(الصفحة161)
يكون معاقباً من جهة الترك عمداً ، لما كان ذلك مورداً لإنكار المتشرّعة كما هو غير خفيّ .
ثمّ إنّك عرفت أنّه لو فرضنا سقوط أخبار المواسعة عن الحجّية ، وقلنا بلزوم الأخذ بمقتضى أخبار المضايقة ، فالقدر المتيقّن من تلك الأخبار هو ترتّب الحاضرة على الفائتة المتّصلة بها ، أو الشريكة للمتّصلة في الوقت ، ولا يتجاوز ذلك عن يوم وليلة ، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار لا يوجب تعطيل أمر المعاش والاقتصار من النوم وغيره على مقدار الضرورة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بأصل المضايقة أوّلا وبالمضايقة المطلقة ثانياً ، هذا تمام الكلام في مسألة المضايقة والمواسعة .
الترتيب بين الفوائت
`اعلم أنّ العامّة لم يفرّقوا بين هذه المسألة والمسألة المتقدّمة ، فمن قال منهم بعدم الترتيب كالشافعي قال به مطلقاً ، ومن قال باعتبار الترتيب بالنسبة إلى يوم وليلة في الحاضرة والفائتة كأبي حنيفة ومالك ، قال به في الفوائت أيضاً بعضها بالنسبة إلى بعض ، ومن قال بالترتيب مطلقاً كأحمد ، قال به مطلقاً ، هذا حالهم(1) .
وأمّا أصحابنا فالقدماء منهم ـ القائلون بالمضايقة في المسألة المتقدّمة ـ لم يتعرّضوا لهذه المسألة ، نعم قد تعرّض لها السيّد في الجمل ، واختار الترتيب بين الفوائت أيضاً ، وقرّره على ذلك القاضي ابن البراج في شرحه(2) ، ولكن لا يستفاد
(1) المجموع 3: 70 المغني لابن قدامة 1: 676 ـ 677; الشرح الكبير 1 : 483 ـ 484; بداية المجتهد 1 : 256 ـ 257; تذكرة الفقهاء2: 351 ـ 353; مسألة 58 و 59 .
(2) جمل العلم والعمل (رسائل المرتضى) 3: 38; المهذّب 1 : 126; مختلف الشيعة 3: 3 و4 .
(الصفحة162)
منهما الملازمة بين المسألتين .
وأمّا المتأخّرون فقد عنونوا مسألتين واختلفوا في كلتيهما ، وظاهرهم عدم الملازمة بينهما ، فيمكن حينئذ القول بالمضايقة في المسألة المتقدّمة دون هذه المسألة ، وكذا العكس كما هو المعروف بينهم ، وقد ادعي الاجماع عليه بالنسبة إلى هذه المسألة(1) .
وكيف كان فربّما يقال في المسألتين: إنّ المرتكز في أذهان أهل العرف في الأوامر المتعدّدة المتعلّقة بطبيعة واحدة في الأزمنة المتعاقبة ، رعاية التقدّم والتأخّر الثابتين لتلك الأوامر في مقام التوجّه إلى المكلّف في مقام الامتثال والاطاعة ، بحيث يمتثلون أوّلا الأمر المتوجّه إليه أوّلا وثانياً الأمر المتوجّه إليه ثانياً وهكذا .
فالقطعات المختلفة من الزمان التي هي ظروف للمكلّف به كما أنّها متقدّمة بعضها على بعض ذاتاً ، وتكون السابقة متّصفة بوصف السبق أصالة ، واللاحقة بوصف اللحوق كذلك ، كذلك لها مدخليّة في اتّصاف الأمر الواقع في القطعة اللاحقة بوصف اللحوق ، وكذا الواقع في السابقة ، والعرف يراعي هذين الوصفين الثابتين للأمر مثلا في مقام الامتثال ، ويأتي بمتعلّق الأمر السابق أوّلا واللاحق ثانياً .
وكأنّه يكون الإتيان بمتعلّق السابق عندهم شرطاً لصحّة الامتثال بالنسبة إلى الأمر اللاحق ، إمّا لكون نفس الإتيان بالمتعلّق وجوده شرطاً للثاني مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به أوّلا ، لأجل تقدّم ظرفه على ظرفه ، وإمّا لكون تعلّق الأمر به أوّلا مستدعياً لتقديم الإتيان بمتعلّقه في مقام الامتثال .
(1) الخلاف 1 : 382 مسألة 139; المعتبر 2 : 405 ـ 406; المنتهى 1 : 421; التنقيح الرائع 1: 267; ذخيرة المعاد: 385; كفاية الاحكام : 28 ، مستند الشيعة 7 : 313 ; جواهر الكلام 13: 19 .
(الصفحة163)
ويؤيّد هذا الارتكاز ، الروايات المتقدّمة الدالّة على الترتيب بين الحاضرة والفائتة ، وكذا صدر رواية زرارة الطويلة المتقدّمة في المسألة السابقة ، الظاهرة في الابتداء بأولى الفوائت ثمّ الإتيان بما بعدها(1) ، وكذا رواية عبدالله بن سنان الواردة في رجل أفاض من جمع حتّى انتهى إلى منى فعرض له عارض لم يرم الجمرة حتّى غابت الشمس ، الدالّة على أنّه يرمي إذا أصبح مرّتين إحداهما بكرة وهي للأمس ، والاُخرى عند زوال الشمس وهي ليومه(2) ، وكذا ما رواه العامّة عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) من أنّه فاتت منه صلوات ثمّ أتى بقضائها مرتّباً ومقدّماً للفائتة السابقة على اللاحقة(3) .
وبالجملة: المرتكز لدى العرف في مقام العمل ، تقديم امتثال الأمر المتوجّه إليه أوّلا على امتثال الأمر المتوجّه إليه ثانياً ، من غير فرق بين الفوائت بعضها بالنسبة إلى بعض وبين الحاضرة والفائتة ، وأمّا الحواضر فترتّب بعضها على بعض قهريّ لا يكاد يحتاج إلى البيان . نعم في الظهرين وكذا العشائين حيث يمكن مخالفة الترتيب إحتاج إلى البيان ، وأنّ الظهر شرط للعصر والمغرب شرط للعشاء ، وقد وقع بيانه في الفتاوى تبعاً للنصوص .
