(الصفحة41)
يكون الأمر بالعكس(1) ، انتهى .
واعترض عليه في المصباح بما ملخّصه : إنّ تضعيف الداعي النفساني قد لا يكون ميسوراً حتى يصح تعلّق التكليف به ، ألا ترى امكان تكليف الأب في المثال المذكور بوجوب أن لا يكون انقاذ الابن من حيث هو مقصوداً له ، نعم لو كان القصد المؤثر في الفعل مجرّد الملاحظة أو الاخطار الصوري لكان ذلك ميسوراً لكلّ أحد مطلقاً ، وإذ ليس فليس .
فحينئذ إمّا أن يلتزم بارتفاع وجوب الوضوء وانتقال فرضه إلى التيمّم ، أو يقال بكفاية إيجاد الفعل بداعي القربة ، مع انضمامها إلى إرادة حصول أمر مباح ، لكونه هو القدر الممكن في مقام الاطاعة ، والأول مع مخالفته لظاهر الأدلة; بديهي الفساد ولا يلتزم به أحد، فيتعيّن الثاني(2) . انتهى .
أقول : ويمكن الفرق بين الداعي وبين العلّة الغائية ، فإنّ مع تعددها لا يمكن استناد التأثير إلى واحد منها دون الآخر بعد اشتراكها فيه ، وهذا بخلاف الداعي ، فإنّه يمكن للفاعل إيجاد الفعل ببعض الدواعي بالخصوص ، وإن كان في نفسه بعض الدواعي الاُخر ، الصالح للتحريك والدعوة فتأمّل .
هذا كلّه في الضمائم المباحة ، وأمّا الضمائم الراجحة ، فحكمها حكم الضمائم المباحة ، فتبطل العبادة مع تبعية قصد القربة ، أو كون الداعي هو المجموع ، وفي صورة استقلالهما اشكال ، والأحوط وجوب الإعادة والله أعلم .
اعتبار قصد التعيين وبيان المراد منه
يظهر من بعض الأصحاب اعتبار قصد التعيين في العبادات زائداً على قصد
(1) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري بحث الوضوء: 95 .
(2) مصباح الفقيه، كتاب الطهارة: 116 .
(الصفحة42)
القربة(1) ، بمعنى أنّه يجب أن ينوي خصوص الأمر المتعلّق بالمأتي به ، فلو أمر المولى بفردين من طبيعة واحدة مرتين ، كما إذا أمر يوم السبت مثلا بتحرير رقبة ، ويوم الخميس أيضاً بذلك ، وعلم التعدد من الخارج لا التأكيد ، فيجب عند الاعتاق أن ينوي خصوص الأمر الصادر يوم السبت ، أو يوم الخميس ، ولا يكفي مجرّد الاعتاق بداعي مطلق الأمر ، وطبيعته من غير تعيين الخصوصيات .
وأنت خبير بأنّ ذلك مجرّد ادعاء بلا بينة ، إذ لا يعتبر في العبادة إلاّ أن يكون الداعي إلى إتيانها ، هو الذي يقتضي طبع العبادة والعابد والإتيان بها بذلك النحو . وبعبارة اُخرى أن لا يكون الداعي إلى إتيانها هي الأغراض الدنيوية .
وأمّا خصوصية الأمر فلا دليل عليه ، نعم لو كان المراد من قصد التعيين ما ذكرنا من قصد العنوان الذي لا ينصرف العمل المشترك من حيث الصورة بين عنوانين أو أزيد إلى واحد معيّن منهما أو منها إلاّ بمجرّده كعنوان الصلاة ، وكذا الأنواع الواقعة تحتها كالظهر والعصر وغيرهما ، فلا إشكال في اعتباره كما عرفت سابقاً .
ولكن لا يخفى أنّ ذلك لا يتوقّف على تعدد الأمر ، بل لو كان هنا أمر واحد متعلّق بصلاة الظهر مثلا ، يجب الإتيان بها بقصد ذلك العنوان ، لأنّ صيرورتها كذلك تتوقّف على القصد ، بل قد عرفت عدم اختصاصه بالعبادات لاعتباره في بعض التوصليات أيضاً ، كما عرفت مثاله فيما تقدّم ، بل لا يختصّ بالأحكام التكليفية ، لاعتباره في المعاملات أيضاً كما مرّ .
ثم إنّه قد يطلق قصد التعيين ويراد به الامتثال على طريق العلم التفصيلي في
(1) مستند الشيعة 5 : 11; كشف اللثام 3 : 408 ـ 409 ; جواهر الكلام 9 : 156; تذكرة الفقهاء 3 : 101; الحدائق 8 : 13 ـ 18; مدارك الاحكام 3 : 309 .
(الصفحة43)
مقابل الإكتفاء بالامتثال العلمي الاجمالي ، فيمن علم بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا على نحو الاجمال ، وأتى بهما جميعاً في مقام الامتثال ، مع التمكن من المراجعة إلى الأدلة ، واستنباط ما يكون واجباً بالخصوص عند زوال يوم الجمعة ، وكذا في الأقل والأكثر ، فيما إذا دار أمر الجزء الزائد بين أن يكون واجباً ، أو لغواً ، لا مستحبّاً .
فإنّ الظاهر أنّ الملاك فيهما واحد ، فإنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّ الامتثال هل يتحقّق بخصوص الأقل أو به مع ضمّ الجزء الزائد ، كما أنّ الآتي بصلاة الظهر لا يعلم أنّه يتحقّق بها الامتثال ، أو بصلاة الجمعة التي يأتي بها بعدها ، أو أتى بها قبلها ، فالتفصيل بين الصورتين ـ كما حكي عن بعض(1) ، حيث فرّق بين ما إذا كان الاحتياط مستلزماً للتكرار ، كما في المتبائنين فلا يجوز ، وبين ما إذا لم يكن مستلزماً له ، كما في الأقل والأكثر فيجوز ـ ممّا لم يعلم له وجه أصلا ، لما عرفت من أنّ الملاك فيهما واحد، هذا في الشبهة الحكمية .
