(الصفحة201)
ذلك الشي ، أو أنّه يتوقّف صدق هذا المفهوم على خروج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليه ، فلا يتحقق تولية الوجه إلى الكعبة إلاّ إذا خرج خط مستقيم من وسط الوجه إليها ، وإن كانت الخطوط الخارجة من طرف يسار الوجه أو يمينه قد تصل إلى مكان واقع في طرف يسار الكعبة أو يمينها بعيدة منها بفراسخ؟
لا يبعد أن يقال بأنّ توجّه الوجه نحو شيء لا يتحقّق عند العرف إلاّ إذا خرج من وسطه خطّ إليه ، ولا يكفي مجرّد وصول الخط الخارج من طرف يسار الوجه أو يمينه ، واحتمال أنّه يعتبر في تحقّق الاستقبال إلى الكعبة مثلا خروج خطّ مستقيم من كل جزء من أجزاء الوجه متواز مع الخطّ الآخر على نحو يحدث بين محلّ تقاطع الخطّ الخارج ، والمحلّ الذي يخرج منه زواية قائمة في غاية البعد بل ممّا يقطع بخلافه . لأنّ ذلك فرض مستحيل كما هو محسوس ، نعم يمكن هذا الفرض مع حدوث زاوية حادّة .
وكيف كان فالظاهر أنّ تولية الوجه المأمور بها في قوله تعالى : {فولّوا وجوهكم شطره} يكون المراد بها هي تولية بعض الوجه على نحو عرفت ، لتحقّقها بنظر العرف بتولية بعضه ، نعم لا يكفي مجرّد وصول الخطّ الخارج من أحد طرفيه كما عرفت .
هنا مسائل :
المسألة الاُولى : ما المراد من جهة الكعبة؟
اختلف الفقهاء رضوان الله عليهم ـ بعد الإتّفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة ، أو الحرم ، أو جهة الكعبة ،
(الصفحة202)
فذهب إلى الأوّل جماعة من العامّة(1) والخاصّة ، وأكثر المتأخّرين(2) ، وإلى الثاني الشيخ في أكثر كتبه(3) ، وإلى الثالث جماعة من المحققين ، بل هو المشهور بين الفقهاء(4) .
ثمّ اختلف القائلون ـ بأنّ قبلة البعيد هي جهة الكعبة ـ في المراد من الجهة ، ففي المعتبر : أنّها السمت الذي فيه الكعبة(5) ، ولعلّ المراد من السمت إحدى الجهات السّت ، فإنّ الشخص إذا أحاطت به دائرة ، ووقع في مركزها يكون كلّ ربع من الدائرة إحدى الجهات الأربع لذلك الشخص من اليسار واليمين ، والأمام والخلف ، فالمراد بالسمت هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه ، فيكفي بناء عليه توجّه الوجه نحو ذلك الربع .
وفي المحكي عن نهاية الأحكام : إنّها ما يظنّ به الكعبة حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصح(6) . وفي التذكرة : انّها ما يظنّ أنّه الكعبة حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصح(7) . وفي الذكرى والجعفرية : إنّها السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه لا مطلق الجهة(8) ، ولعل ذكر الظنّ مستدرك ، لأنّ الجهة هي السمت الذي فيه الكعبة ، فإن
(1) الاُم 1 : 94 ; المجموع 3 : 192 و 208 ; بداية المجتهد 1 : 162 .
(2) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3 : 29 ; المقنعة : 95 ; الغنية : 68 ; الوسيلة : 85 ; المهذّب 1 : 84 ; المختصر النافع : 23 ; القواعد 1 : 25 ; المنتهى 1 : 217 ; البيان : 53 ; المعتبر 2 : 65 ; جامع المقاصد 2 : 49 ; مستند الشيعة 4 : 151 المسألة الاُولى ; جواهر الكلام 7 : 331 ـ 332 .
(3) النهاية : 63 ; المبسوط 1 : 77 ; الخلاف 1 : 295 مسألة 41 .
(4) الكافي في الفقه : 138 ; السرائر 1 : 204 ; المهذّب البارع 1 : 306 ; روض الجنان : 189 ; المسالك 1 : 151 ; رياض المسائل 3 : 111 ; مدارك الأحكام 3 : 119 .
(5) المعتبر 2 : 65 .
(6) نهاية الأحكام 1 : 392 .
(7) تذكرة الفقهاء 3 : 7 .
(8) الذكرى 3 : 160 ; ونقله عن الجعفرية في مفتاح الكرامة 2 : 75 .
(الصفحة203)
علم بذلك السمت فهو ، وإلاّ فيكفي فيه الظن ، فتنطبق هذه التعاريف الثلاثة على ما فسّرت به في المعتبر .
وفي جامع المقاصد(1) : إنّ جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوّز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة ، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه .
وفي الروضة : إنّها السمت الّذي يحتمل كونها فيه ، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعية(2) . ولعل هذا التعريف مأخوذ من جامع المقاصد .
