(الصفحة421)
ولايجب عليه الذبح أو النحر، بل ربما يكون هذا كاشفاً عن بطلان إحرامه; لأنه لا يتمكن من الإتمام بالطواف والسعي والتقصير. وربما يجعل هذا مطابقاً للقاعدة، مع قطع النظر عن الكتاب والرواية. لأن وجوب الذبح أو النحر يدفعه إصالة عدم الوجوب إذا شك فيه.
لكن الكتاب والرواية يخالفان للقاعدة ويحكمان بالوجوب.
أمّا الكتاب، فقوله تعالى: (... فَإنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي...) (1) نظراً إلى أن الحصر لغةً بمعنى المنع، ولا يكون موضوعاً للحصر بالمرض خاصة. بل معناه اللغوي مطلق الحصر والمنع وإن كان بسبب العدو. ومنه قوله تعالى: (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ اُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ...) (2)، أو إلى أن الآية وردت كما في الرواية التي مرت آنفة في صد المشركين لرسول الله في الحديبية، فإنه (صلى الله عليه وآله) نحر في مكانه ورجع. مضافاً إلى أن قوله تعالى في وسط الآية (... فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيام أوْ صَدَقَة أوْ نُسُك...) (3) يدل على أن الحصر المفروض في الفوق وأول الآية لا يكون مختصاً بالمرض، وإلاّ فلا يلتئم مع هذا القول بوجه.
نعم هنا رواية رواها حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: مر رسول الله على كعب بن عجرة الأنصاري، والقمل يتناثر من رأسه وهو محرم، فقال: أتؤذيك هوامك؟ فقال: نعم. قال: فأنزلت هذه الآية: (... فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أَذَىً مِنْ رَأسِهِ فَفِدْيَةٌ
(1) سورة البقرة (2): 196 .
(2) سورة البقرة (2): 273 .
(3) سورة البقرة (2): 196 .
(الصفحة422)
مِنْ صِيام أوْ صَدَقَة أوْ نُسُك...) (1) فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحلق رأسه، وجعل عليه الصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستة مساكين، لكل مسكين مدان، والنسك شاة. قال: وقال أبو عبدالله (عليه السلام) وكل شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار، يختار ما شاء. وكل شيء في القرآن (فمن لم يجد) فعليه كذا، فالأول بالخيار(2).
ويظهر من هذه الرواية عدم كون (... فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رَأسِهِ...) (3) جزءاً وبعضاً من الآية التي واقعة هي في وسطها، بل آية مستقلة. فلا يصير قرينة على أن المراد بالحصر المفروض في الصدر أعم من المرض. ولكن الرواية ـ مضافاً إلى أنها لا تعلم كونها مسندة أو مرسلة، فلا يجوز الاعتماد عليها من هذه الجهة ـ تكون مخالفة للقرآن الذي يكون الآية شاملة له أيضاً.
وأمّا السنة فروايات:
منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المصدود يذبح حيث صدّ ويرجع صاحبه فيأتي النساء. والمحصور يبعث بهديه فيعدهم يوماً فإذا بلغ الهدي أحلّ هذا في مكانه، قلت: أرأيت إن ردوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه وقد أحلّ فأتى النساء؟ قال: فليعد وليس عليه شيء، وليمسك الآن عن النساء إذا بعث(4).
ومن المعلوم أن الجملة الفعلية تدل على الوجوب بل بنحو أظهر وآكد، ـ كما قد قرر في الاُصول ـ والتعبير بالذبح لا يكون مقابلا للنحر. كما يؤيده التعبير بالهدي
(1)
نفس المصدر.
(2) الوسائل: أبواب بقية كفارات الإحرام، الباب الرابع عشر، ح1.
(3) سورة البقرة (2): 196 .
(4) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب الأول، ح5.
(الصفحة423)
الذي هو أعم ـ كما مر ـ .
ومنها: بعض الروايات الحاكية لفعل النبي (صلى الله عليه وآله) حين صدّه المشركون عن الحج في الحديبية، مثل:
صحيحة معاوية بن عمار، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يرسل بالهدي تطوعاً، قال: يواعد أصحابه يوماً يقلدون فيه، فإذا كان تلك الساعة من ذلك اليوم اجتنب ما يجتنب المحرم إلى يوم النحر، فإذا كان يوم النحر أجزأ عنه. فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث صدّه المشركون يوم الحديبية نحر بدنة ورجع إلى المدينة(1).
