(الصفحة161)
صلاة الجمعة .
ولكن لابدّ على الثاني من أن يكون المراد بالرجل هو الإمام إذ الجمعة لاتنعقد إلاّ جماعة ، والمأموم لا يقرأ فحمله عليها بعيد ، وعلى الأول لا تدلّ على الاختصاص بصلاة الظهر ، إلاّ أن يقال : إنّ المراد به صلاة الجمعة ، ولكن المقصود منها هي صلاة الظهر ، لقيامها مقامها كما لا يخفى .
ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا افتتحت صلاتك بـ {قل هو الله أحد} وأنت تريد أن تقرأ بغيرها فامض فيها، ولا ترجع إلاّ أن تكون في يوم الجمعة، فإنّك ترجع إلى الجمعة والمنافقين منها»(1) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أراد أن يقرأ في سورة فأخذ في اُخرى؟ قال : «فليرجع إلى السورة الأولى إلاّ أن يقرأ بـ {قل هو الله أحد}، قلت: رجل صلّى الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة فقرأ {قل هو الله أحد}قال : «يعود إلى سورة الجمعة»(2) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن القراءة في الجمعة بما يقرأ؟ قال : «سورة الجمعة، وإذا جاءَك المنافقون، وإن أخذت في غيرها، وإن كان {قل هو الله أحد} فاقطعها من أوّلها وارجع إليها»(3) .
ويدلّ على الحكم الثاني أيضاً روايات :
منها : رواية الحلبي المتقدمة .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة المتقدمة أيضاً .
(1) التهذيب 3: 242 ح650، الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح2.
(2) التهذيب 3: 242 ح651، الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح3.
(3) قرب الإسناد: 181 ح825; الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح4.
(الصفحة162)
ومنها : رواية عمرو بن أبي نصر قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الرجل يقوم في الصلاة فيريد أن يقرأ سورة فيقرأ {قل هو الله أحد} و{قل ياأيّها الكافرون}، فقال : يرجع من كلّ سورة إلاّ من {قل هو الله أحد} و{قل يا أيّها الكافرون}(1) .
ومنها : رواية الحلبي قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : رجل قرأ في الغداة سورة {قل هو الله أحد} قال : لا بأس، ومن افتتح سورة ثم بدا له أن يرجع في سورة غيرها فلا بأس إلاّ {قل هو الله أحد}، ولا يرجع منها إلى غيرها، وكذلك {قل يا أيّها الكافرون}(2) .
ومنها : ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر، عن أخيه(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل إذا أراد سورة فقرأ غيرها، هل يصلح له أن يقرأ نصفها ثم يرجع إلى السورة التي أراد؟ قال : «نعم، ما لم تكن {قل هو الله أحد} و{قل يا أيّها الكافرون}»(3) . وهذه الرواية صريحة في خلاف ما ذكره الحلّي في السرائر تبعاً لبعض آخر .
ويدلّ على الحكم الأول مضافاً إلى بعض الأخبار المتقدمة ، ما رواه في الذكرى عن كتاب البزنطي، عن أبي العبّاس، في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ في اُخرى، قال : «يرجع إلى التي يريد وإن بلغ النصف»(4) . وبهذه الرواية يقيّد
(1) الكافي 3 : 317 ح25; التهذيب 2 : 190 ح752 وص290 ح1166; الوسائل 6 : 99. أبواب القراءة في الصلاة ، ب35 ح1.
(2) التهذيب 2: 190 ح753; الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
ولكن هذه الرواية مرسلة ، من جهة أنّ أحمد بن محمد بن عيسى الذي روى في هذا السند عن ابن مسكان لا يمكن له النقل عنه من دون واسطة ، لأنّه من الطبقة السابعة ، من الطبقات التي رتبناها ، وابن مسكان من الطبقة الخامسة، (منه) .
(3) قرب الإسناد: 176 ح788; مسائل عليّ بن جعفر: 164 ح260; الوسائل 6: 100. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح3.
(4) الذكرى 3 : 356; الوسائل 6 : 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح3.
(الصفحة163)
اطلاق بعض الأخبار المتقدمة الشامل لما إذا بلغ النصف وتجاوز عنه أيضاً .
وما رواه جماعة من الرواة كالحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) : في الرجل يقرأ في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في اُخرى حتّى يفرغ منها ثم يذكر قبل أن يركع، قال : «يركع ولا يضرّه»(1) . نعم ظاهر رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام) خلافه ، حيث أنّه قال : «في الرجل يريد أن يقرأ السورة فيقرأ غيرها ، قال: له أن يرجع ما بينه وبين أن يقرأ ثلثيها»(2) فإنّ ظاهرها جواز الرجوع وإن تجاوز عن النصف .
ولكن يحتمل قويّاً أن تكون كلمة «ثلثيها» غلطاً ، وكان الصواب ثلثها ، باعتبار أنّ الكتابة كانت في الأزمنة السابقة خالية عن النقطة ، كما يشهد بذلك بعض الكتب المكتوبة فيها الباقية إلى زماننا ، مضافاً إلى أنّ خطوطهم لم تكن بحيث يمكن أن تقرأ كاملا ، وكيف كان فالرواية باعتبار مخالفتها لفتوى المشهور تسقط عن الحجية ، كما هو الشأن في مثلها من الروايات المخالفة لهم .
