(الصفحة301)
ثمّ لا يخفى أنّه لا معارضة بين هذه الرواية ورواية الفضلاء الثلاثة عن أبي جعفر(عليه السلام) المتقدّمة الدالة على اعتبار سوق المسلمين ـ وذلك لأنّ هذه الرواية تدلّ على أنّ المراد بالمسلم الذي تكون يده معتبرة ليس خصوص العارف بالإمامة ، بل يعمّ غيره ، وهذا لا ينافي مدلول تلك الرواية كما هو واضح ، كما أنّ الظاهر أنّه لا معارضة بينهما ـ وبين ما رواه إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح(عليه السلام) أنّه قال : «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام» قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : «إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»(1) .
وذلك أي وجه عدم المعارضة أنّك عرفت أنّ مقتضاهما هو اعتبار يد المسلم ولو كان غير عارف ، وهذه تدلّ على أنّه يكفي في جواز الانتفاع بالجلود كونها مصنوعة في أرض الإسلام ، أي الأرض التي تكون تحت رئاسة الإسلام وحكومة المسلمين ، في مقابل أرض الكفر ودار الحرب ، ومن المعلوم انّه يبنى على إسلام من كان مجهول الحال في أرض الإسلام ، فمرجعها أيضاً إلى أنّ الفراء المصنوع فيها يبنى على كون صانعه مسلماً ، ومعه يجب ترتيب آثار التذكية عليه ولو كان بائعه مشركاً ، إذا لم يعلم بكونه صانعه ، فمدلولها أيضاً أنّ الاعتبار بيد المسلم .
هذا بناءً على أن يكون المراد بقوله(عليه السلام) : «إذا كان الغالب عليهاالمسلمين» كون الأرض تحت غلبة المسلمين وحكومتهم ، كما هو الظاهر من تعدية الغلبة بـ «على» ، وأمّا إذا كان المراد منه هو غلبة أفراد المسلمين وأكثريّتهم كما قاله الشهيد الثاني(قدس سره)(2) ، فعدم المعارضة بينهما أوضح من أن يخفى .
وممّا يؤيّد ذلك ، أي جواز الانتفاع بالجلد المشترى من المسلم ولو كان غير عارف ، ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث عن عليّ بن الحسين(عليهما السلام) إنه
(1) التهذيب 2 : 368 ح1532; الوسائل 3 : 491 . أبواب النجاسات ب50 ح5 .
(2) مسالك الأفهام 1 : 285 .
(الصفحة302)
كان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذاحضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته»(1) ، فإنّ ظاهرها جواز الانتفاع بما يشترى ممّن يستحل لباس جلد الميتة ويعتقد طهارته بالدباغ، وعدم صلاته(عليه السلام)فيه لم يكن لعدم جواز الصلاة فيه ، وإلاّ يلزم أن لا يجوز الإنتفاع به في غير حال الصلاة أيضاً ، بل لكراهتها فيه، ولكن لا يخفى أنّها لا تنهض للحجية لضعف سندها .
ومثلها في الدلالة على كراهة الصلاة في الجلد المشترى من المستحلّ ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «تكره الصلاة في الفراء إلاّ ما صنع في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة»(2) ، والتخصيص بأرض الحجاز إنّما هو في مقابل أرض العراق ، لأنّ أهله كانوا يقولون بتذكية جلد الميتة بالدباغ ، كما عرفت في الرواية المتقدّمة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الاعتبار بيد المسلم أو بجريان يده عليه ولو كان البائع مشركاً ، ولا فرق بين كونه عارفاً أو غيره ، نعم تكره الصلاة فيما يشترى ممّن يستحلّ لباس جلد الميتة، ويزعم أنّ دباغه ذكاته للروايتين الأخيرتين .
ثمّ إنّك عرفت أنّه يستفاد من رواية الفضلاء الثلاثة ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمتين ، اعتبار قول البائع عند السؤال عنه ، لأنّ الظاهر أنّ المراد هو السؤال عنه لا عن غيره ، ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه محمّد بن الحسن الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني(عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال(عليه السلام) : «إذا كان مضموناً فلا بأس»(3) ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بكونه
(1) الكافي 3 : 397 ح2 ; الوسائل 4 : 462 . أبواب لباس المصلّي ب61 ح2 .
(2) الكافي 3: 398 ح4; الوسائل 4: 462. أبواب لباس المصلّي ب61 ح1 .
(3) الكافي 3 : 398 ح7; الوسائل 4 : 463 . أبواب لباس المصلّي ب61 ح3 .
(الصفحة303)
مضموناً هو تعهّد البائع وإخباره بانتزاعه من الحيوان المذكّى ، وعدم البأس معه يرجع إلى جواز الاعتماد على قوله كما لا يخفى .
ويؤيده أيضاً بعض الروايات المتقدّمة كمضمرة أحمد بن محمد بن أبي نصر ، وروايته الاُخرى عن الرضا(عليه السلام)(1) ، وبعض ما يأتي في المسألة الآتية ، هذا مضافاً إلى استقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على قول ذي اليد والأخذ به في الأمور المتعلّقة بما في يده من الاقرار به لغيره وغيره ، والظاهر أنّ الشارع لم يردع عنها بل جرى على طبقها وحكم بجواز الأخذ والاعتماد على قول ذي اليد عند الإخبار بالتذكية، أو بالطهارة والنجاسة أو بغيرها كما لا يخفى .