وأمّا الشبهة الموضوعية فالحكم فيها أيضاً كذلك ، مثل ما إذا كان ثوبه الطاهر مشتبهاً بثوبه النجس مع تمكّنه من الصلاة في خصوص الثوب الطاهر ، إمّا لتمكّنه من الفحص والتمييز بينهما ، أو من غسل أحدهما والصلاة فيه ، أو كان له ثوب ثالث يتمكّن من الصلاة فيه .
فإنّه قد يقال بوجوب الامتثال العلميّ التفصيلي ، وعدم كفاية امتثال العلمي الاجمالي في جميع الصور ، نظراً إلى أنّ احتمال الأمر لا يكفي في مقام الامتثال ، مع التمكّن من الإتيان بما علم تعلّق الأمر به ، كما في المقام ، حيث إنّ المفروض هو صورة تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي ، وإلاّ فالاكتفاء بالامتثال العلمي
(1) السرائر 1: 185 ـ 186; وحكى عنه الشيخ الأنصاري في فرائد الاُصول مبحث القطع: 15.
(الصفحة44)
الاجمالي ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، فالكلام إنما هو في صورة التمكّن منه ، ومعه لا يكفي الإتيان بداعي احتمال الأمر .
أقول : لا يخفى إنّ مسألة الإتيان بداعي احتمال الأمر لا ارتباط لها بالمقام أصلا ، فإنّه من الواضح أنّ الإتيان بالمأمور به فيما نحن فيه إنما هو بداعي الأمر المعلوم ثبوته ، والاجمال والاشتباه إنما حصل في ناحية المأمور به لا الأمر ، والإتيان بجميع الأطراف إنما هو لأجل تحصيل العلم بامتثال الأمر المعلوم المتعلّق إلى واحد منها معيناً في الواقع ، غير معيّن عند المكلّف .
وبالجملة : فالمكلّف إنما يقصد التقرب بما هو المأمور به واقعاً لا بكلّ واحد منها ، والمفروض تعلّق الأمر به يقيناً ، والإتيان بداعي احتمال الأمر انّما هو فيما لم يعلم بوجوده أصلا ، كما في جميع الشبهات البدوية الوجوبية ، وأمّا في مثل المقام ممّا علم بوجود الأمرفلاإشكال في أنّ الإتيان بجميع الأطراف إنماهو بداعي الأمر المعلوم.
بل يمكن أن يقال بأقوائية الداعي بالنسبة إلى المكلّف الذي يأتي بتمام الأطراف ، تحصيلا للعلم بتحقّق المأمور به ، لأنّه يتحمل في مقام الامتثال مشقّة كثيرة لكي يعلم بتحققه ، بخلاف المكلّف الذي لا يأتي إلاّ بما يكون هو المأمور به يقيناً كما هو واضح ، فالإشكال في الاكتفاء بالامتثال العلمي الاجمالي من هذه الجهة ، الراجعة إلى الاخلال بقصد القربة المعتبر في العبادة ممّا لاينبغي .
نعم يمكن أن يقال بأنّه يعتبر في العبادة زائداً على قصد القربة ، أن يعلم المكلّف تفصيلا; بأنّ المقرّب هل هذا الذي يأتي به أولاً ، أو الذي يأتي به ثانياً؟ ولكن هذا ادعاء بلا بينة وبرهان .
نعم استظهر الشيخ(رحمه الله) في رسالة القطع ، بل حكى عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط ، إذا توقّف على تكرار العبادة(1) ، واستظهر من
(1) فرائد الاُصول : 15 .
(الصفحة45)
المحكي عن الحلّي في مسألة الصلاة في الثوبين المشتبهين ، عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي(1) ، ومرجعه إلى سقوط شرطية الستر مع اشتباه الثوب الطاهر بالنجس .
ويظهر أيضاً ممّا ذكره في رسالة الاشتغال(2) ، إنّه قد يقال بعدم جواز الاحتياط ; للزوم التشريع ، وذلك لأنّ قصد القربة المعتبر في الواجب الواقعي لازم المراعاة في كلا المحتملين ليقطع باحرازه في الواجب الواقعي ، ومن المعلوم أنّ الإتيان بكلّ من المحتملين بوصف أنّها عبادة مقربة موجب للتشريع بالنسبة إلى ما عدا الواجب الواقعي ، فيكون محرّماً ، فالاحتياط ممّا لا يمكن في العبادات ، وإنما يمكن في غيرها ، لعدم اعتبار قصد القربة فيها المستلزم لإتيان غير العبادة بوصف أنّها عبادة كما عرفت .
وأما الاجماع فلا حجية له في نظائر المسألة ، وقد حقّقنا في الاُصول(3) أنّ حجيّته منحصرة بما إذا كان معقده من المسائل الأصلية المدونة في الكتب(4)الموضوعة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة الطاهرة(عليهم السلام) ، بعين ألفاظها الصادرة عنهم ، وذلك لكشفه عن وجود نصّ معتبر لم يصل إلينا ، فحجّيته تكون من حيث الكشف الراجع إلى حجية المكشوف، لا الكاشف .
وأمّا المسائل التفريعية غير المذكورة في تلك الكتب ، بل الأصحاب ذكروها في كتبهم المعدّة لمثلها ، فلا يكون الاجماع فيها حجّة ، خصوصاً في مثل المسألة التي لم يتعرّضها إلاّ قليل من الأصحاب .