ومرجع بعض هذه التعاريف المذكورة وغيرها من التفاسير إلى أنّ المراد من الجهة هي قطعة من الدائرة المفروضة التي وقعت الكعبة في جزء منها ، ويعلم بعدم خروج الكعبة عنها ، ويتساوي احتمال وجودها بالنسبة إلى كلّ جزء من القطعة المذكورة ، فيكفي توجّه الوجه نحو القوس الذي يحتمل في كلّ جزء منه وجود الكعبة ; وهذا المعنى يختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين ، من حيث أنّه قد يعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة ، وقد يعلم بوجودها في أزيد أو أنقص من هذا المقدار ، وحينئذ فيتوجّه عليه الإشكال بأنّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعي لا ارتباط له بحال المكلف ، من حيث العلم والجهل ، لأنّ الكلام في الحكم الواقعي الذي جعل لجميع المكلّفين ، والآية الشريفة(3) أيضاً ناظرة إليه ، والحكم الواقعي هو الذي جعل للناس مع قطع النظر عن حالاتهم من حيث العلم والجهل ، وحينئذ فالتفسير المذكور لا يناسبه ، بل يناسب الحكم الظاهري .
وأغرب التعاريف ما نقله صاحب الجواهر(قدس سره) عن الفاضل المقداد والمحقّق
(1) جامع المقاصد 2 : 49 .
(2) الروضة البهيّة 1 : 190 .
(3) البقرة : 144 ، 150 ; فولّ وجهك . . .
(الصفحة204)
الثاني في شرح الألفية ـ وذهب إليه الشيخ بن فهد(1)ـ من أنّ جهة الكعبة التي هي القبلة للبعيد خطّ مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب ، ويمرّ بسطح الكعبة ، ويعتبر أن يخرج من موقف المصلّي خطّ مستقيم آخر واقع على الخط المذكور على نحو يحدث بين جنبيه زاويتان قائمتان ، فلو كان الخطّ الخارج من موقف المصلّي واقعاً على الخطّ المذكور بحيث يحدث زاويتان : إحداهما حادّة ، والاُخرى منفرجة ، لا يتحقّق التوجّه نحو الكعبة ولم يكن المصلّي مستقبلا إليها(2) .
وجه الأغربية أنّه لو كان موقف المصلّي قريباً إلى المشرق مثلا وعلم بفعل المعصوم أو غيره أنّ الكعبة واقعة قريب المغرب ، يلزم على هذا بطلان صلاته لو توجّه نحو الكعبة ، لأنّ الخط الذي يخرج من موقف المصلّي ويقع على الكعبة ليس بحيث يحدث بين طرفيه زاويتان قائمتان ، بل تحدث من طرف اليمين زاوية منفرجة ومن اليسار زاوية حادّة ، وبطلان التالي ضروريّ ، فليس هذا التعريف ممّا يمكن أن يعتمد عليه .
والذي يقوى في النظر في تعريف الجهة ، هو الذي ذكره المحقّق في المعتبر واختاره(3) وقد سبق ، ويمكن أن يقال في تقريبه : إنه وإن كان يتوقّف تحقّق توجّه الوجه إلى شيء على خروج خط مستقيم من وسط الوجه ووقوعه على ذلك الشيء ، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى القريب ، وأمّا البعيد فيكفي فيه مجرّد خروج خط مستقيم من جزء من أجزاء وجهه إليه وإن لم يكن من وسطه ; للزوم الحرج في المقام لو أوجبنا خروج ذلك الخط من وسط الوجه وهو منفيّ شرعاً .
ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا صلاة إلاّ إلى
(1) المهذّب البارع 1 : 307 .
(2) جواهر الكلام 7 : 336 .
(3) المعتبر 2 : 65 .
(الصفحة205)
القبلة» قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(1) . وصحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(2) .
توضيحه : إنه ليس المراد من المشرق والمغرب المذكورين في هاتين الروايتين منتهى الخط الذي يخرج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة ، بل المراد منهما كلّ ما يصدق عليه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ، ومن المعلوم أنّ لها مشارق ومغارب مختلفة تطلع كلّ يوم من أحدها وتغرب في أحدها ، مثلا تطلع أوّل الشتاء من نقطة قريبة إلى الجنوب ، وأوّل الصيف من نقطة قريبة إلى الشمال ، فالنقاط الفاصلة بين هاتين النقطتين كلّها مشرق للشمس .
وحينئذ فالقبلة التي هي ما بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم ، وهذا المقدار مساو لربع الكرة تقريباً، فالقبلة بمقتضى الروايتين هو ربع الكرة، وهذاالمقداريساوي ما ذكرنا، لأنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه على نحو غير التوازي لا يكون انتهاء البعد بينها أزيد من ذلك المقدار ، فلا محالة تقع إحدى الخطوط الخارجة على الكعبة.
ويؤيّده أيضاً ما دلّ من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع الاشتباه وتعذّر الترجيح(3) ، فإنّ ظاهرها أنّ مع الإتيان بالصلوات الأربع يكون
(1) الفقيه 1 : 180 ح 885 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح 2 .
(2) الفقيه 1 : 179 ح846 ; التهذيب 2 : 48 ح157 ; الإستبصار 1 : 297 ح1095 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح1 .
(3) الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب8 .
(الصفحة206)
المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة واقعاً ، وهذا يتم بناءً على ما ذكرنا ، وإلاّ فبناءً على اعتبار خروج الخط من وسط الوجه يلزم أن يصلّي أكثر من ذلك المقدار ; والحاصل أنّه لو خرج من جزء من أجزاء وجه البعيد خط مستقيم ووقع على الكعبة يصدق عليه أنّه متوجّه شطرها ، فتنطبق عليه الآية الشريفة(1) .