ثمّ إنّك عرفت فيما تقدّم أنّ مقتضى الأصل الأوّلي في الجلد أو اللحم المشكوك هي الحرمة والنجاسة ، لجريان استصحاب عدم التذكية ، لأنّ الحلية وكذا الطهارة معلقة في الدليل على التذكية ، فإذا أحرز بالاستصحاب عدمها فلا يترتب عليه الآثار المترتبة على وجودها ، بل يترتب عليه التحريم والنجاسة .
لأنّ ظاهر الأدلة والفتاوى عدم اختصاص موضوعهما بعنوان الميتة التي هي عبارة عن خصوص الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أنّه ربما يساعده العرف ويؤيده قوله تعالى : {حرّمت عليكم الميتة والدم . . .}(2) حيث جعلها مقابلة للمتردية والنطيحة وغيرهما .
وإن كان قد يترائى من بعض الأخبار المتقدمة ما يدل بظاهره على أنّ الحرمة موقوفة على العلم بكون الحيوان ميتة ، عدم الواسطة بين المذكى والميتة ، كما أنّه ربما يستشعر ذلك من بعض الأخبار الواردة في مسألة صيد المحرم ، حيث أطلق فيه الميتة على الصيد الذي ذكاه المحرم .
(1) الوسائل 3: 491 ، 492. أبواب النجاسات ب50 ح3 و 6 .
(2) المائدة : 3 .
(الصفحة304)
وبالجملة : فالظاهر انّ الحيوان الذي مات بسبب خارجي غير التذكية الشرعية يلحق بالميتة حكماً ، وإن كان لحوقه بها موضوعاً محلّ تأمل بل منع ، فلا يجوز الرجوع معه إلى أصالتي الحلية والطهارة .
هذا ، ويظهر من الفاضل التوني صاحب الوافية أنّه لا يجرى استصحاب عدم التذكية(1) خلافاً للمشهور ، لأنّ عدم التذكية لازم أعم لموجب النجاسة ، لأنه لازم الأمرين الحياة والموت، والموجب للنجاسة هو ملزومه الثاني دون الأول، وهو ليس له حالة سابقة ، والمعلوم ثبوته في الزمان الأوّل هو الأمر الأوّل ، وهو لا يكون باقياً في الزمان الثاني قطعاً .
والظاهر من بعض كما ربّما يؤيده ذيل كلام هذا الفاضل أنّ هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو محل نظر ، لأنّ عدم التذكية ليس أمراً متّحداً مع الحيوان في حالتي الحياة والموت ، كالكلي المتحد مع أفراده ، بل هو أمر عدميّ يقارن الحياة وقد يقارن الموت .
والقطع بانتفاء مقارنه في الزمان الثاني لا يوجب القطع بانتفاء عدم التذكية فيه ، لأنّه عدم أزليّ مستمرّ مع الحيوان في الحالتين ، وبعد الموت نشك في انقطاعه في حال زهوق الروح فيستصحب ، بل لو قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسمين الأولين من استصحاب الكلي ، كان هذا الاستصحاب في ذلك الأمر العدمي خالياً عن الإشكال .
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله) في رسالة الاستصحاب بعد نقله كلام الفاضل المتقدم في ذيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي والجواب عنه والاشكال عليه بما ذكرنا ، من عدم كون المقام من مصاديق ذلك القسم ، وأنّه يجري الاستصحاب هنا ، ولو لم نقل بجريان الاستصحاب في الكلّي أصلا .
(1) فرائد الأصول : 372 .
(الصفحة305)
قال ما ملخّصه : إنّ الاستصحاب يجري في ذلك الأمر العدمي إذا لم يرد به إثبات الموجود المتأخّر المقارن له ، نظير إثبات الموت حتف الأنف بعدم التذكية ، وكذا إذا لم يرد به إثبات ارتباط الموجود المقارن له به ، نظير إثبات كون هذا الدم الموجود ليس بحيض باستصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً ، أو عدم رؤيتها دم الحيض حتّى يحكم عليه بالاستحاضة ، لورود الدليل مثلا على أنّ «كل ما تقذفه المرأة من الدم إذا لم يكن بحيض فهو استحاضة»(1) .
وذلك لأنّ اعتبار كون المرأة حائضاً يغاير اعتبار كون هذا الدم دم الحيض ، وإن كانا متحصّلين في الواقع ونفس الأمر بتحقّق واحد ، وكان منشأ اعتبارهما أمراً واحداً ، وهو كون هذا الدم ممّا اقتضت طبيعة المرأة خروجه في كل شهر مثلا لقذف جدران الرحم له ، إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بتغايرهما في عالم الاعتبار . وجريان الاستصحاب في الأوّل لوجود الحالة السابقة له لا يثبت به الاعتبار الثاني مع عدم وجود تلك الحالة له كما هو واضح .
ويظهر من حاشية بعض الأعاظم على هذا المقام من كلام الشيخ(قدس سره)، أنّ استصحاب عدم التذكية يكون من قبيل استصحاب عدم صيرورة المرأة حائضاً في عدم إثباته كون هذا اللحم غير مذكّى ، حيث إنّه بعد استظهار أنّ الميتة في نظر الشارع والمتشرعة هي ما كان فاقداً لشرائط التذكية ، وأنّ الموضوع للحرمة والنجاسة هو ما عدى المذكّى قال : وكونه كذلك ـ أي كون هذا اللحم غير مذكّى ـ لا يثبت بأصالة عدم التذكية ، كما أنّه لا يثبت بأصالة عدم صيرورة المرأة حائضاً، أو عدم رؤية دم الحيض كون الدم المرئي متّصفاً بكونه ليس بحيض حتّى يحكم بأنّه استحاضة، كما سيوضّحه المصنّف(قدس سره) .