(1) السرائر 1 : 185 ـ 186 ، أحكام النجاسات.
(2) فرائد الاُصول : 266 .
(3) نهاية الاُصول: 538 .
(4) كالمقنعة والنهاية والمقنع والإنتصار والغنية والوسيلة.
(الصفحة46)
وأمّا التشريع فلا يخفى عدم استلزام الاحتياط له ، لأنّ اعتبار قصد التقرب في العبادة لا يقتضي قصده في كلّ من المحتملين ، حتّى يلزم التشريع ، بل اللاّزم الإتيان بما هو الواجب في الواقع بوصف أنّها عبادة مقرّبة ، فيقصد في كلّ منهما حصول التقرب به أو بصاحبه الذي يأتي به بعده ، أو أتى به قبله ، وهذا واضح جدّاً .
فتحصّل من جميع ما ذكرنا جواز الاكتفاء بالاحتياط ، ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، بلا فرق بين ما إذا كان متوقّفاً على التكرار ، كما في المتبائنين ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما في الأقل والأكثر ، وقد عرفت أيضاً أنّ القائل بالمنع في الأول ، يلزمه القول بالمنع في الثاني أيضاً ، في خصوص ما إذا كان أمر الجزء الزائد مردّداً بين أن يكون واجباً ، أو لغواً ، لا مستحبّاً كما لايخفى .
العدول إلى صلاة أخرى
قد عرفت أنّه كما يجب قصد عنوان الصلاة ، كذلك يجب قصد الأنواع المندرجة تحتها من الظهرية والعصرية وغيرهما ، من العناوين التي لا ينصرف العمل المشترك من حيث الصورة إلاّ بالقصد إلى بعضها، وحينئذ فيقع الكلام في أنّه إذا شرع في الصلاة مع قصد بعض تلك العناوين ، فهل يجوز له العدول في الأثناء إلى بعضها الآخر .
كما إذا شرع فيها بقصد صلاة العصر ، ثم التفت في الأثناء إلى أنّه لم يأت بصلاة الظهر بعد ، فعدل إليها ، أو العكس .
وكما إذا شرع في نافلة الفجر بقصدها ، ثم عدل إلى فريضته ، أو العكس .
وكما إذا شرع في الصلاة بقصد عنوان الظهر في وقته ، ثم التفت إلى أنّه فاتت منه صلاة الغداة فعدل منها إليها .
(الصفحة47)
فإنّه لا فرق بين أن يكون كلّ من المعدول عنه والمعدول إليه في وقته ، بأن كانا أدائيين ، أو كان واحد منهما قضاءً ، بل يظهر من كلمات الأصحاب(1) كون كلّ منهما قضاءً ، كما إذا شرع في قضاء العصر ، ثم التفت إلى أنّه فات منه الظهر أيضاً ، فعدل منه إليه .
ولا يخفى أنّ مقتضى الأصل والقاعدة عدم جواز العدول ، بحيث لو عدل تقع الصلاة فاسدة ، ولا تصلح لأن تصير مصداقاً للمعدول عنه ، ولا للمعدول إليه ، امّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول عنه ، فلأنّه تعتبر استدامة النية إلى آخر الصلاة ، فقصد عنوان الظهرية لا يؤثر في صيرورة الصلاة صلاة الظهر ، إلاّ إذا كان باقياً إلى الفراغ منها .
وأمّا عدم وقوعها مصداقاً للمعدول إليه ، فلأنّ القصد المحقّق لبعض العناوين ، لا يؤثر في تحقّقه بحيث يوجب تخصّص العمل بتلك الخصوصية ، إلاّ إذا كان ثابتاً حين الشروع في العمل ، وتأثير القصد الحادث في الأثناء في الأجزاء المأتيّ بها قبله ، بحيث صار موجباً لصيرورتها أجزاءً للمعدول إليه .
مضافاً إلى أنّه خلاف الأصل ـ لأنّ الأصل عدم التأثير ـ ومخالف لحكم العقل أيضاً ، فإنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء الحادث فيما يكون ثابتاً قبل حدوثه كما هو واضح ، ووقوعها مصداقاً لكلّ من المعدول عنه والمعدول إليه مستلزم لكلا المحذورين ، مضافاً إلى أنّه كيف يمكن أن تقع صلاة واحدة مصداقاً لأزيد من عنوان واحد ، كما هو أظهر من أن يخفى؟! .
وممّا ذكرنا ـ جواز العدول مخالف للأصل والقاعدة بل لحكم العقل ـ يظهر إنّه
(1) المعتبر 2: 409; تذكرة الفقهاء 2: 361; جامع المقاصد 2: 495; مفتاح الكرامة 2: 47، وج3: 399; جواهر الكلام 13: 106; كشف اللثام 4: 438 .
(الصفحة48)
قد وردت نصوص على الجواز في بعض الفروع ، فلا يجوز التعدّي عن موردها بوجه أصلا ، فاللاّزم أن ننظر إلى تلك النصوص حتّى يظهر موارد الترخيص .
فنقول : قد وردت في هذا الباب روايات .