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله)(2) القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم ، استند لذلك بأخبار تدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد ، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم ، والحرم قبلة لأهل الدنيا ; وقد تقدّم أكثرها(3) ، ورجّحها على الأخبار الدالة على أنّ الكعبة قبلة لجميع المسلمين بوجه عقلي ، وهو أنّه لو كان قبلة البعيد هي عين الكعبة يلزم بطلان صلاة بعض الصف الذي كان طوله أزيد من طول الكعبة ، وبطلان التالي معلوم بالضرورة . وقد يقال : بأنّ هذا الإشكال وارد عليه أيضاً ولكن يمكن أن يناقش فيه بأنّ الشيخ(قدس سره) يتمسّك في بطلان التالي بالسيرة المستمرّة من زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا ، وهي غير متحقّقة في ما أشكل عليه كما لا يخفى .
والحقّ في الجواب عنه أن يقال : إنه يمكن الالتزام بأنّ القبلة هي عين الكعبة مع عدم لزوم البطلان في الصورة المفروضة ، لأنّ الصف المذكور إذا راعوا كلّهم رعاية صحيحة وتوجّهوا نحو الكعبة على طبق الأمارات التي عيّنت لهم شرعاً كان لصفّهم لا محالة إنحناء غير محسوس ، والخطوط الخارجة من كلّ واحد منهم إلى الكعبة غير متوازية .
والسرّ في عدم احساس الانحناء هو أنّ المصلّين إلى القبلة يقعون في الحقيقة في محيط دائرة أحاطت بالكعبة ووقعت في مركزها ، ومن المعلوم أنّه كلّما كان طول
(1) البقرة : 144 ، 150 ، فولّ وجهك . . .
(2) المبسوط 1 : 77 ; الخلاف 1 : 295 مسألة 41 ; النهاية : 63 .
(3) الوسائل 4 : 303 . أبواب القبلة ب3 .
(الصفحة207)
شعاع الدائرة أزيد مقداراً كانت القسى المنقطعة عن سائر أجزاء محيطها أشبه بالخطّ المستقيم ، بحيث قد يبلغ إلى درجة لا يحسّ الانحناء أصلا .
ثمّ إنّه ذهب إلى القول الأوّل جماعة من محقّقي المتأخّرين كصاحب الجواهر(قدس سره)فإنّه بعد أن حكى عن الأصحاب أقوالا مختلفة ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة أو جهتها؟ ـ قال ما ملخّصه :
إنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب ، فكما أنّ القريب المشاهد يجب أن يستقبل عين الكعبة ، فكذلك البعيد يجب أن يتوجه نحوها ، وهذا المعنى ـ أي التوجه نحو العين ـ ليس أمراً ممتنعاً ، لأنّه كما يصدق الاستقبال في المشاهد كذلك يصدق في البعيد ، لأنّه لا يعتبر في صدقه وقوع خطّ المستقبل ـ بالكسر ـ على المستقبل ـ بالفتح ـ ، لأنّ الاستقبال الذي أمر به أمر عرفيّ ، وهو يصدق عرفاً بدون ذلك ، ضرورة تحقّقه عرفاً في الأجرام المشاهدة من بعيد ، وإن نقطع بعدم اتصال جميع الخطوط الخارجة بها .
والحاصل أنّه وإن كان يتوقّف صدق الاستقبال الحقيقي على ذلك ، أي على وقوع خطّ المستقبل على المستقبل ، إلاّ أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال العرفي لما عرفت ، وإلى ذلك يرجع ما هو المشهور بين الأعلام من أنّ الجسم كلّما ازداد بُعداً إزداد محاذاةً ، لأنّهم لا يريدون أنّ في صورة ازدياد البعد يكون صدق المحاذي الذي يقع خطّه على المحاذى ، أوسع من صورة القرب ، لأنّ وقوع خط المحاذي على المحاذى وعدمه لا فرق فيما بين محاذاة القريب والبعيد ، بل مرادهم أنّ في صورة كثرة البعد يكون صدق المحاذي على الأشخاص الذين وقعوا في مقابل الجسم في نظر العرف أكثر وأوسع من صورة القرب .
فعلى هذا لا إشكال في صحّة الصلاة في الصورة المفروضة في كلام الشيخ(قدس سره)لأنّه يصدق عرفاً على كلّ واحد منهم أنّه مستقبل الكعبة ومتوجّه نحوها ، وإن كان
(الصفحة208)
بعض الخطوط الخارجة لا يقع عليها(1) ، انتهى .
وفيه أنّ استقبال الشيء لا يصدق بدون اتصال الخطّ المذكور إلى ذلك الشيء ، وصحّة الصلاة في الصورة المذكورة قد عرفت وجهها في مقابل الجواب عن الشيخ(رحمه الله) .
ثمّ لو قلنا بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة ، يقع الكلام في وجه صحّة صلاة من كان في بلاد مختلفة التي يكون البعد بينها أزيد من طول الكعبة ، أو في بلد كذلك مع توجّهم في الصلاة إلى جهة واحدة ، فهل الوجه في صحّتها أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال عرفاً وقوع خط المستقبل على المستقبل ، وإن كان يتوقّف تحقّق المحاذاة على ذلك ، أو أنّه لا فرق بين الاستقبال والمحاذاة ، فكما أنّه لا يعتبر في الأوّل فكذلك لا يتوقّف صدق الثاني عليه ، وإن كان يعتبر في محاذاة القريب للقريب ذلك .