ومن المعلوم أن الحاكي لفعل الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا كان هو الإمام المعصوم (عليه السلام) ، وكان الغرض من حكايته بيان الحكم بهذا النحو، لا مجال لحمل الفعل على الاستحباب أو احتمال كونه محمولا عليه، ما لم يقم قرينة على ذلك; وإن كان فعل الرسول في نفسه محتملا لذلك ـ كما لا يخفى ـ إلاّ أن يقال بأن الكلام في الصدّ عن العمرة لا الحج.
ومنها: غير ذلك من الروايات. فلا مجال بملاحظة الكتاب والسنة في الإشكال على الوجوب ولزوم الهدي.
بقي في هذه المسألة اُمور ينبغي التعرض لها:
الأول: محل الذبح ومكانه.
صريح بعض الفتاوى والنصوص وظاهر غيره، إنه محل صدّه، وإن كان خارج الحرم ولا يجب عليه البعث. خلافاً للمحكي عن أبي الصلاح وغيره من بعض آخر من إنفاذه كالمحصور، ويبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله ويذبح يوم النحر.
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب التاسع، ح5.
(الصفحة424)
وعن الإسكافي التفصيل في البدنة بين إمكان إرسالها فيجب، وعدمه فينحرها في مكانه. ونفى البعد صاحب الجواهر (قدس سره) عن التخيير بين البعث والذبح عنده، كما عن الخلاف والمنتهى والتحرير والتذكرة.
أقول: حيث إن الكلام في المصدود عن العمرة وهي لا ارتباط لها بيوم النحر إلاّ العمرة التي تعدّ جزءاً للحج وبعضاً منه وهي عمرة التمتع. ومن الواضح ـ كما دلت عليه الروايات المتقدمة ـ أن لكل شهر عمرة، ولا يختص بأشهر معلومات التي هي ثلاثة أشهر. فمن الممكن أن تكون العمرة المصدود عنها واقعة بعد آخر أشهر الحج، أو بعد تمامية زمان الحج بلا فصل. فلا مجال لاحتمال وجوب البعث إلى منى، والذبح أو النحر يوم النحر، لافتقار ذلك إلى مضي قريب سنة ـ مثلا ـ ومن الواضح أنه لا مجال للحكم عليه بالصبر إلى زمان يوم النحر وحصول التحلل. سيما بالإضافة إلى النساء بالذبح أو النحر يومه.
مع أن الصد ربما يكون عاماً لا شخصياً، فكيف يمكن له البعث ولو باستعانة النائب؟ وقوله تعالى: (... وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ...) (1)ينحصر بالمحصور ولا يشمل المصدود. وإن كان قوله تعالى: (... فَإنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...) (2) لا يختص به ـ كما عرفت ـ وقد وقع في أكثر الكلمات الخلط بين المصدود عن الحج والمصدود عن العمرة، فتأمل حتى لا يختلط عليك الأمر.
(1)
سورة البقرة (2): 196 .
(2)
نفس المصدر.
(الصفحة425)
وبالجملة فالظاهر تعين الذبح حين ما صدّ في العمرة التي هي محل البحث فعلا، ولا مجال للبعث بوجه بعد عدم دلالة دليل عليه، بل كما أفاد بعض الأعلام (قدس سره) نقول: بأنه لا دليل على لزوم البعث، بل يذبح حيث شاء ولو في بلاده. لأن عدم وجوب الذبح في مكان الصد لا يقتضي الوجوب في مكان آخر، بل له أن يذبح في أي مكان شاء.
الثاني: زمان الذبح أو النحر.
ظاهر الصحيحة المتقدمة ان زمانه يتحقق بمجرد تحقق عنوان الصد والمصدود، ولا يتحقق ضيق الوقت هنا بالإضافة إلى العمرة المفردة التي عرفت أن لكل شهر عمرة أصلا. نعم يمكن تصويره بالإضافة إلى عمرة التمتع التي يبقى وقتها إلى حصول ضيق وقت الحج ـ كما عرفت أيضاً ـ فبملاحظة ما ذكرنا في كلتا العمرتين يظهر حكم المسألة، فتدبر.
الثالث: ظاهر عبارة الماتن (قدس سره) أن مقتضى الاحتياط الوجوبي قصد تحلل المصدود عن العمرة بذبح ما يذبحه أو نحر ما ينحره. مع أن التحلل ـ على ما عرفت ـ من مواطنه المتعددة كان يحصل قهراً من دون حاجة إلى نية. فبالتقصير في العمرة وبه أو بالحلق في الحج كان يحصل التحلل وإن لم يقصده.