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذه الدعوى ، ولكن يرد عليها أنّ بناء العرف على ما ذكر على تقدير تسليم ثبوته ، لا يثبت اللزوم الشرعيّ ، بعد كون المحتمل أنه لا يكون الإتيان بالصلاة السابقة دخيلا في ترتّب المصلحة على الصلاة اللاحقة ، بل كان مجرّد تحقق القطعة الخاصّة التي هي ظرف للصلاة اللاحقة مؤثِّراً في ترتّب المصلحة .
(1) الوسائل 4: 290 . أبواب المواقيت ب63 ح1 .
(2) التهذيب 5: 262 ح 893; الوسائل 14: 72 . أبواب رمي جمرة العقبة ب15 ح1 .
(3) سنن الترمذي 1: 223 ب18 ح179; سنن النسائي 1 ـ 2: 336 ب55 ح618 .
(الصفحة164)
فحدوث الزوال وتحقّقه دخيل في ترتّب المصلحة على صلاة الظهر ، من غير أن يكون تأخّرها عن صلاة الفجر مؤثِّراً فيه ، وكذا حدوث الفجر الصادق له مدخلية في تأخير فريضة الصبح في المصلحة المترتّبة عليها من غير أن يكون تقدّمها على صلاة الظهر الواقعة بعد الزوال مؤثّراً فيه أصلا .
فالقطعات من الزمان التي تكون كلّ واحدة منها ظرفاً لصلاة خاصّة ، وإن كانت متقدّمة بعضها على بعض أصالة ، وبتبعها تتّصف الصلاة السابقة بوصف السبق واللاحقة بوصف اللحوق ، إلاّ أنّ هذا الاتّصاف ليس له دخل في ترتّب المصلحة المترقّبة على الصلاة المأتيّ بها ، فلابدّ من ملاحظة دليل آخر يدلّ على الترتيب .
ثمّ إنّه على تقدير تسليم ما ذكر يمكن الفرق بين المسألتين ، بأنّ ما له الدخل في البناء العرفي المتقدّم هو اختلاف أزمنة ثبوت الأوامر وتعاقبها ، ومن المعلوم أنّ تعاقب الأزمنة إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الفوائت ـ بعضها بالاضافة إلى بعض ـ لأنّ توجّه الأمر بالفائتة السابقة ، يكون قبل توجّه الأمر بالفائتة اللاحقة .
وأمّا في الحاضرة بالنسبة إلى الفائتة فيمكن أن يقال: بعدم التعاقب إذا ذكر الفائتة عند حضور وقت الحاضرة ، لتوجّه الأمرين إليه معاً في حال واحد ، بناءً على أن يكون قوله(عليه السلام): «يقضيها إذا ذكرها»(1) دالاًّ على حدوث الأمر بالقضاء عند حدوث الذكر ، بحيث لا يكون قبله أمر باتيان الفائتة أصلا .
وكيف كان ، فنقول: ـ بعد ذكر أنّ النزاع في المقام إنّما هو في غير الظهرين من يوم واحد ، وكذا العشائين من ليلة واحدة ، لأنّ ترتّب قضاء العصر على الظهر والعشاء على المغرب من يوم وليلة واحدة لا إشكال فيه كما هو كذلك بالنسبة إلى
(1) الكافي 3: 292 ح3; التهذيب 2: 266 ح1059; وص171 ح681; الإستبصار 1: 286 ح1046; الوسائل 4: 274 . أبواب المواقيت ب72 ح1 .
(الصفحة165)
أدائهما ـ إنّ الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة:
منها: رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل صلّى الصلوات وهو جنب اليوم واليومين والثلاثة ثمّ ذكر بعد ذلك؟ قال: «يتطهّر ويؤذّن ويقيم في أوّلهنّ ثمّ يصلّي ويقيم بعد ذلك في كلّ صلاة ، فيصلّي بغير أذان حتّى يقضي صلاته»(1) . ولا دلالة لها على اعتبار الترتيب بين الفوائت ، لأنّها ناظرة إلى تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلهنّ ، وخصوص الإقامة لغيرها ، ممّا يؤتي به بعدها .
وليس مفادها لزوم الابتداء بما فات أوّلا من الصلوات ، لأنّه يحتمل أن يكون المراد بأوّل الصلوات الفائتة ، أوّلها في مقام الإتيان بقضائها لا أوّلها في مقام الفوت ، وعلى فرض أن يكون المراد به هو أوّلها عند الفوت ، لا يكون لها أيضاً دلالة على لزوم الابتداء به ، لأنّ ذلك التعبير إنّما وقع مطابقاً لعمل العرف ، فإنّه جرت سيرتهم على الابتداء بما فات أوّلا ثمّ الإتيان بما بعدها مترتّبة ، لأنّه لا داعي لهم إلى الشروع من الوسط أو من الآخر كما لا يخفى .
ومنها: مرسلة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قلت : تفوت الرجل الاُولى والعصر والمغرب ويذكر عند العشاء ، قال: «يبدأ بصلاة الوقت الذي هو فيه ، فإنّه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك الفريضة في وقت قد دخل ثمّ يقضي ما فاته الأول فالأوّل»(2) .
وهذه الرواية وإن كانت ظاهرة في ترتّب قضاء المغرب على قضاء الظهرين كترتّب المتأخّرة منهما على المتقدّمة الذي قد عرفت أنّه لا إشكال فيه ، إلاّ أنّها موهونة من جهة موافقتها لمذهب العامّة ، من جهة دلالتها على تباين وقتي العشائين ، ولزوم الإتيان بالعشاء الآخرة في الوقت المشترك على حسب معتقد
(1) التهذيب 3: 159 ح 342; الوسائل 8: 254 . أبواب قضاء الصلوات ب1 ح3 .