والأوّل قد عرفت ما فيه ، والثاني وإن كان قد استشهد عليه بالوجدان وقيل في توضيحه : إنّك لو كنت في موقف قريب من الصفّ المركّب من أفراد كثيرة ، ووقعت في محاذاتهم ، لتجد نفسك محاذياً لواحد منهم ، وإذا بعدت عنهم على نحو لو خرج من موقفك الأوّل خط مستقيم لوقع على موقفك الثاني لتجد نفسك محاذياً لجميعهم ، وإن كان الخط الخارج من وجهك لا يقع إلاّ على وجه واحد منهم ، وهو الذي عبّر عنه الأعلام في كلماتهم بأنّ الجسم كلّما ازاد بعداً إزداد محاذاةً(2) .
والحاصل أنّ المحاذاة أمر واحد متفاوت الصدق بالنسبة إلى القريب والبعيد ، ولكن فيه ـ مع أنّ هذا المثال عكس ما نحن فيه ـ : أنّ ازدياد البعد عن ذلك الصف يوجب أن يكون الصفّ كالشيء الواحد في نظر المحاذي ، ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد لو وقع الخط الخارج من المستقبل على بعض أجزائه لا يخرج عن صدق
(1) جواهر الكلام 7 : 331 ـ 332 .
(2) الذكرى 3 : 160 ; نهاية الأحكام 1 : 393 ; مسالك الأفهام 1 : 152 .
(الصفحة209)
المحاذاة ، فالخطّ الخارج في المثال من المحاذى وإن كان يقع على بعض أفراد ذلك الصف إلاّ أنّه لمّا كان بمنزلة شيء واحد ويكفي في محاذاته وقوع الخط على بعض أجزائه ، فلذا تصدق المحاذاة لذلك الصفّ .
ويمكن أن يكون الوجه في ازدياد سعة المحاذاة بالنسبة إلى البعيد أنّ الشخص لو كان قريباً من ذلك الصفّ ليقع جميع الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على بعض أفراد ذلك الصف ، وأمّا لو كان بعيداً عنهم ليقع الخطوط الخارجة على تمام أفراده ; والسّر فيه ما تقدّم من أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليس على نحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد ، كان ازدياد البعد بينها أكثر ، وفي البعيد لمّا كان طول الخطوط الخارجة أزيد من القريب فلذا يكون البعد بينها أكثر ، ومع ازدياد البعد لا يقع جميع الخطوط على بعض الأفراد ، بل على جميعها .
هذا . ولعلّ الوجه في صحّة الصلاة في مفروض المسألة ـ بناءً على اعتبار العين ـ هو ما تقدّم في وجه صحّة صلاة الصفّ الذي كان طوله أزيد من الكعبة فراجع .
إذا عرفت ما ذكرنا تظهر لك أوسعية أمر القبلة ، كما يدل عليه ما رواه الشيخ بإسناده عن الطاطري ، عن جعفر بن سماعة ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال : سألته عن القبلة؟ فقال(عليه السلام) : «ضع الجدي في قفاك وصلّ»(1) فإنّ المراد من القفا إمّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين ، أو المقدار الذي وقع ظهر الوجه وهو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق ، وطرفي اليمين واليسار .
وعلى أيّ تقدير فجعل الجدي على القفا في أوساط العراق كالكوفة يحتاج إلى
(1) التهذيب 2 : 45 ح143 ; الوسائل 4 : 306 . أبواب القبلة ب5 ح1 .
(الصفحة210)
الإنحراف عن نقطة الجنوب إلى المغرب ، والتخصيص بأوساط العراق لأجل أنّ السائل ـ وهو محمّد بن مسلم ـ من أهل الكوفة .
وما رواه الصدوق قال : قال رجل للصادق(عليه السلام) : إنّي أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة بالليل ، فقال : أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي؟ قلت : نعم . قال : «إجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك»(1) .
ولا يعلم منه أنّ السائل من أهل أيّ بلد كان وجعل الجدي على اليمين قد ينطبق على بعض بلاد الهند ، وهو لا ينطبق مع جعلهم الجدي في طريق الحجّ على كتفهم ، فإنّ طريق حجهم يكون من البحر ، وفي هذا الطريق لا يتفاوت قبلتهم مع كونهم في بلدهم ، اللّهم إلاّ أن يكون طريق حجّهم من البرّ فينطبق مع الأوّل ، والمراد بطريق الحجّ هو الطريق الذي لا يقصد غالباً بطيّه غير الحجّ ، وتخصيص السائل عدم اهتدائه بالليل يشعر بأنّه يعرف القبلة في النهار بالشمس أو غيرها .
ورواية معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : «قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة»(2) .
ورواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» . قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه»(3) فإنّ المراد بما بين المشرق والمغرب المذكور فيهما إمّا ما ذكرنا من أنّه المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ، ولو في يوم في كلّ سنة ، فإنّ لها مشارق
(1) الفقيه 1 : 181 ح860 ; الوسائل 4 : 306 . أبواب القبلة ب5 ح2 .
(2) الفقيه 1 : 179 ح846 ; التهذيب 2 : 48 ح157 ; الاستبصار 1 : 279 ح1095 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح1 .
(3) الفقيه 1 : 180 ح855 ; الوسائل 4 : 314 . أبواب القبلة ب10 ح2 .
