في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>



(الصفحة181)

والظاهر أنّه ليس المراد بالتحديد المذكور في كلامه هو الحدّ والتعريف المنطقي ، بحيث يكون إسماع الغير معرّفاً للجهر ، وإسماع النفس حدّاً للاخفات ، بل المراد به بيان المقدار الذي يعتبر في صحة الصلوات الجهرية والاخفاتية ، ولا يجزي في الجهر أكثر منه ، ولا في الاخفات أقلّ منه .
ويؤيد ذلك ما ذكره في المعتبر ، حيث قال : وأقلّ الجهر أن يسمع غيره القريب، والاخفات أن يسمع نفسه ، أو بحيث يسمع لو كان سميعاً ، وهو إجماع العلماء ، ولأنّ ما لا يسمع لا يعدّ كلاماً ولا قراءة(1) . انتهى .
فإنّ التعليل الأخير يدلّ على أنّ مقصوده مجرّد عدم الاكتفاء بما دون إسماعه نفسه ، لعدم عدّه كلاماً ولا قراءة ، فالاجماع وقع على هذا المعنى .
وبالجملة: فالظاهر أنّ مرادهم بالحدّ هو المحدودية في ناحية الاجزاء وأنّ المراد بالجهر والاخفات المعتبرين في الصلوات الجهرية والاخفاتية ليس ما يصدق عليه الجهر ، ولو كان جهراً عظيماً وصوتاً عالياً، ولا ما يصدق عليه الاخفات ، ولو كان ما دون سماع النفس ، بل المعتبر الجهر المتوسّط والاخفات بما يسمعها .
وليس مرادهم التحديد بمعنى التعريف ، وبيان الحقيقة ، حتى يورد عليهم بما ذكرنا ، بل قد عرفت أنّ عبارات القدماء من الأصحاب خالية عن تفسيرهما ، ولو بما هو المعروف بين المتوسّطين . فدعوى أنّ المشهور بين القدماء هو التحديد بما ذكر ، كما هو المحكيّ عن مفتاح الكرامة(2) ممنوعة جدّاً .
وكيف كان فقد عرفت من النهاية والمبسوط أنّه يعتبر في الجهر أن يكون متوسّطاً ، بمعنى أنّه لا يجزي أكثر منه ، وفي الاخفات أن يكون بحيث يسمع نفسه ، بمعنى أنّه لا يجزي أدنى منه ، وعرفت التصريح بالثاني من المفيد في المقنعة ، ولكن

(1) المعتبر 2 : 177 .
(2) مفتاح الكرامة 2 : 365 .

(الصفحة182)

عبارة التبيان المتقدمة مشتملة على أمر زائد ، وهو أنّه يعتبر في الجهر أن يسمع غيره ، بمعنى أنّه يعتبر فيه أن لا يكون أقلّ منه .
ويرد عليه حينئذ أنّه لا دليل على اعتبار هذا الأمر أصلا ، بعد كون معنى الجهر هو اظهار جوهر الصوت ، وهو لا ينافي عدم سماع الغير ، فإنّه قد يتّفق الاظهار مع العدم ، كما هو واضح ، واعتبار كون الجهر متوسّطاً لا عالياً، والاخفات بحدّ يوجب سماع النفس ، إنما هو لدلالة الآية الشريفة(1) ، بضميمة الأخبار الكثيرة الواردة في تفسيرها ، وإلاّ فقد عرفت شمول الجهر والاخفات بمعناهما الحقيقي لهما أيضاً .
هذا ، وعبارة المعتبر المتقدمة كعبارة التبيان تدلّ على اعتبار ذلك الأمر الزائد حيث قال : وأقلّ الجهر أن يسمع غيره القريب . وقد عرفت أنّه لا دليل عليه أصلا .
ومن الغريب ما وقع من الحلّي في هذا المقام ، حيث قال في السرائر : وأدنى الجهر أن تسمع من عن يمينك أو شمالك ، ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته ، وحدّ الاخفات أعلاه أن يسمع أُذناك بالقراءة ، وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع اُذناه القراءة ، فلا صلاة له ، وإن سمع من عن يمينه أو شماله صار جهراً ، فإذا فعله عامداً بطلت صلاته(2) . انتهى .
فإنّه اعتبر في الجهر أن يسمع من عن يمينه أو شماله ، ولم يعتبر في طرف أعلاه شيئاً ، بل صرّح بأنّه لا تبطل الصلاة مع الصوت عالياً ، وقد عرفت قيام الدليل على مبطلية الثاني ، وعدم قيامه على الأول ، هذا مع أنّه اعتبر الحدّ في أعلى الاخفات دون أدناه ، وقد عرفت أنّه معتبر في الثاني دون الأول .

(1) الإسراء: 110 .
(2) السرائر 1 : 223 .

(الصفحة183)