منها : صحيحة زرارة الطويلة ، وهي ما رواه عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ فأذّن لها وأقم ، ثم صلّها ، ثم صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة» . وقال : قال أبوجعفر(عليه السلام) : «وإن كنت قد صلّيت الظهر وقد فاتتك الغداة فذكرتها فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر ، ومتى ما ذكرت صلاة فاتتك صلّيتها»، وقال : «إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاُولى ثم صلّ العصر، فإنّما هي أربع ، مكان أربع وإن ذكرت أنّك لم تصلّ الأولى وأنت في صلاة العصر وقد صلّيت منها ركعتين فانوها الأولى ، ثم صلّ الركعتين الباقيتين ، وقم فصلّ العصر ، وإن كنت قد ذكرت أنّك لم تصلّ العصر حتى دخل وقت المغرب ولم تخف فوتها فصلّ العصر ثم صلّ المغرب ، فإن كنت قد صلّيت المغرب فقم فصلّ العصر ، وإن كنت قد صلّيت من المغرب ركعتين ثم ذكرت العصر فانوها العصر ثم قم فأتمّها ركعتين ثم تسلّم ثم تصلّي المغرب ، فإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب فقم فصلّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو قمت في الثالثة فانوها المغرب ثم سلّم ، ثم قم فصلّ العشاء الآخرة ، فإن كنت قد نسيت العشاء الآخرة حتى صلّيت الفجر ، فصلّ العشاء الآخرة وإن كنت ذكرتها وأنت في الركعة الأولى أو في الثانية من الغداة فانوها العشاء ، ثم قم فصلّ الغداة وأذّن وأقم ، وإن كانت المغرب والعشاء قد فاتتاك جميعاً فابدأ بهما قبل أن تصلّي الغداة ، إبدأ بالمغرب ثم العشاء ، فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بهما فابدأ بالمغرب ثم الغداة ثم صلّ العشاء ، وإن
(الصفحة49)
خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثم صلّ المغرب والعشاء إبدأ بأوّلهما، لأنّهما جميعاً قضاء أيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلاّ بعد شعاع الشمس».
قال : قلت : ولِمَ ذاك؟ قال : «لأنّك لست تخاف فوتها»(1) .
والمراد بقوله(عليه السلام) في صدر الرواية : فابدأ بأوّلهن فأذّن لها . . . ، يحتمل أن يكون إيجاب الابتداء بما فات منه أولاً من الصلوات الفائتة ، بمعنى أنّه يجب مراعاة الترتيب بينها ، ويحتمل أن يكون ذلك توطئة للحكم المذكور بعده ، وهو الأذان والإقامة ، بمعنى أنّ مايؤتى به أولاً يتأكّد له الأذان والإقامة معاً دون ما يؤتى به بعده ، فإنّه لا يتأكّد فيه إلاّ الإقامة وحدها ، فالمقصود بيان هذا المعنى ، لا إيجاب الابتداء بما فات أولاً .
ثم إنّ قوله : «وقال أبو جعفر(عليه السلام)» يحتمل أن يكون المقول لذلك القول قد ذكره الإمام(عليه السلام) متعاقباً للحكم الذي ذكره أولاً بلا فصل، ويحتمل أن يكون التعاقب ناشئاً من الراوي، بمعنى أنّ كلّ حكم من الأحكام المذكورة في الرواية قد صدر من الإمام(عليه السلام) في زمان ، والآخر قبله أو بعده ولو مع فصل ، غاية الأمر إنّ الراوي ذكرها في كتابه مثلا متعاقباً .
ثم إنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها ولو بعد العصر» ، يحتمل أن يكون وجوب الإتيان بها عند حدوث الذكر كما يقول به القائل بالمضائقة ، ويحتمل أن يكون وجوب الإتيان بها في حالة الذكر لا عند حدوثه ، وعلى الأول يحتمل أن يكون المراد به التوقيت كما يظهر من قدماء الأصحاب(2) ، بمعنى أنّ وقت القضاء إنما هو عند حدوث الذكر ، فإذا لم يأت بها في وقته، تصير قضاءً أيضاً .
(1) الكافي 3 : 291 ح1; التهذيب 3 : 158 ح340; الوسائل 4 : 290. أبواب المواقيت ب63 ح1 .
(2) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 38; السرائر 1: 272; الكافي في الفقه : 149; المهذّب 1: 126; التحرير 1: 50; المختصر النافع: 46; قواعد الأحكام 1: 310.
(الصفحة50)
ويحتمل أن يكون المراد به مجرّد الايجاب عند حدوث الذكر لا التوقيت ، والمراد بقوله : «ولو بعد العصر» أنّ القضاء لا يلحق بالنافلة المكروهة أو المحظورة بعد العصر ، بل يجوز الإتيان بها من غير كراهة ولو بعده .
ثم إنّ قوله(عليه السلام) : «إذا نسيت الظهر حتّى صلّيت العصر . . .» ، مضافاً إلى أنّه قد ذكر ثانياً في العبارة التي بعدها بالنسبة إلى التذكّر في الأثناء ، غير مفتى به لأحد من متقدّمي الأصحاب بالنسبة إلى التذكّر بعد الفراغ ، ومعه يسقط هذا المقدار من الحجية ، لأنّه قد حقّق في الأصول أنّ أدلة حجية خبر الواحد كلّها راجعة إلى الطريقة المستمرّة بين العقلاء ، وتكون إمضاءً لها ، وليس مفادها الحجية التأسيسية لخبر الواحد .
وحينئذ فمع عدم ذهاب أحد من قدماء الأصحاب ـ الذين هم وسائط بيننا وبين الأئمة(عليهم السلام) في نقل الأحكام الصادرة عنهم(عليهم السلام) إلينا، ومخازن كنوز أنوارهم إلى هذا المعنى ـ لا يحكم العقل بالحجية أصلا ، بعد كون بنائهم على ذكر الفتاوى المأثورة عن أهل البيت(عليهم السلام) بعين ألفاظها الصادرة عنهم كما عرفت مراراً .
وبالجملة: فلا يبقى مجال للوثوق ، وإن اختار هذا الحكم بعض المتأخرين كصاحب المدارك وبعض آخر(1) ، إلاّ أنّه لا اعتبار بأقوالهم .