(الصفحة211)
ومغارب مختلفة ، وباختلافهما تختلف المدارات التي تسير الشمس فيها ، فعلى هذا تكون القبلة ربع الدائرة المفروضة التي تمرّ بسطح الكعبة .
وأمّا ما هو المفهوم منهما عند العرف فإنّه لا يتوجّه إلى أنّ للشمس مشارق ومغارب مختلفة ، بل يفهم منهما الطرفين اللذين يتقاطع الخطّ الخارج منهما مع الخط الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب ، فعلى هذا تكون القبلة نصف الدائرة المذكورة تقريباً .
وعلى أيّ تقدير فتدل الروايتان على أوسعية القبلة ، إلاّ أنّ المعنى الثاني غير مفتى به لأحد من الأصحاب . هذا ، ويمكن أن يقال : إنّه ليس المراد بقول الإمام(عليه السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» إنّه قبلة لجميع الأشخاص في تمام الحالات حتى يدل على أوسعية دائرة القبلة مطلقاً ، بل المراد أنّه قبلة في الجملة .
توضيحه ، إنّ الإمام(عليه السلام) ذكر في رواية زرارة أنّه «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» ومعناه أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على فعل من كان مستقبلا إلى غيرها فسأل الراوي عن حدّ القبلة التي لو كان المصلّي متوجّهاً نحوها لصدق على فعله أنّه صلاة فقال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» فقوله هذا بيان لحدّ صدق الصلاة ، وذلك قضية مجملة لا تدلّ على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات ، فيمكن أن يختصّ ذلك بحال الإشتباه أو خطأ المجتهد في إجتهاده أو غيرهما من الأعذار .
وبالجملة : فمفاد الرواية صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب ، وأمّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد فلا يستفاد منها أصلا ، والشاهد على ذلك ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته ،
(الصفحة212)
قال : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه ساعة يعلم ، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحوّل وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة»(1) فإنّ ظاهر هذه الرواية أنّ القبلة التي لو كان المصلّي عالماً بها من أوّل صلاته لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، هي الأخصّ ممّا بين المشرق والمغرب ، والمراد بدبر القبلة ليس هي النقطة المقابلة لها ، بل المراد به بقرينة سابقه هو الذي لايكون مشرقاً ولا مغرباً ولا بينهما ; وما رواه عبدالله بن جعفر في قرب الإسناد عن ا لحسن بن ظريف ، عن الحسين بن علوان ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عن عليّ(عليهم السلام) أنّه كان يقول : «من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب»(2) . وتقريب دلالتها على ذلك يعلم ممّا ذكر آنفاً .
ثمّ إنّه قد روى نظير هاتين الروايتين بعض العامّة عن ابن عمر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) ، والمترائى من الناقلين أنّها معمول بها عندهم ، ولذا حملوها على المناطق التي وقعت في شمال مكّة كالمدينة ونحوها .
وممّا يؤيّد أيضاً ما ذكرنا من أوسعية دائرة القبلة ، ما ذكره المحقّق في الشرائع(4)علامة لأهل العراق من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن أو جعل المشرق على الأيمن والمغرب على الأيسر ، فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف فإنّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة
(1) الكافي 3 : 285 ح8 ; التهذيب 2 : 48 ح159 وص142 ح555 ; الإستبصار 1 : 298 ح1100 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب القبلة ب10 ح4 .
(2) قرب الإسناد : 107 ح381 ; الوسائل 4 : 315 . أبواب المواقيت ب10 ح5 .
(3) السنن الكبرى ج2 : 9 .
(4) شرائع الاسلام 1: 66.
(الصفحة213)
الاُولى يلزم عليه أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب بقليل لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق ، ولو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد لزم أن ينحرف كثيراً .
وأمّا لو عمل على طبق الأمارة الثانية لزم الإنحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار ، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الإنحراف المذكور ، وأمّا لو راعى العلامة الثالثة فاللازم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب .
فظهر أنّ مقتضى هذه العلامات لا يكاد يجتمع ، وعدم الاجتماع مع كونها علامة لأهل بلد واحد دليل على ما ذكرنا ، إلاّ أن يقال إنّ هذه الأمارات ليست علامات لجميع أهل العراق بل يختصّ كلّ واحدة منها ببلد منه ، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة ، والثانية لأطرافه الغربية كسنجار ، والثالثة لأطرافه الشرقية كالبصرة وما والاها ، ولكن يبعد ذلك عدم القرينة على التخصيص ، مضافاً إلى وجود القرينة على الخلاف ، وهي أنّ قبلة الأطراف الغربية من العراق كالموصل ، هي نقطة الجنوب دون الإنحراف عنها إلى جانب المشرق .
وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ قبلة البعيد هي ربع الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة ، وتقع الكعبة في جزء منها ، فيكفي توجّه المستقبل نحو ذلك الربع ، وهو الربع الذي يكون محاذياً للأمام الذي هي جهة من الجهات الأربع ، فإنّ الشخص إذا وقف في مركز دائرة ، يكون كلّ ربع من هذه الدائرة محاذياً لربع دورة رأسه ، فيكفي محاذاة ربع دورة الرأس المسمّى بالوجه لربع الدائرة الكبيرة التي وقع الشخص في مركزها ، وهو الربع الذي يكون مشتملا على الكعبة ; فافهم واغتنم .