مضافاً إلى أنه جعل الحد الأعلى في الاخفات هو سماع الاُذنين بالقراءة ، مع أنّه الحدّ الأدنى فيه ، ولو حمل الأعلى في كلامه على شدّة الاخفات ، والأدنى على ضعفه كما هو غير بعيد .
فالجمع بين أنه ليس له حدّ أدنى ، وبين أنّه لو سمع من عن يمينه أو شماله يصير جهراً ، ممّا لا يصح أصلا ، مضافاً إلى أنّه لا دليل على صيرورته جهراً في هذه الصورة كما عرفت في عكسه . فالانصاف أنّ عبارته في غاية الاضطراب .
ونظير عبارة الحلّي في تحديد أقلّ الجهر وأعلى الاخفات ، ما حكي عن المالكية في تحديدهما ، ولكن المحكيّ عن الشافعية والحنابلة والحنفية ، تحديد الجهر من الطرف الأدنى ، وكذلك الاخفات(1) ، وإن اختلفوا في أقلّ الجهر من حيث الاكتفاء بما يسمع من يليه ولو واحداً ، كما عن الأول ين ، ولزوم إسماع غيره ممّن ليس بقربه ، كأهل الصفّ الأول ، فلو سمع رجل أو رجلان فقط لا يجزي كما عن الأخير .
وكيف كان فالظاهر كما عرفت أنّ ذلك المعنى المعروف بينهم ليس المراد به بيان حقيقة الجهر والاخفات ، كيف! وضرورة العرف قاضية بأنّهما نوعان من الصوت متضادّان ، وسماع الغير وعدمه خارجان عن معناهما الحقيقي ، بل هما وصفان للقراءة المتحققة في الخارج ، نعم لازم الجهر نوعاً سماع الغير ، كما أنّ لازم الاخفات كذلك هو العدم .
وحينئذ فإن كان مرادهم بأنّ أقلّ الجهر إسماع غيره القريب ، هو مدخلية ذلك في معناه ، بحيث لا يصدق عنوانه على الأقل منه ، ففيه منع ذلك ، وإن كان المراد أنّ هذه المرتبة من الجهر تعتبر في صحة الصلوات الجهرية ، ولا تكفي المرتبة النازلة عنها ، فيرد عليه ما عرفت من عدم الدليل عليه ، بعد صدق الجهر على هذه المرتبة

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 : 263 .

(الصفحة184)

أيضاً ، مضافاً إلى أنّ المسلمين كانوا من أوّل الإسلام إلى يومنا هذا يقسّمون الصلاة إلى الجهرية والاخفاتية ، وكانوا يعبّرون عن كيفية قراءة النبي(صلى الله عليه وآله) في الصلوات بالجهر في بعضها والاخفات في اُخرى ، ولم يقيّدوا الجهر بغير المرتبة النازلة أصلا ، ولو لم يكن هنا دليل على تحديد الجهر من الطرف الأعلى ، والاخفات من الطرف الأدنى ، لقلنا بكفاية الجهر والاخفات بمراتبهما ، ولكن قد عرفت أنّ الآية الشريفة بضميمة النصوص الواردة في تفسيرها تدلّ على ذلك ، وأنّ السيرة المستمرّة بين المسلمين في الصلوات الجهرية والاخفاتية موافقة لما ذكرنا .
ثم إنّ المراد بإسماع النفس المعتبر في أدنى الاخفات ، هل هو إسماعها فعلا ، أو ولو بالقوّة؟
وعلى التقديرين هل اللاّزم وجوب إسماعها الكلمة بمادّتها وهيئتها ، أو يكفي مجرّد إسماع الصوت وإن لم يتميّز المواد والهيئات؟ وجوه ، واللاّزم ملاحظة الأخبار الدالة على اعتبار ذلك في صحة القراءة في الصلاة أو مطلقاً فنقول :
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «لا يكتب من القراءة والدعاء إلاّ ما أسمع نفسه»(1) .
ومنها : رواية سماعة قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ :{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}(2) قال : «المخافتة ما دون سمعك، والجهر أن ترفع صوتك شديداً»(3) .

(1) الكافي 3 : 313 ح6 ; التهذيب 2 : 97 ح363 ; الاستبصار 1 : 320 ح1194; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح1.
(2) الاسراء : 110 .
(3) الكافي 3 : 315 ح 21; التهذيب 2 : 290 ح1164 ; الوسائل 6 : 96. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح 2 .

(الصفحة185)

ومنها : رواية الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) هل يقرأ الرجل في صلاته وثوبه على فيه؟ قال : «لا بأس بذلك إذا أسمع اُذنيه الهمهمة»(1) .
ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال : سألته عن الرجل يصلح له أن يقرأ في صلاته ويحرّك لسانه بالقراءة في لهواته من غير أن يسمع نفسه؟ قال : «لا بأس أن لا يحرّك لسانه يتوهّم توهّماً»(2) .
واللهوات بالتحريك جمع لهات ، كحصاة ، وهي سقف الفم ، وقيل هي اللحمة الحمراء المتعلّقة في أصل الحنك ، ذكر ذلك في مجمع البحرين(3) ، ويبعد كون المراد هو المعنى الثاني كما لا يخفى وأمّا الأول فلا يناسب أيضاً ، لأنّ مخارج الحروف بعضها لا يتجاوز عن الشفتين ، كالباء ونحوها .
وكيف كان فالرواية مخالفة للأدلّة الدالة على وجوب القراءة في الصلاة ، لأنّ القراءة لا تتحقّق مع عدم تحريك اللسان ، ومجرد التوهم والتخيل كما هو واضح ، فإنّ مجرد تحريك اللسان مع التوهم لا يحقق القراءة ، وعلى تقديره فاحرازها في غاية الإشكال ، ولذا حملها الشيخ على من يصلّي خلف من لا يقتدى به .
وأمّا رواية زرارة الظاهرة في وجوب الاسماع فعلا فيمكن أن يقال بأنّه يبعد أن يكون المراد مدخلية إسماع النفس ، بحيث يكون اللازم تأثّر القوة السامعة بسبب القراءة ، فإنّ ذلك لا ربط له بتحققها ، بل المراد هو لزوم إيجاد الصوت ، بحيث بلغ تلك المرتبة ، فلو علم أنّه أوجد الألفاظ بمادّتها وهيئتها من غير سماعها ،

(1) الكافي 3: 315 ح15; التهذيب 2: 97 ح364 وص229 ح903; الاستبصار 1: 320 ح1195; الوسائل 6: 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح4.
(2) التهذيب 2 : 97 ح365; الاستبصار 1 : 321 ح1196; الوسائل 6 : 97. أبواب القراءة في الصلاة ب33 ح5 ; وص128 ب52 ح2.
(3) مجمع البحرين 4 : 147 .