ثم إنّ أكثر الروايات المتقدمة إنما وردت فيمن أراد قبل الأخذ في قراءة السورة ، قراءة سورة مخصوصة ، فنسي وشرع في سورة اُخرى ، نعم رواية الحلبي المتقدمة(3) المذكورة في جملة الروايات التي تدلّ على الحكم الثاني تعمّ ما إذا افتتح سورة ، ثم بدا له أن يرجع إلى غيرها ، وإن لم يكن مريداً لقراءته قبل .
ولكن يمكن أن يقال: بأنّها هي روايته الاُخرى(4) الموافقة مع سائر الروايات في المورد ، بمعنى عدم كونهما روايتين ، بل رواية واحدة ، غاية الأمر أنّ الراوي تارة
(1) التهذيب 2: 190 ح754; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح4.
(2) التهذيب 2: 293 ح1180; الوسائل 6: 101. أبواب القراءة في الصلاة ب36 ح2.
(3) الوسائل 6: 99. أبواب القراءة في الصلاة ب35 ح2.
(4) الوسائل 6: 153. أبواب القراءة في الصلاة ب69 ح2.
(الصفحة164)
نقلها بأجمعها ، واُخرى ببعضها ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى وثوق بأعمّية مورد جواز العدول ، وعدم اختصاصه بمن أراد أن يقرأ سورة فقرأ سورة اُخرى .
وحينئذ فيشكل تعميم الحكم ، ولكنّه مضافاً إلى أنّ مورد الفتاوى عام ، كما عرفت من النهاية(1) ، يمكن أن يقال بأنّ ذكر هذه الصورة فقط في الروايات إنما هو لأنّ الداعي والموجب للعدول إنما يتحقّق غالباً في هذه الصورة التي أراد المصلّي فيها قراءة سورة ، فقرأ غيرها ، إذ مع الالتفات والتوجه يختار أولاً ما يحبّه كما لايخفى .
فالحكم بالجواز في هذا الفرض إنما هو لكونه محلاًّ للعدول غالباً ، فالحقّ أنّ الجواز متحقّق في جميع الصور ، كما هو ظاهر فتاوى الأصحاب . هذا ، ولا يذهب عليك أنّ المراد بمورد الروايات ليس ما إذا شرع في سورة اُخرى غفلة ، بحيث لم يكن متوجّهاً إلى أنّه يقرأ السورة أصلا .
كيف! ولازم ذلك بطلان قراءتها، فلا يبقى وجه لعدم جواز العدول عن «قل هو الله أحد» و«قل يا أيّها الكافرون» كما هو مصرّح به في الروايات الدالة على الحكم الثاني من الأحكام الثلاثة المتقدمة ، بل المراد بذلك ما إذا أراد قراءة سورة ثم لمّا بلغ إلى محلّها قرأ سورة اُخرى بمقتضى ارتكازه ، ثم ظهر له أنّه كان يريد قراءة غيرها .
ثم إنّ القاعدة هل تقتضي جواز العدول حتّى يصار إليها فيما لم يقم الدليل على الخلاف، أو تقتضي عدم الجواز حتى يقتصر على الموارد التي قام الدليل على الخلاف؟
قد يقال بالأول ، نظراً إلى أنّ المصلّي قبل إتمام السورة مخيّر بمقتضى إطلاق
(1) النهاية: 77 .
(الصفحة165)
أدلة وجوب السورة ، بين قراءة أيّة سورة شاء ، والمفروض في المقام أنّه لم يتمّ السورة ، فيتخيّر بين إتمامها وبين رفع اليد عنها ، وقراءة غيرها ، مضافاً إلى أنّ استصحاب بقاءالتخيير الثابت قبل الشروع فيها يقضي ببقائه ، ما لم يقع الفراغ منها .
وقد يقال بالثاني ، نظراً إلى أنّ العدول مستلزم للقِران المحرّم ، لتحققه بقراءة سورة تامّة ، وبعض من سورة اُخرى ، وإن لم تتمّ ، وإلى لزوم الزيادة العمدية الموجبة للبطلان ، ولكنّه مردود مضافاً إلى أنّ القران مكروه لا محرّم كما مرّ سابقاً ، وأنّ مورد القِران ما إذا قصد جعل المجموع جزءً من الصلاة ، بمعنى أنّه يقصد امتثال الوظيفة الثابتة للمصلّي ، بعد قراءة الحمد ، بمجموع ما يقرؤه من السورتين ، أو سورة وبعض سورة .
والمفروض في المقام خلافه ، لأنّ معنى العدول الذي وقع التعبير به في كلمات الأصحاب ، والرجوع والعود اللذين وقع التعبير بهما في الأخبار المتقدمة إنما هو رفع اليد عمّا قرأ من بعض السورة ، وجعله كالعدم ، فالمقام لا يرتبط بالقرآن أصلا .