(الصفحة214)
المسألة الثانية : كفاية العمل بالمظنّة في القبلة
لو علم المستقبل بالجهة التي وقعت الكعبة فيها بسبب الأمارات التي عيّنت شرعاً لتعين القبلة أو بغيرها ، وجب عليه العمل على طبقه .
ودعوى أنّ تلك الأمارات لا تفيد العلم بالقبلة بل تورث الظنّ بها .
مدفوعة بأنّا لا نسلّم ذلك إذا كانت القبلة للبعيد هي الجهة بالمعنى المذكور ، فإنّها بناءً عليه تفيد العلم قطعاً . نعم لو كانت القبلة هي عين الكعبة ، فالتحقيق أنّها تفيد الظن بها كما عن الشهيد الثاني وغيره(1) ، ولو لم يعلم بتلك الجهة كما إذا كانت الشمس في النهار ، أو القمر وسائر النجوم في الليل مستورة تحت غيم ونحوه ، ولم يتميّز قطب الشمال أو الجنوب ، ففي كفاية العمل بالمظنة أو عدمها خلاف .
ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في هذا المقام ، فطائفة منها تدل على كفاية العمل بالظن ، مثل ما رواه الكليني في الصحيح عن زرارة قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «يجزئ التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) فإنّ لفظ التحرّي قد اُطلق على العمل على طبق الراجح ، فإنّه هو الأحرى من العمل بالمرجوح ، كما هو المتداول في تلك الأزمنة .
والمراد بالاجزاء إمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى مقام العمل ، بمعنى أنّه يجوز للمكلّف في مقام العمل أن يعتمد على الظنّ ويعمل على طبقه ، وحينئذ فلا
(1) مسالك الأفهام 1 : 156 ; الروضة البهيّة 1 : 192 ; الذكرى 3 : 162 ; جامع المقاصد 2 : 69 ; مدارك الأحكام 3 : 131 ـ 132 .
(2) الكافي 3 : 285 ح7 ; التهذيب 2 : 45 ح146 ; الاستبصار 1 : 295 ح1087 ، الوسائل 4 : 307 . أبواب القبلة ب6 ح1 .
(الصفحة215)
تعرّض في الرواية لحال المكلّف بعد انكشاف الخلاف .
وإمّا أن يكون هو الاجزاء بالنسبة إلى الواقع ، ومعناه أنّه يكفي ذلك واقعاً كصورة العلم بالقبلة ، فيجزي العمل على طبق المظنة ، ولو انكشف الخلاف وهو الظاهر من الرواية .
ثمّ إنّ فيها إشعاراً بأنّ عدم العلم بالقبلة أمر قد يتّفق وهو مؤيّد لما ذكرناه من أنّ قبلة البعيد هي الجهة دون العين ، إذ لو كانت قبلة البعيد هي العين لزم أن تكون صورة عدم العلم أكثر من صورة العلم كما لا يخفى ; ومثل رواية سماعة قال : سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال(عليه السلام) : «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك»(1) . فإنّ الرأي هو المشي على طبق الظنّ .
وجملة من الأخبار تدل على كفاية الصلاة إلى إحدى الجوانب الأربع للمتحيّر ، مثل ما رواه زرارة ومحمّد بن مسلم عن أبي جعفر(عليه السلام) إنّه قال : «يجزئ المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة»(2) . ومرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ، عن زرارة قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عن قبلة المتحيّر؟ فقال : «يصلّي حيث يشاء»(3) فإنّ ظاهرهما كفاية الصلاة إلى أيّ جهة شاء المصلّي المتحيّر .
والمراد بالمتحيّر إمّا من لا علم له كما يدل عليه ذيل الرواية الاُولى فيشمل صورة المظنة أيضاً ، وحينئذ فيتحقق التعارض بينهما وبين الروايتين المتقدمتين الدالتين على وجوب العمل بالظن ، وقاعدة الجمع حينئذ تقتضي التخصيص وحمل
(1) الكافي 3 : 284 ح1 ; التهذيب 2 : 46 ح147 وص255 ح1009 ، الإستبصار 1 : 295 ح1089 ; الوسائل 4 : 308 . أبواب القبلة ب6 ح2 .
(2) الفقيه 1 : 179 ح845 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح2 .
(3) الكافي 3 : 286 ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح3 .
(الصفحة216)
هاتين الروايتين على المتحيّر غير الظانّ ، وإمّا أن يكون هو من لا علم له ولا ظنّ ، كما هو الظاهر من المتحيّر ، فإنّ من كان ظانّاً بشيء لا يكون عند العقلاء والعرف متحيّراً في ذلك الشيء ، فعلى هذا لا تعارض بين الطائفتين ، بل تكون الطائفة الاُولى واردة على الثانية ، والظاهر من الروايتين هو الإحتمال الثاني ، فإنّ من كان ظانّاً بالقبلة وصلّى إلى الجانب الموهوم ، يعدّ فعله عند العقلاء قبيحاً ، فإنّه من ترجيح المرجوح على الراجح ، هذا .
وبعض الأخبار الواردة في الباب يدلّ على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب ، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب ، عن العبّاس ، عن عبدالله بن المغيرة ، عن إسماعيل بن عبّاد ، عن خراش ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قلت : جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : «ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ لأربع وجوه»(1) .