ومنها : رواية عبدالرحمان بن أبي عبدالله البصري(2) قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن رجل نسي صلاة حتى دخل وقت صلاة اُخرى؟ فقال : «إذا نسي الصلاة أو نام عنها صلّى حين يذكرها فإذا ذكرها وهو في صلاة بدأ بالتي نسي وإن كان ذكرها مع إمام في صلاة المغرب أتمّها بركعة ثم صلّى المغرب ثم صلّى العتمة بعدها وإن كان صلّى العتمة وحده فصلّى منها ركعتين ثم ذكر أنّه نسي المغرب أتمّها
(1) مدارك الأحكام 3: 116; مجمع الفائدة والبرهان 2: 56; جواهر الكلام 7: 318.
(2) في السند معلّى بن محمد، وقد ضعّفه جمع كثير ، بل مرميّ بالغلوّ أيضاً، (منه) .
(الصفحة51)
بركعة فتكون صلاته للمغرب ثلاث ركعات ثم يصلّي العتمة بعد ذلك»(1) .
هذا ، والمراد بالسؤال هو نسيان الصلاة حتّى دخل وقت الصلاة التي بعدها ، فيشمل جميع الصور المفروضة في صحيحة زرارة المتقدّمة ، ويحتمل أن يكون المراد نسيانها حتى دخل وقت صلاة اُخرى ولو لم تكن بعدها ، بأن طال نسيانه إلى شهر أو سنة مثلا فتكون هذه الرواية أوسع دلالة من الرواية المتقدّمة .
والمراد بقوله: «حين يذكرها» هو ما عرفت في معنى قوله(عليه السلام) في رواية زرارة: «فصلّ الغداة أيّ ساعة ذكرتها» .
ومنها : رواية الحلبي(2) قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أمّ قوماً في العصر فذكر وهو يصلّي بهم أنّه لم يكن صلّى الأولى؟ قال : «فليجعلها الأولى التي فاتته ويستأنف العصر وقد قضى القوم صلاتهم»(3) .
ومنها : رواية الحلبي أيضاً قال : سألته عن رجل نسي أن يصلّي الأولى حتّى صلّى العصر؟ قال : «فليجعل صلاته التي صلّى الأولى ثم ليستأنف العصر . . .»(4) .
ومنها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل دخل مع قوم ولم يكن صلّى هو الظهر والقوم يصلّون العصر يصلّي معهم؟ قال : «يجعل صلاته التي صلّى معهم الظهر ويصلّي هو بعد العصر»(5) .
ومنها : رواية حسن بن زياد الصيقل قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل
(1) الكافي 3: 293 ح5، التهذيب 2: 269 ح1071، الوسائل 4: 291. أبواب المواقيت ب63 ح2.
(2) المراد بالحلبي في سند الرواية هو عبيدالله بن علي الحلبي ، لرواية حمّاد عنه ، كما أنّ المراد به في سند الرواية التي بعدها هو محمد بن علي الحلبي لرواية ابن مسكان عنه، (منه) .
(3) الكافي 3 : 294 ح7; والتهذيب 2 : 269 ح1072 وص 197 ح777; الوسائل 4 : 292. أبواب المواقيت ب63 ، ح3 .
(4) التهذيب 2: 269 ح1074; الإستبصار 1: 287 ح1052; الوسائل 4: 292. أبواب المواقيت ب63 ح4.
(5) التهذيب 2: 271 ح1078; الوسائل 4: 293. أبواب المواقيت ب63 ح6.
(الصفحة52)
نسي الأولى حتى صلّى ركعتين من العصر؟ قال : «فليجعلها الأولى وليستأنف العصر». قلت : فإنّه نسي المغرب حتى صلّى ركعتين من العشاء ثم ذكر؟ قال : «فليتم صلاته ثم ليقض بعد المغرب» . قال : قلت له : جعلت فداك، قلتَ ـ حين نسي الظهر ثم ذكر وهو في العصر ـ يجعلها الأولى ثم يستأنف، وقلتَ لهذا: يتمّ صلاته ثم ليقض بعد المغرب؟! فقال : «ليس هذا مثل هذا إنّ العصر ليس بعدها صلاة والعشاء بعدها صلاة»(1) .
هذا، والمراد بقوله : «فليتمّ صلاته» هو إتمامها عشاءً بإضافة الركعتين الأخيرتين إليهما ، وحينئذ فيكون مفعول قوله : «ثم ليقض» ، هو المغرب المذكور بعده ، وكلمة «بعد» مبنية على الضم والمضاف إليه محذوف ، فمعنى الرواية إنّه يجب عليه إتمام الصلاة التي شرع فيها بنية العشاء عشاءً ثم قضاء المغرب بعد العشاء ، والتعبير بالقضاء إنما هو لأنّ المعروف بين المسلمين تباين وقتي المغرب والعشاء ، وكذا الظهر والعصر ، لا كما يقول به الإمامية من الاشتراك .
وحينئذ فمرجع اعتراض السائل إلى أنّه ما الفرق بين المسألتين حيث قلت في الأولى بالعدول من العصر إلى الظهر ثم استئناف العصر ، وفي الثانية بعدم جواز العدول بل يتمّ صلاة العشاء ثم يأتي بالمغرب ؟ والمراد من الجواب ثبوت الفرق بينهما ، وهو انّه لا تجوز الصلاة بعد العصر إمّا على طريق الكراهة ، وإمّا على نحو الحرمة، بخلاف العشاء، فيرجع إلى أنّ القضاء بعد العصر إنما يكون مثل النافلة بعدها في الحرمة أو الكراهة ، بخلاف القضاء بعد العشاء .
ثم إنّ ما ذكرنا في معنى الرواية هو الذي يقتضيه ظاهرها بل صريحها كما هو واضح .