(الصفحة186)

فالظاهر عدم البطلان ، ولزوم إسماع الألفاظ بخصوصياتها ، تنفيه رواية الحلبي المتقدمة . وكيف كان فالظاهر أنّه لا يعتبر الإسماع بحيث تتميّز الكلمات بعضها عن بعض .
ثم إنّ وجوب الجهر في الصلاة الجهرية يختصّ بالرجال ، وأمّا النساء فليس عليهنّ جهر(1) ، فلو خافتن في مواضع الجهر فلا تبطل صلاتهنّ ، كما إنّه لا تبطل لو أجهرن ، نعم ربما يوجب البطلان فيما إذا أجهرن فيما يسمع صوتهن الأجنبي ، بناءً على حرمة الاسماع ، واقتضاء حرمة الاجهار بطلان الصلاة ، لاتّحاده معها ، والمبعّد لا يمكن أن يكون مقرّباً . هذا ، وأمّا الصلوات الاخفاتية ، فيجب عليهنّ الاخفات فيها كالرجال بلا إشكال .

المسألة الثانية : الاخفات في موضع الجهر وبالعكس

إذا خافت في موضع الجهر أو أجهر في موضع الاخفات ، فلا إشكال في بطلان صلاته إذا كان ذلك عمداً ، وأمّا إذا كان جهلا أو نسياناً أو سهواً ، فلا تجب عليه الإعادة ، كما هو صريح رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في رجل جهر فيما لا ينبغي الاجهار فيه، وأخفى فيما لا ينبغي الاخفاء فيه; فقال : «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»(2) . وهذا أي عدم وجوب الإعادة على هؤلاء ممّا لا إشكال

(1) المعتبر 2: 178; المنتهى 1 : 277; تذكرة الفقهاء 3: 154; الذكرى 3: 322; كشف اللثام 4: 37; جواهر الكلام 9: 383.
(2) الفقيه 1 : 227 ح1003; التهذيب 2 : 162 ح635; الاستبصار 1 : 313 ح1163; الوسائل 6 : 86 . أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح1 .

(الصفحة187)

فيه ، لو استمرّ كلّ واحد من هذه الأعذار إلى بعد الفراغ من الصلاة ، وكذا لو استمرّ إلى أن تجاوز عن محلّ القراءة ، بحيث لو كان الإخلال بالجهر والاخفات مضرّاً بصحة الصلاة مطلقاً ، حتّى مع الجهل واختيه ، لكان اللاّزم عليه وجوب إعادة الصلاة واستئنافها ، لا إعادة القراءة ، كما لو انكشف له الحال بعد الركوع ، فإنّ الحكم فيه يدور بين صحة الصلاة وتماميتها ، وبين بطلانها ووجوب الإعادة ، ولا ثالث لهما كما هو واضح ، وظاهر الرواية عدم وجوب إعادة الصلاة على الناسي ونظائره ، واختصاصه بالمتعمّد ، فتتمّ صلاة كلّ واحد منهم في المورد المفروض ولا شيء عليه .
وأمّا لو استمرّ كلّ واحد من تلك الاُمور إلى محلّ يمكن إعادة القراءة جهراً أو إخفاتاً ، كما إذا التفت الناسي أو علم الجاهل قبل الركوع ، فهل يجب عليهم إعادة القراءة ، أو أنّ مدلول الرواية هو الإخبار بعدم وجوب شيء عليهم لا إعادة الصلاة ولا أمر آخر؟ وجهان .
ولابدّ قبل الخوض في معنى الرواية من بيان ما يحتمل في اعتبار الجهر والاخفات في مواضعهما ثبوتاً .
فنقول : يحتمل أن يكون الجهر في الصلوات الجهرية ، والاخفات في الصلوات الاخفاتية ، معتبراً في نفس الصلاة مستقلاً بلا واسطة شيء ، بحيث كان الجهر في بعض الصلوات والاخفات في بعضها الآخر شرطاً لنفس تلك الصلوات ، نظير سائر الشروط المعتبرة فيها مستقلاً ، ولا ينافي هذا كونهما وصفين عارضين للقراءة كما هو واضح .
وحينئذ فالقراءة اخفاتاً في الصلوات الجهرية مثلا لا تخرج عن الجزئية للصلاة ، فلا تبطل الصلاة من حيث فقدانها لبعض الأجزاء ، بل بطلانها يكون مسبّباً عن فقدانها لبعض الشروط المعتبرة فيها .


(الصفحة188)