ومنه يظهر الجواب عن الوجه الثاني، فإنّ الزيادة المبطلة عبارة عمّا يؤتى به بعنوان انّه من الصلاة ، والمفروض أنّ العادل يجعل المقروء كأن لم يقرأ ، فلا يجعله جزءً للصلاة ، حتّى يوجب فسادها، إلاّ أن يقال: إنّ المقدار الذي قرأ من السورة المعدول عنها إنما قرأه بعنوان الجزئية للصلاة ، ضرورة أنّه كان قاصداً لامتثال الوظيفة الثابتة عليه ، بالنسبة إلى قراءة السورة التي هي جزء للصلاة ، بقراءة تلك السورة ، وحينئذ فكيف يمكن أن يكون العدول مؤثّراً فيما وقع بعنوان الجزئية ، ومخرجاً له عنه ، وهل هو إلاّ كتأثير الحادث فيما ثبت قبل حدوثه؟ وهو بديهي الاستحالة .
اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ وصف الجزئية للصلاة إنما يتصف به مجموع أجزاء سورة
(الصفحة166)
واحدة ، وأمّا أجزاؤها فلا توصف بها ، فما دام لم يقرأ سورة تامّة ، لم يتحقّق الجزء ، ولكن لا يخفى أنّ الأمر بالصلاة التي تكون مركّبة من الحقايق المتبائنة الملحوظة بلحاظ الوحدة ، كما أنّه ينبسط على أجزائها ، ويصير كلّ جزء منها معروضاً لبعض ذلك الأمر الواحد ، كذلك بعض الأمر المتعلّق بالسورة ، لكونها جزءً منها ينبسط على أجزاء السورة ، ويتعلّق كلّ بعض منه بجزء منها .
وكماأنّ إتيان بعض أجزاء الصلاة يوجب سقوط بعض الأمرالمتعلّق به، سقوطاً مراعى باتمام الصلاة ، كذلك الإتيان ببعض أجزاء الجزء يوجب سقوط بعض الأمر الضمنيّ المتعلّق به ، سقوطاً مراعى بإتيان بقيّة أجزاء الجزء ، وأجزاء الصلاة .
وحينئذ فمرجع جواز العدول إلى إمكان امتثال ذلك الأمر الضمني المتعلّق بجزء الجزء الذي هو بعض من الأمر الضمنيّ المتعلّق بمجموع السورة ثانياً ، ومن الواضح أنّه لا يعقل ذلك مع سقوطه ، نظير الإتيان بسورة اُخرى بعد الإتيان بسورة تامّة ، فإنّه لا يعقل الامتثال ثانياً بعد سقوط الأمر، ولو كان أمراً ضمنيّاً .
ولقائل أن يقول : إنّ السورة بتمامها اعتبرت جزءً واحداً للصلاة ، وحينئذ فما لم تتحقّق بجميع أجزائها لا تتحقّق ما هو جزء لها ، وكما أنّ اتّصاف أجزاء سائر المركّبات بوصف الجزئية لها ، إنما يتوقّف على تحقق الكلّ بجميع أجزائه ، لأنّ وصف الجزئية والكلية من الاُمور المتضايفة ، ومن شأنها التلازم بينهما ، وعدم ثبوت أحدهما قبل الآخر ، فثبوت وصف الجزئية لأجزاء المركّب لا يمكن قبل تحقق الكلّ ، حتّى يصير متصفاً بالكلية ، فما لم يأت بالكلّ ، ولم يقع الفراغ منه ، يمكن له العدول والإتيان بفرد آخر من المركّب .
ولكنّه لا يخفى أنّ أجزاء السورة إنما تكون أجزاء للصلاة ، وإذا تحقق شيء منها يكون صالحاً لإلحاق سائر الأجزاء به ، وصيرورته جزءً فعليّاً للصلاة ، غاية
(الصفحة167)
الأمر أنّ للمكلّف قطع الصلاة فيما لا يحرم ، واخراجه عن تلك القابلية بايجاد ما ينافي الصلاة ، وأمّا تأثير القصد المتأخّر في اخراجه عن صلاحيّة وقوعه جزءً ، وصيرورته متّصفاً بعنوان الجزئية ، فهو أمر يحتاج إلى نهوض الدليل عليه من الشرع ، فإذا فرض عدم ثبوت الدليل على جوازه ، فالقاعدة تقتضي خلافه .
والتمسّك بإطلاق أدلة وجوب السورة في الصلاة لإثبات التخيير كما عرفت ، مردود بأنّ المتفاهم منها بنظر العرف التخيير ما دام لم يشرع في السورة ، وأمّا ثبوته مطلقاً حتّى بعد الشروع فيها ، فلا يستفاد منها أصلا .