ويظهر من المحقق في الشرائع اعتبار نيته جزماً. حيث قال: ولا يتحلل إلاّ بعد الهدي ونية التحلل. وذكر صاحب الجواهر (قدس سره) كما صرّح به الشيخ وابن حمزة والحلي ويحيى بن سعيد والفاضل وغيرهم على ما حكي عن بعضهم، وليس لاعتبارها دليل قوي، واشتراك الذبح أو النحر بين المأمور به وبين غيره. وإن كان يقتضي
(الصفحة426)
اعتبار قصد كونه مربوطاً بالصد والمصدودية الحاصلة. إلاّ أنه لا يقتضي اعتبار النية في حصول التحلل بعد عدم اعتبارها لا في الحج ولا في العمرة.
فلا دليل على الاعتبار إلاّ الخروج عن مخالفة المذكورين فلا سبيل لاعتبارها إلاّ على نحو الاحتياط ـ كما في المتن ـ .
الرابع: ظاهر الفاضل في محكي القواعد اعتبار التقصير مضافاً إلى ما مرّ، كما أن ظاهر ما حكي عن المراسم والغنية والكافي التخيير بينه وبين الحلق في أحد النقلين عن الأخيرين، وفي آخر تعين الحلق. نعم عن الشهيدين التخيير.
وذكر صاحب الجواهر (قدس سره) أنه لا دليل معتبر على التعيين لأحدهما ولا على التخيير عدا رواية عامية بحلقه (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية، ذكرها البيهقي في سننه وهي غير ثابتة. بل في بعض الروايات التقصير مكان الحلق، مثل:
رواية حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين صدّ بالحديبية قصّر وأحلّ ونحر ثم انصرف منها، ولم يجب عليه الحلق حتى يقضي النسك. فأما المحصور فإنما يكون عليه التقصير(1).
والمراد بالجملة الأخيرة هو المصدود. والتعبير بالمحصور إنما هو بتبع الآية الشريفة. وفي سند الرواية سهل بن زياد. ويكون أكثر الروايات الحاكية لعمل النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية خالية عن الحلق والتقصير معاً. مع أن في بعض الروايات دلالة على العدم. مثل:
رواية الفضل بن يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن رجل عرض له
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب السادس، ح1.
(الصفحة427)
سلطان، فأخذه ظالماً له يوم عرفة قبل أن يعرف، فبعث به إلى مكة فحبسه، فلما كان يوم النحر خلّى سبيله. كيف يصنع؟ فقال: يلحق فيقف بجمع ثم ينصرف إلى منى فيرمي ويذبح ويحلق، ولا شيء عليه، قلت: فإن خلي عنه يوم النفر، كيف يصنع؟ قال: هذا مصدود عن الحج، إن كان دخل متمتعاً بالعمرة إلى الحج فليطف بالبيت أسبوعاً ثم يسعى أسبوعاً ويحلق رأسه ويذبح شاة، فإن كان مفرداً للحج فليس عليه ذبح ولا شيء عليه(1).
لكن الرواية كما ترى. فانقدح انه لا دليل على اعتبار الحلق أو التقصير في المصدود عن العمرة الذي هو محل البحث في المقام فعلا، لكن مقتضى الاحتياط ـ كما في المتن ـ رعاية التقصير. ولا مجال لاجراء الاستصحاب بعد تغير الحال بالمصدودية ـ كما لا يخفى ـ .
الخامس: لا إشكال ولا خلاف في تحقق الصد عن العمرة بالمنع عن دخول المحرم لمكة الطيبة. وهل تتحقق المصدودية بالمنع عن فعل الطواف والسعي بعد الوصول ودخول مكة أم لا؟
فيه وجهان، استظهر صاحب الجواهر (قدس سره) ذلك أيضاً. فليس المصدودية عن العمرة منحصرة بما إذا منع العدوّ أو شبهه من الذهاب إلى مكة، بل يشمله ومن وصل ومنع من فعل الطواف والسعي ـ كما لا يخفى ـ .
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب الثالث، ح3.
