(الصفحة321)
ليس على نحو يكشف عن وجوده ، لأنّ أكثر المتقدّمين لم يتعرّضوا لها في كتبهم على الظاهر ، ومن تعرّض لها منهم فإنّما ذكرها في الكتب الموضوعة لذكر المسائل التفريعية لا الكتب المعدّة لنقل فتاوى الأئمة(عليهم السلام) بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، حتّى يكون ذكرها فيها كاشفاً عن وجود النصّ ، كما هو الشأن في غيرها من المسائل المذكورة فيها .
ويؤيّده أنّه لم يتخيل أحد من الطرفين وجود النص في المسألة حتى يجعله دليلا لمذهبه ، أو يرد به دليل خصمه ، فالمستند فيها إنّما هو الأصول والقواعد الشرعية كما يظهر لمن راجع كلماتهم ، وسيجيء إن شاء الله تعالى ما هو الحقّ فيها ، ولا يخفى أيضاً أنّه لا اختصاص لمورد النزاع بما يشكّ كونه من أجزاء المأكول أو من أجزاء غيره ، بل يعمّ ما إذا شكّ في كونه من أجزاء غير المأكول أو من أجزاء غيره ، ولو لم يكن من أجزاء الحيوان أصلا .
وبالجملة : محلّ البحث ما إذا كان أحد طرفي الشك كونه من أجزاء غير المأكول ، سواء كان الطرف الآخر هو كونه من أجزاء الحيوان المأكول أو من غير أجزاء الحيوان، إذ القول بالفصل بينهما في غاية الضعف . وكذا لا اختصاص لمورد البحث بما إذا شكّ في ثبوت هذا المانع وهو كونه من أجزاء غير المأكول ، بل يعمّ ما إذا شكّ في ثبوت سائر الموانع ، ككونه حريراً محضاً للرجال ، أو ذهباً خالصاً لهم ، أو غيرهما من الموانع .
ثمّ إنّ العلاّمة في المنتهى من القائلين بالبطلان في المسألة ، حيث قال في محكيه : إنّه لو شكّ في كون الصوف أو الشعر أو الوبر من مأكول اللحم لم تجز الصلاة فيه ، لأنها مشروطة بستر العورة بما يؤكل لحمه ، والشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط (1).
(1) المنتهى 1 : 231 .
(الصفحة322)
وفي كلامه وجوه من النظر :
أحدها : أنّه جعل الشرط هو الستر بما يؤكل لحمه مع أنّ الشرط هو عدم كون الصلاة في أجزاء غير المأكول ، سواء وقعت في أجزاء الحيوان المأكول أو في غير أجزاء الحيوان ، كأن صلّى في الثوب المعمول من القطن مثلا ، أو كان الساتر بعض أجزاء البدن على ما هو الحقّ كما عرفت سابقاً .
وما ربما يتوهّم من أنّ ظاهر قوله(عليه السلام) في موثقة ابن بكير المتقدمة في المسألة السابقة «لاتقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله»(1) هو اعتبار أن تكون الصلاة في أجزاء المأكول .
ففيه: مضافاً إلى عدم الدلالة كما لا يخفى أنّ اللاّزم طرحها بعدما كان المقطوع به بين الأصحاب صحة الصلاة في غير أجزاء الحيوان ، فهذه الجهة أيضاً توجب الاضطراب في الرواية كسائر الجهات المتقدمة .
ثانيها : إنّ الظاهر من كلامه أنّ اعتبار كونه من أجزاء غير المأكول إنّما هو في الساتر مع أنّه معتبر في لباس المصلّي ، سواء كان هو الساتر أو كان الساتر غيره ممّا لا يكون من أجزائه .
ثالثها : إنّه جعل اعتبار كون اللباس من غير أجزاء ما يحرم أكله من قبيل الشرطية، مع أنّ دخالته بنحو المانعية التي مرجعها إلى كون وجوده مانعاً عن انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها ، لأنّ الاعدام لا تكون مؤثّرة في شيء كما هو واضح .
ولا يخفى أنّ الخلل من الوجوه المذكورة لا يقدح فيما هو بصدده من التمسك بقاعدة الاشتغال ، لأنّه يمكن تقريرها بوجه لا يرد عليه شيء من الوجوه
(1) تقدّم في أوّل الأمر الثاني : ص311 .
(الصفحة323)
المذكورة ، بأن يقال : إنّ الشك في وجود المانع يقتضي الشك في انطباق عنوان الصلاة على المأتيّ به ، فلا يعلم حصول الامتثال والفراغ عن التكليف المعلوم ، مع أنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية .
