(الصفحة181)
ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق(عليه السلام) : «صلّ ركعتي الفجر قبل الفجر وعنده وبعده ، تقرأ في الاُولى الحمد ، وقل يا أيّها الكافرون ، وفي الثانية الحمد ، وقل هو الله أحد»(1) .
وهذه الطائفة شاهدة للجمع بين الطائفتين المتقدّمتين بالحمل على التخيير ، لكونها نصّاً في مضمونها ، وهما ظاهرتان في وجوب التقديم أو التأخير ، مضافاً إلى أنّ الأمر في الطائفة الاُولى غير ظاهر في الوجوب ، لوروده في مقام توهم الحظر ، لأنّ بناء العامّة كان على الإتيان بهما بعد الفجر ، تبعاً لعمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، وحينئذ فربّما يتوهّم من هذا البناء لزوم التأخير عنه ، والروايات الدالة على الإتيان بهما قبل الفجر إنّما كانت بصدد دفع هذا التوهّم ، فلا يستفاد منها أزيد من مجرّد الجواز ، وعليه فالأمر بالإتيان بهما بعد الفجر كما في الطائفة الثانية يمكن أن يكن للتقية ، لما عرفت من إستمرار عمل العامّة عليه ، ويدلّ على ذلك رواية أبي بصير المتقدّمة(2)الدالة على أنّ الإفتاء بالإتيان بهما بعد الفجر إنّما هو للتقية .
وربّما يقال في وجه الجمع بأنّ المراد من الفجر في الطائفة الثانية هو الفجر الكاذب ، فلا تنافي الطائفة الاُولى الدالّة على لزوم الإتيان بهما قبل الفجر ، والإحشاء بهما في صلاة الليل ، لأنّ المراد بالفجر فيها هو الفجر الصادق ، لإستمرار وقت صلاة الليل إليه وعدم انقطاع الليل بدخوله ، ولكن فيه : أنّ المتبادر من الفجر في كلتا الطائفتين هو الفجر الصادق ، لما عرفت من أنّ الفجر الكاذب لا عبرة به حتّى عند علماء العامّة ; فالوجه في الجمع ما ذكرنا .
وحينئذ فيجوز الإتيان بركعتي الفجر قبله ومعه وبعده ، ولكن يقع الإشكال
(1) الفقيه 1 : 313 ح 1422 ، الوسائل 4 : 269 . أبواب المواقيت ب52 ح 6 .
(2) الوسائل 4: 264. أبواب المواقيت ب50 ح2.
(الصفحة182)
في تحديد القبلية ، فذهب جماعة منهم المحقّق إلى أنّ أوّل وقتها طلوع الفجر الأوّل(1) ، وعن جماعة أنّ أوّل وقتها الفراغ من صلاة الليل(2) ، ومستند هذا القول الأخبار الدالة على الإحشاء بهما في صلاة الليل(3) .
أمّا القول الأوّل فذكره الأصحاب في كتبهم المعدّة لنقل الفتاوى المتلقّاة عن الأئمّة(عليهم السلام)(4) ، وقد عرفت أنّ الذكر في هذه الكتب يكشف عن وجود نصّ معتبر ، غاية الأمر إنّه لم يصل إلينا ، نعم ورد في رواية محمد بن مسلم المتقدّمة الواردة في تعيين أوّل وقت ركعتي الفجر التعيين بسدس الليل الباقي(5) ، فإن طابق السدس مع الفجر الكاذب يحصل التوافق ، وإلاّ فيحصل التعارض بينها وبين النصّ المكشوف بالفتاوى ، والترجيح معه لموافقته لفتوى المشهور ، هذا .
ويمكن أن يكون مستندهم رواية أبي بكر الحضرمي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام)فقلت : متى اُصلّي ركعتي الفجر؟ فقال : «حين يعترض الفجر ، وهو الذي يسمّيه العرب : الصديع»(6) . فإنّ الصديع بحسب اللغة وإن كان معناه الصبح(7) ، والمتبادر منه الفجر الثاني ، ولكن يمكن أن يقال : بأنّ معناه هنا هو الفجر الكاذب لأنّ أصله هو الانشقاق مع عدم الانفصال ، وحينئذ فينطبق على الفجر الكاذب ، لأنّه يكون على شكل عموديّ ، وخطّ واقع بين الظلمة يوجب انصداعها ،
(1) المبسوط 1 : 76 ; المراسم : 63 ; المختصر النافع : 22 ; المعتبر 2 : 55 ; شرائع الاسلام 1 : 63 .
(2) النهاية : 61 ; المهذّب 1 : 70 ; المقنعة : 91 ; الغنية : 72 ، الوسيلة : 83 ; السرائر 1 : 203 ; مختلف الشيعة 2 : 37 .
(3) الوسائل 4 : 263 ـ 265 . أبواب المواقيت ب50 ح1 و6 و8 .
(4) المبسوط 1 : 76 ; المراسم : 63 ; المعتبر 2 : 55 ; شرائع الاسلام 1 : 63 ; المختصر النافع : 22 .
(5) الوسائل 4 : 265 . أبواب المواقيت ب50 ح5 .
(6) التهذيب 2 : 133 ح517 ; الوسائل 4 : 268 . أبواب المواقيت ب51 ح10 .
(7) لسان العرب 7 : 303 .