ثم قال : فمقتضى القاعدة هو التفكيك بين الآثار ، فما كان منها مترتباً على عدم
(1) فرائد الأصول : 374 .
(الصفحة306)
كون اللحم مذكّى ـ كعدم حلّيته وعدم جواز الصلاة فيه ، وعدم طهارته ، وغير ذلك من الأحكام العدمية المنتزعة عن الوجوديات التي تكون التذكية شرطاً في ثبوتها ـ ترتب عليه فيقال: الأصل عدم تعلّق التذكية بهذا اللحم الذي زهق روحه فلا يحلّ أكله، ولا الصلاة فيه، ولا استعماله فيما يشترط بالطهارة .
وأمّا الآثار المترتّبة على كونه غير مذكّى ، كالأحكام الوجودية الملازمة لهذه العدميات ، كحرمة أكله ، ونجاسته ، وتنجيس ملاقيه ، وحرمة الانتفاع به ، أو بيعه ، وغير ذلك من الأحكام المتعلّقة على عنوان الميتة أو غير المذكّى، فلا(1) . انتهى موضع الحاجة من كلامه(قدس سره) .
وحاصله الفرق بين عدم كون اللحم مذكّى وكونه غير مذكّى ، بأنّ ما يترتّب عليه الآثار الوجودية كحرمة الأكل والنجاسة وغيرهما ، هو الثاني دون الأول ، وما يجري فيه الأصل هو الأول دون الثاني ، ولا يثبت بجريانه فيه إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي هو خلاف التحقيق .
وفيه ، إنّ المراد بالغير في الثاني إن كان هو الغير المأخوذ غالباً في السلب كقول القائل : زيد غير عالم ، فمن الواضح حينئذ أنّه لا يبقى فرق بينه وبين الأوّل ، وإن كان المراد به هو الغير الذي أخذ جزء للمحمول على نحو القضية المعدولة لا السالبة المحصّلة ، ففيه : مضافاً إلى أنّ الفرق بينهما إنّما هو بالاعتبارات العقلية التي تكون خارجة عن فهم العرف ، إنّ القول بكونه موضوعاً لتلك الآثار الوجودية ممنوع .
بل الظاهر إنّ ما ترتّبت عليه تلك الآثار هو الأول ، وهو عدم كون اللحم مذكّى ، وكذا لو كان المراد بغير المذكّى هو ما يغاير المذكّى ، بأن كان الموضوع لتلك الأحكام اللحم المتّصف بأنّه مغاير للمذكّى ، فإنّه يرد عليه المنع من ذلك، فظهر أنّ مجرى الاستصحاب هو ما كان موضوعاً لتلك الآثار الوجودية .
(1) تعليقة المحقّق الهمداني على فرائد الاصول : 171 .
(الصفحة307)
هذا ، وغاية ما يمكن أن يقال في توجيه هذا القول : إنّ في ناحية الموضوع اعتبارين :
أحدهما : اعتبار كون الحيوان قد زهق روحه لا بالتذكية ، وهذا يجري فيه الأصل بعد ثبوت جزئه الآخر بالوجدان .
ثانيهما : اعتبار كونه قد زهق روحه بسبب آخر غير التذكية ، وهذا لا يثبت بالأصل الجاري في الأوّل ، لأنّ كون انقطاع حياته بحدوث سبب غير القتل المخصوص ، أي التذكية من اللوازم غير الشرعية التي لا تترتب على ثبوت المستصحب في الزمان الثاني على ما هو التحقيق .
هذا ، ويرد عليه مضافاً إلى ما عرفت ، عدم الفرق بين الآثار الوجودية المترتبة على غير المذكى ، وبين الآثار العدمية المنتزعة عمّا يترتب على المذكى من الآثار الوجودية ، فإذا أحرز عدم التذكية بالاستصحاب ، فالآثار المعلّقة على عنوان المذكى منتفية ، وانتفائها عين ثبوت تلك الآثار الوجودية كما هو واضح .
ثمّ إنّه يظهر من بعض محققي المتأخرين عدم جريان استصحاب عدم التذكية في بعض الموارد ، بناءً على أن تكون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ، وكذا بناءً على القول الآخر في بعض الموارد أيضاً حيث قال ما ملخّصه :
إنّه لو قلنا بكون التذكية هي نفس الأفعال المخصوصة يكون موضوعها هو الحيوان، وحينئذ يشكل جريان الاستصحاب في الجلد أو اللحم المشكوك فيما إذا لم يكن في البين حيوان شكّ في وقوع التذكية عليه ، كما فيما إذا علمنا بكون واحد معيّن من هذين الحيوانين مذكّى والآخر المعيّن ميتة ، ولكن شكّ في أنّ هذا الجلد هل كان منتزعاً من المذكّى أو الميتة؟
لأنّ الحيوان لم يكن مشكوك التذكية، والجلد لم يكن موضوعاً لها ، فلا يجري الاستصحاب ، ولا أصل في البين يعيّن كونه منتزعاً من الميتة ، لعدم وجود الحالة
(الصفحة308)
السابقة له ، مضافاً إلى وجود المعارض ، وأمّا لو قلنا بأنّها عبارة عن حالة وكيفيّة تتحصل من الأفعال المخصوصة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب مطلقاً حتّى في المثال المتقدّم .