ثمّ إنّ جماعة من أجلاء تلامذة المحقق السيد الشيرازي(قدس سره) ، ذهبوا إلى الصحة تبعاً له، واستدلّوا عليه بالبراءة العقلية ، وحكم العقل بقبح العقاب من دون بيان والمؤاخذة بلا برهان(1) ، وحيث إنّ جريان البراءة في المسألة متفرّع أولا على جريانها في الشبهة الموضوعية في التكاليف المستقلة ، فلابدّ من بيان ما هو المرجع فيها وأنّ العقل هل يحكم فيها بالبراءة وقبح العقاب أو أنّه يوجب الاحتياط؟
ولا يخفى أنّه لا يبقى مجال للقول بالصحة في هذه المسألة ، لو قلنا بوجوب الاحتياط في تلك المسألة وعدم جريان البراءة فيها ، وهذا بخلاف ما لو قلنا بجريان البراءة فيها ، فإنه لا ملازمة بينه وبين القول بالصحة كما سيظهر إن شاء الله تعالى ، فنقول :
إنّ صريح الشيخ(رحمه الله) في رسالة البراءة هو جريانها في الشبهة الموضوعية عقلا ، كجريانها في الشبهة الحكمية ، فإنه(قدس سره) بعد استناده إلى الأخبار الكثيرة التي تدل على جريان البراءة الشرعية في الشبهة الموضوعية قال :
ولكن في الأخبار المتقدّمة بل في جميع الأدلة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية ، ثمّ دفع توهّم عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، نظراً إلى تمامية البيان من قِبل الشارع ، فيجب الاجتناب عن الأفراد المحتملة ، بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلا والمعلومة إجمالا المتردّدة بين محصورين .
والأوّل لا يحتاج إلى مقدمة علمية ، والثاني يتوقف على الاجتناب من
(1) منهم السيّد الفشاركي (رحمه الله) في الرسائل الفشاركية: 393.
(الصفحة324)
أطراف الشبهة لا غير ، وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجمالي فلم يعلم من النهي تحريمه ، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرم معلوم ، فلا فرق بينها وبين الموضوع الكلي المشتبه حكمه .
وما ذكر من التوهم جار فيه أيضاً ، لأنّ العمومات الدالة على حرمة {الخبائث}(1) {والفواحش}(2) ، {وما نهاكم عنه فانتهوا}(3) ، تدلّ على حرمة اُمور واقعية يحتمل كون شرب التتن منها(4) . انتهى محلّ الحاجة من كلامه(قدس سره) .
أقول : لا يخفى أنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية في جريان البراءة العقلية في غير محلّه ، لأنّ العقل يحكم بأنّ المخالفة في الاُولى مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبودية ، وكونه طاغياً على مولاه ، دون المخالفة في الثانية .
والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الأفراد المعلومة ، كما هو ظاهر كلام الشيخ بل صريحه ، مندفع بأنّ المفروض مع قطع النظر عن الأخبار الدالة على حلية المشتبه ، أنّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه ، كيف ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه، لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه ، وهو ممّا يقطع بخلافه ، فالنهي عام والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل .
وغاية ما يمكن أن يقال في وجه جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ، ما أفاده بعض الأعلام من المعاصرين في الرسالة التي صنّفها في حكم
(1) الأعراف : 157 .
(2) الأنعام : 151 .
(3) الحشر : 7 .
(4) فرائد الاُصول : 221 .
(الصفحة325)
الصلاة في الألبسة المشكوكة حيث قال ما ملخّصه :
لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلق التكليف عنواناً اختيارياً للمكلّف قابلا لأن يتعلّق به الإرادة ، إمّا بنفسه أو بالتوسيط ، وذلك العنوان يكون على أربعة أقسام :
الأوّل : العنوان الذي يكون متعلقاً للتكليف ، بلا تعلّق له بموضوع خارجي خارج عن تحت القدرة والاختيار ، كالتكلّم والضحك والبكاء ونحوها .
الثاني : العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي ، وكان ذلك الموضوع أمراً جزئياً متحققاً في الخارج ، كاستقبال القبلة واستدبارها .
الثالث : أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي الذي أخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم ، وبعبارة اُخرى موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للايجاب الجزئي كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب .
الرابع : أن يتعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي يكون عنواناً كلياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدرته ، ولحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدرة ، كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على نحو القضايا الحقيقية .
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع وكثرته ، فيختصّ كل واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ كما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، فإنّ كل واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ ، ففي الحقيقة يصير معنى لا تشرب الخمر إنّه يحرم شرب كل خمر موجود في الخارج أو يوجد بعد .
وبملاحظة ما ذكره المنطقيون من انحلال القضايا الحقيقية إلى شرطية متصلة مقدمها عقد الوضع فيها وتاليها عقد الحمل; يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا :
(الصفحة326)
كل خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه ، وهذه القضية كما ترى تكون الحرمة فيها مرتّبة على وجود الخمر ، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحققه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائياً ، وفعليتها وكونها زاجرةً للمكلّف يتوقف على وجوده في الخارج .
