(الصفحة141)
فيقطع السورة؟ فقال : «لا بأس»(1) وغيرها ممّا ظاهره التحريم .
وبعضها صريح في الجواز ، كصحيحة عليّ بن يقطين قال : سألت أباالحسن(عليه السلام)عن القران بين السورتين في المكتوبة والنافلة؟ قال : «لا بأس»(2) وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر ، نقلا من كتاب حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «لا تقرنن بين السورتين في الفريضة في ركعة، فانّه أفضل»(3) ، وغيرهما من الأخبار الصريحة في نفي البأس ، والجمع يقتضي الحمل على الكراهة .
ودعوى وجوب حمل الطائفة الثانية على التقية ، لكونها موافقة للعامة القائلين بالجواز وعدم الحرمة .
مندفعة بأنّ مجرّد موافقة الخبر لهم لا يوجب الحمل عليها ، والجمع العرفي مقدم على المرجحات ، لخروج الخبرين معه عن موضوع المتعارضين كما لا يخفى ، ولكن كراهية القران إنما تختص بالفريضة دون النافلة ، لصراحة بعض الأخبار في ذلك .
ثم إنّ الآتي بالسورة الثانية قد يقصد بها مجرّد قراءة القرآن المستحبة ، في جميع أحوال الصلاة ، وقد يقصد بها جعلها جزءً مستقلاً للصلاة ، كالصورة الأولى ، وقد يقصد بها جعلها مع السورة الأولى جزءً لها . لا ريب في خروج الصورة الأولى عن مورد النزاع ، كما أنّ الظاهر خروج الصورة الثانية أيضاً .
لأنّ الظاهر أنّ الإتيان به في النافلة الذي يكون مثله محرّماً أو مكروهاً إذا وقع في الفريضة إنما هو على نحو الصورة الأخيرة ، وحينئذ فيرجع كراهية القران
(1) التهذيب 2 : 73 ح268; الوسائل 6 : 50. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح3 .
(2) التهذيب : 2 / 296 ح1192; الإستبصار 1: 317 ح1181; الوسائل 6: 52. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح9.
(3) السرائر 3: 586; الوسائل 6: 52. أبواب القراءة في الصلاة ب8 ح11.
(الصفحة142)
إلى أنّ المصلّي لو جعل وظيفته في الصلاة وجوب الإتيان بالسورة المتحقّق بأوّل سورة قرأها ، أولى من أن يجعل وظيفته وجوب قراءة القرآن المتحققة بسورة وأزيد ، ولا تكون الزائدة على الواحدة فرداً آخر من القراءة ، لأنّها عنوان تقبل الزيادة والنقيصة ، فما دام كونه مشغولا بها ولم يعرض عنها يصدق أنّه قار كما لايخفى .
المسألة الرابعة : عدم جواز قراءة سور العزائم في الفريضة
ذهب علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم إلى أنّ السور التي تكون فيها آية السجدة الواجبة أربع سور(1) ، خلافاً لأبي حنيفة القائل بوجوب جميع سجدات القرآن ، والشافعي القائل باستحباب الجميع(2) ، والمشهور بل المجمع عليه بين قدماء أصحابنا أيضاً عدم جواز قراءة شيء منها في الصلاة(3) ، خلافاً للإسكافي(4) ، ولكن لا يخفى أنّ عبارته غير صريحة في ذلك .
ومستندهم الأخبار المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) :
منها : خبر زرارة عن أحدهما(عليهما السلام) قال : «لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم
(1) الهداية: 134; الإنتصار: 145; الخلاف 1: 426 مسألة 174; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 118; السرائر 1: 217; المعتبر 2: 175; تذكرة الفقهاء 3: 146 مسألة 231; مفتاح الكرامة 2: 356; الحدائق 8 : 152; مستند الشيعة 5: 100 ـ 310; جواهر الكلام 9: 343.
(2) المجموع 4: 62; المغني لابن قدامة 1: 616 ـ 617 .
(3) الهداية: 134; الإنتصار: 145; الخلاف 1: 426 مسألة 174; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 118; السرائر 1: 217; المعتبر 2: 175; تذكرة الفقهاء 3: 146 مسألة 231; مفتاح الكرامة 2: 356; الحدائق 8 : 152; مستند الشيعة 5: 100 ـ 310; جواهر الكلام 9: 343.
(4) حكاه عنه في المعتبر 2 : 175 .
(الصفحة143)
فإنّ السجود زيادة في المكتوبة»(1) .
ومنها : خبر سماعة قال : «من قرأ{إقرأ باسم ربك} فإذا ختمها فليسجد، فاذا قام فليقرأ فاتحة الكتاب وليركع»، قال : «وإن ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزيك الإيماء والركوع ولا تقرأ في الفريضة إقرأ في التطوّع»(2) وذيله قرينة على أنّ مورد الصدر هي النافلة وقوله(عليه السلام) : «وإن ابتليت بها . . .» ، لا ينافي حرمة قراءة إقرأ في الفريضة ، نظراً إلى أنّ مورد الجماعة هي الفريضة ، وذلك لأنّ المراد بالإمام هو الإمام المخالف كما هو ظاهر ، فلا بأس في حمله على ما إذا اقتدى في النافلة به تقية .
ومنها : خبر عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام)، عن الرجل يقرأ في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم، فقال : «إذا بلغ موضع السجدة فلا يقرأها وإن أحبّ أن يرجع فيقرأ سورة غيرها ويدع التي فيها السجدة فيرجع إلى غيرها». وعن الرجل يصلّي مع قوم لا يقتدي بهم فيصلّي لنفسه وربما قرؤوا آية من العزيمة فلا يسجدون فيها فكيف يصنع؟ قال : «لايسجد»(3) .