ويحتمل أن يكون كلّ منهما معتبراً في القراءة ، وصيرورتها جزءً للصلاة ، بحيث يكون الجزء للصلوات الجهرية هي القراءة التي يجهر بها ، لا نفس القراءة ، وكذا في الصلوات الاخفاتية ، وحينئذ فلو أخلّ بشيء منهما في مواضعهما ، يكون بطلان الصلاة مستنداً إلى كونها فاقدة لجزئها الذي هي عبارة عن القراءة .
فعلى الأول : لو نسي الجهر في موضعه ، فذكر قبل أن يركع ، فالظاهر عدم وجوب إعادة القراءة أيضاً ، لعدم إمكان التدارك ، ضرورة أنّ الجهر المعتبر في الصّلاة إنما هو الجهر بالقراءة التي هي جزء لها ، والقراءة الموصوفة بهذا الوصف قد تحقّقت فاقدة للجهر المعتبر في أصل الصلاة ، والقراءة الثانية وإن كانت مشتملة على الجهر وموصوفة به ، إلاّ أنّها لا تكون جزءً للصلاة ، ضرورة أنّ أوّل وجودات الطبيعة يكفي في حصول الغرض منها ، والعدول عنه إليه بجعل الوجود الثاني جزءً ورفع اليد عن الأول غير ممكن .
ضرورة أنّ ما وقع متّصفاً بشيء لا يمكن أن يتغيّر عمّا وقع عليه ، فلا يصار إليه إلاّ فيما لو دلّ عليه الدليل ، وهو هنا مفقود .
وبالجملة : فالظاهر أنّه لا يمكن التدارك في هذه الصورة ، فلا يجب عليه إعادة القراءة أيضاً .
وعلى الثاني : لو نسي الجهر في موضعه فالتفت قبل الركوع ، فلا إشكال في إمكان التدارك في هذه الصورة ، لأنّ الاخلال بالجهر مرجعه إلى الاخلال بالقراءة التي هي جزء لها ، والمفروض أنّ محلّها باق ، كمن نسي أصل القراءة ، وحينئذ فهل يجب عليه إعادة القراءة بعد الفراغ عن عدم وجوب إعادة الصلاة أو لا؟ قد يقال بالثاني نظراً إلى قوله(عليه السلام) في الرواية  : «فلا شيء عليه» ، الظاهر في عدم تعلّق تكليف وجوبي متعلّق بإعادة الصلاة أو القراءة بمثل هذا الشخص أصلا .
ولكن يمكن أن يقال : إنّ الرواية متعرّضة لجهة وجوب إعادة الصلاة وعدمه

(الصفحة189)

فقط ، بيانه إنّه لا إشكال في أنّ الجملة الأولى المتعرّضة لحكم المتعمّد ، ظاهرة في وجوب إعادة الصلاة ، والجملة الثانية تفريع على هذا الحكم ، وبيان لمفهوم الجملة الأولى الدالة على اختصاص الحكم بصورة التعمّد .
ويؤيده ذكر كلمة الفاء الظاهرة في التفريع ، ومن الواضح أنّ المنفي في طرف المفهوم إنما هو الحكم المذكور في المنطوق ، لا هو مع شيء آخر ، فالمراد بقوله : «فلا شيء عليه» هو عدم وجوب إعادة الصلاة عليه ، ويؤيده قوله(عليه السلام) بعده : «وقد تمّت صلاته» فلا ينافي وجوب إعادة القراءة في مثل الفرض .
وبالجملة : فالتأمّل في الرواية يقضي بأنّ محطّ نظر الامام(عليه السلام) خصوص مسألة التمامية وعدمها ، ولكنّ الظاهر منها هو الاحتمال الأول ، فليتأمّل .
ثم إنّ الرواية كما عرفت تدلّ على عدم وجوب الإعادة على الناسي والساهي ، ومن لا يدري ، أي الجاهل ، ولكن هنا رواية اُخرى لزرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)تشتمل على ذكر الأول ين فقط حيث قال : قلت له رجل جهر بالقراءة فيما لا ينبغي الجهر فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه، وترك القراءة فيما ينبغي القراءة فيه، أو قرأ فيما لا ينبغي القراءة فيه، فقال : «أيّ ذلك فعل ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه»(1) .
هذا ويحتمل قويّاً اتحاد الروايتين  ، خصوصاً مع كون الراوي عن زرارة فيهما واحداً ، وهو حريز ، والاختلاف في السؤال والجواب يكون ناشئاً من الروات المتأخّرين عنه . وكيف كان فعبارات القدماء أيضاً خالية عن عدّ الجاهل في عداد الناسي والساهي ، ولكن هذا المقدار لا يوجب الاعراض عن الرواية ، بحيث يسقطها عن الحجيّة رأساً ، خصوصاً مع ذهاب جلّ المتأخّرين بل كلّهم إلى عدم

(1) التهذيب 2 : 147 ح577; الوسائل 6 : 86 . أبواب القراءة في الصلاة ب26 ح2 .

(الصفحة190)

الفرق بين الناسي والجاهل(1) .
نعم هنا شيء ، وهو إنّ الجاهل قد جعل في الصحيحة الأولى مقابلا للمتعمّد ، لما عرفت من أنّ الجملة الثانية في الرواية بيان لمفهوم الجملة الأولى الدالة على وجوب الإعادة بالنسبة إلى خصوص المتعمّد ، مع أنّ الجاهل متعمّد أيضاً ، لأنّ الجهل لا ينافي العمد الذي هو بمعنى القصد ، إلاّ أن يقال: بأنّ المراد من المتعمّد هو الذي جهر في موضع الاخفات أو عكس ، قاصداً لمخالفة الشرع ، فيخرج الجاهل عن المتعمّد بهذا المعنى ، أو يقال بأنّ ذكر الجاهل في عداد الناسي والساهي إنما هو لمجرّد اشتراكه معهما في الحكم ، بعدم وجوب الإعادة ، لا لكونه مثلهما من مصاديق غير المتعمّد الذي هو الموضوع في القضية المفهومية ، وبعبارة اُخرى هو مستثنى من المتعمّد حكماً لا موضوعاً فتدبّر .
ثم إنّ الجهل إمّا أن يكون بالنسبة إلى الحكم ، بأن لا يعلم بوجوب الجهر والاخفات في مواضعهما ، وهو وإن كان فرضه بعيداً بملاحظة ما عرفت ، من استقرار سيرة المسلمين من صدر الإسلام إلى هذه الأزمنة ، إلاّ أنّه يمكن فرضه بملاحظة اشتهار الفتوى بالاستحباب من فقهاء العامة ، الذين كانوا مرجعاً لأكثر المسلمين في مقام الفتوى ، وبيان الأحكام الشرعية .
وإمّا بالنسبة إلى محلّ الجهر والاخفات ، وموضعهما بأن يعلم أنّ الصلوات في الشريعة على قسمين : بعضها جهرية وبعضها اخفاتية ، ولكن لا يميّز بينهما ، فيتخيّل أنّ المغرب مثلا من الصلوات الاخفاتية .
وإمّا بالنسبة إلى الموضوع ، بأن لا يعلم حدّ الجهر أو الاخفات ، والظاهر شمول الرواية لجميع الصور ، نعم الظاهر خروج الجاهل المتردّد والشاكّ عن قوله :

(1) المنتهى 1 : 277; مفاتيح الشرائع 1: 134; جواهر الكلام 10 : 24 ـ 25; كشف اللثام 4 : 38; مستند الشيعة 5 : 161 ـ 162 ; جامع المقاصد 2: 261.