ومقتضى هذه الرواية وجوب الصلاة لأربع وجوه في مورد المظنة ، فتعارض جميع الروايات المتقدّمة ، ولكنّها موهونة من جهة مجهولية بعض رواته كخداش [حراش ] ، ومن جهة الإرسال ، مضافاً إلى أنّ مقتضى ظاهرها أنّ الشيعة لا يعمل على طبق الظنّ أصلا ولو في مورد ، مع أنّه خلاف ما عليه جميع علمائهم من العمل بالظنّ في موارد كثيرة ، كالظنّ في الركعتين الأخيرتين في الصلاة ، وغيره من الموارد ; فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الرواية .
ولم يبق معارض للطائفة الاُولى من الأخبار الدالة على وجوب العمل بالمظنة إلاّ بعض ما يدل من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب عدا الرواية
(1) التهذيب 2 : 45 ح144 ; الإستبصار 1 : 295 ح1085 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح5 .
(الصفحة217)
المتقدّمة ، وهي مرسلة الصدوق قال : روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة «أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب»(1) . ومرسلة الكليني قال : وروي أيضاً «أنّه ـ أي المتحير ـ يصلي إلى أربع جوانب»(2) .
ومقتضى الجمع أن يقال : إنّ الطائفة الاُولى من الأخبار تكون أخصّ من المرسلة الاُولى لو كان المراد بعدم الإهتداء هو عدم الإهتداء علماً ، فيجب تخصيصها بها ، ولو كان المراد به عدم الإهتداء ولو ظنّاً فلا تعارض بينهما .
وأمّا المرسلة الثانية فموردها المتحيّر ; وقد عرفت الجمع بين الأخبار الواردة في المتحير والأخبار الدالة على وجوب التحرّي والعمل بالظنّ ، فراجع .
نعم تبقى المعارضة بين نفس الأخبار الواردة في المتحيّر وسيجيء حكمه .
هذا كلّه فيما إذا تمكّن المصلّي من تحصيل الظنّ ، وأمّا إذا لم يحصل له العلم ولا الظنّ ، بل كان متحيّراً في جهة الكعبة ، فمقتضى بعض الأخبار كرواية زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في الفقيه ، ومرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة المروية في الكافي . أنّه يجزي المتحرّي أينما توجّه ، وإلى أيّ جهة شاء ، ومقتضى مرسلتي الصدوق والكليني المتقدّمتين أيضاً وجوب الصلاة إلى أربعة جوانب .
والروايتان الاُوليان وإن كانتا مرسلتين أيضاً إلاّ أنّ الإرسال لا يضرّ باعتبارهما ، لإنجباره بفتوى جلّ الأصحاب على طبق مضمونهما ، وكيف كان فمرجع الخبرين الأولين إلى سقوط شرطية الإستقبال في صورة التحيّر ، ومرجع الأخيرين إلى ثبوتها مطلقاً ، فيتعارضان فيسقطان ، فيرجع إلى الإطلاقات الدالة على شرطية الإستقبال مطلقاً حتّى في صورة التحيّر ، وقد تقدّم بعضها في أوّل
(1) الفقيه 1 : 180 ح854 ; الوسائل 4 : 310 . أبواب القبلة ب8 ح1 .
(2) الكافي 3 : 286 ذ ح10 ; الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح4 .
(الصفحة218)
المبحث .
ثمّ إنّ المراد بالظنّ الذي يجب العمل على طبقه هو الظن الحاصل بعد التحرّي والاجتهاد ، لا الأعمّ منه ومن الظن الابتدائي ، لظهور الأخبار في ذلك كخبر سماعة المتقدّم وغيره .
ثمّ إنّه هل يكفي في مورد المظنّة أن يصلّي إلى الجوانب الأربعة الذي هو مقتضى الإحتياط أم لا يجوز ، بل يجب العمل على طبقها؟ وجهان مبنيّان على أنّه هل يكفي للمكلّف القادر على تحصيل الإمتثال التفصيلي ولو ظنّاً أن يقتصر على الإمتثال الإجمالي أم لا ، بل يجب عليه إتيان العمل على نحو الإمتثال التفصيلي ولو ظنّاً؟ وقد ذكر في محلّه(1) فراجع .
ثمّ إنّ ما ذكرنا من أنّه تجب الصلاة إلى أربعة جوانب على المتحيّر الذي لايتمكّن من تحصيل العلم ولا الظنّ ، إنّما هو في صورة تمكّنه من الصلاة إليها ، كما إذا لم يكن الوقت مضيقاً ولم يكن عرض به ما يمنعه عنها ، وأمّا إذا لم يتمكّن من الصلاة إلى أربعة جوانب ، إمّا لضيق الوقت ، أو لشيء من الموانع والطوارئ ، فإن لم يتمكّن إلاّ من الصلاة إلى جهة واحدة فقط فيجب عليه صلاة واحدة إلى جهة واحدة مخيّراً في تعيينها ، كما يدلّ على ذلك ما دلّ على أنّ المتحيّر يصلّي إلى أيّ جهة شاء(2) ، بعد حملها على صورة عدم تمكّنه من الصلاة إلى الجوانب الأربعة ، لمعارضتها لما يدلّ على أنّه يجب على المتحيّر الصلاة إليها(3) .