وظاهر الرواية جواز التبعيض والقران ، وقد عرفت أنّ الأول مخالف لفتوى الأصحاب ، فتكون الرواية شاذّة غير معمول بها .
ومنها : خبر عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى(عليه السلام) عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة «النجم» أيركع بها أو يسجد ثم يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال : «يسجد ثم يقوم فيقرأ بفاتحة الكتاب ويركع وذلك زيادة في الفريضة ولا يعود يقرأ في الفريضة
(1) الكافي 3 : 318 ح6; التهذيب 2 : 96 ح361; الوسائل 6 : 105. أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح1.
(2) التهذيب 2: 292 ح1174، الإستبصار 1: 320 ح1191، الوسائل 6: 102 و105. أبواب القراءة في الصلاة ب37 ح2 وب40 ح2.
(3) التهذيب 2 : 293 ح1177; الوسائل 6 : 105 . أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح3 وص103 ب38 ح2 .
(الصفحة144)
بسجدة»(1) . ولا يخفى التهافت والمناقضة بين صدر الرواية الدالّ على جواز قراءة «سورة النجم» في الفريضة ، وذيلها الدالّ على أنّ ذلك زيادة فيها ، وعلى النهي عن العود إلى مثلها ، فالعمدة في المقام هي رواية زرارة ، ولابدّ من التكلّم في مدلولها.
فنقول : يجري في معناها احتمالات كثيرة :
1 ـ أن يكون النهي عن القراءة فيها إرشاداً إلى مانعية قراءة شيء من العزائم للصلاة ، بمعنى أنّه لا يترتب الأثر المترقّب من الصلاة عليها مع قراءة شيء من العزائم فيها ، نظير سائر النواهي التي تتعلّق بإيجاد شيء في المأمور به ، كالنهي عن التكلّم في الصلاة ونظائره ، ولازم هذا الاحتمال بطلان الصلاة بمجرّد قراءة سورة منها .
2 ـ أن يكون النهي دالاًّ على أنّ وظيفة المصلّي ـ أي وجوب قراءة سورة من القرآن ـ بعد قراءة الفاتحة ، وقبل الركوع لا يتحقّق بقراءة شيء من العزائم بعد الفاتحة ، بل أداؤها إنما يتوقّف على قراءة سورة من القرآن ، غير سور العزائم ، ولازم هذا الاحتمال صحة الصلاة لو جمع بينها وبين سورة اُخرى ، لأداء وظيفته بقراءة سورة اُخرى ، إلاّ أن يستشكل في ذلك من جهة القِران بين السورتين ، كما أنّ البطلان فيما لو اقتصر على قراءة شيء من سور العزائم ، يكون مستنداً إلى فقد بعض الأجزاء الواجبة كما هو واضح .
3 ـ أن يكون النهي إرشاداً إلى أنّه لو قرأ المصلّي شيئاً منها ، ليقع في محذور مخالفة أحد التكليفين المتزاحمين ، لأنّه إمّا أن يسجد بعد قراءة آية السجدة ، وإمّا أن لا يسجد ، فعلى الأول يقع في محذور مخالفة حرمة قطع الصلاة وإبطالها ، لأنّ السجود زيادة مبطلة ، وعلى الثاني يقع في محذور مخالفة وجوب السجدة عند قراءة
(1) قرب الإسناد : 172 ح762; مسائل عليّ بن جعفر: 185 ح366; الوسائل 6: 106. أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح4.
(الصفحة145)
آيتها ، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون التكليفان مختلفين من حيث الأهمية ، أو متساويين ، لأنّ المكلّف يوقع نفسه اختياراً في مخالفة أحدهما، ويبتلي نفسه بهما .
4 ـ أن يكون ذلك أي الابتلاء بالتكليفين المتزاحمين ، والوقوع في مخالفة أحدهما حكمة لتعلّق النهي التحريمي بنفس قراءة شيء منها .
5 ـ أن يكون النهي عن القراءة باعتبار السجود الذي يعدّ بنظر العرف جزءً للسورة ، أو باعتبار كونه لازماً شرعياً لقراءة آية السجدة ، فيصير معنى الرواية إنّه لا تقرأ في المكتوبة بشيء من العزائم ، لأنّها موجبة للسجدة شرعاً ، والسجود زيادة في الفريضة، والزيادة العمدية مبطلة لها ، فتكون المقدّمة الأولى والأخيرة مطويّتين في الرواية .
هذا ، ولا يخفى أنّ الاحتمالين الأوّلين لا يناسب شيء منهما ، مع التعليل الوارد في الرواية كما هو ظاهر ، وأمّا الاحتمال الثالث والرابع فهما أيضاً خلاف ظاهر الرواية ، لأنّ غرضها أنّه لا تنطبق طبيعة الصلاة المأمور بها التي يجب على كلّ مكلّف الإتيان بها ، وامتثال أمرها بإيجادها في الخارج ، على الصلاة التي قرأ فيها شيء من العزائم ، فلا يتحقّق الامتثال الموجب لسقوط الأمر ، بإتيان الصلاة المشتملة على قراءة شيء منها ، ولا تعرّض في الرواية لحرمة قطع الصلاة وإبطالها المتوجهة إلى المكلّف بعد الشروع فيها .
وبالجملة: هنا تكليفان :
أحدهما : الأمر بطبيعة الصلاة ووجوبها .
وثانيهما : وجوب الاتمام بعد الشروع وحرمة القطع والابطال . ولا ارتباط لأحدهما بالآخر ، لأنّ المكلّف قد يقع في محذور مخالفة الثاني دون الأول ، كما إذا قطع صلاته عمداً ثم شرع في صلاة اُخرى وأتمّها ، فإنّه امتثل الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة ، وخالف الأمر بالاتمام ، والنهي عن الإبطال .