(1) التهذيب 2: 270 ح1075; الوسائل 4: 293. أبواب المواقيت ب63 ح5.
(الصفحة53)
وتوهّم كون المراد بوجوب إتمام صلاته هو وجوب إتمامها مغرباً بإضافة ركعة إليهما ، وبوجوب القضاء قضاء العشاء ، بأن تكون كلمة بعد مضافة إلى المغرب ، فلاتكون الرواية منافية للروايات المتقدّمة التي يدلّ أكثرها على العدول من العشاء إلى المغرب ، فيما لو ذكر في الأثناء أنّه فاتته منه صلاة المغرب .
يدفعه ـ مضافاً إلى أنّ الظاهر من قوله : «فليتمّ صلاته» هو إتمامها بالنية التي شرع فيها بتلك النية لا إتمامها بنية اُخرى ـ إنّه لا يكون حينئذ وجه لاعتراض السائل على الإمام(عليه السلام)، بأنّه ما الفرق بين المسألتين من حيث جواز العدول وعدمه ، كما هو غير خفيّ؟! وتوهّم كون مقصود السائل هو الاعتراض بأنّه ما الفرق بين العصر والعشاء حيث عبّرت في الأولى بالاستئناف ، وفي الثانية بالقضاء ؟، ممّا لا يخطر ببال أحد أصلا .
وكيف كان، فلو كان المراد من الرواية ما ذكرنا في معناها الذي مرجعه إلى التفصيل بين العصر والعشاء ، من حيث أنّه يجوز العدول من الأولى إلى الظهر ، ولايجوز العدول في الثانية إلى المغرب، تكون الرواية معرضاً عنها ، لعدم ذهاب أحد من الأصحاب إلى هذا التفصيل كما يظهر بمراجعة فتاويهم .
هذه مجموع النصوص الواردة في هذا المقام ، وقد ظهر لك أنّ مقتضى رواية زرارة جواز العدول من العصر إلى الظهر ، ومن العشاء إلى المغرب ، ومن الغداة إلى العشاء ، ومقتضى إطلاق رواية عبدالرحمان بن أبي عبدالله البصري الجواز في جميع هذه الصور ، بل أوسع منها بناءً على ثاني الاحتمالين المتقدمين ، وقد صرّح فيها أيضاً بالجواز في غير الصورة الأولى والأخيرة .
ورواية عبيدالله الحلبي تدلّ على جواز العدول في الصورة الأولى ، ومقتضى رواية الصيقل أيضاً كذلك ، وأمّا رواية محمّد بن علي الحلبي ، فهي ظاهرة في العدول بعد الفراغ من المعدول عنه ، وهكذا روايتا زرارة ، ولكن قد عرفت أنّ
(الصفحة54)
القول بالجواز ولو بعد الفراغ في غاية الشذوذ، بل لا إعتناء به أصلا ، لكون القائل به من المتأخّرين(1) ، فظهر لك أنّ صحيحة زرارة الطويلة متفرّدة بالتصريح بجواز العدول في جميع الصور المتقدّمة .
إذا عرفت جميع ذلك ، فاعلم أنّه لا محيص عن الأخذ بمقتضى الروايات ، والحكم بجواز العدول ، ويؤيده ذهاب جمع كثير من قدماء الأصحاب كالشيخ في النهاية وغيره من الأكابر إلى الجواز(2) . وأمّا المفيد والمرتضى وبعض آخر ، فلم يتعرّضوا هذه المسألة أصلا .
وأمّا المتأخّرين فقد استقر الفتوى بذلك من زمان المحقّق(قدس سره) إلى زمانهم من غير خلاف(3) ، وحينئذ فلا إشكال في جواز العدول في الجملة .
نعم وقع الإشكال في أنّه هل يكون ذلك في خصوص مورد الروايات ، وهو ما إذا فاتته الفريضة السابقة على الفريضة المعدول عنها المتصلة بها بحيث توجّه التكليف بها إليه بعد توجّهه إلى المعدول إليها من دون أن يقع في الوسط تكليف متوجّه إليه متعلّق بالصلاة ، أو يتعدّى إلى ما كان بينهما بعض التكاليف الاُخر الذي امتثله ، كالعدول من المغرب إلى الظهر ، أو من العشاء إليه ، أو إلى العصر ، أو من الغداة إليهما ، أو إلى المغرب ، بل يتعدّى إلى ما كان المعدول إليه فائتاً قبل هذا اليوم بيوم أو أيّام ، بل ولو بشهر أو سنة أو أزيد؟ وجهان ، والظاهر هو الأول ، لما عرفت في صدر المسألة من كون جواز العدول على خلاف القاعدة ، ولا يجوز التعدّي عن موارد الترخيص أصلا .
(1) راجع 2 : 50 .
(2) النهاية: 125 ـ 126; المهذّب 1: 126; الكافي في الفقه: 150; السرائر 1: 239.
(3) شرائع الاسلام 1: 54; المنتهى 1: 422; الروضة 1: 356; مدارك الأحكام 3: 116; مفاتيح الشرائع 1: 96; كشف اللثام 3: 85 ; مستند الشيعة 4: 143; مسالك الافهام 1: 148; جواهر الكلام 7: 315 ـ 317.
(الصفحة55)
ثم إنّ مقتضى الروايات المتقدّمة الدالة على جواز العدول هل يكون جوازه في خصوص ما إذا شرع في المعدول عنه في الوقت المشترك بينه وبين المعدول إليه ، أو يعمّ ما إذا شرع في الأول ، ولو في الوقت المختصّ بالثاني؟ كأن نوى العصر بتخيل الإتيان بالظهر في الوقت المختصّ بها بناءً على القول باختصاص أوّل الوقت بها ، كما هو المشهور(1) ، وأمّا بناءً على الاشتراك في جميع الوقت من أوّله إلى آخره ، كما يقول به الصدوقان(2) ، فلا إشكال في جواز العدول ، لعدم الفرق بين أجزاء الوقت .