ومن المعلوم أنّ المنجز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي لا العلم بالحكم الإنشائي ، وقد عرفت أنّ فعليته متوقفة على وجود موضوعه ، فتنجّز الحرمة يتوقف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقف على وجود موضوعه ، فتنجّزها يتوقف على العلم بوجود الموضوع ، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف .
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ(قدس سره) في الرسالة ، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علميّة حتى تجب بوجوب ذيها ، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام وعدم وجوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف .
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودها ، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة ، حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها كما هو واضح(1) ، انتهى ملخّص كلامه زيد في علوّ مقامه، ويرد عليه:
أولا : المنع من انحلال التكليف التحريمي المتعلق بشرب الخمر مثلا إلى أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع وهو الخمر ، بل الحق كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة وامتثالات متكثّرة .
(1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله): 188 ـ 193 .
(الصفحة327)
توضيح ذلك ، إنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك ، وتبعهم جماعة من المتأخرين منهم المحقق الخراساني في الكفاية(1) ، وعليه يشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب ، غاية الأمر أنّ الطلب في الأمر متعلق بوجود الطبيعة ، وفي النهي بتركها وهو خلاف التحقيق ، فإنه يلزم بناءً عليه سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة .
فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثِّرة ، لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً ، غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها متكثّرة ـ كما أنّها لا تكون واحدة ـ يعتبرها أمراً واحداً وشيئاً فارداً .
وحينئذ يلزم سقوط النهي بالمخالفة بناءً على ما يقولون من أنّ المعصية مسقطة للتكليف كامتثاله ، فيلزم عدم استحقاق العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا ، وكذا يلزم عدم الفرق بين من ارتكبه قليلا أو كثيراً، وعدم القدرة على الامتثال أصلا ، لو خالفه ولو مرّة ، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح .
والتحقيق أن يقال : إنّ معنى النهي ليس هو الطلب ، بل معناه الزجر عن إيجاد الفعل المنهي عنه ، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به ، فمتعلق النهي هو عين متعلق الأمر ، ولكن معناهما متغايران عكس ما ذكره المشهور .
غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلقة للنهي ، لأنّ متعلقه هو الوجود على ما عرفت ، وهو يحصل به مخالفته فتتكثر المخالفة بتكثره ، كما أنّ متعلّق الأمر يحصل به موافقته وامتثاله .
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد، لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف .
(1) كفاية الاُصول 1 : 232 .
(الصفحة328)
مندفع بمنع ذلك ، إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف ، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ ، ولم يؤت به في وقته ، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يستلزم سلب القدرة على الامتثال المعتبرة في ثبوت التكليف بلا إشكال ، ولا دخل للعصيان فيه أصلا .
وهذا بخلاف الامتثال والموافقة في الأمر ، فإنّه بمجرّد تحققه يوجب سقوط الأمر لحصول الغرض به . فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثّرة ، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة .
غاية الأمر أنّ استحقاق المثوبة إنّما هو فيما إذا كان الاجتناب لملاحظة نهي الشارع مع كون اقتضاء قوّة الشهوية أو الغضبية هو الارتكاب ، وانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بانحلال النواهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع .
وثانياً : منع كون التكليف في هذا القسم مشروطاً بوجود الموضوع ، إذ المراد من التكليف المشروط أن يكون البعث أو الزجر ثابتاً على فرض وجود الشرط ، وحينئذ لا يمكن أن يقال إنّ الزجر في النواهي مشروط بوجود موضوعاتها ، إذ القول به ليس إلاّ كالقول بأنّ النهي مشروط بما إذا اقتضى طبعه الارتكاب الذي يكون الترك فيه غاية للنهي .
وبالجملة : لا نرى فرقاً بين الأقسام الأربعة ، فكما أنّ وجود الضحك أو التكلّم ليس شرطاً للحكم بالحرمة أو الوجوب ، فكذلك وجود الموضوع في القسم الرابع ، فإنّه أيضاً لا يكون شرطاً للحكم ، غاية الأمر أنّ مع فقده يمتنع تحقق متعلق التكليف ، فقوام التكليف به إنّما يكون كقوام التكليف بمتعلّقه بل هو عينه .
وثالثاً : لو سلّمنا جميع ذلك لكن لا نسلّم قبح العقاب من المولى في نظر العقل مع كونه محتملا لوجود الموضوع ، لأنّ المفروض أنّ البيان من قبله تامّ لا نقص فيه ، إذ لا يجب عليه تعريف الصغريات وبيانها حتى على القول بالانحلال ، ولم
(الصفحة329)
يتوهّم أحد وجوبه، وحينئذ فلا نرى بعد المراجعة إلى العقل قبح العقاب عليه مع المصادقة .