لأنّه لا إشكال في أنّ هذه الحالة تسري في جميع أجزاء الحيوان ، فكلّ جزء منه يوصف بأنّه مذكّى بواسطة تلك الأفعال من اللحم والجلد وغيرهما .
ثمّ قال ما حاصله : إنّه يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب بناءً على القول الثاني أيضاً في بعض الموارد ، كما في المثال المتقدّم ، لأنّه بعد فرض كون الجلد ممّا يحتمل أن يكون مأخوذاً من المذكّى المعلوم تفصيلا ، يحتمل أن لا يكون رفع اليد عن عدم التذكية في السابق من أفراد نقض اليقين بالشكّ ، بل من أفراد نقض اليقين باليقين، لأنّ الجلد لوكان مأخوذاً من المذكّى انتقض الحالة السابقة باليقين بالتذكية.
وبالجملة : لا يمكن التمسّك في الفرض المذكور بعموم لا تنقض ، لأنّ المفروض الشك في تحقق موضوعه وعدم جواز التمسك فيه بالعام ، قد كان متفقاً عليه بينهم(1) . انتهى .
وتحقيق النظر فيه موقوف على بيان صور المسألة :
فاعلم أنّه قد يكون الحيوان مشكوك التذكية مع عدم كونه من أطراف العلم الإجمالي بثبوت التذكية ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه بناءً على ما عرفت ، ويترتّب عليه عدم جواز الانتفاع بشيء من أجزائه من اللحم والجلد وغيرهما .
وقد يكون الحيوان من أطراف العلم الاجمالي بالتذكية مع عدم العلم تفصيلا بعنوان المذكّى ، ولا بعنوان الميتة ، كما فيما إذا علم إجمالا بأنّ واحداً من هذين الحيوانين مذكّى والآخر ميتة ، وهو أيضاً لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، ولا
(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله): 49 ـ 50 .
(الصفحة309)
يضرّ وجود العلم الاجمالي بكون واحد منهما مذكّى ، لأنّ عدم جريان الأصل في أطرافه إنّما هو فيما إذا كان العلم الاجمالي مثبتاً للتكليف ، وكان جريانه مستلزماً لرفع اليد عن التكليف المنجز .
وبالجملة : هذا فيما إذا لزم من جريانه تحقّق المخالفة العملية للمعلوم بالاجمال . وأمّا فيما نحن فيه وأمثاله ، ممّا إذا كان العلم الاجمالي نافياً للتكليف ، كما فيما إذا علم إجمالا بطهارة واحد من الإنائين المسبوقين بالنجاسة ، فالظاهر عدم المانع من جريان الأصل .
نعم من تمسّك لعدم الجواز بلزوم التنافي في مدلول لا تنقض وما يساوقه من أدلّة الاُصول ، فالظاهر عنده عدم الجواز مطلقاً ، ولكنّ الظاهر عدم تمامية الدليل كما قرّرنا في محلّه .
وقد يكون كذلك ، لكن مع العلم تفصيلا بعنوان المذكّى والميتة ، كما فيما إذا علم بأنّ الغنم الذي يكون متعلقاً بزيد مذكّى والآخر الذي يتعلق بعمرو ميتة ، ثمّ شكّ في أنّ هذا الغنم هل الذي وقعت التذكية عليه أو غيره؟ للشكّ في أنّه لزيد أو لعمرو ، والظاهر أيضاً أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في هذه الصورة ، طبقاً لما تقدّم في الصورة السابقة .
ولا يخفى عليك أنّ جريان الأصل في الصورتين الأخيرتين مع وجود العلم الاجمالي بكون أحدهما ميتة وهو يوجب عدم جواز الانتفاع بهما ، إنّما يثمر فيما إذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثّراً في إثبات التنجز بالنسبة إلى أطرافه كما إذا خرج بعض أطرافه عن مورد ابتلاء المكلّف ، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز الانتفاع ولو في مثل هذا الفرض كما هو غير خفيّ .
وقد يكون كالصورة السابقة ، لكن مع تخلّل العلم التفصيلي بالغنم المتعلّق بزيد أو بعمرو ، ثمّ عروض الشك فيه ، قد يقال في هذه الصورة كما قيل: بعدم
(الصفحة310)
جريان الاستصحاب فيه ، إمّا لأنّه لا يعلم كون النقض فيها نقضاً لليقين بالشكّ ، لاحتمال كون الحيوان هو ما يتعلّق بزيد ، وعليه فانتقض اليقين بعدم التذكية باليقين بوجودها ، فكون المورد من مصاديق النقض بالشكّ الذي هو مورد الاستصحاب غير معلوم . وإمّا لأنّه يعتبر في جريانه اتّصال زمان اليقين بالشكّ المفروض انتفائه .