(الصفحة191)

«لا يدري» ، لانصرافه عنه ، لأنّ ظاهر الرواية نفي وجوب الإعادة بالنسبة إلى من جهر في موضع الاخفات ، أو عكس بمقتضى طبعه ، والشاكّ ليس كذلك كما هو ظاهر .
وهنا إشكال عقليّ ، وهو أنّه بناءً على اشتراك الجاهل مع الناسي ، واختصاص الحكم بوجوب الإعادة بالمتعمّد العالم ، يلزم أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم به .
وهذا محال، إمّا للزوم الدور الصريح بحسب الواقع ، كما في المصباح(1) وتقريره: إنّه لا خفاء في توقّف العلم بوجوب الجهر والاخفات على نفس الوجوب ، فلو كان الوجوب أيضاً متوقّفاً على العلم به كما هو المفروض يلزم الدور . وإمّا للزوم الدور في نظر العالم ، بناءً على منع توقّف العلم بشيء على وجوده ، لإمكان القطع بشيء معدوم ، غاية الأمر عدم موافقته للواقع ونفس الأمر .
وبالجملة: فمرتبة المعلوم في نظر العقل مقدّمة على مرتبة تعلّق العلم به ، فلو أخذ العلم بالحكم في موضوعه يلزم تأخّره عنه ، لتقدّم رتبة المعلوم عليه ، وتقدّمه عليه لتقدّم الموضوع على الحكم ، ومن الواضح استحالة اتّصافه بالتقدّم على شيء ، والتأخّر عن ذلك الشيء في زمان واحد .
وقد حقّقنا في الأصول(2) أنّ البعث والزجر يتوجّه إلى طبيعة المكلّف المعراة عن خصوصية العلم والجهل ، وإن كانت الإرادة الباعثة على البعث والزجر ، والغرض منهما ـ وهو تحقق الانبعاث والانزجار بسببهما ـ لا يتحقّق إلاّ في صورة العلم ، ضرورة أنّ في غير هذه الصورة لا يكون الانبعاث مسبّباً عن نفس البعث ولا الانزجار مستنداً إلى نفس الزجر ، إلاّ أنّ ذلك القصور في ناحية الغرض ، لا في

(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 316.
(2) نهاية الاُصول، مقدّمة الواجب: 202; ومبحث القطع: 420.

(الصفحة192)

البعث والزجر .
وبالجملة : فلا شبهة في استحالة أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم . والقول بمعذورية الجاهل في المقام، وكذا في مسألة القصر والاتمام ، مستلزم لهذا الأمر المحال .
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه أجاب عن هذا الإشكال في المصباح بما حاصله : إنّا نمنع أن يكون وجوب الجهر والاخفات في مواضعهما مشروطاً بالعلم ، كيف! وصرّح بعض بل نسبه إلى ظاهر الأصحاب باستحقاقه للعقوبة الذي هو أثر للوجوب ، ومعنى معذوريته إنما هو خصوص تمامية الصلاة ، وعدم وجوب الإعادة عليه ، ولا استحالة في ذلك أصلا .
بيانه إنّه من الجائز أن يكون لطبيعة الصلاة من حيث هي مصلحة ملزمة مقتضية لايجابها ، وكونها في ضمن الفرد المشتمل على الجهر أو الاخفات ، مشتملة على مصلحة اُخرى ملزمة أيضاً ، فاجتماع كلتا المصلحتين في هذا الفرد أوجب تأكّد طلبه ، فإذا أتى المكلّف بها في ضمن فرد آخر ، فقد أحرز مصلحة نفس الطبيعة ، فلا يعقل بقاؤها بصفة الوجوب ، وعند ارتفاعه عنها يتعذّر عليه احراز مصلحة الخصوصية .
إذ المفروض أنّ المصلحة المقتضية لخصوص الفرد تعلّقت بإيجاده ، امتثالا للأمر بالطبيعة ، وقد فرضنا سقوط الأمر المتعلّق بها بايجادها في الخارج ، فهو وإن كان أوجد الطبيعة ، إلاّ أنّه فوّت المزيّة الواجبة فيستحق المؤاخذة ، ولا يمكنه تداركها بعد ذلك .
إن قلت : إذا وجب عليه الاجهار في صلاته فقد حصل بفعله مخالفة ذلك التكليف ، فيكون منهيّاً عنه ، فكيف يصحّ وقوعه عبادة .
قلت : مخالفة ذلك التكليف تحصل بترك الجهر الذي هو نقيض للمأمور به ، لا

(الصفحة193)