وما يقال: من أنّ الاحتمال لا يمكن أن يكون منجّزاً .
فمندفع بعد النقض بالشبهة الحكمية قبل الفحص ، وبحكم العقل باستحقاق العقوبة فيما إذا احتمل صدق مدعي النبوّة مع عدم النظر في آياته ومعجزاته وغيرهما ، من الموارد التي يكون الحكم فيها منجّزاً على تقدير ثبوته بمجرّد الاحتمال ، بأنّه لا مانع من أن يكون منجّزاً كالعلم ، غاية الأمر لا يكون كاشفاً وطريقاً كالعلم والظنّ ، ولا يخفى أنّه لا فرق فيما ذكرنا من عدم قبح العقاب في الشبهة الموضوعية بين أن يكون الارتكاب قبل الفحص أو بعده .
ثمّ إنّك عرفت سابقاً أنّه لو قلنا بوجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة كشرب الخمر ، فلازمه الحكم بالبطلان في مثل المقام ممّا يكون الشك فيه في التكاليف الضمنية بطريق أولى ، وأمّا لو قلنا بجريان البراءة في الاُولى فلا يستلزم ذلك جريانها في الثاني، بل يجري فيه الوجهان .
ولذا ترى الخلاف في المسألة مع أنّ جريان البراءة في التكاليف المستقلة كأنّه كان مفروغاً عنه عندهم ، على ما يظهر من الشيخ(رحمه الله) وتلامذته ، حيث إنّه لم يخدش أحد منهم في هذا الحكم ، فقد ظهر لك أنّ القول بالصحة في المسألة مستنداً إلى جريان البراءة العقلية متوقف أولا على القول به في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
وقد عرفت أنّ الحقّ عدم الجريان فيها فضلا عن المقام ، وعلى تقديره فيتوقف القول بالصحة أيضاً على جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فينبغي التعرّض لذلك المبحث على سبيل الاجمال ليظهر لك الصحيح عن سقيم المقال فنقول وعلى الله الاتكال :
(الصفحة330)
إنّه ذهب جماعة من محققي الاُصوليين إلى وجوب الاحتياط فيما إذا دار الأمر بينهما(1) ، واستدلوا عليه بقاعدة الاشتغال ، فإنّ قضية العلم باشتغال الذمة بوجوب الأقلّ هو وجوب العلم بسقوطه المتوقف على إتيان الأكثر ، لتوقف العلم بحصول الغرض عليه ، ومن المعلوم بقاء الأمر ما دام لم يحصل الغرض .
توضيحه ، إنّ الأوامر والنواهي تابعة للمصالح الموجودة في المأمور بها والمفاسد المتحققة في المنهيّ عنها على ما ذهب إليه العدلية ، فداعي الأمر بشيء هي المصلحة الملزمة الموجودة في ذلك الشيء ، كما أنّ الباعث على النهي عنه هي المفسدة الملزمة المتحققة فيه .
وعليه فالأمر والنهي تابعان حدوثاً لثبوت المفسدة والمصلحة ، ويبقيان ما دام بقائهما ، إذ كل ما هو علّة للحدوث فهو علّة للبقاء ، ففي المقام إذا علم بكون الأقل متعلّقاً للتكليف للعلم بتوجّه الأمر الواحد المنبسط على الأجزاء إلى المكلّف على أيّ تقدير ، سواء كان الجزء المشكوك أيضاً متعلّقاً لبعض ذلك الأمر أم لم يكن ، فقد علم بوجوب تحصيل الغرض عليه .
ومن المعلوم أنّه لا يحصل العلم بحصوله مع الإتيان بالأقلّ فقط ، لاحتمال كون التكليف متعلّقاً بالأكثر ، وعليه فلا يحصل الغرض بإتيان الأقل أصلا ، لأنّ المفروض كونهما ارتباطيين ، فيجب إتيان الأكثر ليحصل العلم بحصول الغرض .
وفيه: إنّ توقّف العلم بسقوط الأمر على العلم بحصول الغرض المتوقف على إتيان الأكثر مسلّم ، ولكن ليس محلّ الكلام ومورد النقض والابرام هو العلم بسقوط الأمر وحصول الغرض ، بل الكلام إنّما هو في أنّه هل توجه الأمر الواحد إلى المكلّف على نحو منبسط على الجزء المشكوك أيضاً أو يختصّ بسائر الأجزاء
(1) فرائد الاُصول : 272; كفاية الاصول 2 : 227 ـ 228 .