ولكن الظاهر عدم المانع من جريانه فيها أيضاً ، لأنّه لا يعتبر في الاستصحاب إلاّ اليقين بالحدوث والشك في البقاء وهما ثابتان في المقام ، واعتبار اتصال زمان اليقين بالشكّ إن اُريد به اعتبار اتصال زمان نفس الوصفين ، فلا دليل عليه ، بل هو على خلافه ، لجريان الاستصحاب فيما إذا علم بنجاسة مايع ثمّ علم بطهارته ثمّ شكّ في بقاء النجاسة لأجل الشك في يقينه الثاني .
وإن اُريد به اعتبار اتصال زمان المتيقّن والمشكوك ، فهو عين اعتبار الشك في البقاء المتحقّق في المقام .
وبالجملة: لا مانع من جريان الأصل من هذه الحيثية أصلا .
وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا من الحكم في تلك الصور ، تظهر لك ما في الكلام السابق من النظر الوارد على ما أفاده المحقق المتقدم بناءً على القول الثاني .
هذا ، ويرد على ما ذكره بناءً على القول الأول ـ وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ـ انّ التذكية بناءً عليه هي تلك الأفعال بما أنّها مؤثِّرة في قتل الحيوان ، وموجبة لانقطاع حياته ، ضرورة أنّ ايقاع تلك الأفعال على الميتة لا يوجب اتّصافها بكونها مذكّاة .
ومن المعلوم حينئذ أنّ كل جزء من الحيوان يوصف بأنّه أثّر فيه تلك الأفعال بإيجابها ، سلب الآثار المترتّبة عليه بوصف الحياة عنه ، ولو في الأجزاء التي لا تحلّها الحياة ، فما أفاده من أنّ الجلد خارج عن موضوع التذكية بناءً على هذا القول ممّا لا يصح كما لا يخفى .
(الصفحة311)
الأمر الثاني : أن لا يكون لباس المصلّي من أجزاء الحيوان غير المأكول اللحم
من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون من أجزاء الحيوان الذي يحرم أكل لحمه ، واعتباره في لباس المصلّي ممّا تفردّت به الإماميّة(1) ، خلافاً لسائر فرق المسلمين ، حيث لم يتعرّضوا لهذه المسألة في كتبهم مع كونها ممّا يعمّ به البلوى .
ولا يخفى أنّ الأخبار الواردة في هذا المقام من الأئمة(عليهم السلام) أكثرها لا يخلو من ضعف ، أو إرسال ، أو غيرهما كما يظهر لمن راجعها ، نعم واحد منها يكون موثّقاً ، وهو الخبر الآتي ، ولذلك استشكل صاحب المدارك في المسألة(2) ، بناءً على مذهبه
(1) الخلاف 1 : 63 و511 ; مسألة 11 و256; الإستبصار: 135; الغنية: 66; الوسيلة: 88 ; الكافي في الفقه: 140; المهذّب 1: 75; المعتبر 2: 78 ; المنتهى 1: 226; تذكرة الفقهاء 2: 465 مسألة 118; نهاية الأحكام 1: 373; السرائر 1: 262; مدارك الاحكام 3: 161; روض الجنان: 213; جامع المقاصد 1: 86 .
(2) بعد المراجعة إلى كلامه ظهر أنّ مختاره هو ما ذهب إليه الشهيدان(رحمهما الله) لا الإشكال في أصل المسألة فلا تغفل . «المقرّر» مدارك الاحكام 3 : 161 .
(الصفحة312)
في الخبر الواحد من اختصاص الحجية بالصحيح الأعلائي منه ، وهو ما كان كل واحد من رواته مذكّى بتذكية عدلين . ولكن ذلك ـ أي عدم خلوّ الأخبار من ضعف أو إرسال ـ لا يوجب إشكالا في المسألة بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف إلى اعتبار ذلك فيه ، في قبال سائر المسلمين ، وبعد الاجماعات المنقولة المدعاة في كلام كثير منهم .
هذا، مضافاً إلى عدم انحصار الحجية بما ذكره صاحب المدارك كما قرّر في محلّه.
وبالجملة : لا يمكن رفع اليد عمّا يدلّ عليه الأخبار بعد كونها مؤيّدة بالشهرة العظيمة المحققة والاجماعات المنقولة الكثيرة ، فالإشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه .
نعم يقع الكلام في أنّ ذلك هل يكون معتبراً في خصوص لباس المصلّي وهو ما يلبسه المصلّي ممّا هو محيط به كالقميص وغيره ، أو يشمل مثل التكّة والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له ، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه ، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم ، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره وغيرهما من الصور ، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه(1) ، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الذي ألقى عليه شعراته ، وجواز الصلاة فيه من المقطوع به(2) ، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع
(1) الذكرى 3 : 32; روض الجنان : 214 ; مسالك الأفهام 1: 162 .
(2) مدارك الاحكام 3 : 166 .
(الصفحة313)
مطلقاً(1) ، ويدلّ عليه ما رواه في الكافي موثقاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله، ثمّ قال : يازرارة هذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنّه ذكّى قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أم لم يذكّه»(2) .
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية للقول المشهور بأنّ ظاهر كلمة «في» ، في قوله : «فالصلاة في وبره . . .» ، هي الظرفية ، ومقتضاها كون أجزاء غير مأكول اللحم ، بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به ، وهو لا يصدق فيما إذا ألقي على ثوبه وبره أو شعره ، وكذا فيما إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس هذا ، ونقل عن البهبهاني(قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله :
إنّ كلمة «في» ليست للظرفية ، لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة ، ومعه يتمّ الاستدلال ، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفية في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما ، فكأنّه قيل: الصلاة في الثوب المتلطّخ بهما فاسدة .