(الصفحة146)
ومن المعلوم أنّ الرواية ناظرة إلى الأمر الأول وأنّه لا يسقط بالإتيان بالصلاة المشتملة على سورة العزيمة ، ولا تعرّض لها إلى الأمر الثاني أصلا .
وأمّا الاحتمال الأخير فشقه الأول الراجع إلى أنّ النهي إنما هو باعتبار السجود الذي يكون بنظر العرف جزءً ، فهو أيضاً خلاف الظاهر ، لأنّ العرف لا يفرق بين السجدات الواجبة والمندوبة من هذه الجهة أصلا ، فالتعبير بالعزائم الدالّ على أنّ وجوب السجود له مدخلية في الحكم ينفي ذلك ، فينحصر المراد من الرواية في الشقّ الأخير الراجع إلى أنّ النهي إنما هو باعتبار وجوب السجود الذي يكون لازماً شرعيّاً لقراءة آية السجدة التي تشتمل عليها السورة .
ولا يخفى أنّ الرواية بناءً على هذا أيضاً لا تكون ناظرة إلى أنّ السجود زيادة ، والزيادة مبطلة ، والإبطال حرام شرعاً ، بل المقصود منها بطلان الصلاة بسبب السجود ، فلا تصلح للامتثال ، لعدم انطباق طبيعة الصلاة المأمور بها عليها مع زيادة السجدة ، فتكون ناظرة إلى الأمر المتعلّق بالطبيعة ، لا الأمر بالاتمام والنهي عن القطع ، وحرمة الابطال بعد الشروع فيها .
ثم إنّه بناءً على هذا الاحتمال الذي هو ظاهر الرواية ، يمكن أن يكون النهي عن قراءة سورة العزيمة إرشاداً إلى أنّها موجبة للسجود المفسد للصلاة ، لكونها زيادة عمدية ، وعليه فلا تكون نفس قراءة السورة من حيث هي محرمة أصلا ، فلو قرأ شيئاً من العزائم ونسي السجدة ، أو تركها عصياناً ، لا يكون ذلك مضرّاً بصحة صلاته أصلا ، لأنّ المفروض أنّ السجدة الموجبة للبطلان لم يتحقّق منه ، وقراءة السورة بنفسها لم تكن محرّمة حتّى تؤثر في البطلان .
غاية الأمر استحقاقه للعقوبة ، من حيث مخالفته لوجوب السجود عند قراءة آية السجدة ، وهذا لا ارتباط له ببطلان الصلاة أصلا كما هو ظاهر ، ويمكن أن يكون النهي عن قراءة السورة نهياً تحريمياً ، ويكون الوجه فيه كونها موجبة
(الصفحة147)
للسجود شرعاً ، وهو زيادة مبطلة .
ويظهر هذا من بعض الأعاظم من المعاصرين في كتاب صلاته ، وفرّع عليه أنّه يستفاد من الرواية حرمة كلّ ما يوجب السجود مثل الاستماع بل السماع ، إذا كان قادراً على محافظة سمعه ، من أن يقرعه صوت من يقرأ آية السجدة . نعم من سمع قهراً ، أو قرأ سهواً ، لم يرتكب المحرّم ، وإن كانا أيضاً موجبين لوجوب السجود .
ثم قال ما ملخّصه : إنّه يتفرّع على ذلك أنّ غير القراءة العمدية لا يكون مبطلا للصلاة ، ما لم يسجد به ، سواء كان محرّماً كالاستماع أم لا ، كالسماع غير الاختياري ، وأمّا قراءة العزيمة عمداً فهي مبطلة ، لأنّ الكلام المحرّم في الصلاة وإن كان ذاتاً من الأذكار ، أو الأجزاء يوجب بطلانها ، لكونه ماحياً لصورتها عند المتشرّعة ، مضافاً إلى دعوى الاجماع على ذلك ، وأمّا الموجبات الاُخر غير القراءة ، أو القراءة غير المحرّمة ، فلا تبطل الصلاة ، نعم لو سجد بعدها تبطل بالزيادة العمدية ، لا بتلك الموجبات (1). انتهى .
ولا يخفى أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون النهي عن قراءة شيء من سور العزائم ، نهياً تحريمياً دالاًّ على حرمة نفس قراءة السورة ، والظاهر خلاف ذلك ، لأنّ النواهي المتعلّقة بكيفيات العبادات إرشادات غالباً إلى فسادها ، مع تلك الكيفيّة المنهي عنها ، وأنّه لا يترتب الأثر المترقّب من العبادة عليها مع هذه الكيفية .
وحينئذ فالنهي في المقام أيضاً للإرشاد إلى فساد العبادة المشتملة على متعلّق النهي ، غاية الأمر إنّه لو لم تكن الرواية مشتملة على التعليل المذكور ، لقلنا ببطلان
(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 164 ـ 165 .
(الصفحة148)
الصلاة بمجرّد القراءة ، من دون توقّف على السجود عقيب آية السجدة ، إلاّ أنّ تعليل النهي عن القراءة بايجابها للسجود الذي هو زيادة مبطلة ، أوجب صرف النهي عنها إلى ما هو لازمها شرعاً ، وهو السجود ، فيصير مدلول الرواية إنّه لاتسجد في الصلاة ، فإنّ السجود زيادة وهي مبطلة .
ودعوى إنّه يمكن أن يكون النهي إرشاداً إلى مانعية متعلّقه ، وهو نفس القراءة ، والوجه في مانعيتها هو كونها موجبة للسجود المبطل للصلاة .
مندفعة بأنّ إمكان ذلك وإن كان غير قابل للمناقشة ، إلاّ أنّ ظهور الرواية في خلافهايطردها ، لأنّ ظاهرها أنّ وصف المبطلية إنما يتّصف به ما يكون زيادة في الصلاة ، وموصوف الزيادة هو خصوص السجدة ، وبعبارة اُخرى ظاهرها أنّ الابطال إنما يجيء من قبل السجود خاصة كما لا يخفى .