(الصفحة183)
ولا ينافي ذلك التعبير بقوله «يعترض» لأنّه بمعنى يظهر .
ويؤيّد ما ذكرنا أنّ الفجر باعتبار وضوح كونه هو الفجر الثاني لا يفتقر إلى التفسير ، فتفسيره(عليه السلام) قرينة على عدم كون المراد به هو المعنى المتبادر منه ، كما لايخفى .
ويمكن أن يقال بانطباق كلمة قبيل الواردة في رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة على الفجر الأوّل ، بل لعلّه المتبادر من كلمة القبل في بعض الروايات ، لأنّ الظاهر أنّ المراد به القبل القريب ، وحينئذ فينطبق عليه . وكيف كان فالخطب سهل بعدما عرفت من كونه مذكوراً في الكتب التي يكشف الذكر فيها عن وجود نصّ مذكور في الجوامع الأوّلية ، فلا يبعد الذهاب إلى هذا القول .
ثمّ إنّه قد ورد في كثير من الروايات المتقدّمة الإحشاء بهما في صلاة الليل ، ومقتضى إطلاقه جواز الإتيان بهما بعدها ولو اشتغل بها في أول النصف ، ولم يدخل الفجر الأوّل بعد الفارغ عنها ، بل يشمل إطلاقه ما إذا قدّم صلاة الليل لمرض أو سفر أو نحوهما ، فيجوز عليه الإتيان بركعتي الفجر بعدها بلا فصل ، كما يدلّ عليه أيضاً رواية أبي جرير بن إدريس عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام)قال : «صلّ صلاة الليل في السفر من أوّل الليل في المحمل والوتر وركعتي الفجر»(1) .
وبالجملة : فلا إشكال في جواز تقديم ركعتي الفجر على الفجر الأوّل والإحشاء بهما في صلاة الليل وإن وقعت قبله ، وأفتى بهذا حتى من ذهب إلى أنّ أوّل وقتهما هو الفجر الأوّل كالمحقّق(2) ، إنّما الإشكال في تقديمهما عليه في صورة الإنفراد ، وعدم ضمّهما إليها ، وأنّه هل تكون مثل صورة الإنضمام ، أو أنّ التقديم على الفجر يختصّ بهذه الصورة وجهان ، من أنّ مقتضى كون ركعتي الفجر مستحبّاً
(1) الفقيه 1 : 302 ح1384 ; الوسائل 4 : 251 . أبواب المواقيت ب44 ح6 .
(2) المعتبر 2 : 56 ; شرائع الاسلام 1 : 63 .
(الصفحة184)
مستقلاًّ وعنواناً ، في قبال عنوان صلاة الليل والوتر ، بضميمة ما يدلّ على جواز الإحشاء بهما في صلاة الليل ، جواز تقديمهما على الفجر الأوّل مطلقاً ، ومن أنّ القدر المتيقّن من ذلك هي صورة ضمهما إلى صلاة اللّيل ، وحئنذ فلا يشرع إتيانهما قبل الفجر منفرداً ، بعدما عرفت من أنّ أول وقتهما هو الفجر الأول(1) ، فتدبّر .
كما أنّه على الوجه الأول الذي قد يستفاد من عبارة المحقّق في الشرائع يشكل الأمر بمنافاته لتحديد أوّل وقتهما بالفجر كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكي عن جماعة منهم المحقّق في الشرائع القول باستحباب إعادتهما لو أتى بهما قبل الفجر الأوّل(2) ، واستدلّ على ذلك برواية زرارة قال : سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول : «إنّي لاُصلّي صلاة الليل وأفرغ من صلاتي ، واُصلّي الركعتين فأنام ما شاء الله قبل أن يطلع الفجر ، فإن استيقظت عند الفجر أعدتهما»(3) .
ورواية حمّاد بن عثمان قال : قال لي أبو عبدالله(عليه السلام) : «ربّما صلّيتهما وعليّ ليل ، فإن قمت ولم يطلع الفجر أعدتهما»(4) . وفي بعض النسخ بدل «قمت» ، «نمت» ، هذا .
ولا يخفى أنّه لا دليل على كون المراد بالركعتين في الرواية الاُولى وبمرجع الضمير في الثانية هي ركعتي الفجر ، مضافاً إلى أنّ المتبادر من الفجر في الروايتين هو الفجر الثاني ، والمدّعى استحباب إعادتهما بعد الفجر الأوّل ، فلا ينطبق الدليل على المدعى ومع الغضّ عن ذلك فغاية مدلول الروايتين إستحباب الإعادة فيما إذا حصل الفصل بينهما وبين فريضة الصبح بالنوم لا مطلقاً ، فلعلّه كان للنوم مدخليّة في انحطاط مقدار من تأثيرهما كما لا يخفى .
(1) راجع ص178 .
(2) شرائع الاسلام 1 : 63 .
(3) التهذيب 2 : 135 ح 528 ; الاستبصار 1 : 285 ح 1045 ; الوسائل 4 : 267 . أبواب المواقيت ب51 ح9 .
(4) التهذيب 2 : 135 ح527 ، الإستبصار 1 : 285 ح1044 ، الوسائل 4 : 267 . أبواب المواقيت ب51 ح8 .
