: التقطع و التفرق، و الغيظ: شدة
الغضب، و المعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقا - أي تجذبهم إلى
داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر - و هي تغلي بهم فترفعهم و
تخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب.
قوله تعالى: "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أ لم يأتكم نذير" الفوج - كما
قاله الراغب - الجماعة المارة المسرعة، و في قوله: "كلما ألقي فيها فوج" إشارة
إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله: "و سيق الذين
كفروا إلى جهنم زمرا": الزمر: 71، و إنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم
في الضلال كما قال تعالى: "و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في
جهنم": الأنفال: 37، و قد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الأنفال.
و الخزنة جمع خازن و هو الحافظ على الشيء المدخر و المراد بهم الملائكة
الموكلون على النار المدبرون لأنواع عذابها قال تعالى: "عليها ملائكة غلاظ
شداد": التحريم: 6، و قال: "و ما أدراك ما سقر - إلى أن قال - عليها تسعة عشر و
ما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة": المدثر: 31.
و المعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم
الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخا - أ لم يأتكم نذير؟ و هو
النبي المنذر.
قوله تعالى: "قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا" إلى آخر الآية حكاية جوابهم
لسؤال الخزنة، و فيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب و اعتراف.
و قوله: "ما نزل الله من شيء" بيان لتكذيبهم، و كذا قوله: "إن أنتم إلا في ضلال
كبير" و قيل: قوله: "إن أنتم" إلخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم
عن سؤالهم بما أجابوا، و هو بعيد من السياق، و كذا احتمال كونه من كلام الرسل
الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لأولئك الكفار.
قوله تعالى: "و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" يطلق السمع
و يراد به إدراك الصوت و القول بالجارحة و ربما يراد به ما هو الغاية منه عند
العقلاء و هو الالتزام بمقتضاه من الفعل و الترك، و يطلق العقل على تمييز الخير
من الشر و النافع من الضار، و ربما يراد به ما هو الغاية منه و هو الالتزام
بمقتضاه من طلب الخير و النفع و اجتناب الشر و الضر، قال تعالى: "لهم قلوب لا
يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام
بل هم أضل": الأعراف: 179.
و أكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الأمور و إدراك
حقيقتها و الاهتداء إلى مصالحها و مفاسدها و إنما ينتفع بالعقل الخاصة.
فقوله: "لو كنا نسمع أو نعقل" أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل و الالتزام
بمقتضى قولهم و هم النصحاء الأمناء، و بالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من
الحق بتعقله و الاهتداء العقلي إلى أنه حق و من الواجب أن يخضع الإنسان للحق.
و إنما قدم السمع على العقل لأن استعماله من شأن عامة الناس و هم الأكثرون و
العقل شأن الخاصة و هم آحاد قليلون.
و المعنى: لو كنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم و مواعظهم أو عقلنا حجة الحق
ما كنا اليوم في أصحاب السعير و هم مصاحبو النار المخلدون فيها.
و قيل: إنما جمع بين السمع و العقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع و العقل.
قوله تعالى: "فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير" كانوا إنما قالوا: "لو كنا
نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" ندامة على ما فرطوا في جنب الله و فوتوا
على أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار و كان عليهم
أن لا يأتوا به، و هذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.
و إنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه و هو في الأصل مصدر.
و قوله: "فسحقا لأصحاب السعير" السحق تفتيت الشيء كما ذكره الراغب و هو دعاء
عليهم.
قوله تعالى: "إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة و أجر كبير" لما ذكر حال
الكفار و ما يجازون به على كفرهم قابلة بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم و
ذكر من وصفهم الخشية لأن المقام مقام الإنذار و الوعيد.
و عد خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.
قوله تعالى: "و أسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور" رفع شبهة يمكن
أن تختلج في قلوبهم مبنية على الاستبعاد و ذلك أنه تعالى ساق الكلام في بيان
ربوبيته لكل شيء المستتبعة للبعث و الجزاء و ذكر ملكه و قدرته المطلقين و خلقه
و تدبيره و لم يذكر علمه المحيط بهم و بأحوالهم و أعمالهم و هو مما لا يتم
البعث و الجزاء بدونه.