وأمّا التمسّك بالاستصحاب ، فيرد عليه أنّ التخيير المستصحب إنما هو التخيير بين مجموع أجزاء كلّ سورة من السور القرآنية ، والتخيير الذي يراد إثباته ، هو التخيير بين قراءة بعض ما بقي من السورة ، وبين قراءة سورة تامّة ، فهما متغايران ، ولا يمكن استصحاب أحدهما لإثبات الآخر ، فإنّ التخيير الثابت قبل الشروع مقطوع الارتفاع ، والمشكوك ثبوته فعلا مشكوك الحدوث رأساً ، فالحقّ أنّ القاعدة مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في الموارد الخاصة المتقدمة ، تقتضي عدم جواز العدول كما عرفت .
المسألة السابعة : «الضحى» و «الانشراح» سورة واحدة ، وكذا «الفيل» و «قريش»
لا إشكال ولا خلاف بين أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم ، في أنّ سورة «الضحى» وسورة «ألم نشرح» سورة واحدة ، وكذا «الفيل» و«الايلاف»(1) ،
(1) الهداية: 135; الإنتصار: 146; التهذيب 2: 72; النهاية: 77 ـ 78; شرائع الاسلام1: 83; تذكرة الفقهاء 3: 149; مستند الشيعة 5: 125; كشف اللثام 4: 39; مفتاح الكرامة 2: 385; جواهر الكلام 10: 20; الحدائق 8 : 202.
(الصفحة168)
فلايجوز الاكتفاء بإحداهما في كلّ ركعة ، بل يجب الجمع بينها وبين صاحبتها ، والروايات الواردة في هذا الباب المذكورة في الجوامع التي بأيدينا(1) وإن لم تكن خالية عن المناقشة من حيث السند ، أو الدلالة ، كما يظهر بمراجعتها ، إلاّ أنّ الظاهر عدم الاحتياج إليها في الفتوى بذلك ، بعد وضوح الحكم عند الإمامية ، بحيث لم يخالف فيه أحد .
فعن الشيخ في الاستبصار: أنّ هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمّد(عليهم السلام)(2) ، وعن الانتصار: أنّه جعل ذلك ممّا انفردت به الإمامية(3) ، وعن الأمالي نسبة المنع عن أفراد إحداهما عن صاحبتها إلى دين الإمامية ، معللاًّ بأنّ كلاًّ منهما مع صاحبتها سورة واحدة(4) ، ونحن نقطع بأنّ مستندهم في ذلك هو ما رووه عن الأئمة أهل البيت(عليهم السلام) ، خصوصاً في المقام الذي كان سائر فرق المسلمين مخالفاً لهم .
مضافاً إلى أنّ الفصل بالبسملة وتخصيص كلّ منهما باسم ، كما في المصاحف ، ربما يوهم الخلاف ، ولا ينافي ذلك خلوّ ما بأيدينا من الجوامع الأربعة عن التعرّض للمسألة ، لأنّك عرفت سابقاً أنّ هذه الجوامع لا تشتمل على جميع الروايات المذكورة في الجوامع الأولية ، ولذا ترى اشتمال بعضها على ما لا يشتمل عليه الآخر .
وبالجملة: فلا ينبغي الاشكال في أصل المسألة .
وإنما الكلام في الافتقار إلى البسملة بينهما ، فعن الشيخ في الإستبصار :
(1) راجع الوسائل 6: 54. أبواب القراءة في الصلاة ب10 .
(2) الاستبصار 1 : 317 .
(3) الانتصار : 146 .
(4) امالي الصدوق : 512 .
(الصفحة169)
لايفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم (1)، وقال في تفسيره المسمّى بالتبيان : روى أصحابنا أنّ «ألم نشرح» مع «الضحى» سورة واحدة لتعلّق بعضها ببعض ، ولم يفصلوا بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأوجبوا قراءتهما في الفرائض في ركعة ، وإلاّ يفصل بينهما ، ومثله ذكر الطبرسي في مجمع البيان(2) ، وعن البحار نسبة ذلك إلى الأكثر(3)، واستظهره المحقّق في الشرائع(4) ، ويؤيده ما روي عن أُبيّ بن كعب من أنّه لم يفصل بينهما في مصحفه(5) ، والوجه فيه أنّه لم يعهد من أحد من المسلمين القول بكون البسملة الواقعة في أثناء السورة آية مستقلّة لتلك السورة ، نعم وردت في سورة النمل بعضاً من الآية إلاّ أنّ المراد بها حكاية البسملة الواقعة في كتاب سليمان ، فلا يكون من قبيل البسملات الواقعة في أوائل السور ، وينبغي نقل عبارة الشيخ في الخلاف في مسألة جزئيّة البسملة ، حتّى يظهر أنّ الفصل بينهما بالبسملة إنما هو لأنّ المعروف عندهم كونهما سورتين لا سورة واحدة .
قال في الخلاف : «بسم الله الرحمن الرحيم» آية من كلّ سورة من جميع القرآن ، وهي آية من أوّل سورة الحمد. وقال الشافعي : إنّها آية من أوّل الحمد بلا خلاف بينهم ، وفي كونها آية من كلّ سورة قولان : أحدهما: أنّها آية من أوّل كلّ سورة ، والآخر: أنّها بعض آية من كلّ سورة ، وإنما تتمّ مع ما بعدها فتصير آية . وقال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيدة ، وعطاء ، والزهري ، وعبدالله بن المبارك: إنّها آية من أوّل كلّ سورة حتّى أنّه قال : من ترك «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ترك مائة وثلاث عشرة آية . وقال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي،
(1) الإستبصار 1: 317 .