(الصفحة428)
في المصدود عن العمرة
مسألة 3 ـ لو دخل بإحرام العمرة مكة المعظمة ومنعه العدوّ أو غيره عن أعمال العمرة، فحكمه ما مرّ فيتحلل بما ذكر، بل لا يبعد ذلك لو منعه من الطواف أو السعي، ولو حبسه ظالم أو حبس لأجل الدين الذي لم يتمكن من أدائه كان حكمه ما تقدم . [1]
مسألة 4 ـ لو أحرم وطالبه ظالم لدخول مكة أو لإتيان النسك ما يتمكن من أدائه، يجب إلاّ أن يكون حرجاً. ولو لم يتمكن أو كان حرجاً عليه، فالظاهر أنه بحكم المصدود [2] .
[1] قد تقدم البحث في هذه المسألة في الأمر الخامس من الاُمور الخمسة في المسألة السابقة. نعم لم يقع التعرض لحبس الظالم أو لحبس الدين الذي لا يتمكن من أدائه. والظاهر أنه لا فرق بين حبس السلطان والظالم. كما أنه لا فرق بين أن يكون منشأ المنع الدين أو غيره. وقد مرّ أن المصدود لا ينحصر بما إذا كان المانع هو العدوّ، بل يشمل ما إذا منعه السيل ونحوه.
[2] ظهر مما مر أن جريان حكم المصدود ينحصر بصورة المنع عن دخول مكة رأساً أو عن الأعمال فيها. وأمّا إذا طالب الظالم مالا يتمكن من أدائه ولا يكون حرجاً عليه، لا يكون من مصاديق المصدود، نعم بحكمه فيما إذا لم يتمكن أو كان حرجاً عليه. والسر عدم تحقق عنوان المصدود في الصورة الاُولى دون الثانية.
(الصفحة429)
في ما لو كان له طريق غير ما صدّ عنه
مسألة 5 ـ لو كان له طريق إلى مكة غير ما صدّ عنه، وكانت له مؤونة الذهاب منها بقي على الإحرام ويجب الذهاب إلى الحج. فإن فات منه الحج يأتي بأعمال العمرة المفردة ويتحلل، ولو خاف في المفروض عدم إدراك الحج، لا يتحلل بعمل المصدود، بل لابد من الإدامة، ويتحلل بعد حصول الفوت بعمل العمرة المفردة . [1]
[1] قد وقع في هذه المسألة الخلط بين المصدود عن العمرة والمصدود عن الحج. والكلام الآن في الفرض الأول.
فإن المصدود عن العمرة ممنوع بعد التلبس بالإحرام، إما عن دخول مكة أو عن إتيان مناسك العمرة فيها.
وأمّا المصدود عن الحج فهو ممنوع عنه رأساً أو عن جملة من أركانه، ولا يكون ممنوعاً عن دخول مكة.
وقد عرفت وقوع الخلط بينهما في كثير من الكلمات والعبارات. واللازم التأمل وعدم الاختلاط بين الأمرين.
(الصفحة430)
في الصد عن الحج
مسألة 6 ـ يتحقق الصد عن الحج بأن لا يدرك لأجله الوقوفين لا اختياريهما ولا اضطراريهما، بل يتحقق بعدم إدراك ما يفوت الحج بفوته ولو عن غير علم وعمد. بل الظاهر تحققه بعد الوقوفين بمنعه عن أعمال منى ومكة أو أحدهما ولم يتمكن من الاستنابة، نعم لو أتى بجميع الأعمال ومنع عن الرجوع إلى منى للمبيت وأعمال أيام التشريق لا يتحقق به الصد، وصح حجه، ويجب عليه الاستنابة للأعمال من عامه. ولو لم يتمكن ففي العام القابل . [1]
[1]
المقصود من هذه المسألة بيان ما به تتحقق المصدودية عن الحج.
فنقول: لا ينبغي الاشكال في أنه إذا صار الصد موجباً لعدم إدراك الوقوفين لا الاختياري ولا الاضطراري الموجب لبطلان الحج، ولو لم يكن عن عمد والتفات، يتحقق به الصد عن الحج الموضوع لأحكام الصدّ عنه وآثاره.
كما أنه لا ينبغي الاشكال فيما إذا صار موجباً لعدم إدراك الحج من ناحية اُخرى، ويفوت الحج بفواته من الأقسام المتعددة المذكورة فيما سبق في مسائل الوقوف بعرفات. نعم في خصوص مسألة التقية المانعة عن إدراك الوقوفين كلام، تقدم في إحدى مسائله، فراجع.