بفعل الاخفات ، نعم لو قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، وجب الالتزام بحرمته ، ولكنّه خلاف التحقيق .
لا يقال : مقتضى ما ذكرت عدم وجوب إعادة الصلاة على من أخلّ بهما عمداً ، وهو خلاف الفرض .
لأنّا نقول : لا ندّعي أنّ طبيعة الصلاة المعرّاة عن هذه الخصوصية مطلوبة مطلقاً كيفما اتّفقت ، وإنما المقصود بيان إمكان ذلك دفعاً لتوهّم الاستحالة ، وإلاّ فمن الجائز تقييد مطلوبية صرف الطبيعة بخلوصها عن شائبة التجرّي كي ينافيها التعمّد أو التردّد كما لا يخفى(1) ، انتهى .
وما أفاده في جواب الإشكال الأول الذي أورده على نفسه محلّ نظر ، لأنّه إذا كان الضدّان ممّا لا ثالث لهما كما هو المفروض في المقام ، تكون مخالفة الأمر المتعلّق بواحد منهما بنفس إيجاد الضدّ الآخر ، فإنّه إذا أمر المولى بالسكون الذي هو ضدّ للحركة ، تتحقّق مخالفته بنفس التحرّك كما لا يخفى .
ثم إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين بعد الإشكال على الجواب المذكور ـ بأنّ لازمه صحة العمل وإن أتى بالطبيعة الجامعة متعمّداً ، فإنّ الإتيان بها على الفرض عبادة ، وإن قارن عصيان الأمر الآخر ، إلاّ أن يقال باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاص ، فيلزم بطلان العبادة من حيث المضادّة ، ولكنّا لم نقل بذلك ـ أجاب عنه بوجه آخر حيث قال : وحلّ أصل الإشكال أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، وليس المقام من قبيل وجود المصلحة الملزمة ، في المطلق والمقيّد في عرض واحد ، حتّى يرد الإشكال المتقدّم .

(1) مصباح الفقيه، كتاب الصلاة: 316 .

(الصفحة194)

ويتفرّع على ذلك أمور ثلاثة من دون منافاة بعضها مع البعض الآخر :
أحدها : تمامية الصلاة التي ينطبق عليها الجامع عند الجهل بلزوم الخصوصية .
الثاني : استحقاق العقوبة على ترك الخاصّ ، إذا كان مستنداً إلى تقصيره .
الثالث : عدم الصحة لو تعمّد في ترك الخاصّ ، والإتيان بالجامع(1) ، انتهى .
أقول : مراده بالمصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة ، بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة ، هل هي المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، أو مصلحة اُخرى قائمة بصرف الطبيعة حادثة عند الجهل؟
فإن كان الأول ، يلزم عود المحذور ، بيانه إنّ ترتّب المصلحة على الطبيعة المقيدة حينئذ بحيث يكون للقيد دخل فيها ، إنما هو في صورة العلم ، لأنّ المفروض أنّ في صورة الجهل تكون المصلحة قائمة بنفس الطبيعة وحينئذ تكون مدخلية القيد في ترتّب المصلحة مشروطة بالعلم بها ، وهو أصل الإشكال .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو كان مراده ذلك لما كان وجه لاستحقاق الجاهل للعقوبة ، لأنّ المفروض إنّه لم يفت من المصلحة شيئاً إلاّ أن يقال باستحقاقه لها من حيث ترك تحصيل العلم ، وهو مع أنّه خلاف التحقيق ، مخالف لصريح كلامه حيث قال بأنّ استحقاقه لها إنما هو من حيث ترك المقيّد .
وإن كان الثاني ، يلزم أن يترتب على عمل الجاهل الذي عمل على طبق الواقع مصلحتان :
إحداهما : المصلحة القائمة بالطبيعة المقيّدة ، لعدم اختصاصها بصورة العلم كما هو المفروض .
والاُخرى : المصلحة القائمة بنفس الطبيعة الحادثة عند الجهل ، بخلاف العالم ،

(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري: 194.

(الصفحة195)

فإنّ المصلحة المترتّبة على نفس الطبيعة منتفية بالنسبة إليه لفرض اختصاصها بصورة الجهل ، فيلزم أن يكون عمل العالم أنقص من عمل الجاهل كما لايخفى .
لا يقال : إنّ المصلحة القائمة بالطبيعة إنما تحدث بالنسبة إلى الجاهل الذي يعمل على خلاف الواقع ، فالجاهل الذي عمل على طبقه لا يترتب على عمله إلاّ مصلحة واحدة كالعالم .
فإنّا نقول : إنّ مرجع ذلك إلى مدخلية الجهر في موضع الاخفات  ، أو الإخفات في موضع الجهر في ترتّب المصلحة ، وهو مضافاً إلى استبعاده بل استحالته ـ نظراً إلى أنّه كيف يمكن أن يؤثر الشيء وضدّه في شيء واحد، فإنّ الجهر في موضعه إذا كان دخيلا في ترتّب المصلحة على الصلاة ، فكيف يمكن أن يكون الاخفات في موضع الجهر أيضاً مؤثّراً في ذلك ـ مخالف لظاهر كلامه بل صريحه ، لأنّ مقتضاه قيام المصلحة بالطبيعة الجامعة ، وعلى المفروض تكون المصلحة الحادثة قائمة بالطبيعة المقيّدة بالجهر موضع الاخفات أو العكس ، فهو خلاف ما يقول به فتدبّر .
ثم إنّ ظاهر كلامه أنّ المصلحة القائمة بالطبيعة الجامعة إنما حدثت بعد الجهل بالحكم ، وفي الرتبة المتأخّرة عنه ، ولتوضيح الحال بحيث يرتفع الاشكال لابدّ أولاً من بيان بعض الموارد التي اجتمع فيها الحكمان ، مترتّباً أحدهما على الآخر ثم ملاحظة المقام .
فنقول : من تلك الموارد مسألة الترتّب المعنونة في الأصول ، والمقصود منها إثبات جواز الأمر بالضدّين في الرتبتين ، فعن بعضهم التصريح بالامتناع(1) ، وربما يقال في وجهه أنّ قوام التكليف إنما هو بالإرادة التشريعية التي مرجعها إلى إرادة المولى تحقق المبعوث إليه من العبد .
ومن الواضح أنّ الإرادة التشريعية تكون كالإرادة التكوينية ، فكما لا يصح

(1) كفاية الاُصول 1: 213 .