(2) التبيان 10: 371; مجمع البيان 5 : 507 .
(3) بحار الأنوار 82 : 46 .
(4) شرائع الاسلام 1 : 73 .
(5) مجمع البيان 5 : 544 .
(الصفحة170)
وداود : ليست آية من فاتحة الكتاب ، ولا من سائر السور .
وقال مالك، والأوزاعي، وداود : يكره أن يقرأها في الصلاة بل يكبّر، ويبتدي بالحمد إلاّ في شهر رمضان ، والمستحبّ أن يأتي بها بين كلّ سورتين تبرّكاً للفصل ، ولا يأتي بها في أوّل الفاتحة .
وقال أبو الحسن الكرخي : ليس عن أصحابنا رواية في ذلك ، ومذهبهم الاخفاء في قراءتها ، فاستدللنا بذلك على أنّها ليست من فاتحة الكتاب عندهم ، إذ لو كانت منها لجهر بها كما يجهر بسائر السور ، وكان أبو الحسن الكرخي يقول : ليست من هذه السورة ، ولا من سائر السور سوى سورة النمل . هكذا روى عنه أبوبكر الرازي ، وقال أبو بكر : ثم سمعناه بعد ذلك يقول : إنّها آية تامّة مفردة في كلّ موضع أثبتت فيه إلاّ في سورة النمل ، فإنّها بعض آية في قوله تعالى :{إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم}(1) انتهى .
والمحكيّ في تفسير الزمخشري عن بعض العامة أيضاً القول بالوحدة ، وعدم الفصل بالبسملة(2) ، وهذا يدلّ على أنّ الوحدة مستلزمة لعدم الفصل ، مضافاً إلى أنّ ملاحظة المعاني والارتباط بينها تقضي بعدم الفصل بينهما حتى بالبسملة ، كما يظهر بالتدبّر فيها .
هذا ، والوجه في اعتبارها إنما هو ثبوتها في المصاحف بضميمة الاجماع على عدم التحريف بالزيادة ، ولكن قد تقدّم أنّ المروي عن أُبيّ بن كعب ، إنّه لم يفصل بينهما بالبسملة ، مضافاً إلى أنّ الفصل إنما هو لتوهّم كونهما سورتين ، ومعهودية الفصل بها بين السور ، فالظاهر عدم الافتقار إلى البسملة بينهما ، كما هو المشهور
(1) المجموع 3: 332 ـ 334; المغني لابن قدامة 1: 48; التفسير الكبير 1: 172 ـ 173; الجامع لأحكام القرآن 1: 93 ـ 96; الخلاف 1: 328 مسألة 82 .
(2) الكشاف 4 : 801 .
(الصفحة171)
بين المتقدّمين(1) ، وذهاب كثير من المتأخّرين إلى لزومها(2)، لا يقدح بعد عدم كون فتواهم كاشفاً عن الدليل المعتبر ، بخلاف فتوى القدماء من الأصحاب كما عرفت ذلك مراراً .
(1) راجع 2 : 169 .
(2) السرائر 1: 221; التحرير 1: 39; التنقيح الرائع 1: 204; مجمع الفائدة والبرهان 2: 244; الروضة البهيّة 1: 269.
(الصفحة172)
(الصفحة173)
الجهر والاخفات
لا إشكال ولا خلاف بين المسلمين ـ العامة والخاصة ـ في أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يجهر بالقراءة في الركعتين الاُوليين من المغرب والعشاء الآخرة ، وفي صلاة الفجر ، ويقرأ اخفاتاً في بقية الركعات والصلوات(1) ، ولذا حكي عن ابن عباس أنّه قال بعدم وجوب القراءة في الصلوات الاخفاتية ، معلّلا بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) سكت فيها ، وحكي عن أبي حنيفة وجماعة القول بعدم وجوب قراءة شيء في الركعتين الأخيرتين من الظهر والعصر والعشاء ، وفي الركعة الأخيرة من المغرب(2) ، وهذا يدلّ على أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) حيث كان يقرأ إخفاتاً لم يفهموا أنّه يقرأ ، بل فهموا مجرّد السكوت ، ولذا حكموا بعدم وجوب شيء في مواضع الاخفات .
(1) المجموع 3: 389; سنن البيهقي 2: 44; المقنعة : 141; المبسوط 1: 108; الغنية: 78; الكافي في الفقه: 117; المهذّب 1: 92; السرائر 1: 223; شرائع الإسلام 1: 72; تذكرة الفقهاء 3: 151; مفتاح الكرامة 3: 363; كشف اللثام 4: 14; مستند الشيعة 5: 156; جواهر الكلام 9: 364.
(2) بداية المجتهد 1: 181 ـ 182; التفسير الكبير 1: 188 .