(2) المعتبر 2: 407; الوسائل4: 289 . أبواب المواقيت ب62 ح6 .
(الصفحة166)
الإمامية رضوان الله عليهم أجمعين ، فلا يمكن الاعتماد عليها من هذه الجهة .
وأمّا ترتّب قضاء العصر على الظهر فقد عرفت خروجه عن محلّ النزاع ، ثمّ إنّ في تعليله(عليه السلام) لزوم الابتداء بالوقت الذي هو فيه بأنه لا يأمن الموت ، فيكون قد ترك صلاة فريضة في وقت قد دخلت ، إشعاراً بما ذكرنا في تقرير الأصل في المسألة المتقدّمة ، من أنه ليس المراد بفوريّة القضاء كونها موقتة بحدوث الذكر ، أو أنّه تعلّق أمر آخر بها زائداً على الأمر المتعلّق بأصل الطبيعة ، بل المراد بها هو لزوم الإتيان بها من جهة احتمال كون التأخير موجباً لترك المأمور به من غير عذر فراجع .
ومنها: فقرتان من رواية زرارة الطويلة المتقدّمة في المسألة السابقة:
1 ـ قوله(عليه السلام) في ذيلها فيما إذا فاتته المغرب والعشاء جميعاً: «فإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة ثمّ صلّ المغرب والعشاء ، إبدأ بأوّلهما لأنّهما جميعاً قضاء . . .» ولا دلالة لهذه الفقرة إلاّ على وجوب رعاية الترتيب بين قضاء العشاء وقضاء المغرب من ليلة واحدة ، وقد عرفت أن ذلك ممّا لا إشكال فيه .
2 ـ قوله(عليه السلام) في صدر الرواية: «إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهنّ ، فأذّن لها وأقم ثمّ صلّها ثمّ صلّ ما بعدها بإقامة إقامة لكلّ صلاة»(1) . وهذه الفقرة من حيث المضمون موافقة لرواية محمد بن مسلم المتقدّمة(2) ، إلاّ أنّ دلالة هذه على اعتبار الترتيب على فرضها أقوى من دلالة تلك الرواية ، وذلك من جهة اشتمالها على الأمر بالابتداء بأوّل الفوائت دونها .
(1) الوسائل 4 : 290 . أبواب المواقيت ب63 ح1 .
(2) الوسائل 8 : 254 . أبواب قضاء الصلوات ب1 ح3 .
(الصفحة167)
ولكنّها أيضاً ممنوعة ، لأنّها ناظرة إلى حكم آخر ، وهو تأكّد استحباب الأذان والإقامة لأوّلها وخصوص الإقامة لغيرها ممّا يؤتي به بعدها بلا فصل ، والأمر بالابتداء بأوّلهنّ إنّما هو توطئة للحكم المذكور بعده ، ولا دلالة له على لزوم ذلك ولعلّه وقع من باب المطابقة ، لما جرت به سيرة العرف غالباً من الابتداء في مقام امتثال الأمر بالقضاء بما فات أوّلا ، ثمّ الإتيان بما بعدها مرتّبة على حسب ترتيب الفوت كما لا يخفى .
وبالجملة: دلالة هذه الفقرة من الرواية على لزوم مراعاة الترتيب بين الفوائت مبنيّة على كونها بصدد بيان حكمين:
أحدهما: وجوب الابتداء بما فات أوّلا .
ثانيهما: الأمر بالأذان والإقامة للفائتة المبتدأ بها وبخصوص الإقامة لما بعدها ، مع أنّ ظاهرها يأبى عن ذلك ، فإنّ الناظر المتأمّل فيها يقضي بعدم كونها إلاّ في مقام بيان الحكم الثاني .
والأمر بالابتداء بأوّل الفوائت إنّما وقع من باب المطابقة لعمل العرف وسيرتهم ، بناءً على أن يكون المراد بأوّلها هو الأول في مقام الفوت . هذا ، ويحتمل قويّاً أن يكون المراد به هو الأول في مقام العمل والإتيان بالفوائت المتعدّدة ، فلا يكون ذكره مجدياً إلاّ من باب التوطئة للحكم المذكور بعده .
هذا ، مضافاً إلى أنّه لو سلّم ظهور الرواية في الأمر بالابتداء بما فات أوّلا ، وأنّ هذا حكم مستقلّ تكون الرواية بصدد بيانه ، نقول: إنّ مقتضاها مجرّد لزوم الابتداء بما فات أوّلا ولا دلالة لها على لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى ما بعدها ، بحيث تكون الفائتة الثانية في مقام الفوت ثانية في مقام العمل أيضاً ، اللهمَّ إلاّ أن يتمسّك بعدم القول بالفصل أو بمفهوم الموافقة الراجع إلى إلغاء الخصوصية ، ضرورة أنّه لا خصوصية للاُولى من حيث لزوم الابتداء بها ، بل ذلك إنّما هو من جهة اشتراط
(الصفحة168)
الإتيان بالفائتة السابقة في صحة الفائتة اللاحقة من دون فرق بين الاُولى وغيرها .
وكيف كان ، فالاستناد لإثبات مثل هذا الحكم إلى مثل هذه الرواية مع قصور دلالتها ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، خصوصاً بعد احتمال كون المقصود منها هو المقصود من رواية محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) المتقدّمة ، وقد عرفت ضعف دلالتها بمكان .
وخصوصاً بعد كون مقتضى مناسبة الحكم بالأذان والإقامة لاُولى الصلوات ، والإقامة لما بعدها ، هو كون الموضوع لذلك مطلق ما يؤتى به أوّلا ، سواء كان هو الأول عند الفوت أم لم يكن ، ولا ملائمة بين خصوص الأول في مقام الفوت وهذا الحكم أصلا .