وعليه فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي ولا يدلّ على المنع فيه .
(1) راجع ص311 .
(2) الكافي 3 : 397 ح1; التهذيب 2 : 209 ح818 ; الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب2 ح1 .
(الصفحة314)
ثمّ أجاب بأنّ ذلك المعنى مستلزم للاضمار والحذف ، بخلاف ما ذكرنا في معناه فإنّه مستلزم للمجازية، وقد قرّر في الاُصول تقدّم الثاني على الأوّل ، فيما إذا دار الأمر بينهما(1) ، انتهى .
ولكن يمكن أن يقال بإمكان اعتبار الظرفية فيما إذا تلطّخ الثوب بهما بملاحظة ملابسة الثوب معهما ، فكأنّهما صارا جزئين للثوب ، فهو نظير ما إذا كان بعض الثوب من أجزاء غير المأكول دون البعض الآخر .
هذا ، ولا يخفى بعد هذا المعنى والظاهر بعد امتناع اعتبار الظرفية لما عرفت في كلام المجيب هو جعل كلمة «في» بمعنى المصاحبة ، ومعه يتمّ الاستدلال ويشمل الدليل جميع الصور حتّى ما إذا كان المصلّي مستصحباً لرطوبات غير المأكول التي لا تعدّ من أجزائه الفعلية .
ثمّ لا يخفى أنّ التكرار الواقع في قوله : «إنّ الصلاة . . .» ، والحزازة الواقعة في قوله : «لا تقبل تلك الصلاة . . .» ، وغير ذلك من الجهات المخالفة للفصاحة يشعر بأنّ الرواي نقل الرواية بالمعنى ، ولم يضبط الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه السلام) ، ولكنّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية لمعلومية المضمون الصادر منه(عليه السلام) .
ويؤيّدها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن أحمد، عن عمر بن عليّ بن عمر بن يزيد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقية ولا ضرورة ، فكتب : «لا تجوز فيه الصلاة»(2) وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة عليه بالعموم أو بالخصوص(3) ، وإن كان كل واحد منها لا يصلح للحجّية ولا يجوز الاعتماد عليه منفرداً ، إلاّ أنّ
(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 123 .
(2) التهذيب 2 : 209 ح819 ; الاستبصار 1 : 384 ح1455; الوسائل 4 : 346 . أبواب لباس المصلّي ب2 ح4 .
(3) راجع الوسائل 4 : 345 . أبواب لباس المصلّي ب 2 .
(الصفحة315)
المجموع قابل للاستناد إليه ، خصوصاً بعد ملاحظة الشهرة والاجماعات المنقولة .
ثمّ إنّ مقتضى اطلاق موثقة ابن بكير المتقدّمة وغيرها عدم الفرق في المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول بين كون ما يصلّى فيه ممّا تتمّ فيه الصلاة منفرداً ، وبين غيره كالقلنسوة والجورب وغيرهما ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده ، خلافاً لما حكي عن الشيخ في المبسوط حيث خصّ فيه المنع بالأوّل بعد اختياره في النهاية التعميم(1) على ما هو ظاهر كلامه بل صريحه .
ونقل العلامة في محكيّ المختلف عن الشيخ إنّه استدل على الجواز في الثاني بأنه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما ، وإن كانا نجسين أو من حرير محض ، فكذا يجوز لو كانا من وبر الأرانب وغيره(2) . انتهى .
وظاهر كلامه وإن كان هو الاستدلال بالقياس الذي أجمعت الإمامية على عدم حجيته ، إلاّ أنّه يمكن أن يكون مراده الاستدلال بما ورد في الحرير الفارق بينهما في الحكم الشامل بعمومه للمقام ، وهو ما رواه في التهذيب عن كتاب سعد بن عبدالله الأشعري، عن موسى بن الحسن ـ الذي هو من أكابر الطبقة الثامنة ـ عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد ، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «كل ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه مثل التكّة الأبريسم والقلنسوة والخفّ والزنار يكون في السراويل ويصلّى فيه»(3) .
بناءً على أن يكون قوله : «مثل التكّة الأبريسم . . .» ، بياناً لما هو المانع من صحة الصلاة فيما تتمّ فيه الصلاة وحده ومثالا له ، ولم يكن مراده الاختصاص بالابريسم بل كان ذكره كذكر التكّة والقلنسوة من باب المثال ، ففي الحقيقة يكون
(1) المبسوط 1 : 82 ـ 83 ; النهاية : 96 .
(2) مختلف الشيعة 2 : 80 .
(3) التهذيب 2 : 357 ح1478; الوسائل 4 : 376 . أبواب لباس المصلّي ب14 ح2 .
(الصفحة316)
المراد أنّ كل ما يكون مانعاً من الصلاة فيما تتمّ الصلاة فيه من كونه نجساً أو حريراً محضاً أو من أجزاء غير المأكول فهو لا يكون مانعاً بالنسبة إلى ما لا تتمّ الصلاة فيه وحده ، فتجوز الصلاة فيه وإن كان واجداً لشيء من الموانع أو لجميعها .