وهل يجب عليه بعد التمكّن وزوال المانع أن يصلّي إلى باقي الجهات أو لا؟ وجهان مبنيّان على أنّه هل يستفاد من الروايات الدالّة على كفاية الصلاة إلى
(1) فرائد الاُصول : 14 .
(2) الوسائل 4 : 311 . أبواب القبلة ب8 ح3 .
(3) الوسائل 4 : 310 ـ 311 . أبواب القبلة ب8 ح1 و 4 .
(الصفحة219)
إحدى الجهات ـ بعد حملها على الصورة المذكورة ـ سقوط شرطية القبلة في تلك الصورة ، وانّ الصلاة الواحدة هو التكليف الواقعي لذلك الشخص ، ولو لم يصادف القبلة ، أو أنه لم يسقط شرطيتها وأنّ المكلف به ، الصلاة إلى القبلة الواقعية؟ غاية الأمر أنّه يكتفي بالواحدة ، لعدم تمكّنه من الصلاة إلى باقي الجهات ، فإذا تمكّن وزال المانع في الوقت أو خارجه يجب عليه الصلاة إلى بقية الجهات ; ولعلّ الظاهر من الرواية هو المعنى الأوّل فتدبّر .
وأمّا إذا تمكّن من الصلاة إلى جهتين أو ثلاث جهات ، ففي وجوب صلاة واحدة إلى جهة واحدة فقط ، أو وجوب مقدار تمكّن منه ، خلاف ، فالمحكيّ عن بعض هو الإكتفاء بالواحدة ، وعدم وجوب الزائدة عليها(1) ، واستدل له بأنّ وجوب الصلاة إلى الجوانب الأربعة إنّما هو مقدّمة للعلم بتحقّق الواجب الواقعي الذي هو الصلاة إلى القبلة الواقعية ، ومن المعلوم أنّ المقدّمة العلمية إنّما تجب مع تحقق العلم بعدها ، وأمّا مع عدم إمكان تحققه فغير واجبة عند العقل ، والمفروض في المقام أنّ المكلف غير قادر على الإتيان بجميع المحتملات التي توجب العلم ويتحقق بعدها .
وفيه : أنّ العلم بتحقّق الواجب الواقعي ليس واجباً مستقلاًّ في مقابل نفس الواجب الواقعي حتى تجب مقدّماته الوجودية ، واستحق المكلّف بإتيانه المثوبة ، وبمخالفته العقوبة ، اللّتين يستحقّهما المكلّف بسبب اطاعة الواجب الواقعي ومخالفته ; بل المكلّف لمّا توجّه إليه التكليف الصادر من المولى وعلم به ، يحكم العقل عليه بأنّه يجب عليك إمتثاله ، فإذا كان المكلّف قادراً على الإمتثال اليقيني يحكم عليه بوجوبه . وأمّا إذا لم يتمكّن منه فالعقل يحكم عليه بوجوب السعي ،
(1) الفقيه 1 : 179 ; وحكاه عن العمّاني في مختلف الشيعة 2 : 67 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 67 ; مدارك الاحكام 3 : 136 ; الحدائق 6 : 400 ; مفاتيح الشرائع 1 : 114 ; الذخيرة 1 : 21 .
(الصفحة220)
وتحصيل الجهد في حصول مراد المولى ومقصوده ، فإذا تمكّن من الإمتثال الظني يحكم بوجوبه عليه ، فإذا جهد وسعى غاية السعي ولم يصادف ما أتى به للواجب الواقعي فهو معذور عنده .
وفيما نحن فيه تكون غاية السعي ، إتيان مقدار يتمكّن منه من المحتملات ، لأنّ بإتيان الواحدة يحتمل أنّه لم يدرك الصلاة إلى القبلة الواقعية مع احتمال إدراكها في باقي الصلوات ، فإنّه وإن لم يتمكن من الموافقة القطعية ، وتشترك الصلاة الواحدة مع الأكثر في حصول الموافقة الإحتمالية إلاّ أنّ الموافقة الإحتمالية إذا كانت من وجوه متعددة بعضها أقرب إلى الإمتثال اليقيني من بعض آخر ، يحكم العقل بوجوب إتيان ما هو الأقرب ، نظير ما إذا علم بوجوب أحد الشيئين المتبائنين ، ولم يتمكّن من الإتيان بهما معاً .
ولكن يرجّح في نظره وجوب أحدهما على الآخر ، فإنّ العقل يستقل بترجيح الجانب المظنون ، ويحكم بأنّه لو كان الواجب الواقعي هو الطرف الموهوم لم يستحق المكلّف عقاباً بل هو معذور ; بخلاف ما إذا رجّح الجانب الموهوم ، لأنّ في الصورة الاُولى قد بذل المكلّف جهده في تحصيل مراد المولى بخلاف الثانية ، فالأقوى فيما نحن فيه هو القول بوجوب مقدار يتمكّن منه .
فرع :
إذا كان المكلّف المتحيّر متمكّناً من الصلاة إلى الجوانب الأربعة ولم يأت بشيء منها حتى زال تمكّنه ، وبقي متمكّناً من الصلاة إلى أحدها فلا ريب في وجوبها ; وهل يجب عليه بعد الوقت أن يصلّي إلى باقي الجهات أو لا؟ وجهان مبنيّان على سقوط شرطية القبلة في هذه الصورة وعدمه .
والأقوى هوالسقوط وعدموجوب القضاء بعد الوقت، لأنّه لا يزاحم شرطية
|