ألا ترى أنّه لا يستفاد من الرواية استحباب الأذان والإقامة معاً لمن خالف الترتيب نسياناً وابتدأ بغير الأول عند الفوت ، ومن المعلوم خلافه . هذا ، ولكنّ الذي يمنعنا عن الفتوى بعدم اعتبار الترتيب على ما هو مقتضى الأصل بعد قصور الدليل ، هي الشهرة العظيمة المحقّقة بين المتأخّرين من الأصحاب رضوان الله عليهم .
فإنّك عرفت(1) أنّ المسألة وإن لم تكن مورداً لتعرّض القدماء ـ ما عدا السيّد في الجمل ، والقاضي في شرحه ـ إلاّ أنّ المتأخّرين المتعرّضين لها لم يناقشوا فيها ، بل قد ادعى الاجماع غير واحد منهم ، وحينئذ فالأحوط بل الأقوى لزوم مراعاة الترتيب بالنسبة إلى الفوائت وإن لم يكن معتبراً شرعاً في أدائها ، هذا كلّه بالنسبة إلى اعتبار أصل الترتيب في الجملة .
وأمّا اختصاص اعتباره بصورة العلم بالترتيب أو اطلاقه لصورة الجهل أيضاً
(1) راجع 3 : 161 .
(الصفحة169)
فهو محلّ خلاف بينهم ، والظاهر أنّ من تعرّض من القدماء لأصل مسألة الترتيب بين الفوائت كالسيّد المرتضى على ما مرّ(1) لم يتعرّض لفرض الجهل أصلا ، بل وقع التعرّض له في كلام المحقّق والعلاّمة وغيرهما من المتأخّرين ، وهم بين من خصّ اعتباره بصورة العلم كأكثر من اعتبر الترتيب ، وبين من كان ظاهر كلامه الاطلاق وعدم التقييد بصورة العلم ، وبين من تردّد في اعتباره في صورة الجهل ، كالمحقّق في المعتبر ، أو استوجه الإحتياط كالعلاّمة في التذكرة ، أو صرّح باعتباره فيها أيضاً ، كما حكي عن الشيخ الكبير كاشف الغطاء(قدس سره)(2) .
ثمّ إنّه قد استدلّ للقول بعدم اعتبار الترتيب مع الجهل به ، «تارة» بالأصل السالم عن معارضة الأدلّة السابقة الظاهرة في غيره ، و«اُخرى» باستلزام التكرار المحال أو الحرج في كثير من موارده المتمّم في غيرها ، بعدم القول بالفصل وموافقته لسهولة الملّة وسماحة الشريعة ، و«ثالثة» ، برفع القلم عن النسيان ، وأنّ الناس في سعة ما لم يعلموا .
وذكر في الجواهر: أنّ مراعاة الترتيب حال الجهل به مع أنّه أحوط في البراءة عمّا اشتغلت الذمّة به من الصلاة بيقين ، لا يخلو اعتبارها عن قوّة ، وناقش في أدلّة العدم ، بعدم صلاحيّة الأصل لمعارضة الأدلّة المتقدّمة الحاصلة بسبب استصحاب وجوبه ، وإطلاق الأدلّة السابقة من معاقد بعض الاجماعات والأخبار التي لا مدخليّة للعلم والجهل فيما يستفاد منها وعدم استلزام التكرار للمحال بل والحرج .
ضرورة كونه كمن فاته مقدار ذلك يقيناً الذي من المعلوم عدم سقوط القضاء
(1) في 3 : 161 .
(2) المعتبر 2: 405; التذكرة 2: 359; المنتهى 1: 421; تحرير الأحكام 1 : 51; إيضاح الفوائد 1: 147; الذكرى: 2 : 433 ـ 434; البيان : 152; روض الجنان: 360; الروضة البهيّة 1: 345; مدارك الاحكام 4: 296; ذخيرة المعاد: 385; كشف الغطاء : 270; جواهر الكلام 13: 25 .
(الصفحة170)
عنه لمشقّته بكثرته ، على أنّه لو سلم الحرجية في الجملة فسبب ذلك بعض الأفراد أو أكثرها ، وأقصاه السقوط فيما يتحقّق الحرج به دون غيره ، كما هو ظاهر الأستاذ في كشف الغطاء في أوّل كلامه بل صريحه .
ودعوى الاجماع المركّب الذي هو حجّة في مثل هذه المسائل عهدتها على مدّعيها ، بل قد يقال بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ، بناءً على قبوله لذلك ، كما أخرج عنه فيما لو كان مقدار هذا المكرّر معلوم الفوات ، بل قد يقال بعدم شمول دليل الحرج للمقام أصلا ، إذ المراد نفيه في الدين لا ما يوجبه العقل عند الاشتباه للمقدّمية ، انتهى(1) .
أقول: المهم في المقام ملاحظة أنّ صدر رواية زرارة المتقدّمة الذي يكون دليلا منحصراً في هذا الباب هل يدلّ على إطلاق وجوب مراعاة الترتيب ، وأنّه لا يختص بالعالم بعد تسليم ظهوره في أصل اعتبار الترتيب في الجملة ، أو لا يدلّ على ذلك؟ ضرورة أنّه مع دلالته على ذلك لا مجال للتمسّك بالأصل ، وكذا بحديث: «إنّ الناس في سعة ما لم يعلموا»(2) .
نعم ، لو فرض استلزام التكرار للحرج في مورد يسقط الترتيب بالنسبة إلى ما يتحقّق به الحرج دون غيره ، لحكومة دليل الحرج على الأدلّة الدالّة على الأحكام بالعناوين الأولية ، كما قد حقّق في محلّه ، والقول بوجوب ترجيح إطلاق أدلّة المقام على دليل الحرج ناش من قلّة التأمّل ، وعدم رعاية النسب الواقعة بين الأدلّة ، والخلط بين التعارض والحكومة ، فهذا القول ممّا لا ينبغي توهّمه أصلا .
هذا ، وقبل التأمّل في دلالة صدر الرواية على الاطلاق وعدمه نلاحظ حال المسألة بحسب مقام الثبوت ونقول:
(1) جواهر الكلام 13: 24 ـ 25 .