قد يقال بالاختصاص ، بما إذا وقع في الوقت المشترك نظراً إلى أنّ مقتضى الأخبار أنّ العدول إلى الفريضة السابقة إنما يصحّح خصوصية الترتيب المعتبر في صحة الصلاة اللاحقة كالعصر مثلا ، وبعبارة اُخرى ، إنّ الترتيب معتبر في صحة الصلاة اللاحقة ، واعتباره إنما هو في حال الذكر فقط ، ولذا لو تذكّر بعد الفراغ عن العصر تكون صلاته صحيحة ، ويجب عليه الإتيان بالظهر بعدها .
وحينئذ فالروايات الدالة على جواز العدول في الأثناء تدلّ على أنّه لو تذكّر في الأثناء يمكن له مراعاة هذا الشرط بجعلها الصلاة الأولى ثم الإتيان بالثانية ، فالعدول إنما يؤثر في مراعاة هذا القيد فقط ، وأمّا لو كانت صلاة العصر مثلا فاقدة لبعض الشرائط الاُخر أيضاً ، كوقوعها في غير وقتها ، فلا يؤثر العدول أصلا ، كما إذا كانت فاقدة للطهارة ، أو للقبلة ، أو لغيرهما من الشرائط .
وبالجملة : فمقتضى إطلاق أدلة العدول جوازه ، فيما لو تحقق لوقعت الصلاة التي عدل إليها واجدة للشرائط المعتبرة فيها ، وأمّا وقوع المعدول عنها فاقدة لبعض
(1) الخلاف 1: 257. مسألة 4; المبسوط 1: 72; الغنية: 69; السرائر 1: 195; المعتبر 2: 27; كشف اللثام 3: 69; مستند الشيعة 4: 22; مسالك الأفهام 1: 138; رياض المسائل 3: 33.
(2) المقنع : 106 ـ 107; الهداية: 127; وحكاه عن الصدوقين في رياض المسائل 3: 35،
ولكن في المختلف حكاه عن أبي جعفر ابن بابويه فقط.
(الصفحة56)
الشرائط المعتبرة في خصوصها ، فلا يضرّ أصلا بعد فرض أنّ العدول يؤثر في صيرورة الصلاة من أولها إلى آخرها ، الصلاة الأولى كما عرفت .
إن قلت : لا مجال لإنكار ظهور أدلة العدول بأنه لولا التذكّر في الأثناء المجوّز للعدول ، لوقعت المعدول عنها صحيحة ، وذلك يقتضي كونها واجدة للشرائط المعتبرة فيها مطلقاً في حال الذكر والنسيان ، والوقت من جملتها ، وإن شئت قلت : إنّ الأدلة متضمنة لجواز العدول من العصر إلى الظهر مثلا ، فاللاّزم أن تكون الصلاة صلاة العصر حتّى يجوز العدول عنها إلى الظهر ، ومن المعلوم أنّ مجرّد نية العصر لا تؤثر ما لم تكن واجدة لسائر الشرائط التي من جملتها الوقت ، إلاّ بناءً على قول الأعمّي كما لا يخفى ، مضافاً إلى ضعف التمسّك بالإطلاق مع كون الفرض من الفروض النادرة، خصوصاً مع كون المعروف بين المسلمين في وقت صلاة العصر هو الإتيان بها في أواسط الوقت ، فالإتيان بها في الوقت المختصّ بالظهر في غاية الندرة.
قلت : وقوع صلاة العصر في الوقت المختصّ بالظهر إنما يؤثر في بطلانها لو لم يعدل في أثنائها إلى السابقة التي تكون واقعة في وقتها ، وإلاّ فمع العدول لا دليل على بطلانها من الأول . وبعبارة اُخرى عروض البطلان للصلاة اللاحقة الواقعة في غير وقتها إنما يكون مراعى ببقائها إلى آخرها بعنوانها ، وأمّا لو عدل عنها في الأثناء إلى غيرها السابق عليها فلا دليل على البطلان أصلا . نعم ما ذكره من منع الإطلاق لكون الفرض من الفروض النادرة ممّا لا بأس به ، بل الظاهر ذلك كما لا يخفى .
ثم إنّ هذا كلّه فيما لو تذكّر في الأثناء ولم يتجاوز محل العدول ، وأمّا لو تجاوزه كأن تذكّر في العشاء بعد الركوع الأخير ، أو بعد السجدتين الأخيرتين ، إنّه فاتت منه صلاة المغرب ، قال صاحب الجواهر في رسالة نجاة العباد بوجوب الاتمام
(الصفحة57)
والاتيان بالسابقة بعدها(1) ، وذكر السيد(قدس سره) في حاشية تلك الرسالة أنّ الأحوط إعادة اللاحقة أيضاً(2) .
هذا، والظاهر إنّه لم يقل أحد ببطلان اللاحقة ووجوب الإتيان بها بعد السابقة ، وتحقيق المسألة أن يقال : إنّ مقتضى بعض الأخبار المتقدّمة(3) ، أنّه لو نسي المغرب حتّى صلّى العشاء وفرغ منها ، يأتي بالمغرب بعدها ولا يجب إعادة العشاء ، كما يدلّ عليه أيضاً صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) الواردة في الخلل الدالة على أنّه «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(4) والشرط المفقود في المقام ليس من الخمس المذكور فيها .