وأمّا الممنوعية عن خصوص أعمال منى التي استظهر الماتن (قدس سره) تحققه بالمنع عنها فقط، أيضاً مع عدم التمكن من الاستنابة. فقد استشكلنا فيه في التعليقة على المتن،
(الصفحة431)
فنقول:
لا ينبغي الارتياب في عدم تحقق الصد مع التمكن من الاستنابة في أعمال منى، لأنها كلها يكون قابلا لذلك.
أمّا الرمي، فلا إشكال فيه في الاستنابة، مع عدم إمكان حضور الرامي عند الجمار، وعدم تمكنه منه بالمباشرة.
وأمّا الذبح أو النحر، فتجوز الاستنابة فيه حتى في حال الاختيار، وعدم عروض عارض أصلا، كما أن الحلق أو التقصير لا ينحصران بمنى. وقد مرّ بعض الكلام في ذلك.
وأمّا مع عدم إمكان الاستنابة، فقد نقل صاحب الجواهر (قدس سره) عن صاحبي المسالك والمدارك وكذا عن غيرهما: البقاء على الإحرام وأن أدلة الصدود تشمله، لاختصاصها بالصد عن أركان الحج. لكن المحكي عن المحقق النائيني أنه حكي عنهم البقاء على الإحرام مع قيد «إلى أن يتحلل بمحلله» ويمكن أن يكون القيد من الحاكي إضافة توضيحاً بنظره.
واستظهر بعض الأعلام (قدس سره) أن كلا القولين ضعيف. ومحصل ما أفاده في وجه الضعف:
أن الرمي والذبح والحلق إن كانت شرطيتها للطواف والسعي بعدها شرطية مطلقة، فحينئذ يكون الصد عن أعمال منى صداً عن الأعمال البعدية أيضاً، لعدم تمكنه من الطواف المأمور به ـ مثلا ـ الصحيح، لأن الصد عن المقدمة صد عن ذيها بعد فرض الشرطية المطلقة.
(الصفحة432)
وإن كانت شرطيتها شرطية اختيارية. ومرجعه إلى سقوط شرطية التقدم عند العجز وعدم التمكن ـ كما هو المختار ـ فلا يتحقق الصد حينئذ، بل يودع ثمن الهدي عند من يثق به ليشتري به الهدي، وعند عدم التمكن ينتهي الأمر إلى الصوم.
وكذا الحلق إنما يجب مع التمكن من إتيانه في منى ومع عدمه يسقط ذلك فيصح خارج منى.
وأما الرمي فإذا لم يرم نسياناً وتذكر في مكة وأمكنه الرجوع يرجع ويرمي، وإن تذكر في طريقه إلى بلاده فليس عليه شيء. فعدمه لا يكون مانعاً عن الطواف.
هذا، ولكن المسألة مشكلة، خصوصاً بعد كون أعمال منى يوم النحر من عمدة أعمال الحج ومظاهره. وخصوصاً مع قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِاللهِ...) (1) و أيضاً مع مدخلية الحلق أو التقصير في حلية كثير من محرمات الإحرام، بل في جميعها عدا ثلاثة منها ـ كما عرفت ـ .
وأمّا مع الإتيان بجميع أعمال منى فلا يتحقق عنوان الصدّ مع الممنوعية عن المبيت بمنى ليالي التشريق، أو الرمي في اليومين أو الأيام. لما عرفت من عدم كونها من أعمال الحج ومناسكه. ولذا لا يقدح الإخلال بهما عمداً في صحة الحج وتمامية عمله، بل إن كان متمكناً من الاستنابة في نفس ذلك العام يستنيب، وإلاّ ففي العام القابل.
(1) سورة الحج (22): 36 .
(الصفحة433)
في وجوب الحج في العام القابل على المصدود
مسألة 7 ـ المصدود عن العمرة أو الحج لو كان ممن استقر عليه الحج أو كان مستطيعاً في العام القابل، يجب عليه الحج، ولا يكفي التحلل المذكور عن حجة الإسلام . [1]
[1]
المستفاد من أدلة الصد أنها في مقام بيان طريق للمكلف إلى الخروج عن إحرام الحج أو العمرة. وأما كفاية عمل المصدود، وحصول التحلل المذكور له عن حجة الإسلام التي استقرت عليه أو تستقر عليه بالاستطاعة في العام القابل، فلا دلالة له على ذلك. بل يبقى حجة الإسلام على حالها، ويتحقق الوجوب بالإضافة إليها في العام القابل.