(الصفحة174)
وبالجملة: فلا ينبغي الإشكال في استمرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على ذلك ، وإنما الكلام في أنّ ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب ، فالمحكيّ عن الجمهور القول بالاستحباب(1) ، وذهب ابن أبي ليلى منهم إلى الوجوب(2) ، ومستندهم في ذلك أصالة البراءة عن التكليف الوجوبي مع الشكّ فيه .
ولا يخفى أنّه لا مجال للتمسّك بالأصل ، مع ما عرفت من استمرار عمل النبي(صلى الله عليه وآله) على ذلك ، بحيث لم يقرأ جهراً في مواضع الاخفات ولا إخفاتاً في مواضع الجهر أصلا ولو مرّة ، لوضوح أنّ مدرك أصالة البراءة هو حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان .
ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب مع مداومة النبي(صلى الله عليه وآله) على الجهر والاخفات في مواضعهما ، خصوصاً مع ما حكوه عنه(صلى الله عليه وآله) من أنّه قال بعدما صلّى : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(3) . فالتمسّك بالأصل بعد ثبوت ذلك ـ كما عرفت أنّه لا خلاف فيه ـ ممّا لا سبيل إليه ، ولذا قال العلاّمة في محكيّ التذكرة : إنّه غلط(4) .
والمشهور بين علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم هو القول بالوجوب(5) ، والمحكيّ عن المرتضى مجرّد الاستحباب(6)، ومنشأ الاختلاف اختلاف ظاهر الأخبار المرويّة عن الأئمة(عليهم السلام) التي هي حجّة عندنا ، فمستند المشهور صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، فقال(عليه السلام) : أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة فإن
(1 و 2) تذكرة الفقهاء 3 : 151; المعتبر 2 : 176; المجموع 3: 389; الشرح الكبير 1: 569 .
(3) صحيح البخاري7: 102 ح6008وج8،169،ح7246; سنن البيهقي2:345; سنن الدارقطني1: 272 ح1296.
(4) تذكرة الفقهاء 3 : 152 .
(5) الخلاف 1: 332 ; الغنية : 78; السرائر 1: 218; جواهر الكلام 9: 364; مستند الشيعة 5: 156; كشف اللثام 4: 14; مفتاح الكرامة 2: 363.
(6) المنتهى 1: 277 عن المصباح للمرتضى.
(الصفحة175)
فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه، وقد تمّت صلاته»(1) . وغيرها من الأخبار الظاهرة في الوجوب .
ومستند القول بالاستحباب، رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام)قال : سألته عن الرجل يصلّي من الفريضة ما يجهر فيه بالقراءة، هل عليه أن لا يجهر؟ قال : «إن شاء جهر وإن شاء لم يفعل»(2) .
وقد يجمع بينها وبين صحيحة زرارة بحمل هذه على التقية ، لأنّها موافقة للعامّة ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه لا معنى للتقيّة في مثل هذا الأمر الذي يكون عملهم مطابقاً لعمل النبي(صلى الله عليه وآله) ، خصوصاً مع ما عرفت من وجود القائل بالوجوب بينهم(3) ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الرواية التساوي بين الاجهار وعدمه ، مع أنّ الاستحباب ورجحان الجهر في مواضعه والاخفات كذلك ، ثابت عندهم بلا خلاف .
وقد يقال : بأنّ مقتضى الجمع هو حمل الأولى على الاستحباب ، كما هو الحال في مطلق الدليلين المتعارضين ، اللذين كان أحدهما دالاًّ على الوجوب ، والآخر على الاستحباب ، لما قد حقّق في محلّه ، من أنّ الوجوب يستفاد من ظهور الطلب الذي هو معنى الأمر ، وفعل من الأفعال ، في كونه ناشئاً من الإرادة الحتميّة ، ومع الدليل على خلافه لا يبقى مجال لاستفادته .
ولكن لا يخفى ما في حمل صحيحة زرارة على الاستحباب من الاستبعاد ،
(1) الفقيه 1 : 227 ح1003; التهذيب 2 : 162 ح635 ; الإستبصار 1: 313 ح1163; الوسائل 6 : 86. أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح1.
(2) التهذيب 2 : 162 ح636; الاستبصار 1 : 313 ح1164; قرب الإسناد: 175 ح782; الوسائل : 6 / 85 . أبواب القراءة في الصلاة ب25 ح6 .
(3) وهو ابن أبي ليلى كما في المعتبر 2: 176; وتذكرة الفقهاء 3: 151.
(الصفحة176)
وذلك لأنّ أصل رجحان الجهر والاخفات في مواضعهما كان مفروغاً عنه عند السائل ، ولذا عبّر بكلمة «لا ينبغي» وإنما كان مورد شكّه مدخليتهما في صحة الصلاة ، بحيث يجب عليه إعادتها مع الاخلال بهما ، أو أنهما يوجبان مجرّد الفضيلة والكمال .