فالرواية بعمومها تدلّ على ما ذكره الشيخ(رحمه الله) من الفرق بينهما في المقام أيضاً ، ويمكن أن يكون مراده الاستدلال بالاستقراء ، بتقريب أنّ مراجعة الأدلة المانعة عن الصلاة في النجس وفي الحرير المحض الشاملة باطلاقها لجميع الموارد بعد قيام القرينة المنفصلة على التقييد بالصورة الاُولى ، تقتضي الحكم بأنّ مراد الشارع من المطلقات الواردة في غير النجس والحرير هو المقيّد ، فلا دلالة لها على المنع في غير تلك الصورة .
هذا ، وفي كل منهما نظر :
أمّا الأوّل : فلضعف سند الرواية لتضعيف كثير من علماء الرجال لأحمد بن هلال ، مضافاً إلى ما نقل من التوقيع عن الناحية المقدّسة الوارد في مذمته بقوله(عليه السلام) : «إحذروا الصوفي المتصنع . . .»(1) .
ويؤيّده عدم نقل هذه الرواية من تلامذة ابن أبي عمير غيره، فهي ساقطة عن درجة الاعتبار ولا يجوز الاعتماد عليها ، مضافاً إلى أنّ الموثقة المتقدمة تدلّ بالصراحة على المنع عن الصلاة فيما إذا كان مع المصلّي بول غير المأكول أو روثه .
والقول بالمنع فيه والجواز فيما إذا كان ما يصلّى فيه ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده من أجزائه ممّا لا يحتمله أحد .
فالاستناد إلى الرواية في مقابل الموثقة ممّا لا يصح ، وكذا الاستناد إلى ما رواه الشيخ عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عبدالجبار قال : كتبت إلى أبي محمّد(عليه السلام)أسأله هل يصلّى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه ، أو تكّة حرير
(1) الإحتجاج للطبرسي 2 : 290 .
(الصفحة317)
محض ، أو تكّة من وبر الأرانب؟ فكتب(عليه السلام) : «لا تحلّ الصلاة في الحرير المحض وإن كان الوبر ذكيّاً حلّت الصلاة فيه إن شاء الله تعالى»(1) .
لأنّ الجمع بينها وبين الموثقة غير ممكن ووجوب الرجوع إلى المرجحات يقتضي الأخذ بالموثقة ، لمخالفتها للعامّة وموافقتها لفتوى المشهور دونها .
مضافاً إلى كونها مؤيّدة بما رواه الشيخ عن عليّ بن مهزيار قال : كتب إليه إبراهيم بن عقبة : عندنا جوارب وتكك تعمل من وبر الأرانب فهل تجوز الصلاة في وبر الأرانب من غير ضرورة ولا تقية؟ فكتب : «لا تجوز الصلاة فيها»(2) .
وأمّا الثاني : فلعدم مساعدة العرف عليه ، مضافاً إلى أنّ المنع في الحرير مطلق كما تدلّ عليه رواية محمّد بن عبدالجبار المتقدّمة وسيجيء .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا فرق في المنع بين اللباس وغيره ، وفي اللباس بين ما تتمّ الصلاة فيه وحده وغيره .
ثمّ لا يبعد أن يقال: بانصراف الأدلة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول عن أجزاء الإنسان ، فلا تبطل الصلاة إذا كان مع المصلّي شعره أو ظفره وإن كان غيره .
وعلى تقدير الشمول فيجب تخصيصها بما رواه الشيخ عن محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن الريان بن الصلت قال : كتبت إلى أبي الحسن(عليه السلام) : هل تجوز الصلاة في ثوب يكون فيه شعر من شعر الانسان وأظفاره من قبل أن ينفضه ويلقيه عنه؟ فوقّع(عليه السلام) : «يجوز»(3) ، وما رواه الصدوق عن عليّ بن الريّان أنّه سأل أبا الحسن الثالث(عليه السلام) عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره ثمّ يقوم إلى الصلاة من غير
(1) التهذيب 2 : 207 ح810 ; الإستبصار 1: 383 ح1453; الوسائل 4 : 377. أبواب لباس المصلّي ب14 ح4 .
(2) التهذيب 2: 206 ح805 و 806 ; الوسائل 4: 377. أبواب لباس المصلّي ب14 ح3 .
(3) التهذيب 2 : 367 ح1526 ; الوسائل 4 : 382. أبواب لباس المصلّي ب18 ح2.
(الصفحة318)
أن ينفضه من ثوبه؟ فقال : «لا بأس»(1) .
والظاهر أنّهما رواية واحدة والاختلاف في الألفاظ نشأ من اختلاف نقل الراوي كما لا يخفى .
وحينئذ فيشكل التعميم لما إذا كان مع المصلّي شعر غيره من أفراد الإنسان ، إذ لا يعلم أنّ الحكم بالجواز كان جواباً عن السؤال بالنحو الأوّل ، لأنّه يحتمل أن يكون جواباً عن السؤال بالنحو الثاني المتضمّن للمسألة عن حكم ما إذا كان مع المصلّي شعر نفسه أو ظفره ، فيكون الجواز مختصّاً به . هذا ، ولكنّ الظاهر ما عرفت من الانصراف ، فيعمّ الجواز كلتا الصورتين .