(الصفحة185)
وأمّا الكلام في المقام الثاني فملخّصه أنّ المشهور هو امتداد وقتهما إلى أن تطلع الحمرة المشرقية(1) ، ولا يخفى أنه لا يوجد مستند في الجوامع التي بأيدينا ، نعم روى عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن الرجل لا يصلّي الغداة حتى يسفر وتظهر الحمرة ولم يركع ركعتي الفجر ، أيركعهما أو يؤخّرهما؟ قال : «يؤخّرهما»(2)ودلالتها على الامتداد إلى ذلك الوقت محلّ نظر ، نعم يستفاد منها عدم مزاحمتهما للفريضة بعد ظهور الحمرة ، وأنّها مقدّمة عليهما . وفي مرسلة إسحاق بن عمّار المتقدّمة قد حدّد بما بينك وبين أن يكون الضوء حذاء رأسك(3) ، ولكن تقدّم معناها .
ثمّ إنّه على فرض الامتداد إلى ذلك الوقت فهل يكون مقتضى ذلك صيرورتهما قضاء بعد طلوع الحمرة ، كصيرورة الفريضة كذلك بعد طلوع الشمس ، أو أنّ المراد بامتدادهما إليه هو مزاحمتهما للفريضة إلى ذلك الوقت وعدم جوازها بعده من دون أن تصير قضاء بذلك؟ وجهان .
التطوّع وقت الفريضة
قد اختلف الأصحاب قديماً وحديثاً في جواز الإتيان بالنافلة المبتدأة ، أو التي تكون قضاء عن الراتبة في وقت الفريضة بعد قيام الإجماع ، وتواتر الأخبار على جواز الإتيان بالرواتب إلى الأوقات التي يجوز الإتيان إليها كالذراع والذراعين في
(1) التهذيب 2 : 135 ; الاستبصار 1 : 285 ; ونقله عن السيّد المرتضى في مختلف الشيعة 2 : 36; كشف اللثام 3 : 62 ; جواهر الكلام 7 : 138 .
(2) التهذيب 2: 340 ح1409; الوسائل 4: 266، أبواب المواقيت ب51 ح1.
(3) الوسائل 4 : 267 . أبواب المواقيت ب51 ح7 .
(الصفحة186)
الظهرين ، وسقوط الشفق في نافلة المغرب كما مرّ تفصيله(1) ; وكذلك اختلفوا في جواز الإتيان بالنافلة لمن عليه قضاء فريضة ، ويمكن إدخالهما تحت عنوان واحد وهو التطوّع لمن عليه فريضة .
فالأكثرون من القدماء منهم المفيد والشيخ على المنع(2) ، وذهب آخرون إلى الجواز(3) ، وهو الأقوى لما سيأتي . ومنشأ الخلاف في ذلك اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب ، فلابدّ من نقلها ليظهر الحال ، والصحيح عن سقيم المقال ، فنقول وعلى الله الاتكال .
أمّا ما يدلّ على الجواز فروايات :
منها : موثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يأتي المسجد وقد صلّى أهله أيبتدئ بالمكتوبة أو يتطوّع؟ فقال : «إن كان في وقت حسن فلا بأس بالتطوّع قبل الفريضة ، وإن كان خاف الفوت من أجل ما مضى من الوقت فليبدأ بالفريضة وهو حقّ الله ، ثمّ ليتطوّع ما شاء ، ألا هو موسّع أن يصلّي الإنسان في أوّل دخول وقت الفريضة النوافل إلاّ أن يخاف فوت الفريضة ، والفضل إذا صلّى الإنسان وحده أن يبدأ بالفريضة إذا دخل وقتها ليكون فضل أوّل الوقت للفريضة ، وليس بمحظور عليه أن يصلّي النوافل من أوّل الوقت إلى قريب من آخر الوقت» . هذا ما رواه الكليني ، ورواه الصدوق بإسناده عن سماعة نحوه إلى قوله : «ثمّّ ليتطوّع ما شاء» ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يحيى نحوه إلى قوله : «قريب من
(1) راجع ص161 و 171 .
(2) المقنعة : 212 ; المبسوط 1 : 126 ; النهاية : 62 ; السرائر 1 : 203 ; الوسيلة : 84 ; الجامع للشرائع كتاب الصلاة : 89 ; المهذّب 1 : 127 ; المعتبر 2 : 60 ; شرائع الاسلام 1 : 63 .
(3) الذكرى 2 : 389 ; الدروس 1 : 142 ; جامع المقاصد 2 : 24 ; مدارك الاحكام 3 : 88 ; الذخيرة : 202 ; مفاتيح الشرائع 1 : 97 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 42 .
(الصفحة187)
آخر الوقت»(1) .
وهذه الرواية صريحة في جواز التطوّع ما دام لم يتضيّق وقت الفريضة ، واحتمال أن يكون المراد من النوافل هي الرواتب سخيف جدّاً ، لوضوح حالها عند كلّ أحد ، لأنّه يعرف كلّ عاميّ أنّه يستحب الإتيان بها قبل الفريضة إلى أوقات معّينة كما عرفت .
ومنها : رواية إسحاق بن عمار قال : قلت : اُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال : «نعم في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(2) .