فالمستفاد منهما أنّ اعتبار الترتيب الذي يستفاد من قوله(عليه السلام) : «إذا زالت الشمس . فقد دخل وقت الصلاتين، إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(5) ، مختصّ بحال الذكر ، ويسقط فيما لو ذهل عن الواقع وأتى بالعشاء قبل المغرب ، وحينئذ فلا إشكال في سقوط شرطية الترتيب مع الغفلة عن الواقع ، حتّى فرغ من صلاة العشاء .
وإنما الإشكال فيما لو تذكّر في الأثناء ، فنقول : لو فرض أنّه لم يدلّ دليل على جواز العدول ، وقلنا بعدم جوازه كما عرفت أنّه مقتضى القاعدة ، فهل يستفاد من صحيحة زرارة الدالة على السقوط لو تذكّر بعد الفراغ ، وكذا من حديث لا تعاد عدم وجوب الإعادة ، لو زالت غفلته في الأثناء ، وسقوط شرطية الترتيب مع التذكر قبل الفراغ؟
الظاهر نعم ، فإنّه لا يختصّ حديث لا تعاد بالتذكّر بعد الفراغ ، فإنّه لو تذكّر في
(1 و 2) نجاة العباد : 112 ، أحكام النية .
(3) الوسائل 4 : 289. أبواب المواقيت ب62 ح6 .
(4) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597; الوسائل 4 : 312. أبواب القبلة ب9 ح1.
(5) التهذيب 2 : 27 ح78; الاستبصار 1 : 262 ح941; الوسائل 4 : 181. أبواب المواقيت ب16 ح24 .
(الصفحة58)
الركعة الثانية مثلا أنه لم يقرأ في الركعة الأولى ، فلا إشكال في عدم وجوب الإعادة للحديث المذكور ، فكذا لو تذكّر في الأثناء أنّه فات عنه بعض الشرائط ما عدا الثلاثة المذكورة فيها ، فلا يجب عليه الإعادة .
وحيث إنّ الروايات تدلّ على جواز العدول ، ومن المعلوم أنّ مورده فيما إذا لم يتجاوز محلّه . ففي غير هذا المورد ـ وهو ما إذا تجاوز محلّ العدول ـ نقول : إنّ مقتضى حديث لا تعاد عدم وجوب الإعادة ، لما عرفت من أنّه لو لم يكن في البين ما يدلّ على جواز العدول ، لقلنا بعدم جوازه ، وعدم وجوب الإعادة في موارد إمكان العدول أيضاً ، فالحكم بالصحة وعدم وجوب الإعادة في المسألة لايخلو من قوّة .
نعم يمكن أن يقال : إنّ الأدلة الدالة على شرطية الترتيب مطلقة ، والقدر المتيقّن من التقييد الذي يدلّ عليه حديث لا تعاد ، إنما هو فيما إذا تذكّر بعد الفراغ ، وأمّا لو علم في الأثناء فلم يعلم من الحديث تقييدها به أيضاً ، فالواجب الرجوع إليها كما لا يخفى . هذا ، ولكن عرفت أنّ الصحة لا تخلو من القوّة ، لما ذكرنا في وجهها .
فرع
لو صلّى بنية العصر مثلا ، فتخيّل في الأثناء أنّه لم يأت بالظهر ، فعدل عن العصر إليها ، ثم تذكّر أنّه أتى بالظهر قبل العصر ، فهل تقع هذه الصلاة فاسدة بحيث يجب عليه إعادة العصر ، أو تقع صحيحة بعنوان العصر بعد العدول إليها أيضاً؟ وجهان :
يظهر الوجه الثاني من صاحب الجواهر(قدس سره) في رسالة نجاة العباد ، حيث قال فيها : ولو عدل بزعم تحقق موضع العدول ، فبان الخلاف بعد الفراغ ، أو في الأثناء ،
(الصفحة59)
كما لو عدل بالعصر إلى الظهر ، ثم بان له أنّه صلاّها ، فالأقوى صحتها عصراً ، والأحوط الاستئناف(1) .
هذا ، ولكن الظاهر هو الوجه الأول ، لعدم استدامة نية العصر بعد العدول عنها إلى الظهر ، ولو بزعم عدم الإتيان بها ، ولم يدلّ دليل على كفاية النية بعد التذكّر ، فالظاهر البطلان ووجوب الإعادة .
ثم إنّ مقتضى الأدلة المتقدّمة ، جواز العدول من الفريضة اللاحقة الحاضرة ، إلى الفريضة السابقة الفائتة ، وأمّا العدول من الفريضة السابقة إلى اللاحقة ، كما إذا شرع في الصلاة بنية الظهر بزعم أنّه لم يصلّها بعد ، فبان له في الأثناء أنّه صلاّها ، فعدل عنها إلى العصر ، فلا يجوز بعد عدم دلالة الدليل عليه ، وكون العدول مخالفاً للقاعدة كما عرفت في صدر المسألة ، كما أنّ مقتضى الأدلة جواز العدول من الفريضة إلى فريضة اُخرى .
وأمّا العدول من النافلة إلى النافلة ، أو إلى الفريضة فلا يجوز .
نعم يجوز العدول من الفريضة إلى النافلة في موضعين:
أحدهما : ما إذا شرع في الصلاة منفرداً ثم انعقدت الجماعة ، فإنّه يجوز له العدول إلى النافلة ، واتمامها ركعتين ، أو قطعها كما هو الشأن في جميع النوافل لإدراك فضيلة الجماعة .
ثانيهما : ما إذا قرأ في صلاة الجمعة التوحيد أو غيرها من السور ما عدى سورتها ، فإنّه يجوز له العدول منها إلى النافلة ، ثم استئنافها ، وفي غير هذين الموضعين لا يجوز العدول أصلا .
(1) نجاة العباد : 113 ، أحكام النية .
(الصفحة60)
|