ومنه يظهر أنه مع حصول الصد في عام الاستطاعة، بالإضافة إلى العمرة التي يكون المراد بها هي عمرة التمتع لا العمرة المفردة، أو بالإضافة إلى الحج لا يتحقق منه الحج الواجب، ولا يكفي التحلل عنها، بل إن بقيت إلى العام القابل تبقى عليه حجة الإسلام. فلا يتخيل أن أدلة الصدّ إنما تكون بصدد رفع التكليف، بل ـ كما عرفت ـ تكون هي بصدد بيان الخروج عن الإحرام الذي ترتبت عليه محرمات كثيرة.
(الصفحة434)
في جواز التحلل للمصدود
مسألة 8 ـ المصدود جاز له التحلل بما ذكر، ولو مع رجاء رفع الصد . [1]
[1]
لا ينبغي الإشكال في تحقق الصد إن كان موجباً للقطع بعدم إمكان الإتيان بعمرة التمتع أو بالحج في وقته، كما أنه لا إشكال في عدم تحقق الصدّ مع القطع بارتفاعه بحيث يمكن له الإدراك من دون حرج ومشقة. فإذا صد يوماً واحداً وأمكن له الإدراك بعده، كذلك لا مجال لتوهم تحقق الصد الموضوع للأحكام المذكورة بالإضافة إليه.
وأمّا مع رجاء رفع الصد، فالذي ذكره في المتن جواز التحلل بما ذكر في هذه الصورة. والوجه فيه تحقق عنوان المصدود في هذا المورد. وقد ذكرنا في التعليقة أنه مشكل في بعض الفروض.
والمراد منه أن يكون الرجاء في مرحلة ضعيفة ومرتبة سفلى. فإنه لا يجوز التحلل حينئذ، بل الظاهر لزوم انتظار المستقبل، إما من حيث الزمان، وإمّا من جهة الأنصار والأعوان، وإمّا من جهة اُخرى، فتدبر.
(الصفحة435)
في أحكام الإحصار
مسألة 9 ـ من أحرم للعمرة ولم يتمكن بواسطة المرض من الوصول إلى مكة، لو أراد التحلل لابد من الهدي. والأحوط إرسال الهدي أو ثمنه بوسيلة أمين إلى مكة ويواعده أن يذبحه أو ينحره في يوم معين وساعة معينة، فمع بلوغ الميعاد يقصر فيتحلل من كل شيء إلاّ النساء، والأحوط أن يقصد النائب عند الذبح تحلل المنوب عنه . [1]
[1]
في هذه المسألة جهات من البحث:
الاُولى: في معنى الإحصار. وقد عرفت أن معناه في مقابل المصدود، هو ما كانت الممنوعية لأجل جهة داخلية مثل المرض.
لكن المحقق عنون في الشرايع: «المحصر». وقال صاحب الجواهر (قدس سره) في شرحه ما هذه عبارته:
اسم مفعول من أحصره المرض إذا منعه من التصرف، ويقول للمحبوس حصر بغير همز، فهو محصور. ولكن عن الفراء جواز قيام كل منهما مقام الآخر. وربما يؤيده استعمال الفقهاء لهما هنا، خلافاً لما عن الزجاج والمبرد من اختصاص الحصر بالحبس والإحصار في غيره، وكذا عن يونس، قال: «إذا ردّ الرجل عن وجه يريد فقد أحصر وإذا حبس فقد حصر». وعن أبي إسحاق النحوي: «الرواية عن أهل اللغة أن يقال للذي منعه الخوف والمرض اُحصر، ويقول للمحبوس حصر». وعن أبي عمرو الشيباني: «حصر بي الشيء وأحصر بي، أي: حبسني». وعن التبيان
(الصفحة436)
والمجمع عن أهل البيت (عليهم السلام) : «إن المراد بالآية من أحصره الخوف أو المرض، ولكن بلوغ هدي الأول محله ذبحه حيث صدّ، وهدي الثاني ذبحه في الحرم». وكذا عن ابن زهرة أنه عمم الإحصار في الآية واللغة. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيدة وتغلب: «وأكثر أهل اللغة يقول: أحصره المرض لا غير، وحصره العدو وأحصره أيضاً». وكذا الشيخ في محكي الخلاف إلاّ أنه حكى هذه العبارة عن الفراء خاصة. والأمر في ذلك كله سهل بعد التوسع في الآية. انتهى.