ومنها : رواية محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : إذا دخل وقت الفريضة أتنفّل أو أبدأ بالفريضة؟ قال : «إنّ الفضل أن تبدأ بالفريضة ، وإنّما أخّرت الظهر ذراعاً من عند الزوال من أجل صلاة الأوّابين(3) فانّ ظاهرها جواز التنفّل وقت الفريضة إلاّ أنّ الفضل في تأخيرها والابتداء بالفريضة .
ومنها : رواية عمر بن يزيد أنّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرواية التي يروون أنّه لا يتطوّع في وقت فريضة ما حدّ هذا الوقت؟ قال : «إذا أخذ المقيم في الإقامة» ، فقال له : إنّ الناس يختلفون في الإقامة ، فقال : «المقيم الذي يصلّي معه»(4) . وهذه الرواية تدلّ على أنّ النهي انّما هو لانعقاد الجماعة لا مطلقاً .
ومنها : رواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن رجل نام عن الغداة
(1) الكافي 3 : 288 ح3 ; الفقيه 1 : 257 ح1165 ، التهذيب 2 : 264 ح1051 ; الوسائل 4 : 226 أبواب المواقيت ب35 ح1 .
(2) الكافي 3 : 289 ح4 ; التهذيب 2 : 264 ح1052 ; الوسائل 4 : 226 . أبواب المواقيت ب35 ح2 .
(3) الكافي 3 : 289 ح5 ; الوسائل 4 : 230 . أبواب المواقيت ب36 ح2 و3 .
(4) الفقيه 1 : 252 ح1136 ; التهذيب 3 : 283 ح841 ; الوسائل 4 : 228 . أبواب المواقيت ب35 ح 9 .
(الصفحة188)
حتى طلعت الشمس؟ فقال : «يصلّي ركعتين ثم يصلّي الغداة»(1) وغير ذلك من الأخبار .
وأمّا ما يدلّ على المنع :
فمنها : رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «قال لي رجل من أهل المدينة يا أبا جعفر ما لي لا أراك تتطوّع بين الأذان والإقامة كما يصنع الناس؟ فقلت : إنّا إذا أردنا أن نتطوّع كان تطوّعنا في غير وقت فريضة ، فإذا دخلت الفريضة فلا تطوّع»(2) .
ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذه الرواية مشكل ، لانّها تتضمّن قضية في واقعة شخصية ، ولا يعلم المراد من الصلاة التي كان بناء الناس على الإتيان بها بين الأذان والإقامة ، وحينئذ فمن المحتمل أن يكون اعتقادهم على استحباب ركعتين خاصّتين بين الأذان والإقامة في قبال سائر النوافل غير مشروعتين عندنا ، وحيث لم يكن للإمام(عليه السلام) ردّ السائل ، لكون ذلك المعنى أمراً مركوزاً عند الناس ، فأجاب(عليه السلام) بما يوافق مذهبهم تورية ، لأنّهم رووا عن أبي هريرة أنّه «إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة»(3) ، مضافاً إلى أنّه لو سلّم كون الركعتين من النوافل اليومية فيمكن أن يقال بعدم دلالة الرواية على المنع ، لأنّ غاية مدلولها أنّ بنائهم(عليهم السلام) على الإتيان بالنافلة قبلا ، ولا يستفاد منها المنع ، ولكن ظاهر الذيل ينافي ذلك .
ومنها : رواية زياد أبي عتاب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول : إذا
(1) التهذيب 2 : 265 ح1057 ; الاستبصار 1 : 286 ح1048 ; الوسائل 4 : 284 . أبواب المواقيت ب61 ح2 .
(2) التهذيب 2 : 167 ح661 و ص247 ح982 ; الاستبصار 1 : 252 ح906 ; الوسائل 4 : 227 . أبواب المواقيت ب35 ح3 .
(3) سنن ابن ماجه 1 : 364 ح1151 ; سنن الترمذي 2 : 126 ب60 ح861 و862 وفيهما : «إذا اُقيمت الصلاة . . .» .
(الصفحة189)
حضرت المكتوبة فابدأ بها ، فلا يضرّك أن تترك ما قبلها من النافلة»(1) . هذا ، ولا يخفى أنه يحتمل أن يكون المراد بحضور المكتوبة حضور الجماعة لها لا أصل وقتها ، فالرواية على تقدير دلالتها على المنع لا تدلّ إلاّ على المنع فيما إذا انعقدت الجماعة للمكتوبة ، والتعبير بقوله : «فلا تضرّك» يشعر بعدم كون المنع على نحو الإلزام . هذا ، مضافاً إلى أنّ قوله : «تترك ما قبلها من النافلة» ظاهر في أنّ المراد بالنافلة هي ا لرواتب ، إذ النافلة المبتدأة لا تكون مرتبطة بالفريضة ، بحيث تكون قبلها أو بعدها ، وحينئذ فالمراد بحضور المكتوبة حضور وقت فضيلتها كالذراع والذراعين في الظهرين ، فلا تدلّ الرواية على حكم النافلة المبتدأة ، أو التي تكون قضاء عن الرواتب .
ومنها : رواية نجيّة قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : تدركني الصلاة ويدخل وقتها فأبدأ بالنافلة؟ قال : فقال أبو جعفر(عليه السلام) : «لا ، ولكن إبدأ بالمكتوبة واقض النافلة»(2) . وظاهر الرواية باعتبار قوله : «اقض النافلة» أنّ المراد من النافلة الرواتب اليومية التي خرج وقتها ، فلا دلالة لها على حكم النافلة المبتدأة ونحوها .