(الصفحة331)
المعلومة ؟ ومقتضى حكم العقل تنجّزه بالنسبة إلى الأجزاء المعلومة فقط كما يأتي تحقيقه .
تمسّك الاُصوليين بالبراءة العقلية
ظاهر جماعة من الاُصوليين جريان البراءة في المسألة(1) ، ويمكن تقريبه بوجهين :
أحدهما : ما يترائى من الشيخ(قدس سره) في الرسائل(2) ، من أنّ العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وذلك لأنّ الأقل واجب على التقديرين ، لأنّه إن كان الأكثر واجباً واقعاً يكون الأقل أيضاً واجباً .
غاية الأمر أنّ وجوبه وجوب تبعيّ، وإن لم يكن كذلك يكون الأقل واجباً بالوجوب النفسي ، فوجوبه الأعم من النفسي والغيري معلوم تفصيلا ، وهذا بخلاف الأكثر ، فإنّ وجوبه مشكوك فيجري فيه البراءة .
ويرد على هذا التقريب ، أنّه يلزم بناءً عليه أن لا يكون المكلّف مستحقّاً للعقوبة فيما إذا خالف ، ولم يأت بشيء لا بالأكثر ولا بالأقلّ ، وكان الأمر في الواقع متعلقاً بالأكثر ، لأنّ المفروض أنّ الأمر الواقعي المتعلّق بالأكثر لم يصل إلى مرتبة التنجز ، لكونه مشكوكاً مورداً لجريان البراءة حسب الفرض ، فلا يصح العقاب عليه ، لأنّه يصير من قبيل العقاب من دون بيان وهو قبيح بحكم العقل ، والأمر المحتمل المتعلّق بالأقل قد انكشف خلافه ، وأنّه لم يكن ثابتاً فلا يصح العقاب عليه
(1) فرائد الاُصول : 272 ـ 273 .
(2) فرائد الاصول : 274 .
(الصفحة332)
بل لا يعقل ، نعم لا بأس بالقول بكونه مستحقّاً لعقاب التجري بناءً على صحة عقاب المتجرّي واستحقاقه له .
ثانيهما : ما يظهر من بعض الأعلام(1) وهو الموافق للتحقيق ، من أنّ الأمر مع كونه واحداً حقيقةً له أبعاض كثيرة يتعلّق كل واحد منها بأجزاء متعلّقه ، وذلك لأنّ المركبات الشرعية مركبات اعتبارية ، والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة المتكثرة في الوجود مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتب حكم واحد عليها ، وكونها معنونة بعنوان حسن بخلاف المركّبات الحقيقية .
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء المتغايرة من حيث الوجود فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد ، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة فقد شكّ بعد العلم بتعلق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلق بعضه بالجزء المشكوك ، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالنسبة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً ، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة .
والحاصل إنّ لذلك الأمر مخالفتين :
أحدهما : مخالفته بالنسبة إلى الأبعاض المعلومة وتتحقق بترك الأقل المعلوم جزئيته .
ثانيهما : مخالفته بالنسبة إلى بعضه المشكوك على تقدير كونه متعلّقاً بالأكثر في الواقع ، وتتحقق بترك الجزء المشكوك فقط ، وصحة العقوبة واستحقاقها إنّما يترتب على الاُولى دون الثانية ، لعدم تنجّزه بالنسبة إلى البعض المشكوك على ذلك
(1) لم نعثر على العبارة المحكية بعين ألفاظها ، ولعلّه منقول بالمعنى ، ولكن أصل المطلب ذكر في فوائد الاصول 4 : 226 ، ونهاية الأفكار للمحقّق العراقي 3: 430; ونهاية الدراية للمحقّق الاصفهاني 2 : (الأقلّ والأكثر : الوظيفة عند الشك في الأقلّ والأكثر) : 627.
(الصفحة333)
التقدير كما عرفت .
ولا يخفى أنّه لا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقةً وكونه ذا أبعاض كثيرة، إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجية الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة كالماء الواقع في الحوض مثلا ، فإنّه مع كونه واحداً لمساوقة الاتصال مع الوحدة على ما قرّر في محله يعد له أبعاض ، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة ، والبعض الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلا ، فلا منافاة بينهما أصلا .
هذا كلّه فيما إذا كان منشأ الشك في وجوب الأكثر عدم النصّ ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، وأمّا إذا كان منشأه اشتباه الاُمور الخارجية كما في مثل المقام ، فالحكم كما مرّ في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة .
هذا ، ولا يخفى أنّه لو قلنا بجريان البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقاً في التكاليف المستقلة والضمنية كلتيهما ، فلا يستلزم ذلك أيضاً القول بالصحة في مثل المسألة مما يرجع الشك فيه إلى الشك في المحصل ، كما توهّمه بعض من تلامذة المحقّق الشيرازي(قدس سره) حيث اعترض على الشيخ(قدس سره) بأنّه لا وجه للحكم بالبطلان في المقام كما في الرسالة التي صنّفها في هذا الباب ، بعد القول بجريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة ـ كما تقدّم نقل كلامه ـ وبجريانها فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين كما تقدّم نقل مرامه(1) .