وبالجملة: فلا ينبغي الارتياب في أنّ مدلول الرواية هو الارشاد إلى مانعية السجدة التي تكون لازماً شرعياً لقراءة آية السجدة ، وحينئذ فلو قرأ سورة من سور العزائم ، وترك السجدة عصياناً أو نسياناً ، لا يكون ذلك موجباً لبطلان الصلاة أصلا ، لعدم حرمة نفس القراءة ، وعدم تحقق السجدة المبطلة كما هو المفروض ، فلا وجه للقول بالبطلان كما عرفت في كلام بعض المعاصرين ، مضافاً إلى أنّ بطلان الصلاة بمطلق الكلام المحرّم ممّا لا دليل عليه ، لأنّ أدلة مبطلية الكلام إنما تختصّ بكلام الآدمي، كما سيجيء إن شاء الله تعالى .
وكذا دعوى كونه ماحياً لصورة الصلاة عند المتشرّعة ، مندفعة بمنع ذلك ، إذ المراد بالماحي ما يوجب خروجها عن الكيفيّة التي هي كيفية الصلاة بنظرهم ، من القيام مستقبل القبلة في مقابل المولى خاضعاً خاشعاً ، ومن المعلوم أنّ قراءة القرآن لا تنافي هذه الكيفيّة أصلا . وكذا دعوى كونها مبطلة ، لأنّها فعل كثير ، يدفعها أنّ المراد بالفعل الكثير ما يكون خارجاً عن الصلاة ، والمفروض وقوع القراءة
(الصفحة149)
جزء لها .
والذي يسهل الخطب ما عرفت من عدم كون القراءة بنفسها محرّمة أصلا فالاستناد في بطلان الصلاة إلى حرمة القراءة ممّا لا وجه له .
نعم ربما يتمسّك للقول ببطلان الصلاة بمجرّد قراءة آية السجدة وإن لم يسجد ، بأنّ الأمر بايجاد السجدة المنافية للصلاة مرجعه إلى الأمر بإبطال الصلاة بفعل المنافي ، ولا يجتمع معه الأمر بالمضيّ ، والاتمام الذي يعتبر في صحة العبادة ، وأجاب عنه المحقّق المتقدّم في كتاب صلاته :
قلت : أولا: لا يبعد عدم وجوب السجدة فعلا عقيب وجود الموجب فوراً ، ويكون المراد من قوله(عليه السلام) في رواية زرارة : «فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» ، أنّ القراءة توجب السجود ذاتاً ، فإن فعلته بطلت الصلاة وإن تركته وأتممت الصلاة أخللت بحقّها من التعجيل ، ولذلك لا يجوز فعل موجبها ، فورود المحذور في طرف السجود تركاً وفعلا صار سبباً للنهي ، لا أنّ فعل الموجب حرام ، لكونه سبباً لإبطال الصلاة .
وثانياً: لا يعقل أنّ مجرّد الأمر بإبطال الصلاة بالسجدة ، يكون موجباً لبطلانها ، إلاّ من جهة اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، أو من جهة اقتضائه عدم الأمر بالضدّ ، مع احتياج صحة العبادة إلى الأمر ، وقد حقّق في الأصول عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، وكذلك عدم احتياج العبادة إلى الأمر الفعلي ، بل يكفي رجحانها ذاتاً ، وعلى تقدير الاحتياج إلى الأمر ، لا مانع من الأمر بالضدّ مرتّباً على ترك ضدّه الآخر ، كما بيّنا ذلك في الأصول(1) . انتهى كلامه .
(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 165 .
(الصفحة150)
واستشكل في المصباح على إثبات الصحة بطريق الترتّب ، بأنّ ذلك لا يجدي في الحكم بصحة صلاته ، على تقدير ترك السجدة ، والمضيّ فيها ، إذ المتبادر عرفاً من الأمر بإيجاد المبطل ، كما هو ظاهر أخبار الباب بحسب مدلولها الالتزامي ، أنّ الشارع لم يرد المضيّ في هذه الصلاة ، بل أوجب نقضها بهذا الشيء ، فيخصّص بهذه الأخبار عموم ما دلّ على وجوب المضيّ ، أو جوازه ، ولا يبقى معه طلب تقديري مصحح لصلاته على تقدير المضي .
نعم ما ذكر إنما يجدي فيما لو كان الحاكم بالتخصيص العقل من باب مزاحمته لواجب أهمّ ، حيث إنّ العقل لا يستقلّ بعدم مطلوبية غير الأهم ، إلاّ على تقدير عدم القدرة عليه ، من حيث اشتغاله بضده الأهم لا مطلقاً ، بخلاف ما لو كان التخصيص مستفاداً من دليل لفظي ، كما في المقام ، فليتأمّل(1) . انتهى كلامه رفع مقامه .
والتحقيق إنّه لو قلنا بحرمة المضيّ والإتمام ، نظراً إلى اقتضاء الأمر بالابطال لذلك ، وقلنا باحتياج العبادة إلى الأمر أيضاً ، ولكن مع ذلك لا مجال للحكم ببطلان الصلاة ، لما عرفت من أنّ هنا أمرين : أحدهما: الأمر بطبيعة الصلاة ، والآخر: الأمر بالمضيّ والإتمام ، وهذا الأمر يتوجّه إلى المكلّف ، بعد الشروع في الصلاة والدخول فيها ، والمعتبر في صحة العبادة على تقدير القول به إنما هو الأمر الأول لا الثاني ، والساقط بسبب الأمر بالإبطال هو الثاني لا الأول ، لوضوح أنّه لو أبطل صلاته بالسجدة أيضاً يجب عليه الإتيان بالصلاة ثانياً .