ومنها : رواية أديم بن الحرّ قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : «لا يتنفّل الرجل إذا دخل وقت فريضة ، قال : وقال : «إذا دخل وقت فريضة فابدأ بها»(3) .
ومنها : رواية أبي بكر عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال : «إذا دخل وقت صلاة فريضة فلا تطوّع»(4) .
(1) التهذيب 2 : 247 ح984 ; وفيه : «زياد بن أبي غياث» ; الاستبصار 1 : 253 ح907 ; الوسائل 4 : 227 . أبواب المواقيت ب35 ح4 .
(2) التهذيب 2 : 167 ح662 ، الوسائل 4 : 227 ; أبواب المواقيت ب35 ح5 ، وفيه : «نجبة» .
(3) التهذيب 2 : 167 ح663 ; الوسائل 4 : 228 . أبواب المواقيت ب35 ح6 .
(4) التهذيب 2 : 167 ح660 وص 340 ح1405 ، الاستبصار 1 : 292 ح1071 ، الوسائل 4 : 228 . أبواب المواقيت ب35 ح7 .
(الصفحة190)
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا تصلّ من النافلة شيئاً في وقت الفريضة ، فإنّه لا تقضى نافلة في وقت فريضة ، فإذا دخل وقت الفريضة فابدأ بالفريضة»(1) .
ومنها : ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده عن عليّ(عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال : «من أتى الصلاة عارفاً بحقّها غفر له ، لا يصلّي الرجل نافلة في وقت فريضة إلاّ من عذر ، ولكن يقضي بعد ذلك إذا أمكنه القضاء ، قال الله تعالى : {الذين هم على صلاتهم دائمون}(2) يعني الذين يقضون ما فاتهم عن الليل بالنهار وما فاتهم من النهار بالليل لا يقضى النافلة في وقت فريضة ، إبدأ بالفريضة ثم صلّ ما بدا لك»(3) .
ومنها : رواية إسماعيل عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لا ، قال : «حتّى لا يكون تطوّع في وقت مكتوبة»(4) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) المتقدّمة في المسألة السابقة المشتملة على قوله : «أكنت تطوّع إذا دخل عليك وقت الفريضة؟ فابدأ بالفريضة»(5) .
ومنها : ما رواه الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «إذا حضر وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة . . .»(6) .
ومنها : رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل
(1) السرائر 3 : 586 ; الوسائل 4 : 228 . أبواب المواقيت ب35 ح8 .
(2) المعارج 70 : 23 .
(3) الخصال : 638 ; الوسائل 4 : 228 . أبواب المواقيت ب35 ح 10 .
(4) علل الشرائع : 349 ; الوسائل 4 : 229 . أبواب المواقيت ب35 ح11 .
(5) التهذيب 2 : 133 ح513 ، الاستبصار 1 : 283 ح1031 ، الوسائل 4 : 264 . أبواب المواقيت ب50 ح3 .
(6) الذكرى 2 : 422 ; الوسائل 4 : 283 . أبواب المواقيت ب61 ح6 .
(الصفحة191)
ينام عن الغداة حتى تبزغ(1) الشمس ، أيصلّي حين يستيقظ ، أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟ قال : «يصلّي حين يستيقظ» قلت : يوتر أو يصلّي الركعتين؟ قال : «بل يبدأ بالفريضة»(2) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور أو نسي صلوات لم يصلّها أو نام عنها؟ فقال : يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها من ليل أو نهار ، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت ، وهذه أحقّ بوقتها فليقضها ، فإذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى ، ولا يتطوّع بركعة حتى يقضي الفريضة كلّها»(3) .
هذه هي الروايات الدالة على المنع ، ولا يخفى أنّ المراد بوقت الفريضة يحتمل أن يكون جميع الوقت الوسيع من أوله إلى آخره ، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي لا تكون النافلة فيه مزاحمة للفريضة ، كالذراع والذراعين في الظهرين وسقوط الشفق في العشاء ، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي تنعقد فيه الجماعة لأجل المكتوبة ، كما أنّ هنا إحتمالا رابعاً وهو أن يكون المراد به الوقت الذي يتعيّن فيه الإتيان بالفريضة ، لصيرورتها قضاءً لو أخّرت عنه ، لا إشكال في عدم كون المراد به هو الاحتمال الأخير ، لكون الروايات المتقدّمة آبية عن الحمل عليه ، بل صريحة في خلافه ، كما أنّ الظاهر بطلان الاحتمال الأول أيضاً ، لأنّ أكثر روايات المنع كما عرفت قد وردت في خصوص الرواتب اليومية ، أو الأعمّ منها ، ولا يمكن
(1) بزغت الشمس بزغاً وبزوغاً : شرقت; القاموس المحيط 3 : 106 .
(2) التهذيب 2 : 265 ح1056 ، الإستبصار 1 : 286 ح1047 ، الوسائل 4 : 284 . أبواب المواقيت ب61 ح4 .
(3) الكافي 3 : 292 ح3 ، التهذيب 2 : 172 ح685 وج3 : 159 ح341 ، الوسائل 8 : 256 . أبواب قضاء الصلوات ب2 ح3 .