وذلك ـ أي وجه عدم الاستلزام وبطلان التوهم وعدم ورود الاعتراض عليه ـ أنّ ظاهر الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه ولا شرب لبنه أنّ المعتبر في انطباق عنوان الصلاة على الأفعال والأقوال المأتيّ بها بترقّب أنّها صلاة أن لا تكون الصلاة واقعة في شيء من أجزاء كل فرد من أفراد ما
(1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني (رحمه الله) : 188 ـ 193 .
(الصفحة334)
لا يؤكل لحمه .
وبعبارة اُخرى ، المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقف على عدم وجود شيء من أفراده وينتزع منه مانعية كل فرد لا بنحو يكون كل فرد مانعاً مستقلاً ، حتى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال ، فكانت هنا قيود متعددة حسب تعدد الوجودات المانعة ، بل بمعنى أنّه حيث كان القيد هو عدم تحقق الطبيعة ، فوجودها مانع عنه .
ومن المعلوم أنّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كل فرد منها ، فمانعية وبر الأرانب إنّما هي لتحقق الطبيعة به ، وكذا مانعية وبر الثعالب وغيره ممّا لا يؤكل لحمه ، وهذا بخلاف عدم الطبيعة ، إذ هو ليس شيئاً حتى يكون له مصاديق وأفراد ، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته إلى طبيعة خاصّة ، فظهر أنّ المعتبر في الصلاة شيء واحد وأمر فارد ، وهو عدم وقوعها في أجزاء ما لا يؤكل لحمه .
غاية الأمر أنّه تنتزع منه مانعية وجود أفراد تلك الطبيعة بنحو عرفت ، وحينئذ فإن قلنا بما يظهر من المحقّق الخراساني في الكفاية(1) وفي مجلس بحثه ، من أنّ الشرائط الشرعية راجعة إلى الشرائط العقلية ، بمعنى أنّ توقّف المشروط على حصولها وعدم تحققه بدونها ، كان أمراً واقعياً كشف عنه الشارع، فالواجب حينئذ الرجوع إلى الاحتياط بلا إشكال .
لأنّ الشرط والقيد أمر واحد على ما عرفت ، ولا يعلم بتحققه مع وقوع الصلاة في اللباس المشكوك ، فلا يعلم بحصول المشروط ، والمفروض وجوب العلم بتحققه كما هو مقتضى قاعدة الاشتغال .
وأمّا لو قلنا بما يظهر من بعض الأعلام(2) من أنّ الشرطية والتقييد إنّما تنتزع
(1) كفاية الاُصول 1 : 143; مقدّمة الواجب .
(2) كتاب الصلاة (تقريرات بحث المحقّق النائيني) 1 : 158; فوائد الاصول 4 : 392 ـ 393 .
(الصفحة335)
من تقييد المأمور به بوجود الشرائط المانعية من تقييده بعدم الموانع، والتقيّد بوجود الشرائط وبعدم الموانع يكون من أجزاء المأمور به كسائر الأجزاء ، فالأمر أيضاً كذلك ، لأنّه بناءً عليه أيضاً يكون القيد مبيناً مفهوماً يجب العلم بتحققه، ويتوقف ذلك على العلم بوجود الشرائط وفقدان الموانع .
وبالجملة: لا فرق بعد كون القيد أمراً واحداً مبيّناً في وجوب العلم بتحققه بين المذهبين كما عرفت .
وممّا ذكرنا من وحدة القيد ينقدح فساد ما يظهر من كلام بعض الأعلام(1) ، حيث إنّه(قدس سره) بعد ذهابه إلى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة بنحو عرفت منه ، صار بصدد بيان عدم الفرق بينها وبين المقام ، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيدية العدم فيما نحن فيه تتصوّر على وجوه ثلاثة :
أحدها : أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة .
ثانيها : أن يكون من باب السلب المحصّل ، وعلى هذا التقدير يمكن أن يكون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ، ويمكن أن يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كل فرد ، وكان القيد آحاد ذلك العدم .
قال بعد القول بظهور الأدلة في الوجه الثالث ما ملخّصه : إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعية الخمر لحرمة شربه ، وموضوعية المانع لتقيد الصلاة بعدم وقوعها فيه ، فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني.
وجه الفساد ما عرفت من أنّ ظاهر الأدلة المانعة أنّ الصلاة في كل جزء من أجزاء كل ما لا يؤكل لحمه فاسدة ، وينتزع منه أنّ المطلوب للشارع هو عدم
(1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 268 ـ 271 .