فما يعتبر في الصحة لا يسقط بالأمر بالإبطال ، وما يسقط به لا يعتبر في الصحة ، لظهور أنّ معنى صحة العبادة كونها موافقة لأمرها المتعلّق بها ، مع ما يعتبر
(1) مصباح الفقيه ، كتاب الصلاة : 292 .
(الصفحة151)
فيها جزءً أو شرطاً ، وبعبارة اُخرى أن تكون موافقة للأمر الذي يكون متوجّهاً إلى المكلّف قبل الشروع في العمل ، ويكون هو الباعث له عليه ، ومن الواضح أنّ هذا الأمر هو الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة ، لا الأمر بالاتمام ، لأنّه يتوجه إلى المكلّف بعد شروعه فيها ، فالأقوى صحة الصلاة مع قراءة شيء من العزائم ، فيما لو لم يسجد عقيب آية السجدة ، غاية الأمر استحقاقه للعقوبة مع ترك السجدة عمداً من جهة مخالفة تكليف وجوبيّ مستقل ، وهو وجوب السجدة بعد قراءة آيتها .
قراءة العزيمة سهواً
لو قرأ العزيمة سهواً ، فالظاهر أنّه لا خلاف في صحة الصلاة(1) ، وإنما اختلفوا على أقوال أربعة :
الأول: القول بوجوب تأخير السجود إلى بعد الفراغ منها .
الثاني: القول بوجوب الايماء بدلا عن السجود .
الثالث: القول بوجوب الجمع بين الايماء في الصلاة والسجود بعدها .
الرابع: القول بوجوب السجود في الأثناء ، كما عن كاشف الغطاء(2) .
وليعلم أنّه لم يظهر من أحد من قدماء الأصحاب رضوان الله عليهم ـ على ما تتبّعنا ـ التعرّض للمسألة أصلا ، فليست المسألة من المسائل الأصلية المتلقّاة عن الأئمة(عليهم السلام) بعين ألفاظها الصادرة عنهم ، كما هو شأن المسائل المذكورة في أكثر كتب القدماء، فدعوى الاجماع في المسألة ممّا لاتسمع، وكذا رمي بعض الأقوال بالشذوذ، فإنّ موردها هي تلك المسائل ، لا المسائل التفريعية، كما عرفت ذلك مراراً .
(1) السرائر 1: 221; تذكرة الفقهاء 3: 147; مستند الشيعة 5 : 103; جواهر الكلام 9 : 348; كشف اللثام 4 : 41; مفتاح الكرامة 2 : 358 ; الحدائق 8 : 158 و 159; الذكرى 3: 324; جامع المقاصد 2: 263.
(2) كشف الغطاء: 236 .
(الصفحة152)
نعم قد تعرّض للمسألة الحلّي في السرائر ، ومن تأخّر عنه كالمحقّق والعلاّمة والشهيد قدّس الله أسرارهم(1) .
قال في السرائر : فإن كان قراءَته لها ناسياً ، لا على طريق التعمّد ، فالواجب عليه المضيّ في صلاته ، فإذا سلّم قضى السجود ولا شيء عليه ، لأنّه ما تعمّد بطلان صلاته ، فاختلف الحال بين العمد والنسيان(2) ، إنتهى .
أقول : لا يخفى أنّ القول المحكيّ عن كاشف الغطاء مبنيّ على عدم كون السجود زيادة مبطلة ، مع أنّه خلاف ما هو ظاهر رواية زرارة(3) المتقدمة بل صريحها ، لأنّ مفادها أنّ السجود زيادة تخلّ بالصلاة ، نعم ربما يستشعر من بعض الأخبار خلافه ، مثل رواية سماعة المتقدمة المشتملة على قوله(عليه السلام) :
«إذا ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزيك الايماء والركوع»(4) .
وخبر أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إن صلّيت مع قوم فقرأ الإمام :{إقرأ باسم ربّك الذي خلق} أو شيئاً من العزائم وفرغ من قراءته ولم يسجد فأوم إيماءً والحائض تسجد إذا سمعت السجدة»(5) . فانّهما يشعران بأنّه لو سجد الإمام فعليه أن يسجد ، ولا تبطل صلاته ، غاية الأمر أنّ المانع من سجوده هو عدم سجود الإمام .
ولكن لا يخفى أنّ المراد بهما كما في المصباح(6) بيان الحكم عند ابتلائه بالصلاة ،
(1) شرائع الاسلام : 1 / 72; تذكرة الفقهاء : 2/146 مسألة 231; الذكرى 3: 324; مسالك الافهام 1: 206 .
(2) السرائر 1 : 218.
(3) الوسائل 6: 105. أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح1.
(4) الوسائل 6 : 105. أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح2 .
(5) الكافي 3: 318 ح4; التهذيب 2: 291 ح1168; الإستبصار 1: 320 ح1192; الوسائل 6: 103. أبواب القراءة في الصلاة ب38 ح1.
(6) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 294 .
(الصفحة153)
مع من يأتمّ به تقية ، فلا مانع من الالتزام بوجوب السجود لو سجد الإمام في موردهما من باب المماشاة ، ولا يفهم من ذلك جوازه اختياراً ، فهذا القول ممّا لايمكن الالتزام به .
وأمّا القول الثالث : فهو مبنيّ على عدم استفادة الحكم من الدليل الاجتهادي ، ووجوب الرجوع إلى القاعدة التي تقتضي الاشتغال هنا ، لأنّ التكليف مردّد بين مراعاة الفورية والانتقال إلى الايماء ، لأنّ السجود مبطل ، وبين مراعاة الأصل ، وهو السجود وعدم الانتقال إلى بدله ، والاخلال بالفورية .
وأمّا القول الأول : فمستنده استصحاب وجوب المضيّ في الصلاة ، وحرمة قطعها ، أو أصالة براءة الذمّة عن وجوب السجدة فوراً ، عقيب قراءة آيتها ، ولا مجال لهذا القول ، لو ثبت بدليّة الايماء عن السجدة .