(الصفحة192)
حملها على خصوص النافلة المبتدأة كما مرّ .
وحينئذ فبعدما استقرّ عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وكذا جميع الصحابة بل أكثر الناس على الإتيان بالرواتب قبل الفريضة في نافلة الظهرين ، وقبل سقوط الشفق في نافلة المغرب ، وقبل طلوع الحمرة المشرقية في نافلة الصبح ، لا ينبغي الشكّ والارتياب في استحباب الإتيان بالنافلة الراتبة في أوّل الزوال مثلا ، وكون جواز ذلك بل أفضليته من الاُمور المرتكزة عند الناس ، وحينئذ فإذا اُلقي إليهم هذه العبارات الدالة على عدم جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة ، لا يفهمون منه عدم الجواز في وقت يصح فيه الإتيان بالفريضة ، بل لا يتبادر إلى أذهانهم إلاّ أول أوقات الفضيلة للفريضة التي تكون خاتمة الأوقات المضروبة للنوافل التي تزاحم فيها مع الفريضة ، وحينئذ فيكون مدلول الروايات أخصّ من مدّعى المانعين ، لأنّ مدّعاهم المنع في جميع الوقت الوسيع الذي يصحّ فيه الإتيان بالفريضة ، وحينئذ فلابدّ من التزامهم بالتخصيص فيها ، لخروج الرواتب عن هذا الحكم قطعاً ، وأمّا بناء على ما ذكرنا يكون خروج الرواتب بنحو التخصّص ، إذ لا تعرّض في الروايات حينئذ لما قبل الذراع والذراعين مثلا ، وحينئذ فلا دليل على المنع في غير الرواتب أيضاً .
نعم لابدّ من تعيين المراد من النهي الوارد فيها ، وأنّه هل المراد منه الحرمة ، أو الكراهة تكليفاً ، أو وضعاً ، ولكنّه بحث آخر يأتي ، والكلام هنا في تعيين موضع النهي في هذه الرواية ، وقد عرفت أنّ استقرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) ومن بعده قرينة متّصلة على أنّ المراد بوقت الفريضة ليس مجموع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره ، نعم يستفاد من روايات المنع ، منع الإتيان بالرواتب بعد دخول وقت الفضيلة للفريضة ، فيكون غيرها أولى بعدم الجواز ; وحينئذ فلابدّ من التكلّم فيها من حيث أنّ النهي الوارد فيها هل يكون المراد به الحرمة أو غيرها؟ فنقول : إنّ
(الصفحة193)
النهي فيها يحتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون النهي فيها للتحريم بسبب انطباق عنوان محرّم على النافلة مطلقاً ، راتبةً كانت أو غيرها بعد مضيّ الذراع مثلا .
ثانيها : أن يكون النهي إرشاداً إلى فساد النافلة في ذلك الوقت .
ثالثها : أن يكون النهي نهياً تنزيهيّاً بسبب انطباق عنوان ذي حزازة ومنقصة على النافلة في ذلك الوقت .
رابعها : أن يكون للإرشاد إلى قلة الثواب ، بمعنى أنّ النافلة لو أتى بها في هذا الوقت تكون أقل ثواباً بالنسبة إلى ما لو أتى بها في غير هذا الوقت .
خامسها : أن لا يكون النهي عن النافلة بسبب حرمتها أو حزازتها أو كونها أقلّ ثواباً ، بل كان للإرشاد إلى أنّ الأفضل حينئذ البدأة بالمكتوبة ، بمعنى أنّه حيث كانت ذمّة المكلّف مشغولة بما هوّ أهم وأكمل ، فالأحرى تقديم الأهمّ وعدم تأخيره ، فالنهي إنّما هو لمراعاة فضل المبادرة إلى الفريضة ، ومقتضى هذا الاحتمال عدم كون التطوّع في وقت الفريضة حراماً ، ولا ذا حزازة ومنقصة أصلا ، ولا ينقص فضلها عن الإتيان بها في غير وقتها ، بل هما متساويان بلا تفاضل .
وهذا هو أوجه الاحتمالات كما يظهر بالتدبّر فيها ، ويساعده فهم العرف أيضاً ، فإنّ العرف المخاطب بمثل قوله(عليه السلام) : «إذا دخل وقت الفريضة فابدأ بها» أو «لا تطوّع في وقت الفريضة» لا يفهم منه مع ملاحظة توسعة الوقت إلاّ أنّ مع اشتغال الذمّة بالفريضة ينبغي تقديمها وإفراغها منها ، ثمّ الشروع في الإتيان بالنوافل .
هذا كلّه مع أنّه لو أغمضنا النظر عمّا ذكرنا نقول : إنّ الأخبار الدالّة على الجواز صريحة فيه ، وروايات المنع ظاهرة في مدلولها ، ومقتضى قاعدة الجمع حمل الظاهر على النصّ ، وتوجيهه بما لا ينافيه ، والشهرة التي ادعيت على المنع ليست بحدّ توجب خروج أخبار الجواز عن الحجّية كما لا يخفى .