(2) عوالي اللالئ 1: 424 ح109 .
(الصفحة171)
القول باعتبار الترتيب في الفوائت ، بعضها بالنسبة إلى بعض ، قد يجتمع مع القول باعتباره في المسألة المتقدّمة ، وهي مسألة الحاضرة والفائتة ، وقد يجتمع مع القول بعدم دخالة الفائتة في صحة الحاضرة .
فعلى الأول: يكون مرجع هذا القول إلى أنّ الصلوات اليوميّة الواقعة في الأزمان المختلفة المتعاقبة المترتّبة ، كما أنّها متأخّرة تكويناً بعضها عن بعض ـ تبعاً لظروفها الزمانية التي يكون بعضها سابقاً على البعض الآخر ذاتاً وأصالةً ـ كذلك يكون هذا التأخر شرطاً شرعيّاً لصحة اللاحقة ، فصلاة الظهر كما أنّها مشروطة بوقوعها في الزمان الذي يتأخّر تكويناً عن الزمان الذي هو ظرف وقوع فريضة الصبح ، كذلك يكون تأخّرها عن فريضة الصبح شرطاً شرعيّاً لصحّتها ، بحيث لا يكاد يمكن أن تتحقّق بدونها .
وعلى الثاني: الذي يكون مرجعه إلى التفصيل بين المسألتين ، والقول بعدم اعتبار الترتيب بين الحاضرة والفائتة واعتباره بين الفوائت كما هو المعروف بين المتأخّرين ، يكون مرجع اعتبار الترتيب إلى عدم كون الصلاة المتقيّدة بالوقوع في الزمان المتأخّر مشروطة بوقوع الصلاة التي ظرفها الزمان المتقدّم وتحقّقها ، بل وصف الفوت له مدخلية في هذه الجهة ، وأنّ اجتماع الفوائت يوجب زيادة شرط على الشروط ، من دون أن يكون هذا الشرط معتبراً في غيرها .
وحينئذ نقول: اعتبار الترتيب عند الجهل أيضاً بناءً على الأول لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة ، بل الظاهر على فرض ثبوت هذا القول ، إطلاق وجوب الترتيب وعدم اختصاصه بصورة العلم ، بحيث لو فرض قصور الدليل عن الشمول لصورة الجهل لكان مقتضى مفهوم الموافقة الذي هو عبارة اُخرى عن إلغاء الخصوصية ، تعميمه بحيث يشمل صورة الجهل أيضاً ، وذلك لأنّه بعدما علم العرف باشتراط صحة اللاحقة شرعاً بوقوع السابقة قبلها من جهة قيام الدليل ، لا يرى في ذلك
(الصفحة172)
فرقاً بين العالم والجاهل كما لا يخفى .
وأمّا بناءً على الوجه الثاني ، حيث يكون اشتراط ذلك حادثاً عند اجتماع الفوائت ، لأنّ المفروض مدخلية وصف الفوت في ذلك يحتاج إطلاق القول بالاعتبار إلى دليل قويّ ، ولا يكاد يفهم العرف من الدليل لو فرض اختصاصه بصورة العلم أنه لا مدخلية للعلم في ذلك ، لأنّه حيث لا يكون هذا المعنى قريباً إلى فهم العرف ، لأنّ مدخلية وصف الفوت في إحداث شرط زائد من دون أن تكون السابقة مطلقاً شرطاً لصحّة اللاحقة ، وعدم كونها مشروطة بتأخّرها عنها ، أمر بعيد عن أذهانهم ، فإذا كان الدليل على ذلك الشرط ظاهراً في خصوص صورة العلم يقتصرون في مفاده على خصوص تلك الصورة ، ولا تكون خصوصية العلم ملغاة عندهم أصلا ، هذا كلّه بحسب مقام الثبوت .
وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد عرفت أنّ الدليل الوحيد هو صدر رواية زرارة المتقدّمة ، وعرفت أيضاً أنّ غاية مدلولها على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا سابقاً ، من عدم كونه في مقام بيان هذا الحكم ، بل هو ناظر إلى حكم آخر ، هو وجوب الابتداء باُولى الفوائت في مقام الفوت ، ولا دلالة لها على اعتبار الترتيب بين غيرها من الثانية والثالثة وهكذا .
ومن المعلوم أنّ المخاطب بهذا الأمر هو العالم بالترتيب القادر على الابتداء باُولى الفوائت عن علم ، فاستفادة اعتبار الترتيب بالنسبة إلى غير الاُولى تحتاج إلى دعوى إلغاء الخصوصية ، كما أنّ استفادة اطلاق الاعتبار بالنسبة إلى الجاهل أيضاً يحتاج إلى تلك الدعوى . ونحن وإن وافقنا على إلغاء الخصوصية من الجهة الاُولى ، نظراً إلى أنه لا خصوصية للفائتة الاُولى بنظر العرف ، لكن لا نسلّم الدعوى الثانية ، خصوصاً بعد كون مراعاة الترتيب عند الجهل مستلزمة غالباً لتكرار الفائتة كثيراً ، وخصوصاً بعدما عرفت من أنّ إلغاء خصوصية العلم بعد
(الصفحة173)
عدم كون الحاضرة مشروطة بالإتيان باللاحقة وتأخّرها عنها ، ممّا لا يساعده العرف أصلا .
فالانصاف أنّ الاتكاء في مقام الإفتاء على مثل هذه الرواية ، مع ما عرفت من قصورها عن الدلالة ، على أصل اعتبار الترتيب بين الفوائت ـ فضلا عن إطلاقه وشموله لحال الجهل أيضاً ، ومع استلزام العمل بمقتضى هذه الفتوى المشقّة الكثيرة ـ ممّا لا ينبغي أن يقع من الفقيه ، بل الإفتاء بذلك خلاف الإحتياط ، من جهة أنّ إلقاء المكلّف في المشقّة ـ من دون دليل ظاهر وحجّة واضحة ـ ممّا يسدّ باب الاحتجاج للمفتى عليه ، ويبقى له حق السؤال عن وجه هذا الالقاء مع كون الحال ما ذكر .