ولا ريب أنّ ظاهر الجواب هو الأول ، وحمله على الاستحباب في غاية البعد ، فظاهرهما متعارضان ، والترجيح مع صحيحة زرارة ، الظاهرة في الوجوب ، لخلوّها عن الاضطراب ، دون الرواية الاُخرى ، لأنّ الجمع بين التعبير بكلمة «عليه» وبين إضافة كلمة «لا» في قوله : «هل عليه أن لا يجهر» ممّا لا ينبغي كما لايخفى ، مضافاً إلى أنّها موافقة لفتوى المشهور وللسّنة كما عرفت ، فالأحوط إن لم يكن أقوى مراعاتهما في مواضعهما .
ثم إنّ وجوب الاخفات في الظهرين على ما عرفت ، إنما هو في غير يوم الجمعة ، وأمّا يوم الجمعة ، فالمحكيّ عن العلاّمة في المنتهى(1) ، دعوى اتّفاق كلّ من يحفظ عنه العلم على الجهر بالقراءة في صلاتها ، أي الركعتين مع الخطبة ، والدليل عليه استمرار سيرة النبي(صلى الله عليه وآله) على الجهر بها ، كاستفادة أصل مشروعية صلاة الجمعة عن عمله(صلى الله عليه وآله) ، ولكن لم يعلم أنّ ذلك هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ وكلام العلاّمة غير ظاهر في الثاني ، وعلى تقدير ظهوره غير مفيد ، لأنّه من المحتمل أن يكون القائل بالاستحباب هو الذي يقول باستحباب الجهر والاخفات في مواضعهما ، ولم يعلم اختيار القائل بوجوبهما في مواضعهما ذلك القول .
وبالجملة: فأصل الرجحان ممّا لا إشكال فيه ، لما عرفت من استقرار سيرة
(1) المنتهى 1 : 277 .
(الصفحة177)
النبي(صلى الله عليه وآله) والخلفاء بعده على الجهر بقراءة صلاة الجمعة ، مضافاً إلى دلالة الأخبار عليه أيضاً(1) .
وأمّا صلاة الظهر يوم الجمعة فقد اختلف في استحباب الجهر فيها والعدم ، ومنشأه اختلاف الأخبار الواردة في حكمها ، ويدلّ على الجهر رواية عمران الحلبي قال : سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يصلّي الجمعة أربع ركعات، أيجهر فيها بالقراءة؟ قال : «نعم، والقنوت في الثانية»(2) .
ورواية الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن القراءة في الجمعة إذا صلّيت وحدي أربعاً، أجهر بالقراءة؟ فقال : نعم، وقال : «إقرأ سورة الجمعة والمنافقين في يوم الجمعة»(3) .
ورواية محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : قال لنا: «صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة وأجهروا بالقراءة»، فقلت: إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر فقال : «أجهروا بها»(4) .
ورواية محمّد بن مروان قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة الظهر يوم الجمعة كيف نصلّيها في السفر؟ فقال : «تصلّيها في السفر ركعتين والقراءة فيها جهراً»(5) .
وبإزاء هذه الأخبار خبران آخران ، مدلولهما اختصاص الجهر بصلاة الجمعة في يومها ، وهما رواية جميل قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الجماعة يوم الجمعة في
(1) الوسائل 6: 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 .
(2) الفقيه 1 : 269 ح1231; التهذيب 3 : 14 ح50 ; الإستبصار 1: 416 ح1594; الوسائل 6 : 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح1.
(3) الكافي 3: 425 ح5; التهذيب 3: 14 ح49; الوسائل 6: 160. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح2.
(4) التهذيب 3: 15 ح51; الوسائل 6: 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح6.
(5) التهذيب 3: 15 ح52; الوسائل 6: 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح7.
(الصفحة178)
السفر؟ فقال : «يصنعون كما يصنعون في غير يوم الجمعة في الظهر، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة، إنما يجهر إذا كانت خطبة»(1) .
ورواية محمّد بن مسلم قال : سألته عن صلاة الجمعة في السفر؟ فقال : «تصنعون كما تصنعون في الظهر، ولا يجهر الإمام فيها بالقراءة، وإنما يجهر إذا كانت خطبة»(2) .
هذا ونقل في الوسائل عن الشيخ(رحمه الله) أنّه حمل هذين الخبرين على التقية والخوف ، ثم قال : ويحتمل أن يكون المراد نفي تأكّد الاستحباب في الظهر ، وإثباته في الجمعة ، واستجود هذا الاحتمال صاحب الجواهر ، وقرّبه في المصباح(3) .
وكيف كان فلا خفاء في ظهور الأخبار الأربعة المتقدمة في وجوب الجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة ، وفي ظهور الأخيرتين في النهي عنه ، وربما يجمع بينهما بحمل الطائفة الأولى على الاستحباب ، والثانية على نفي تأكّده ، نظراً إلى أنّ النهي فيها وارد مورد توهّم الوجوب ، فلا يدلّ إلاّ على الجواز ، ومقتضى الجمع بينها وبين الأخبار السابقة حمل الأمر فيها على الاستحباب .