ثمّ لا يخفى عدم اختصاص ما ذكرنا من مانعية أجزاء غير المأكول بالحيوان الذي كان له جميع المذكورات في الموثقة ابن بكير من الشعر والوبر وغيرهما ، بحيث لو لم يكن لبعض الحيوانات غير المأكول وبر مثلا لم يكن هنا مانع من الصلاة في أجزائه ، ضرورة أنّه لا دلالة لذكرها في الموثقة على انحصار الحكم بذلك الحيوان ، مضافاً إلى وضوح عدم الاختصاص بذلك كما يظهر بمراجعة العرف الذي هو الحاكم في الخطابات الشرعية .
وكذا لا يختص المنع بالحيوان الذي له لحم ، كما ربّما يتوهّم من قول الإمام(عليه السلام)في الموثقة بعد نقله ما في كتاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «فان كان ممّا يؤكل لحمه» ، بتقريب أنّ قرينة المقابلة تقتضي أن يكون المراد بقوله : «وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله» ، هو ما كان أكل لحمه حراماً ومنهيّاً عنه وذلك ـ أي وجه عدم الاختصاص بما ذكر ـ إطلاق كلام النبي(صلى الله عليه وآله) على ما نقله الإمام(عليه السلام)عن كتابه(صلى الله عليه وآله)وهو قوله : «إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله . . .» .
حيث إنّه يدلّ على أنّ المناط حرمة أكل الحيوان سواء كان ذا لحم أم لم يكن
(1) الفقيه 1 : 172 ح812 ; الوسائل 4: 382. أبواب لباس المصلّي ب18 ح1.
(الصفحة319)
ولا وجه لتقييده بالأوّل بعد تعارف أكل الثاني أيضاً كما في الجراد وغيره ، وتقييد الإمام(عليه السلام) إنّما هو بملاحظة أنّ المتعارف غالباً هو أكل الحيوان الذي له لحم والتغذي به لا بغيره .
وكذا لا يختصّ المنع بالحيوان الذي قد يزهق روحه بالتذكية وقد يزهق بغيرها ، كما ربّما يتوهّم من قول الإمام(عليه السلام) في الموثقة : «إذا علمت أنّه ذكي ذكاه الذبح» ، وذلك لأنّ ذكر هذا الكلام إنّما هو لبيان أنّ مجرّد كون الحيوان مأكول اللحم لا يوجب صحة الصلاة في أجزائه ، بل له شرط آخر وهو وقوع التذكية عليه ، ولايخفى أنّ هذا الشرط إنّما هو بالنسبة إلى استعمال جلده لا سائر أجزائه من الوبر والشعر وغيرهما ، لأنّه تصحّ الصلاة فيها ولو قطعت عنه في حال الحياة .
فظهر أنّه لا يختصّ المنع بذلك ، بل يشمل الحيوانات التي لا تقبل التذكية الموجبة للطهارة والحلية أصلا ، كما أنّه لا وجه للاختصاص بالحيوان الذي يذكّى بالذبح لا بالنحر وغيره ، كما ربّما يتوهّم من كلام الإمام(عليه السلام) ، وذلك لأنّ التعبير به إنّما هو بملاحظة أنّ الغالب هو كون التذكية بالذبح لا بغيره ، وذلك لا يوجب الاختصاص كما هو واضح .
ثمّ إنّه لا فرق بين كون الحيوان له نفس سائلة وبين غيره ، لعدم دلالة شيء من الأخبار الواردة في الباب عليه ولو بالإشعار ، كما يظهر لمن راجعها ، ولا وجه لاحتماله في المقام ، واحتمال الفرق بينهما في مسألة الميتة إنّما هو لأجل احتمال أنّ مانعية الميتة إنّما هي لأجل كونها نجسة لا لموضوعيتها .
وعليه فلا يشمل دليل المنع ميتة غير ذي النفس لعدم نجاستها ، وهذا بخلاف المقام ، لأنّه لا وجه لاحتمال الاختصاص بالاُولى كما عرفت . نعم لو استندنا في المسألة إلى الشهرة والاجماعات المنقولة ولم نعتمد على الموثقة لاحتمل الاختصاص بما هو القدر المتيقّن منها ، إذ حينئذ لا دليل على الإطلاق كما لايخفى .
(الصفحة320)
الصلاة في اللباس المشكوك
لا إشكال ولا خلاف بين الإماميّة في بطلان الصلاة فيما علم كونه من أجزاء غير المأكول ، كما عرفت في المسألة السابقة(1) ، إنّما الإشكال في حكم الصلاة فيما لم يعلم كونه كذلك ، فالمشهور بين المتأخّرين هو البطلان(2) ، وذهب جماعة منهم إلى الصحة(3) .
ولا يخفى أنّه لم يرد في المسألة نصّ بالخصوص عنهم(عليهم السلام) ، وفتاوى الأصحاب
(1) الغنية: 66; السرائر 1: 262; المعتبر 2 : 78; المنتهى 1 : 225; تذكرة الفقهاء 2 : 465 مسألة 118 وص466 مسألة 119; نهاية الأحكام 1: 373; جامع المقاصد 2 : 80 ; الذكرى 3 : 32; روض الجنان : 212; كشف اللثام 3 : 201; الحدائق 7 : 50 .
(2) شرائع الاسلام 1: 104; المنتهى 1: 231; قواعد الأحكام 1: 302; جامع المقاصد 2: 488; مسالك الأفهام 1: 285; رياض المسائل 3: 153; جواهر الكلام 8 : 81 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 2: 95; مدارك الاحكام 3 : 167; بحار الأنوار 80: 222; مستند الشيعة 4 : 317; الحدائق 7 : 86 .
|