وكما أنّ الإحتياط في مقام العمل مستحسن بلا ريب ، فكذلك الإحتياط في مقام الافتاء ، ألا ترى أنّ المقدّس الأردبيلي(قدس سره) مع شدّة تورعه وكثرة زهده حتّى أنّه بلغ إلى مرتبة لم يبلغ إليها إلاّ القليل ـ ولذلك اشتهر بالمقدس ـ لم يكن يفتي في الفقه إلاّ بما دلّ عليه دليل ظاهر ، وليس ذلك إلاّ لأجل أنه يرى أنّ مقتضى الإحتياط في مقام الافتاء مع عدم وجود مثل ذلك الدليل التجنّب عنه ، وعدم إلقاء المكلّف في الضيق والمشقّة .
هذا كلّه فيما لو كان جاهلا بالترتيب من أوّل الأمر ، وأمّا لو كان عالماً به ابتداءً ثمّ عرض له النسيان ، فمقتضى استصحاب وجوب الترتيب الثابت حال العلم لرواية زرارة المتقدّمة ـ بناءً على دلالتها على اعتباره كما هو المفروض ـ لزوم تكرار الفوائت حتّى يحصل له العلم بحصول الترتيب المعتبر شرعاً . هذا كلّه فيما يتعلّق بقضاء المكلّف عن نفسه .
وأمّا تولّي القضاء عن الميّت ، سواء كان من وليّه الذي هو أكبر الذكور من أولاده ، أو من متبرّع ، أو من مستأجر ، ففي لزوم مراعاة الترتيب فيه أيضاً إشكال ، ولهذه المسألة صور كثيرة; لأنّه قد يكون الترتيب معلوماً لكلّ من الميّت
(الصفحة174)
ووصيّه والمتولّي للقضاء ـ وليّاً كان أو متبرّعاً أو مستأجراً ـ وقد يكون مجهولا لجميعهم ، وقد يكون معلوماً لبعض ومجهولا لآخر بصوره المتعدّدة ، ولابدّ من بيان أحكام جميع صور المسألة .
أمّا الصورة الاُولى التي هي القدر المتيقّن من محلّ النزاع في هذه الجهة ، فالمحكيّ في الجواهر عن كشف الغطاء لأستاذه عدم اعتباره ، إستناداً إلى الأصل بعد قصر ما دلّ على اعتبار الترتيب على المتيقّن وهو القاضي عن نفسه ، وإلى إطلاق ما دلّ على القضاء عن الميّت(1) .
هذا ، ولكنّه ناقش فيه في الجواهر بأنّ النائب لا يكون إلاّ مؤدّياً تكليف غيره الذي من كيفيته الترتيب ، كالقصر والإتمام والجهر والاخفات ، فلو استأجر أجيرين حينئذ كلّ واحد عن سنة لم يجز عنه لو أوقعاها دفعة ، فضلا عن عكس الترتيب بل يصحّ منهما سنة خاصّة(2) .
وذكر في المصباح: إنّه قد يقال: بأنّ النائب إنّما يجب عليه أن يأتي بالفعل على وجه يقع تداركاً للفريضة الفائتة ، بأن يقع موافقاً لطلبها الابتدائي المتعلّق بها من حيث هو ، لا الأمر الثانوي المتعلّق بقضائها بعد فواتها ، وقال في توضيح هذا ما ملخّصه:
إنّ الشارع أوجب على وليّ الميّت أن يقضي عنه ما فاته من صلاة أو صيام ، كما أنّه أوجب ذلك على نفسه على تقدير بقائه حيّاً وتمكّنه من ذلك ، فالقضاء سواء كان على الوليّ أو على نفسه إنّما يجب بأمر جديد ، ولكن متعلّق هذا الأمر هو الفعل الذي تعلّق به الأمر الأول في خارج وقته .
(1) كشف الغطاء: 270 .
(2) جواهر الكلام 13: 30 .
(الصفحة175)
وإن شئت قلت: إنّ الأمر الجديد كاشف عن عدم فوات مطلوبية ذلك الفعل بفوات وقته ، فيجب على القاضي مطلقاً الإتيان بالفعل على وجه يقع إطاعة للأمر الأول ، لعدم تقيده بوقته ، فيجب عليه حينئذ مراعاة جميع ما يعتبر فيه عدى خصوصية الوقت ، أو الخصوصيّات الناشئة من خصوصية الأدائية ، ككون بعضها متقدّماً على بعض باعتبار تقدّم وقته لا من حيث هو ، وأمّا سائر الخصوصيات التي ثبتت في القضاء لا من حيث كونها من مقتضيات نفس الأمر بالقضاء من حيث هو ، بل بدليل خارجيّ فليقتصر على مقدار دلالته ، فإن كان مخصوصاً بالقاضي عن نفسه اقتصر عليه .
والحاصل أنّه يجب على النائب أن ينوب عنه في تدارك ما فاته بمخالفته الأمر الابتدائي المتعلّق بالفريضة الفائتة دون الأمر القضائيّ المتنجّز عليه بعد الفوات ، فالخصوصيات المعتبرة في امتثال هذا الأمر دون الأمر الأصلي لم يجب عليه رعايتها إلاّ أن يدلّ عليه دليل .
ومن هذا القبيل مسألة الترتيب ، فإنّا لم نستفد وجوبه من نفس الأمر بالقضاء حتّى في المترتّبين بالأصل ، لاحتمال كون ترتّبتهما الأصلي ناشئاً من ترتّب وقت أدائهما ، فلا تجب رعايته لدى الإتيان بهما في خارج الوقت ، بل للأخبار الخاصّة القاصرة عن الشمول لغير القاضي عن نفسه ، اللّهمَّ إلاّ أن يدّعى أنّ المنساق منها كونها مسوقة لبيان كيفيّة قضاء الفوائت من حيث هو ، من دون مدخلية للأشخاص الفاعلين كما لا يبعد ذلك(1) ، انتهى .