(الصفحة196)

تعلّق الإرادة التكوينية بالأمور الممتنعة ، كالطيران إلى السماء ، والجمع بين الضدّين في موضوع واحد ، في زمان واحد ، وإيجاد شيء واعدامه في آن واحد ، وغيرها من الأمور المستحيلة الممتنعة ، كذلك لا يصح تعلّق الإرادة التشريعية بها ، فلايصح البعث إلى شيء منها لتقوّمه بها ، وهي ممتنعة .
وكما أنّ التكليف الواحد بالجمع بين الضدّين في موضوع واحد في زمان واحد محال من العالم ، باستحالة المكلّف به ، وامتناع تحقّقه في الخارج ، كذلك التكليفان المتوجّه كلّ منهما إلى أحد الضدّين ، فإنّه كيف يمكن تعلّق إرادتين بتحققهما من العبد المكلّف في زمان واحد ، وهل هو إلاّ كإرادة واحدة متعلّقة بالجمع بينهما؟ ومن الواضح استحالتها .
والظاهر عدم تمامية هذا الوجه ، فإنّ المفروض أنّ هنا تكليفين مستقلّين تعلّق كلّ واحد منهما بشيء ممكن في نفسه ، فإنّ الأمر بانقاذ الولد تكليف متعلّق بأمر غير مستحيل ، وكذا التكليف بانقاذ الأخ ، وليس هذان التكليفان في نظر العقل بمنزلة تكليف واحد ، بالجمع بين انقاذ الغريقين المستحيل لكونه جمعاً بين الضدّين ، لأنّ في مرتبة التكليف بالأهم لا يكون إلاّ تكليف واحد متعلّق بأمر ممكن .
غاية الأمر إنّه حيث لا تكون إرادة المولى انبعاث العبد وتحقق المبعوث إليه منه علّة تامّة لتحققه في الخارج ، إذ من الممكن أن لا تتحقّق الإطاعة والانبعاث منه ، فللمولى أن يوجّه تكليفاً آخراً إليه متعلّقاً بمحبوبه الآخر ، لئلاّ يفوت منه المحبوبان .
نعم لابدّ أن يعلّق التكليف الثاني بما إذا لم يؤثر التكليف الأول في نفس العبد ، وحصل منه عصيانه ، ومع هذا الوصف لا نرى في عقولنا استحالة التكليف الثاني المشروط بعدم تأثير الأول ، بل نقول : لا وجه لعدم توجيهه إلى العبد ، مع ثبوت ملاكه واشتراكه مع الأول ، في المحبوبية الأكيدة .


(الصفحة197)

وحينئذ فلو تحقّقت المخالفة بالنسبة إلى كليهما يستحق العبد لعقوبتين ، لأنّه تحقق منه عصيانان ، ولا مانع من الالتزام بذلك أصلا كما لا يخفى .
بالجملة : فلا استحالة في الترتّب بهذا التقريب ، لأنّ في مرتبة التكليف بالأهم لا يكون إلاّ تكليف واحد متعلّق بواحد من الضدّين ، والتكليف الثاني معلّق على صورة قصور الأول عن التأثير ، وحصول العصيان من العبد ، وقد عرفت إنّه مع إمكانه لا وجه لعدمه بعد ثبوت ملاكه كالأول .

اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري
المحكيّ عن السيد الاصفهاني(قدس سره)أنّه أفاد في وجه الجمع بين الحكمين ، وعدم المنافاة بينهما ما ملخّصه : إنّه لا إشكال في أنّ الأحكام إنما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث أنّها حاكية عن الخارج ، ثم إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الاطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في ذلك المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع .
مثلا قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الاطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصّة ، وقد يكون في المطلق إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة مناف لغرضه الآخر ، ولأجله قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقق في الرقبة المؤمنة ، فتقييده في هذا القسم إنما هو من جهة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضي، وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب أولاً مع العنوان الآخر المتّحد معه في الوجود المخرج له عن المطلوبية الفعلية ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن ، فلايعقل تحقق الكسر والانكسار .
فاللاّزم من ذلك ـ والكلام للسيّد الاصفهاني ـ إنّه متّى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد ، وكذا العنوان الذي فيه جهة المغضوبيّة ، والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام

(الصفحة198)

الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني ، مثلا إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعة ، فلا يمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في هذه الرتبة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار مثلا ، وأمّا اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً ، فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبة ، لأنّ هذا الوصف إنما يعرض الموضوع بعد تحقق الحكم والأوصاف المتأخّرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه ، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين ، لأنّ جهة المطلوبية ملحوظة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وجهة المبغوضية ملحوظة مع لحاظه(1) انتهى .
أقول : قد حقّقنا في الأصول(2) أنّ معنى الاطلاق ، سواء كان راجعاً إلى الموضوع أو إلى المتعلّق ، عبارة عن كون ذلك الموضوع مثلا هو تمام الموضوع للحكم المجعول ، وأنّه لا مدخلية لشيء آخر ، فأصالة الإطلاق الجارية في متعلّق قوله : أعتق رقبة ، معناها أنّ مطلوب الأمر ومحبوبه الذي بعث عبده إليه ، إنما هو هذا العنوان فقط ، بحيث لا مدخلية لشيء من العناوين المتّحدة معه في الخارج في ذلك أصلا .
فكلّ مصداق تحقق في الخارج وصدق عليه هذا العنوان ، يكفي الإتيان به في تحقق الاطاعة ، بما أنّه مصداق لذلك العنوان ، وإن صدق عليه العناوين الاُخر ، مثلا إذا أعتق المكلّف رقبة مؤمنة ، فقد أوجد مطلوب المولى بما أنّه أعتق رقبة ، لا بما أنّه أعتق رقبة مؤمنة ، وكذا الإطلاق الجاري في موضوع الحكم ، مثل عنوان المستطيع الذي يكون موضوعاً لوجوب الحجّ ، فإنّ معناه أنّ من وضع عليه هذا التكليف إنما هو من صدق عليه عنوان المستطيع بما أنّه مصداق لهذا العنوان ،

(1) حكاه عنه المحقّق الحائري(رحمه الله) في درر الفوائد : 351 ـ 352 . ولم نعثر عليه في كتاب (الرسائل الفشاركيّة) تأليف السيد الفشاركي(رحمه الله).
(2) نهاية الاُصول : 376 .