(الصفحة194)
ثمّ إنّ أكثر الروايات المتقدّمة واردة في النهي عن التطوّع في وقت انعقاد الجماعة للفريضة ، أو غير آبية عن الحمل على هذه الصورة ، والحمل على هذا الوقت وإن كان بعيداً عن أذهاننا وما هو المتبادر إليها من الوقت ، إلاّ أنّ التتبّع في الأخبار يعطي أنّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا ، ويؤيّد ذلك ما رواه العامّة عن أبي هريرة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «إذا دخل الوقت فلا صلاة إلاّ المكتوبة»(1) .
والظاهر إنه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية ، ولعلّها هي التي أشار إليها عمر بن يزيد في روايته المتقدّمة(2) ، كما يدلّ عليه التعبير بقوله : «يروون» ، ولا ينافي ذلك اختلاف التعبير فيهما . فإنّ رواية أبي هريرة ظاهرة في التحريم ، وما حكاه عمر بن يزيد لا يدلّ إلاّ على الكراهة لأنّه عبّر بكلمة لا ينبغي ، وذلك لأنّه يمكن أن لا يكون قد فهم من نفي الصلاة إلاّ الكراهة وعدم الحرمة ، أو أنّه يمكن أن تكون كلمة لا ينبغي مستعملة في التحريم عندهم .
وكيف كان فالمتطوّع في وقت الفريضة إمّا أن يكون مترقّباً لإنعقاد الجماعة ، ومنتظراً لإقامتها ، أو يتطوّع مع انعقاد الجماعة حال التطوّع ، أو أنّه لا يريد الصلاة جماعة بل فرادى ، ففي الصورة الاُولى لا إشكال في جوازه ، لرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، قال : قلت : أُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال : «نعم ، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به ، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة»(3) . وأمّا في صورة انعقاد الجماعة فظاهر رواية عمر بن يزيد المتقدّمة الجواز ، لكن مع كراهية ، والفضل في
(1) سنن ابن ماجه 1 : 364 ح1151 ; سنن الترمذي 2 : 126 ب60 ح861 و862 ; وفيهما «إذا اُقيمت الصلاة . . .» .
(2) الوسائل 4 : 228 . ابواب المواقيت ب35 ح9 .
(3) الكافي 3 : 289 ح4 ; الوسائل 4 : 226 . أبواب المواقيت ب35 ح2 .
(الصفحة195)
البدأة بالفريضة من جهة أفضلية المبادرة والمسارعة إلى إدراك فضل الوقت والجماعة معاً ، وليس المراد بالكراهة هي الكراهة التكليفية أو الوضعية ، بل المراد ما عرفت من كون الإتيان بالفريضة أهمّ وأولى من دون أن يكون في التطوّع حزازة ومنقصة موجبة للكراهة .
ومن هنا يظهر الجواز في صورة الإنفراد أيضاً بطريق أولى ، لأنّ التطوّع في صورة انعقاد الجماعة يوجب فوات فضيلتي الوقت والجماعة معاً ، بخلاف التطوّع منفرداً مع عدم قيام الجماعة ، فإنّه لا يوجب إلاّ فوات فضيلة الوقت فقط كما هو واضح ; فجوازه في الاُولى يستلزم الجواز في الثانية بطريق أولى ، والأمر بالابتداء بالمكتوبة في صورة الإنفراد كما في رواية إسحاق بن عمّار المذكورة ليس إلاّ لدرك فضل الوقت ، ولا يدل على حكم إلزامي أصلا .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ التطوّع في وقت الفريضة أو لمن عليه قضائها لا يكون محرّماً ولا مكروهاً ، بل النهي عنه إنّما هو للإرشاد إلى درك فضل الوقت فقط ، أو مع الجماعة كما عرفت .
نعم ، لا ينبغي الإشكال في عدم الجواز فيما إذا ضاق الوقت ، بحيث لو أتى بالنافلة لخرج وقت الفريضة ، كما أنّه لا إشكال في أنّ سبب النهي بأيّ معنى كان ، هو اشتغال الذمّة بالفريضة ، فالآتي بها لا يكون مشمولا لهذا الحكم أصلا كما هو أوضح من أن يخفى .
(الصفحة196)
(الصفحة197)
المقدّمة الثالثة في القبلة
إنّ اعتبار استقبال القبلة في المفروض من الصلوات ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام والفقه كما أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة(1) ، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ، ومن كان في الحرم ، ومن كان خارجاً عنهما ، للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
منها : رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال : «بعد رجوعه من بدر»(2) . فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي إلى الكعبة ، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي ، ولذا لم يسأل عنه ، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة .
ومنها : رواية أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) ـ في حديث ـ قال : قلت له : إنّ الله
(1) الخلاف 1 : 295 ; المقنعة : 95 ; الوسيلة : 85 ; المراسم : 60 ; الغنية : 68 ; المهذّب 1 : 84 ; السرائر 1 : 204 ; المعتبر 2 : 64 ـ 65 ; مختلف الشيعة 2 : 60 ; كشف اللثام 3 : 128 ; جواهر الكلام 7 : 320 .
(2) التهذيب 2 : 43 ح135 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح1 .
(الصفحة198)
أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : «نعم ، ألا ترى أنّ الله يقول : {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرسول . . .}(1) ثم قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس ، فقيل لهم إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين ، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين»(2) .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة التي ربما تبلغ عشرين رواية .