ومحصّل ما أفاده(قدس سره) أنّ النائب إنّما يجب عليه تدارك ما فات عن المنوب عنه ، من الصلوات الأدائية غير المشروطة شرعاً بتأخّر اللاحقة ، وتقدّم السابقة ،
(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 611 .
(الصفحة176)
وترتّبها عليها ، ولا يكون فعله تداركاً للتدارك الواجب على المنوب عنه ، حتّى يشترط فيه ما يشترط في تداركه من الترتيب وغيره ، فهو تدارك لأصل الفائت دون تداركه .
وحيث إنّ المفروض عدم اعتبار الترتيب شرعاً في أصل الفائت ، والدليل الدالّ على اعتباره إنّما دلّ عليه في خصوص تدارك المنوب عنه ، لأنّه المخاطب بالابتداء باُولى الفوائت ، على ما دلّت عليه رواية زرارة المتقدّمة(1) ، فلا يكون في البين ما يوجب على النائب مراعاة الترتيب كما لا يخفى .
اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ فعل النائب لا يخرج عن عنوان القضاء ، لأنّه ليس إلاّ الإتيان بالمأمور به في خارج وقته ، فعمله أيضاً متّصف بعنوان القضاء ، والمنساق من دليل اعتبار الترتيب هو اعتباره فيما يؤتى به بعنوان القضاء ، سواء كان صادراً من نفس المكلّف أو من النائب عنه ، فلا يبعد حينئذ دعوى الإطلاق وعدم الاختصاص بالقاضي عن نفسه ، كما نفى البعد عنه في ذيل كلامه على ما عرفت .
هنا مسائل:
الاُولى: من فاتته فريضة غير معيّنة
من فاتته فريضة غير معيّنة من الصلوات الخمس اليومية ، فالمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً ، بل حكي عن غير واحد دعوى الاجماع عليه ، أنّه يقضي صبحاً ومغرباً وأربعاً مردّدة بين الظهرين والعشاء(2) ، ولكن حكي عن
(1) الوسائل 4: 290 . أبواب المواقيت ب63 ح1 .
(2) المقنعة: 148; المبسوط 1: 127; الفقيه1: 353; الخلاف1: 309; السرائر 1: 275; جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 39; المراسم: 91 ، المهذّب1: 126; المعتبر 2: 412; تذكرة الفقهاء 2: 359 مسألة 62 .
(الصفحة177)
القاضي في الكافي ، وابن زهرة في الغنية ، وابن حمزة في الوسيلة أنّه يقضي خمس صلوات ، وإن ناقش في الجواهر في حكايته عن الأخير بأنّه لم يجده في كتاب الوسيلة(1) .
وكيف كان ، فالحكم بوجوب الإتيان بخمس صلوات ، كان لأجل أنّ الاكتفاء بالثلاث يوجب احتمال الاخلال بالجهر والاخفات ، لأنّه على تقدير كون الفائتة واقعاً هي صلاة العشاء التي يعتبر فيها الجهر بالقراءة ، ولم يراعه المكلّف في الأربع المردّدة بين الظهرين والعشاء لم يتحقّق قضاء ما فات كما فات ، كما هو كذلك لو فرض العكس .
وذلك لأنّه لو كان الوجه في عدم الاكتفاء بالثلاث هو احتمال الإخلال بالجهر أو الاخفات ، لكان اللازم الاكتفاء بأربع صلوات : صبح ومغرب وصلاتين رباعيتين إحداهما مردّدة بين الظهر والعصر مع مراعاة الاخفات فيها ، وثانيتهما بنيّة العشاء مع الجهر ، فعدم الاكتفاء بالأربع أيضاً يكشف عن كون الوجه في ذلك عندهم أمر آخر ، والظاهر إنّه هو لزوم الاخلال بقصد التعيين .
توضيح ذلك ، أنّه قد مرّ في مبحث النيّة من هذا الكتاب أنّه يعتبر في العبادة أمران:
أحدهما: نيّة القربة وقصد الامتثال الراجح إلى الإتيان بالعبادة على ما يقتضيه طبعها وطبع العابد كما مرّ تحقيقه .
ثانيهما: قصد تعيين عنوان المأمور به كالظهرية والعصرية وغيرهما من العناوين ، ومع اشتباه عنوان المأمور به بغيره ـ كما في المقام حيث لا يعلم عنوان الفائت ، وأنه هل يكون صبحاً أو ظهراً أو عصراً أو مغرباً أو عشاءً ـ تكون نيّة
(1) الكافي في الفقه: 150; الغنية : 99; مستند الشيعة 7: 304 . المسألة الثالثة; جواهر الكلام 13: 121 و123 .
(الصفحة178)
القربة عند كلّ صلاة مرجعها إلى الإتيان بها ، مع قصد الامتثال لو كانت هي المأمور به لا بخصوصها ، لعدم العلم بكونها مقرّبة .
وأمّا قصد التعيين ، فإن اقتصر على الثلاث يلزم الاخلال به بالنسبة إلى الأربع المردّدة ، لعدم تعنونها بخصوص عنوان الظهرية ، وكذا العصرية والعشائية ، وأمّا مع عدم الاقتصار عليها والإتيان بخمس صلوات لا يلزم الاخلال به ، لأنّ كل صلاة مأتيّ بها معنونة بعنوان خاصّ ، فاللاّزم مراعاة هذه الجهة مع إمكانها كما هو المفروض .
ويرد عليه أنّه كما يكفي قصد القربة المردّد الراجع إلى قصدها على تقدير كون العمل مقرّباً ، كذلك يكفي قصد التعيين المردّد أيضاً ، بحيث قَصَد عند الإتيان بالأربع ، العنوان الواقعي المردّد بين الظهرين والعشاء ، لو كانت الفائتة عبارة عن واحدة منها .