(الصفحة199)

فالمستطيع الذي يكون عالماً ومتّصفاً بهذا الوصف إنما يجب عليه الحج لكونه مستطيعاً ، لا لكونه مستطيعاً عالماً .
وبالجملة فمعنى الإطلاق بلا ريب عبارة عن كون الشيء المأخوذ متعلّقاً للحكم أو موضوعاً له تامّاً في ذلك ، بلا مدخلية لشيء آخر ، ومحبوباً أو مبغوضاً بنفسه ، بلا ملاحظة شيء من الخصوصيات ، وليس معناه راجعاً إلى ملاحظة جميع العناوين التي يمكن أن تتحد معه في الخارج موضوعاً وحكماً ، حتى يقال بلزوم الاقتصار من تلك العناوين على ما يمكن تصوره في هذه الرتبة .
فالعناوين الحادثة بعد تعلّق الحكم لا يعقل أن تكون ملحوظة للأمر ، مثل عنوان العلم ، والجهل ، والاطاعة ، والعصيان ، ونحوها من الحالات المتأخّرة عن جعل الحكم ، بل الاطلاق إنما هو بالمعنى الذي عرفت .
وعليه فلا فرق بين العناوين أصلا ، فإنّ صلاة الجمعة مطلوبة مطلقاً ، بمعنى أنّه لا مدخلية لشيء آخر في اتّصافها بذلك ، فمتى تحقّقت تتصف بذلك ، سواء تحقّقت من العالم بحكمها ، أو من الجاهل به ، وسواء عصاه المكلّف ، أم أطاعه ، فإنّه في جميع هذه الصور تكون مطلوبة بما أنّها صلاة الجمعة ، لا بما أنّها صدرت من العالم مثلا . وحينئذ فالحكم الواقعي المتعلّق بالمطلق كما أنّه ثابت بالنسبة إلى العالم ، كذلك يكون ثابتاً في صورة الجهل أيضاً كما عرفت ، فالإشكال لا يندفع بما أفاده السيد .
والذي ينبغي أن يقال في حلّ الاشكال بناءً على ما ذكرنا في معنى الاطلاق : أنّ البعث الصادر من المولى وإن كان مطلقاً ، ولا اختصاص له بالمكلّف العالم به ، للزوم الدور كما عرفت ، إلاّ أنّه لا ريب في قصوره من التأثير في نفس المكلّف الجاهل ، إذ لا يعقل الانبعاث من البعث مع الجهل به ، فالإرادة الباعثة عليه لا محالة تكون مقصورة بصورة العلم بالتكليف .


(الصفحة200)

فلو أراد المولى تحقق مطلوبه من المكلّف مطلقاً ، ولو كان جاهلا ، لا يجوز له الاكتفاء بذلك البعث ، لما عرفت من قصوره عن التأثير بالنسبة إلى الجاهل ، بل له أن يبعث المكلّف الجاهل بالبعث الأول ثانياً، إمّا مطلقاً أو مقيداً ببعض القيود ، مثل ما إذا أخبر به العدل مثلا فيقول : إذا أخبرك العادل بوجوب صلاة الجمعة تجب عليك ، وهذا البعث لا يمكن أن يكون مسبّباً عن مصلحة اُخرى في صلاة الجمعة غير المصلحة الملزمة التي اُوجبت البعث عليها مطلقاً ، لما عرفت من اطلاقها لصورة الجهل أيضاً ، بل لابدّ أن يكون بلحاظ نفس تلك المصلحة .
وحينئذ فإذا صادف قوله الواقع ، يصير وجوبها بالنسبة إليه فعليّاً ، وإذا خالفه يصير الحكم الثاني حكماً صورياً لا يريد المولى انبعاثه منه ، فالحكم الظاهري إنما جعل لملاحظة الواقع ، ولا يكون مخالفاً له ، لا من حيث الملاك ، لما عرفت من أنّ ملاكه هو ملاكه ، ولا من حيث نفس الحكمين ، لما عرفت من أنّه في صورة التطابق لا يكون هنا إلاّ إرادة واحدة ، وفي صورة التخالف لا يكون هنا إرادة أصلا .
ومن هنا يظهر الفرق بين هذه المسألة ومسألة ترتّب الضدّين المتقدمة ، فإنّه في تلك المسألة يكون التكليف بالأهم باقياً على فعليته أيضاً في صورة العصيان المحقّق لموضوع الأمر بالمهم ، فإنّ المولى لم يرفع يده عن محبوبه الأول ، غاية الأمر إنّه حيث لم يؤثر بعثه في نفس العبد ، بحيث يتحقّق منه الانبعاث ، أوجب عليه محبوبه الثانوي في هذا الفرض .
وهذا بخلاف المقام ، فإنّ الحكم الواقعي إنما يكون فعلياً بالنسبة إلى خصوص العالم ، والبعث قاصر عن التأثير بالنسبة إلى الجاهل أيضاً ، وبعبارة اُخرى موضوع المسألة الأولى هو العاصي الذي يكون التكليف بالأهم ثابتاً عليه ، لأنّه لا يسقط بالعصيان ، وموضوع المقام هو الجاهل الذي يكون البعث الواقعي قاصراً

<<التالي الفهرس السابق>>