وفي مقابلها ما يدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ، كمرسلة عبدالله بن محمّد الحجال عن أبي عبدالله(عليه السلام) : «إنّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا» ورواه الصدوق في العلل مثله»(3) .
ورواية ابن عقدة عن بشر بن جعفر الجعفي ، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال : سمعته يقول : «البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة للناس جميعاً»(4) . وغيرهما من الأخبار الواردة بهذا المضمون .
ولكنّها لا تصلح لمعارضة الأخبار الدالّة على أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة لضعف سند بعضها ، وثبوت الارسال في بعضها الآخر ; مع أنّ من عمل بمضمونها كالشيخ(قدس سره) في أكثر كتبه(5) لا يقول بها فيمن صلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على
(1) البقرة : 143 .
(2) التهذيب 2 : 43 ح138 ; إزاحة العلّة في معرفة القبلة : 2 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
(3) علل الشرائع : 415 ب156 ح2 ; التهذيب 2 : 44 ح139 ; الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 ح1 .
(4) التهذيب 2 : 44 ح140 ; الوسائل 4 : 304 . أبواب القبلة ب3 ح2 .
(5) الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 62 ـ 63 ; المبسوط 1 : 77 ـ 78 ، الجمل والعقود : 61 .
(الصفحة199)
نحو لا يكون مستقبلا إلى الكعبة ، كأن صلّى متوجّهاً إلى زاوية من المسجد ، فأفتى فيه بوجوب مراعاة الكعبة ، وعليه فيمكن أن يدّعى الاجماع(1) على خلاف مضمون هذه الروايات ، بل كاد أن يكون ضروريّاً .
ثمّ إنّه لا تعارض بين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الكعبة قبلة للمسلمين ، وبين قوله تعالى : {وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}(2) حيث أمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام ، لأنّ المراد بالمسجد في الآية هي الكعبة ، والتعبير عنها به باعتبار قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار ، لأنّ المسجد الحرام قد توسّع في الأزمنة المتأخّرة .
وليس المراد بالكعبة هو خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء ، بل المراد به هو البناء وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء ، كما هو ظاهر رواية عبدالله بن سنان ، أنّه سأل فيها رجل عن صحّة صلاة صلّى فوق أبي قبيس والكعبة واقعة تحته؟ فقال(عليه السلام) : «نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء»(3) . وهل يكفي التوجّه إلى حجر إسماعيل أم لا؟ المنقول عن جماعة هو الكفاية(4) لكنّ الظاهر عدمها ، لأنّ المتبادر من البيت هو البناء المربع والحجر خارج عنها .
هل المراد بوجوب التوجّه إلى الكعبة وجوب التوجّه إليها بجميع مقاديم البدن أم يكفي توجّه الوجه خاصّة مع خروج طرف الأيمن أو الأيسر؟ وجهان ، بل قولان :
(1) راجع كشف اللثام 3 : 128 ـ 129 .
(2) البقرة 2 : 144 .
(3) التهذيب 2 : 383 ح1598 ; الوسائل 4 : 339 . أبواب القبلة ب18 ح1 .
(4) نهاية الاحكام 1 : 392 ; تذكرة الفقهاء 3 : 22 مسألة 144 ; الذكرى 3 : 169 ; كشف اللثام 3 : 129 ; مستند الشيعة 4 : 161 ; جواهر الكلام 7 : 326 .
(الصفحة200)
من أنّ المذكور في قوله تعالى : {وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} هو الوجه خاصّة ; ومن أنّ الوجه المذكور في الآية الشريفة لا خصوصية فيه ، بل هو كناية عن مقاديم البدن ، كما يظهر من صدر الآية ، حيث ذكر فيها {فلنولينّك قبلة ترضيها}(1) فنسب التولية إلى المخاطب دون الوجه .
هذا ، ولا يبعد أن يقال بكفاية توجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ، ولا يلزم توجّه جميع المقاديم حتى ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه كالكتف الأيمن أو الأيسر ، لأنّ العرف يفهم من توجّه الوجه إلى شيء أنّ الوجه بوضعه الطبيعي متوجّه إلى ذلك الشيء ، وتوجّهه في هذه الحالة يكون ملازماً لتوجّه المقاديم التي يحاذيه . فالآية الشريفة الآمرة بتولية الوجه نحو الكعبة لا تدلّ على أزيد ممّا ذكرنا ، ومع فرض الشكّ يرجع إلى أصالة عدم وجوب توجّه أزيد من هذا المقدار .
ثمّ إنّه بعدما ظهر ممّا ذكرنا ـ أنّ العبرة بتوجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ـ يقع الكلام في أنّه هل يتحقّق هذا المقدار بخروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء الوجه إلى الكعبة ، أو لا يحصل بذلك ، بل يلزم أن يخرج ذلك الخطّ من وسط الوجه؟ ومنشأ الإحتمالين أنّ سطح الوجه ليس على نحو تخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية كسطح واحد ، بل هو على التقريب يكون ربع الدائرة .
ومن المعلوم أنّ الخطوط المستقيمة الخارجة من كلّ جزء من أجزاء الدائرة ليست على نحو التوازي ، فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إليها دون جزء آخر ; فعلى هذا يقع النزاع في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء هل هو بأن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إلى
(1) البقرة : 144 ، 150 .
|