ولكن لا يخفى أنّ النهي عن الجهر بالقراءة في الظهر ظاهر في عدم الجواز ، وأنّ الجهر الواجب أو المستحبّ يختصّ بما إذا كانت خطبة ، فلا يمكن الجمع بالنحو المذكور، وكيف يمكن حمل النهي الظاهر في عدم الجواز على ما ذكروه ، فالظاهر أنّ العرف لا يساعد على ذلك أصلا ، فالأخبار متعارضة .
وحينئذ فلو قدمت أخبار الوجوب ينبغي حملها على الاستحباب ، لعدم معروفية القول بالوجوب من أحد من المسلمين ، مضافاً إلى كون المسألة ممّا تعمّ به
(1) التهذيب 3 : 15 ح53 ; الوسائل 6 : 161. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح8 .
(2) التهذيب 3: 15 ح54، الوسائل 6: 162. أبواب القراءة في الصلاة ب73 ح9.
(3) جواهر الكلام 9: 371، مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 300 .
(الصفحة179)
البلوى ، ومعه كيف يمكن خفاء حكمها على المسلمين بحيث استقرّت سيرتهم على خلافه ، كما يشعر به قول الراوي في بعض الروايات المتقدمة بعد أمر الإمام(عليه السلام)بالجهر : «إنّه ينكر علينا الجهر بها» ، فإنّ ظاهره كون الجهر عندهم من المنكرات ، ومن هنا يمكن ترجيح أخبار المنع ، لموافقتها للسيرة المستمرّة ، فالأحوط لو لم يكن أقوى هو الإخفات كما لا يخفى .
هنا مسائل
المسألة الأولى : معنى الجهر والاخفات
المعروف بينهم أنّ معنى الجهر هو أن يسمع غيره ، ومعنى الاخفات أن يسمع نفسه(1) ، ولكن يرد عليه أنّ إسماع النفس المأخوذ في تعريف الاخفات لا ينافي إسماع الغير ، فيلزم إمكان تصادقهما على مورد واحد ، ولو سلّم كون المراد إسماع النفس فقط ، نقول من الواضح أنّ إسماع الغير وعدمه لا ربط لهما بما هو معنى الجهر والاخفات حقيقة .
ضرورة أنّ المراد بالأول هو إظهار جوهر الصوت ، وبالثاني اخفاؤه كما يظهر بمراجعة العرف الذي هو المرجع في المقام ، لعدم ورود التحديد من الشارع ، نعم لازم الاظهار سماع الغير غالباً، كما أنّ لازم الاخفاء هو العدم ، مضافاً إلى أنّ هذا التعريف لم يصدر من أحد من قدماء أصحابنا رضوان الله عليهم أجمعين ، بل لم يفسروا الجهر والاخفات أصلا .
(1) الكافي في الفقه: 117; السرائر 1: 223; المعتبر 2 : 177; شرائع الإسلام 1: 72; تذكرة الفقهاء 3: 153; المنتهى 1 : 277; الدروس 1: 173; مستند الشيعة 5 : 162; كشف اللثام 4 : 36; جواهر الكلام 9 :376 .
(الصفحة180)
والوجه فيه: أنّهما من الألفاظ التي اُحيل فهم معانيها إلى العرف ، لعدم كون غير ما يفهم منها بنظرهم مقصوداً للشارع ، نعم ذكر الشيخ في النهاية بعد تقسيمه الصلوات إلى الجهرية والاخفاتية ما هذا لفظه : وإذا جهر لا يرفع صوته عالياً ، بل يجهر متوسّطاً ، وإذا خافت فلا يُخافت دون إسماعه نفسه(1) . ونظيره ذكر في المبسوط(2) ، وقال المفيد في المقنعة في ذيل الصلوات الاخفاتية : ولكن لا يخافت بما لا يسمعه اُذنيه(3) .
فإنّ ظاهر هاتين العبارتين أنّ المراد بالجهر والاخفات هو معناهما العرفي ، ولكن حيث إنّ الجهر العرفي يشمل الصوت العالي ، والاخفات كذلك يشمل ما دون إسماعه نفسه ، ذكرا أنّ هذا النحو من الاجهار ، وذاك النحو من الاخفات ، لايكتفى بهما ، بل يشترط في صحة الصلاة الجهر المتوسّط ، والاخفات بما يسمع نفسه .
هذا، ولكن يظهر ممّا ذكره الشيخ في تفسير التبيان في معنى قوله تعالى :{ولاتجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}(4) ، الموافقة لما هو المعروف بينهم في معنى الجهر والاخفات ، بل نسبه إلى الأصحاب حيث قال : قوله:{ولا تجهر . . .} ، نهي من الله تعالى عن الجهر العظيم في حال الصلاة ، وعن المخافتة الشديدة ، وأمر بأن يتّخذ بين ذلك سبيلا ، وحدّ أصحابنا الجهر فيما يجب الجهر فيه ، بأن يسمع غيره ، والمخافتة بأن يسمع نفسه(5) .
(1) النهاية: 80 .
(2) المبسوط 1 : 108 .
(3) المقنعة : 141 .
(4) الإسراء: 110 .
(5) التبيان 6: 533 ـ 534 .
|