و كان من الممكن أن يتوهموا أن الأعمال على كثرتها الخارجة عن الإحصاء لا يتأتى
ضبطها و خاصة ما تكنه الصدور منها فإن الإنسان يقيس الأشياء بنفسه و يزنها بزنة
نفسه و هو غير قادر على إحصاء جزئيات الأعمال التي هي حركات مختلفة متقضية و
خاصة أعمال القلوب المستكنة في زواياها.
فدفعه بأن إظهار القول و إخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنه عليم بذات
الصدور، و السياق يشهد أن المراد استواء خفايا الأعمال و جلاياها بالنسبة إليه،
و إنما ذكر أسرار القول و جهره من حيث ظهور معنى الخفاء و الظهور فيه بالجهر و
الإسرار.
قوله تعالى: "أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير" استفهام إنكاري مأخوذ حجة
على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها و باطنها و سرها و جهرها و ذلك أن أعمال
الخلق - و من جملتها أعمال الإنسان الاختيارية - و إن نسبت إلى فواعلها لكن
الله سبحانه هو الذي يريدها و يوجدها من طريق اختيار الإنسان و اقتضاء سائر
الأسباب فهو الخالق لأعيان الأشياء و المقدر لها آثارها كيفما كانت و الرابط
بينها و بين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى: "الله خالق كل شيء و هو
على كل شيء وكيل": الزمر: 62، و قال: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى": الأعلى:
3، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه و أثره و من أثره أعماله الظاهرة و الباطنة و
ما أسره و ما جهر به و كيف يحيط به و لا يعلمه.
و في الآية إشارة إلى أن أحوال الأشياء و أعمالها غير خارجة عن خلقها لأنه
تعالى استدل بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيات أحواله و أعماله و لو لا كون
الأحوال و الأعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتم الاستدلال.
على أن الأحوال و الأعمال من مقتضيات موضوعاتها و الذي ينتسب إليه وجود الشيء
ينتسب إليه آثار وجوده.
و قوله: "و هو اللطيف الخبير" أي النافذ في بواطن الأشياء المطلع على جزئيات
وجودها و آثارها، و الجملة حالية تعلل ما قبلها و الاسمان الكريمان من الأسماء
الحسنى ذيلت بهما الآية لتأكيد مضمونها.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول
الله عز و جل: "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" قال: ليس يعني أكثركم عملا و لكن
أصوبكم عملا، و إنما الإصابة خشية الله و النية الصادقة و الخشية. ثم قال:
الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل. ألا و العمل الخالص الذي لا تريد أن
يحمدك عليه أحد إلا الله، و النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل. ثم
تلا قوله: "قل كل يعمل على شاكلته" يعني على نيته.
و في المجمع، قال أبو قتادة: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله
تعالى: "أيكم أحسن عملا" ما عنى به؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا. ثم قال: أتمكم
عقلا و أشدكم لله خوفا، و أحسنكم فيما أمر الله به و نهى عنه نظرا و إن كان
أقلكم تطوعا.
و فيه، عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه تلا قوله تعالى:
"تبارك الذي بيده الملك إلى قوله أيكم أحسن عملا" ثم قال: أيكم أحسن عقلا، و
أورع عن محارم الله و أسرع في طاعة الله.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "الذي خلق سبع سماوات طباقا" قال: بعضها طبق
لبعض.
و فيه،: في قوله تعالى: "من تفاوت" قال: من فساد.
و فيه،: في قوله تعالى: "ثم ارجع البصر" قال: انظر في ملكوت السماوات و الأرض.
و فيه،: في قوله تعالى: "بمصابيح" قال: بالنجوم.
و فيه،: في قوله تعالى: "سمعوا لها شهيقا" قال: وقعا.
و فيه،: في قوله تعالى: "تكاد تميز من الغيظ" قال: على أعداء الله.
و فيه،: في قوله تعالى: "و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل - ما كنا في أصحاب
السعير" قال: قد سمعوا و عقلوا و لكنهم لم يطيعوا و لم يقبلوا، و الدليل على
أنهم قد سمعوا و عقلوا و لم يقبلوا، قوله: "فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب
السعير".
أقول: يعني (عليه السلام) أنه يدل على أن المراد من عدم السمع و العقل عدم
الإطاعة و القبول بعد السمع و العقل أنه تعالى سمى قولهم ذلك اعترافا بالذنب، و
لا يعد فعل ذنبا من فاعله إلا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل.
|