أقول: وقع التعبير بالإحصار في الآية الشريفة أولا، والظاهر الاتفاق على أن شأن نزول الآية هو صد المشركين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في قصة الحديبية، ولم يكن له مرض مانع عن المناسك أصلا، فاللازم ملاحظة كلتا الجهتين وجعل الآية هي الملاك ـ كما لا يخفى ـ .
الثانية: في أن من أحرم للعمرة، سواء كانت العمرة المفردة أو عمرة التمتع إذا لم يتمكن من الإتمام لأجل المرض ونحوه يجب عليه الهدي، لقوله تعالى: (... فَإنْ اُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ...) (1) ولدلالة الروايات الآتية ـ إن شاء الله تعالى ـ .
الثالثة: هل الواجب البعث بأن يرسل الهدي أو ثمنه بوسيلة أمين إلى مكة؟ إلى آخر المذكورات في المتن، أو أنه يجوز له الذبح أو النحر في مكانه، أم تفصيل بين العمرة المفردة فيجوز في مكانه، وبين عمرة التمتع فيبعث؟
ظاهر المتن الاحتياط الوجوبي بالبعث في كلتا العمرتين. كما أن المحقق (قدس سره) في
(1)
سورة البقرة (2) : 196 .
(الصفحة437)
الشرايع أفتى بذلك، كالمحكي عن ابني بابويه والشيخ وأبي الصلاح وبني حمزة والبراج وإدريس، بل حكى غير واحد عليه الشهرة، وعن الإسكافي التخيير بين الذبح والبعث، وعن الراوندي الفرق بين العمرتين، وهو الظاهر; لأن الروايات الواردة لا تدل على أزيد من البعث في عمرة التمتع، وعلى جواز الذبح في المحل في العمرة المفردة، منها:
صحيحة معاوية بن عمار المفصلة، قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل أحصر فبعث بالهدي، فقال: يواعد أصحابه ميعاداً، فإن كان في حج فمحل الهدي يوم النحر، وإذا كان يوم النحر فليقصر من رأسه ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي مناسكه، وإن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصّر وأحلّ; وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع إلى أهله رجع و نحر بدنة، إن أقام مكانه، ...(1).
ومنها: الروايات الحاكية لعمل الحسين (عليه السلام) بعد إحرامه بالعمرة المفردة وصيرورته محصراً. ففي بعضها:
معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث، قال: إن الحسين بن علي (عليه السلام) خرج معتمراً فمرض في الطريق فبلغ علياً ذلك وهو بالمدينة، فخرج في طلبه فأدركه في السقيا وهو مريض بها، فقال: يابني ما تشتكي؟ فقال (عليه السلام) : أشتكي رأسي، فدعا علي (عليه السلام) بدنة فنحرها وحلق رأسه وردّه إلى المدينة، فلما برأ من وجعه اعتمر; فقلت: أرأيت حين برء من وجعه أحلّ له النساء؟ فقال: لا تحل له النساء حتى يطوف
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب الثاني، ح1.
(الصفحة438)
بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة، فقلت: فما بال النبي (صلى الله عليه وآله) حين رجع إلى المدينة، حلّ له النساء ولم يطف بالبيت؟ فقال: ليس هذا مثل هذا; النبي (صلى الله عليه وآله) كان مصدوداً والحسين (عليه السلام) محصوراً(1).
وفي بعضها الآخر مثل:
صحيحة رفاعة بن موسى عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: خرج الحسين (عليه السلام) معتمراً وقد ساق بدنة حتى انتهى إلى السقيا فبرسم، فحلق شعر رأسه ونحرها مكانه، ثم أقبل حتى جاء فضرب الباب، فقال علي (عليه السلام) : ابني ورب الكعبة، افتحوا له الباب، وكانوا قد حموه الماء فأكبّ عليه فشرب، ثم اعتمر بعد(2).
والتزم بعض الأعلام (قدس سره) بتعدد الواقعة وصدور العمرة منه (عليه السلام) قال: ويظهر من الروايتين تعدد الواقعة، وتعدد صدور العمرة من الحسين (عليه السلام) فمرة لم يسق الهدي، ويخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) في طلبه ويدركه في السقيا وهو مريض بها; ومرة اُخرى ساق بدنة ونحرها في مكانه ورجع بنفسه. فعلى كل تقدير ما صدر منه (عليه السلام) هو النحر أو الذبح في مكانه من دون أن يبعث الهدي.