وأمّا القول الثاني : فمستنده ما رواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه(عليه السلام)قال : سألته عن الرجل يكون في صلاة جماعة فيقرأ إنسان السجدة، كيف يصنع؟ قال : «يؤمي برأسه». قال : وسألته عن الرجل يكون في صلاته فيقرأ آخر السجدة؟ فقال : «يسجد إذا سمع شيئاً من العزائم الأربع، ثم يقوم فيتمّ صلاته إلاّ أن يكون في فريضة فيؤمي برأسه ايماءً»(1) .
ودلالتها على هذا القول ممّا لاريب فيها .
ودعوى بطلان الفريضة بالايماء أيضاً لمساواة البدل للمبدّل في كونه زيادة في الفريضة كما ربما حكي عن منظومة العلاّمة الطباطبائي(2) .
مدفوعة بأنّ الأمر بالبدل إنما هو للفرار عن حكم مبدله ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية أنّه يؤمي فيتمّ صلاته كما أنّها ظاهرة في وجوب مراعاة الفورية ، وفي بدليّة
(1) مسائل عليّ بن جعفر : 172 ، 173 ح300 و303; الوسائل 6 : 243. أبواب قراءة القرآن ب43 ح3 و4 .
(2) الدرّة النجفية : 138 .
(الصفحة154)
الايماء عن السجود ، فالرواية من حيث الدلالة تامّة ، لا مجال للمناقشة فيها أصلا .
وأمّا من حيث الحجية والاعتبار ، فيمكن الخدشة فيها من حيث إنّه لم يحرز سماع كتاب عليّ بن جعفر منه ، أو قراءته عليه ، وإن كان يمكن دفعها برواية الشيخ وجماعة عنه بواسطة موسى بن القاسم ، أو أبي قتادة ، أو عمركي بن عليّ البوفكي ، إلاّ أنّه لم يحرز كون النسخة التي بيد المتأخّرين مطابقة لنسخة الأصل ، وكيف كان فلو لم نقل باعتبار الرواية ، فلا دليل على بدلية الايماء عن السجود .
وتوهّم دلالة روايتي سماعة وأبي بصير المتقدّمتين(1) على ذلك ، يدفع بأنّ بدليته في موردهما لا توجب ثبوت البدلية في المقام ، لأنّ السجود في موردهما خلاف التقية كما لا يخفى ، فيدور الأمر بين مراعاة فوريّة وجوب السجود وإبطال الصلاة ، وبين تأخيره إلى الفراغ وإتمام الصلاة .
وقد يقال: بانصراف أدلة وجوب السجود فوراً ، عن مثل المقام الذي يوجب بطلان الصلاة ، ولكنّه مردود بدلالة رواية زرارة المتقدمة على عدم الانصراف ، إذ معه لا يبقى وجه لتعليل النهي عن القراءة بأنّ السجود زيادة في المكتوبة ، إذ ظاهره استلزام قراءة آية السجدة ، لوجوبها فوراً ، كما هو ظاهر ، فيدور الأمر بين التكليفين المتزاحمين : وجوب السجود فوراً ، وحرمة إبطال الصلاة .
وقد يقال: بأهمية التكليف بالسجود ، بمقتضى رواية زرارة ، إذ التعليل باستلزام قراءة آية السجدة لها ظاهر في الأهمية ، وإلاّ لما كان يستلزم ذلك ، ولكنّه لا يخفى أنّ التعليل إنما هو بلحاظ أنّ قراءة السورة تستلزم لمخالفة أحد التكليفين المتزاحمين ، ولا ينافي ذلك أهمية الآخر أو مساواته أصلا ، والقاعدة في مثله تقتضي التخيير ، فيتخيّر في المقام بين السجود والإبطال ، وبين المضيّ وتأخير السجود إلى الفراغ .
(1) الوسائل 6: 105. أبواب القراءة في الصلاة ب40 ح2 وص103 ب38 ح1.
(الصفحة155)
نعم استصحاب بقاء حرمة الإبطال الثابتة قبل الشروع في السورة ، ربما يوجب ترجيح التكليف بوجوب المضيّ ، وهذا هو المراد من الأصل الذي استند إليه العلاّمة الطباطبائي في منظومته حيث قال :
والأصل بالتأخير فيه يقضي |
إذ منع البدار حقّ الفرض(1)
|
بقي في المقام ذكر بعض الأخبار التي يستفاد منها جواز قراءة سورة السجدة في الصلاة .
منها : حسنة الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه سئل عن الرجل يقرأ بالسجدة في آخر السورة؟ قال : «يسجد ثم يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب ثم يركع ويسجد»(2) .
ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يقرأ السجدة فينساها حتى يركع ويسجد؟ قال: «يسجد إذا ذكر، إذا كانت من العزائم»(3).
ومنها : خبر وهب بن وهب عن أبي عبدالله، عن عليّ(عليهما السلام) قال : «إذا كان آخر السورة السجدة أجزأك أن تركع بها»(4) .
إلى غير ذلك ممّا ظاهره الجواز ، ومقتضى الجمع بين هذه الروايات ، وبين الأخبار المتقدمة التي ورد فيها النهي عن قراءتها في الفريضة دون النافلة ، حمل هذه الأخبار على النافلة ، مضافاً إلى أنّها ليست مسوقة لبيان أصل الجواز ، حتى يستفاد منها الاطلاق ، بل كلّها مسوقة لبيان حكم آخر ، فلا يجوز التمسّك بها لإثبات الجواز في الفرائض كما هو ظاهر .
(1) الدرّة النجفية : 138 .