(الصفحة336)
وقوع الصلاة فيها ، ومن المعلوم أنّ العدم أمر واحد عند اعتبار العقل ليس له أفراد ، بخلاف وجود الطبيعة ، إذ هي توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد ، فمعنى كون وجود الطبيعة مانعاً هو مانعية كل فرد يوجد منها في الخارج ، وهو لا ينافي مع كون القيد أمراً واحداً .
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من وحدة القيد لا يستلزم القول بعدم مانعية شيء من الوجودات ، إذا اضطر المصلّي إلى واحد منها ، لأنك عرفت أن كل وجود مانع من صحة الصلاة، فإذا اضطر إلى أحد الوجودات كان اضطر إلى الصلاة في اللباس المتّخذ من وبر الأرانب مثلا ، فلا يجوز له أن يلبس زائداً على ما اضطر إليه ، ولا ينافي ذلك وحدة القيد كما عرفت .
ثمّ لا يخفى أنّ عبارته(قدس سره) في مقام بيان الوجه الثاني من الوجوه المتصوّرة ثبوتاً في قيدية العدم في المقام ، لا يخلو عن اضطراب بحيث ربّما يوهم الخلاف، حيث قال : ويمكن أن يكون نفس السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً . . .(1) ، حيث إنّ ظاهره أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كل فرد منها ، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلا، وكذا صحة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لو سلّم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية في التكاليف المستقلة وفي التكاليف الضمنية ، فلا نسلّم جريانها في مثل المقام ممّا لا يكون الشك في قيدية أمر زائد ، بل في حصول القيد الذي كان مفهومه مبيناً على ما عرفت تحقيقه ، والمرجع فيه وجوب الاحتياط من غير خلاف . هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالتمسّك بالبراءة العقلية لصحة الصلاة في الألبسة المشكوكة وقد عرفت عدم تماميتها .
(1) الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 269 .
(الصفحة337)
الاستدلال بالأخبار الدالة على الأصول الشرعية
منها : حديث الرفع(1) وتقريب الاستدلال به من وجوه :
أحدها : ما احتمله الشيخ في الرسالة(2) من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله(صلى الله عليه وآله) : «رفع ما لا يعلمون» إشارة إلى الموضوعات الخارجية المجهولة بعناوينها التي تكون بها موضوعات للأحكام ومتعلّقات لها .
وحينئذ فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية ، ولا يعمّ الشبهات الحكمية ، فكلّ موضوع كان عنوان المتعلّق للحكم مجهولا ، فهو مرفوع وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله : «رفع عن اُمّتي» ، في الرفع التشريعي وعدم معقولية إسناده إلى الموضوعات الخارجية ، إنّما هو باعتبار الأثر المترتب عليه المرفوع في صورة الجهل .
وفي المقام نقول : مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول ، مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس ، فتصحّ الصلاة فيه لعدم كونه مانعاً ومبطلا لها .
ثانيها : تعميم الموصول للشبهات الحكمية كما اخترناه وحقّقناه في الاُصول ، لأنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما تثبت له الصلة ، كأسماء الإشارة والضمائر ، فكلّ شيء كان مجهولا بنفسه ، أو بعنوانه الموضوع للحكم فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه ، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعية يصح الاستدلال بالحديث ، لرفع المانعية في المسألة بالتقريب المتقدّم في
(1) الخصال : 417 ب9 .
(2) فرائد الاصول : 195 .
(الصفحة338)
الوجه الأوّل .
ثالثها : القول باختصاص الموصول بما إذا كان الحكم مجهولا ، وتعميم الحكم للأحكام الكلّية المجهولة في الشبهات الحكمية ، وللأحكام الجزئية المجهولة في الشبهات الموضوعية ، فيصح الاستدلال به لرفع الحكم الجزئي المجهول في المقام; وهي مانعية هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، أو من غيره من الموانع .
هذا ، ويمكن أن يقال بأنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها ، لا رفع الأحكام الجزئية أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع .
وبعبارة اُخرى ، إنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي المقتضي لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة وكذا المشكوكة ، بناءً على ما بيناه سابقاً من عدم جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ، فقد علم بما يوجب التضييق عليه .
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة ، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي ، نظير الأدلة الدالة على حلية كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1) ، وما يدلّ على طهارة المياه(2) أو جميع الأشياء(3) إلى أن يعلم أنّها قذر أو نجس ، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في
(1) الكافي: 5 / 313 ح39; الفقيه: 3 / 216 ح1002; التهذيب: 9/ 79 ح337 وج7: 226 ح988; السرائر 3: 594.; الوسائل: 17 / 87 . أبواب ما يكتسب به ب4 ح1.