هذا ، مضافاً إلى أنّه ورد في المقام روايتان تدلاّن على المذهب المشهور:
1 ـ ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن عليّ الوشا ، عن عليّ بن أسباط ، عن غير واحد من أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «من نسي صلاة من صلاة يومه واحدة ولم يدر أيّ صلاة هي ، صلّى ركعتين وثلاثاً وأربعاً»(1) .
وهي وإن كانت مرسلة إلاّ أنّه باعتبار أنّ مرسلها عليّ بن أسباط الذي هو من أجلاّء الطبقة السادسة الواقع في طبقة ابن أبي عمير وغيره من أصحاب الرضا عليه الصلاة والسلام ، وهو وإن كان فطحيّاً ، إلاّ أنّ التتبّع في رواياته يقتضي بتورّعه وتثبته ، وأنّه لا يروي إلاّ عن ثقة ، فلا يضرّ الإرسال أصلا .
(1) التهذيب 2: 197 ح774 و 775; الوسائل 8: 275 . أبواب قضاء الصلوات ب11 ح1 .
(الصفحة179)
ثانيتهما: ما رواه البرقي في محكي المحاسن عن أبيه ، عن العبّاس بن معروف ، عن عليّ بن مهزيار ، عن الحسين بن سعيد يرفع الحديث قال: سئل أبو عبدالله(عليه السلام)عن رجل نسي صلاة من الصلوات الخمس لا يدري أيّتها هي؟ قال: «يصلّي ثلاثة وأربعة وركعتين ، فإن كانت الظهر والعصر والعشاء كان قد صلّى ، وإن كانت المغرب والغداة فقد صلّى»(1) .
ويحتمل قويّاً عدم كونها رواية اُخرى ، بل كانت هي الرواية الاُولى بعينها ، كما أنّه يحتمل أن تكون إضافة هذا الذيل الخالي منه الرواية الاُولى من البرقي ، وكان غرضه منها التوضيح وبيان الاكتفاء بالثلاث .
وكيف كان ، فلا مجال للمناقشة في الاستدلال بهما من جهة الإرسال والرفع ، بعد استناد مثل المفيد والشيخ وغيرهما من أعلام القدماء في مقام الفتوى إليهما ، حيث أفتوا بمضمونهما(2) . هذا كلّه بالنسبة إلى الحاضر ، وأمّا المسافر فالظاهر فيه الاكتفاء بثلاث بعنوان المغرب ، وإثنتين مردّدة بين الصبح والظهرين والعشاء على ما هو المشهور(3) .
ولكن حكي عن السرائر الفرق بين المسألتين بوجوب الثلاثة في الاُولى والخمس في الثانية ، نظراً إلى أنّ القاعدة إنّما هي تقتضي الخمس ، لكن خولف ذلك بالنسبة إلى الاُولى ، للإجماع والروايتين ، ولا دليل على مخالفتها هنا(4) .
وأنت خبير بأنّه يمكن دفعه مضافاً إلى أنّه لا استبعاد في دعوى إلغاء الخصوصية من الروايتين الواردتين في الحاضر ، بأنّك قد عرفت أنّه لا يلزم من
(1) المحاسن 2 : 47 ح1139; الوسائل 8: 276 . أبواب قضاء الصلوات ب11 ح2 .
(2) راجع 3 : 176 .
(3) المهذّب 1 : 126; مختلف الشيعة 3: 24 ـ 25; تذكرة الفقهاء 2: 360 مسألة 62; فرع أ; روض الجنان : 358 .
(4) السرائر 1: 275 .
(الصفحة180)
الاقتصار على الثلاث في المسألة المتقدّمة الاخلال بشيء من قصد القربة وقصد التعيين أصلا ، فالقاعدة في المقام تقتضي الاكتفاء بصلاتين . نعم تبقى خصوصية الجهر والاخفات ، والمستفاد من الروايتين سقوطهما في مثل المقام كما هو واضح .
الثانية: الاتيان بما فات كما فات ، قصراً أو تماماً
لا ريب نصّاً وفتوى في أنّ الفائتة في السفر تقضى قصراً وإن كان في الحضر ، والفائتة في الحضر تقضى تماماً وإن كان في السفر ، ولا خلاف فيه من علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم(1) ، كما أنّه مقتضى الروايات الكثيرة الواردة في المقام ، مثل مضمرة زرارة قال: قلت له: رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر؟ قال: «يقضي ما فاته كما فاته ، إن كانت صلاة السفر أدّاها في الحضر مثلها ، وإن كانت صلاة الحضر فليقض في السفر صلاة الحضر كما فاتته»(2) .
ورواية عمّار عن أبي عبدالله(عليه السلام) ـ في حديث ـ قال: سألته عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر؟ قال: «نعم ، يقضيها بالليل على الأرض ، فأمّا على الظهر فلا ، ويصلّي كما يصلّي في الحضر»(3) .
ورواية اُخرى لزرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «إذا نسي الرجل صلاة أو صلاّها بغير طهور وهو مقيم أو مسافر فذكرها فليقض الذي وجب عليه ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص ، من نسي أربعاً فليقض أربعاً مسافراً كان أو مقيماً ، وإن نسي
(1) المقنعة : 211; شرائع الإسلام 1 : 111; المعتبر 2: 411; تذكرة الفقهاء 2: 363 مسألة 65; الجامع للشرائع: 88 ; مفاتيح الشرائع 1 : 168; مسالك الأفهام 1 : 303 ; جواهر الكلام 13: 112 .
(2) الكافي3: 435 ح7; التهذيب 3: 162 ح350; الوسائل 8: 268 . أبواب قضاء الصلوات ب6 ح1 .
(3) التهذيب2 : 273 ح1068 ; الوسائل 8: 268 . أبواب قضاء الصلوات ب6 ح2 .
والظهر: الحيوانات التي تحمل الاثقال في السفر; (لسان العرب 4: 522) .
|