(2) الكافي 3 : 318 ح5; التهذيب 2: 291 ح1167; الإستبصار 1: 319 ح1189; الوسائل 6 : 102. أبواب القراءة في الصلاة ب37 ح1.
(3) التهذيب 2 : 292 ح1176; السرائر 3: 558; الوسائل 6 : 104. أبواب القراءة في الصلاة ب39 ح1 .
(4) التهذيب 2: 292 ح1173; الاستبصار1: 319 ح1190; الوسائل6: 102. أبواب القراءة في الصلاة ب37 ح3.
(الصفحة156)
المسألة الخامسة :
عدم جواز قراءة سورة يفوت الوقت إن قرأها
المعروف بين الأصحاب إنّه لا يجوز أن يقرأ من السور ما يفوت الوقت بقراءَته(1) ، واستدلّ له برواية سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا تقرأ في الفجر شيئاً من أل حم»(2) ، بتقريب أنّ الظاهر كون النهي لفوات الوقت ، كما أنّه أفصح من ذلك ما رواه سيف بن عميرة عن عامر بن عبدالله قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : «من قرأ شيئاً من أل حم في صلاة الفجر فاته الوقت»(3) .
وقد يناقش بأنّ المراد بالوقت في هذه الرواية ، هو وقت الفضيلة ، ضرورة أنّ وقت الإجزاء أوسع من قراءة شيء من «أل حم» ، لأنّ أطولها هي «حم تنزيل» ، والوقت أوسع منه كما هو واضح ، فلابدّ من حمل النهي على الكراهة ، ولكنّه أجاب عنه في المصباح بما حاصله :
إنّ هذا لا ينفي دلالة النهي على التحريم ، فيما هو محلّ الكلام ، ولكن لا يخفى أنّ الروايتين لا ترتبطان بالمقام ، لأنّ الرواية الأولى الدالة على عدم الجواز ، خالية من التعليل ، والرواية الثانية خالية عن النهي .
نعم قد يستدلّ له كما في المصباح بوجه آخر ، وهو أنّ الواجب عليه مع ضيق
(1) النهاية: 78; المهذّب 1: 97; المعتبر 2: 175; تذكرة الفقهاء 3: 147 مسألة 232; الذكرى 3: 325; مسالك الأفهام 1: 206; مدارك الأحكام 3: 354; كشف اللثام 4: 11; جواهر الكلام 9 : 351; مفتاح الكرامة 2 : 359; الحدائق 8 : 125; مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 294 .
(2) التهذيب 3: 276 ح803 ; الوسائل : 6 / 111. أبواب القراءة في الصلاة ب44 ح2 .
(3) التهذيب 2: 295 ح1189; الوسائل 6: 111. أبواب القراءة في الصلاة ب44 ح1.
(الصفحة157)
وقت الصلاة مع سورة يسعها الوقت ، لامتناع كونه مكلّفاً بما يقصر الوقت من أدائه ، فإتيان غيرها بقصد الجزئية تشريع محرّم ، وأمّا لو لم يقصد بها الجزئية ، فلاتحرم القراءة من حيث هي، وإن استلزمت محرّماً، لأنّ مستلزم المحرّم ليس بمحرّم .
نعم لو قلنا: بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه ، اتّجه القول بحرمتها مطلقاً ، ولكن الحقّ خلافه كما تحقق في محلّه ، اللهمّ إلاّ أن يستدلّ عليه بإطلاق الخبر المذكور ، فإنّه وإن كان منصرفاً إلى ما لو قرأها بقصد الجزئية ، كإطلاق فتاوى الأصحاب ، ولكن قضية ما يفهم من مجموع الخبرين ، من كون النهي لفوات الوقت التعميم ، فهو لا يخلو عن قوّة(1) ، انتهى .
وأنت خبير بأنّ الصلاة المأمور بها إنما هي الصلاة مع سورة مّا من السور القرآنية ، ومجرّد أنّه قد يقصر الوقت عن الصلاة مع سورة طويلة لا يوجب أن يكون متعلّق الأمر الضمني المتعلّق بالسورة ، هي السورة القصيرة ، غاية الأمر امتناع تعلّق الأمر بالسورة الطويلة ، وأمّا تعلّقه بطبيعة السورة الصادقة على القصيرة والطويلة فلا ، بل لا يعقل تقييدها بشيء منهما .
لأنّ المفروض أنّ مصلحة الجزئية التي بها تتقوّم مصلحة الصلاتية ، إنما تكون قائمة بنفس طبيعة السورة، وحينئذ فكيف يعقل أن يتعلّق الأمر بها ، مع شيء زائد لا دخل له في حصول المصلحة أصلا ، فما ذكره من أنّ الواجب عليه مع ضيق الوقت ، هي الصلاة مع السورة التي يسعها الوقت محلّ نظر بل منع ، فإنّ الواجب مطلقاً هي الصلاة مع سورة ما ، فالآتي بها مع السورة الطويلة في ضيق الوقت بقصد الجزئية ، لا يكون مشرّعاً أصلا حتى يكون عمله محرّماً .
نعم مع العلم بضيق الوقت ، وإنّه لا يسع الصلاة مع هذه السورة التي يريد
(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 295 .
(الصفحة158)
قراءتها ، لا يتمشّى منه قصد الامتثال أصلا ، فيكون هذا الشخص مذموماً ، ومورداً لتقبيح العقلاء ، من حيث مخالفته لأمر المولى ، المتعلّق بالصلاة التي يكون من قيودها ، وقوعها بتمامها في الوقت المضروب له ، ويسري القبح إلى العمل الذي يترتب عليه هذه المخالفة .
ومن هنا يظهر أنّه ليس في البين إلاّ مجرّد قبح مخالفة الأمر الوجوبي المتعلّق بالصلاة ، ولا يكون هنا نهي تحريميّ متعلّق بقراءة سورة يفوت الوقت بقراءتها ، حتى تكون قراءتها مخالفة لذلك النهي ، كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر وجه بطلان الصلاة في مفروض المقام، فإنّ الاخلال بقصدالامتثال المعتبرفي صحة العبادة ، يوجب فسادها.