(2) الكافي 3: 1 ح2 و 3، التهذيب 1 : 215، 216 ح619 و 621; الوسائل 1 : 134 أبواب الماء المطلق ب1 ح5 .
(3) التهذيب 1 : 284 ح832 ، الوسائل 3 : 467. أبواب النجاسات ب37 ح4 .
(الصفحة339)
الشبهات الموضوعية .
وحيث لم يبين ذلك بمثل ما ذكر ، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي ، وبالجملة فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئية المشكوكة في الشبهات الموضوعية، فلا يجوز الاستدلال به .
ومنها : الاستصحاب ، فإنّ استصحاب عدم كون المصلّي لابساً لما يكون وجوده مانعاً وعدمه قيداً في صحة الصلاة يقتضي الحكم بصحّتها ، لأنّه لا يشترط في الاستصحاب أزيد من أن يكون المستصحب حكماً شرعياً ، أو ذا أثر شرعي ، ولا فرق بين أن يكون موضوعاً لذلك الأثر مستقلاً أو جزءً لموضوعه أو دخيلا فيه وجوداً أو عدماً ، فاستصحاب عدم كونه لابساً لما يكون وجوده مانعاً يثبت عدم كونه لابساً لأجزاء غير المأكول ، فتتم الصلاة فيه بعد إحراز سائر الأجزاء وفقد الموانع بالوجدان ، أو بقيام البينة ، أو بجريان الأصل .
هذا ، ولا يخفى أنّ التمسّك بالاستصحاب إنّما يتمّ بناءً على أن يكون ما اعتبر شرعاً عدمه في الصلاة هو كون المصلّي لابساً لأجزاء غير المأكول ، وبعبارة اُخرى كان المانع هو الذي اعتبر وصفاً وحالة للمصلّي وهو خلاف ظاهر الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول .
لأنّها تدلّ على أنّ الصلاة فيها فاسدة ، كما في موثقة ابن بكير المتقدّمة(1) ، أو على النهي عن الصلاة فيها ، فالمانع هو وقوعها في أجزاء غير المأكول ، وهو لا يكون لعدمه حالة سابقة ، وكذا لا يتم أيضاً بناءً على اعتبار المانع وصفاً وحالة للباس المصلّي لعدم وجود الحالة السابقة له أيضاً .
(1) تقدّم : ص313 .
(الصفحة340)
نعم يجري الاستصحاب بناءً عليه أي على الوجه الأخير في بعض فروض المسألة ، كما إذا شكّ في تلطّخ لباسه غير المشكوك بأجزاء غير المأكول ومصاحبته معها ، بناءً على بطلان الصلاة في صورة التلطخ بها ، كما قوّيناه سابقاً ، فإنّه يجري حينئذ استصحاب عدم التلطخ وعدم المصاحبة كما لا يخفى .
إن قلت : لا مانع من جريان الاستصحاب بناءً على الوجه الثاني ، وهو اعتبار المانع وصفاً للصلاة ، لوجود الحالة السابقة للمستصحب ، بتقريب أن يقال: إنّ الصلاة حين ما لم توجد لم تكن في أجزاء غير المأكول ، فهذه القضية السالبة بانتفاء الموضوع المستلزم لانتفاء المحمول كانت متيقنة ، قد شك في بقائها بعد تحقق الموضوع فتستصحب .
قلت : الظاهر عدم شمول دليل اعتبار الاستصحاب لمثل هذه الصورة كما بيّن في محله .
إن قلت : سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم عدم وجود الحالة السابقة المتيقنة في جميع صور المسألة ، بناءً على الوجه الثاني من الوجوه المتقدّمة ، لوجود هذه الحالة فيما إذا شرع في الصلاة في اللباس الذي علم عدم كونه مانعاً ، لعدم كونه من أجزاء غير المأكول ، وشكّ في أثنائها في أنّ ما ألقى عليه بعد الشروع هل يكون مانعاً أم لا ، فلا إشكال حينئذ في جريان الاستصحاب كما هو واضح .
قلت : لا يخفى أنّ مدلول الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو بطلانها فيما إذا وقعت بتمام أجزائها أو ببعضها فيها ، فلا يكفي مجرّد وقوع بعض أجزائها في غيرها ، ومن المعلوم أنّ إحراز عدم هذا المانع لا يتحقّق إلاّ بعد العلم بعدم وقوع شيء من أجزائها فيها ، فمجرّد الشروع في الألبسة المحللة لا يوجب العلم بعدم المانع إلاّ بعد حصول جميع أجزائها وشرائطها مع فقده كما هو واضح ، وإن كانت الصلاه عبارة عن حضور العبد في مقابل مولاه والتوجّه نحوه والالتفات
|