أقول: الالتزام بتعدد الواقعة مشكل، بعد كونه (عليه السلام) قد عرض له المرض بالسقيا ـ وهو محل بين طريق مدينة إلى مكة ـ فإن ثبوت العمرة الاستحبابية لكل شهر، وإن كان أمراً مسلّماً، إلاّ أن حدوث المرض في كلتا العمرتين في محل واحد يكون مشكلا.
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب الأول، ح3.
(2) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب السادس، ح 2 .
(الصفحة439)
نعم المناقشة في الروايتين بأن الحسين (عليه السلام) كان مضطراً إلى حلق الرأس، فما صنعه قضية في واقعة لا يستدل بها على جواز الحلق مطلقاً مندفعة بأنه لو كان الحاكي للقصة هو الإمام (عليه السلام) وكان الغرض من حكايته بيان الحكم الإلهي، يجوز الاستدلال بإطلاق كلامه مع عدم التقييد; كما أن المناقشة فيهما بأنه لم يعلم كونه (عليه السلام) معتمراً بالعمرة الفعلية أيضاً مندفعة بظهورهما في خروجه معتمراً كذلك، مضافاً إلى أن السؤال في ذيل الرواية عن حلية النساء له لا يلتئم مع عدم كونه معتمراً كذلك.
وكيف كان فالقدر المتيقن من الروايتين هو عدم لزوم بعث الهدي الذي سيق في العمرة المفردة; بل يستفاد من صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة أنه إن أراد الرجوع إلى أهله بعد حصول المرض له، يجوز له نحر بدنة والرجوع. وعليه فالبعث إنما يكون وجوبه في جميع الموارد، بنحو الاحتياط لا الفتوى.
الرابعة: قد ظهر مما مر الفرق بين المصدود والمحصور. وأن الأول بعمله يحل له كل شيء حتى النساء، والثاني لا تحل له النساء. وقد عرفت في الرواية الفرق بين مصدودية النبي (صلى الله عليه وآله) في جريان صد المشركين يوم الحديبية، وبين محصورية الحسين (عليه السلام) في العمرة، وأنه ليس هذا مثل هذا، وأن المحصور لا يحل له النساء حتى يطوف ويسعى.
إلاّ أنه حكي عن الشهيد في الدروس أنه لو أحصر في عمرة التمتع تحل له النساء، من دون أن يأتي بعمرة مفردة. واستدل له بأنه ليس في عمرة التمتع طواف النساء. فلا حاجة في تحلل النساء إلى أمر آخر غير الهدي. واستحسنه بعض من تأخر عنه مستدلا بما رواه البزنطي:
(الصفحة440)
قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن محرم انكسرت ساقه، أي شيء تكون حاله؟ وأي شيء عليه؟ قال: هو حلال من كل شيء، قلت: من النساء والثياب والطيب؟ فقال: نعم، من جميع ما يحرم على المحرم، وقال: أما بلغك قول أبي عبدالله (عليه السلام) حلّني حيث حبستني لقدرك الذي قدّرت عليّ؟ قلت: أخبرني عن المحصور والمصدود هما سواء؟ فقال لا; ...(1).
واُجيب عن الاستدلال الأول بما حاصله عدم توقف الحلية على طواف النساء مطلقاً; بل الدليل دل على حرمة النساء بالإحرام وحليتهن تختلف باختلاف المورد. فترى في عمرة التمتع عدم ثبوت طواف النساء أصلا، إلاّ بنحو الاستحباب; مع أن الحلية تثبت بالإضافة إليهن بالتقصير بعد الطواف والسعي.
وعن الاستدلال برواية البزنطي تارة بما عن صاحب الجواهر (قدس سره) من انعقاد الإجماع على الإحلال بطواف النساء، واُخرى بالمعارضة مع صحيحة معاوية بن عمار الدالة على أن المحصور لا تحل له النساء. فلابد من حمل رواية البزنطي على التقية.
وقد ذكر بعض الأعلام (قدس سره) في هذا المقام ما محصله أنه لا معارضة بين الروايتين أصلا; لأن رواية البزنطي تدل على حلية النساء بالحصر مطلقاً، من دون فرق بين العمرة المفردة وبين عمرة التمتع وبين الحج، لأن السؤال فيها عن انكسار الساق في حالة الإحرام، وهو يشمل جميع الأقسام الثلاثة. لكن لابد من رفع اليد عن الإطلاق، لأجل صحيحة معاوية بن عمار الحاكية لعمرة الحسين (عليه السلام) فالعمرة المفردة
(1) الوسائل: أبواب الإحصار والصد، الباب الأول، ح4.
|