ومن هذا الجواب انقدح الخلل فيما حكي عن الشيخ(رحمه الله) في مقام الجواب عن الاستدلال للبطلان بالخبر المتقدّم ، حيث قال : إنّه لا يدلّ على أزيد من التحريم المقدمي الناشئ من افضائه إلى ترك الفعل الواجب في وقته المضروب له ، ومجرّد هذا التحريم ، بل التحريم التشريعي الحاصل من استلزام الأمر بالشيء ، أعني السورة القصيرة ، عدم الأمر بضدّه ، بل التحريم الاستقلالي بناءً على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، لا يثبت إلاّ فساد الجزء ، وهو لايستلزم فساد الكلّ ، ما لم يوجب نقص جزء أو شرط ، والسورة القصيرة وإن انتفت هنا ، لكنّها ساقطة ، لضيق الوقت الذي ثبت كونه عذراً ، ولو بسوء اختيار المكلّف(1) ، انتهى .
وجه الخلل ما عرفت من أنّ الأمر لم يتعلّق بالسورة القصيرة حتّى يستلزم عدم الأمر بضدّها ، فيكون الإتيان به محرّماً تشريعاً ، أو يستلزم النهي عنه حتّى يكون الإتيان به محرّماً مستقلاً ، بل الأمر تعلّق بطبيعة السورة الصادقة على الطويلة والقصيرة كما مرّ .
(1) كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري(رحمه الله): 136 .
(الصفحة159)
المسألة السادسة : هل يجوز الانتقال من سورة إلى أخرى؟
قال الشيخ في كتاب النهاية : وإذا قرأ الإنسان في الفريضة سورة بعد الحمد ، وأراد الانتقال إلى غيرها جاز له ذلك ، ما لم يتجاوز نصفها ، إلاّ سورة الكافرين والاخلاص ، فإنّه لا ينتقل عنهما إلاّ في صلاة الظهر يوم الجمعة ، فإنّه لابأس أن ينتقل عنهما إلى سورة الجمعة والمنافقين(1) . انتهى .
وهذه العبارة تشتمل على أحكام ثلاثة :
الأول : جواز الانتقال من سورة شرع فيها إلى سورة اُخرى ما لم يتجاوز نصفها ، وهو يدلّ بمفهومه على عدم الجواز لو تجاوز النصف .
الثاني: عدم جواز الانتقال من سورة الاخلاص والكافرون، ولو لم يتجاوز النصف.
الثالث : جواز الانتقال منهما إلى سورة الجمعة والمنافقين في صلاة الظهر يوم الجمعة ، وأكثر عبارات القدماء موافقة لهذه العبارة(2) ، مع اختلاف يسير من حيث عدم التعرّض لبعض الأحكام الثلاثة ، ومن حيث عدم اختصاص بعضها بخصوص صلاة الظهر في يوم الجمعة ، بالنسبة إلى الحكم الثالث .
نعم ظاهر عبارة الحلّي في السرائر(3) تبعاً لبعض القدماء ، المخالفة في الحكم الأول ، وأنّ جواز الانتقال ثابت ما لم يبلغ النصف ، وهو يدلّ بمفهومه على عدم الجواز إذا بلغ النصف ، ولو لم يتجاوز عنه .
(1) النهاية: 77 .
(2) المقنعة: 147; المبسوط 1: 107; نهاية الأحكام 1: 478; الذكرى 3: 353.
(3) السرائر 1 : 222 .
(الصفحة160)
والذي يوجب الترديد في أصل المسألة أنّ المحقّق(قدس سره) مع تبحره في الفقه ، لم يتعرّض لها أصلا ، نعم ذكر في الشرائع في مبحث صلاة الجمعة : إنّه إذا سبق الإمام إلى قراءة سورة فليعدل إلى الجمعة، وكذا في الثانية يعدل إلى سورة المنافقين ، ما لم يتجاوز نصف السورة إلاّ في سورة الجحد والتوحيد(1) .
وقال في المعتبر : ويجوز العدول من سورة إلى غيرها ما لم يتجاوز النصف ، ويكره في قل هو الله أحد ، وسورة الجحد ، وقال علم الهدى : يحرم(2) ، وقد روى عمرو بن أبي نصر عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «يرجع من كلّ سورة إلاّ من {قل هو الله أحد} و{قل يا أيّها الكافرون}»(3) . والوجه الكراهيّة ، لقوله :{فاقرؤا ما تيسّر من القرآن}(4) ولا تبلغ الرواية المذكورة قوّة في تخصيص الآية(5) . انتهى .
وكيف كان فالظاهر أنّ المسألة عنده لم تكن خالية عن الإشكال ، ولذا أفتى بخلاف ما عليه القدماء ، فالواجب ملاحظة الأخبار الواردة في الباب فنقول :
يدلّ على الحكم الأخير روايات :
منها : ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام) في الرجل يريد أن يقرأ سورة الجمعة في الجمعة فيقرأ {قل هو الله أحد} قال : «يرجع الى سورة الجمعة»(6) والمراد بقوله : «في الجمعة» يحتمل أن يكون في يوم الجمعة ، ويحتمل أن يكون في
(1) شرائع الاسلام 1 : 89 .
(2) الانتصار: 147.
(3) الكافي 3: 317 ذ ح25; التهذيب 2: 290 ح1166 و: 190 ح752; الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح1.
(4) المزّمل : 20 .
(5) المعتبر 2: 191 .
(6) الكافي : 3 / 426 ح6; التهذيب 3 : 241 و242 ح649 و652; الوسائل 6 : 152. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح1.
|