(الصفحة 201)
الأمرين ، من دون ارتياب في البين .
وإن أراد أنّ السيرة العقلائيّة وإن كانت عامّة في مقام العمل ، إلاّ أ نّه لابدّ من ورودها في محيط الشرع ، وجريانها في الأُمور المضافة إلى الشارع حتّى يكون عدم الردع كاشفاً عن تصويبه ورضاه بذلك ، فيرد عليه : أنّ عدم الردع الكاشف عن الإمضاء لا يتوقّف على ذلك ، بل يكفي مجرّد جريان السيرة على معنى عامّ يكون الأمر الشرعي أيضاً من مصاديقه .
ألا ترى أنّ حجّية ظواهر الكتاب المستفادة من سيرة العقلاء بضميمة عدم الردع ، لا يكون منشؤها جريان السيرة في ظواهر الكتاب ، وعدم ردع الشارع عنها ، بل جريان السيرة على العمل بكلّ ظاهر ، وعدم الردع عنها في الشرعيّات كاف في استكشاف رضا الشارع وإمضائه ، كما لا يخفى .
ويرد على التقريب ـ الذي أفاده بعض الأعلام ـ أنّ انحصار مرجع التقليد في مثل الشيخ(قدس سره) لا يكون مخالفاً لما هو ضروريّ من المذهب . غاية الأمر أ نّه مخالف للإجماع ; لانعقاده على عدم جواز تقليد الميّت ابتداءً ، وقد عرفت(1) أ نّه لا تجتمع دعوى الضرورة من المذهب مع المناقشة في الإجماع ، ودعوى عدم كونه كاشفاً عن موافقة المعصوم(عليه السلام) ; لاحتمال استناد المجمعين إلى مثل أصالة الاشتغال .
ثمّ إنّ الاستلزام للانحصار إنّما هو على تقدير كون الأعلم ـ الذي هو شخص واحد ـ واضح الأعلميّة بالإضافة إلى كلّ أحد ، وإلاّ فلو فرض اختلاف الأنظار في تشخيص الأعلم ، كما ربما يتّفق ، فالانحصار لا يكاد يتحقّق بوجه ، كما أنّ بطلان الانحصار ـ لكونه مخالفاً لما هو ضروريّ من المذهب ، كما هو فرضه ـ لا يوجب
(1) في ص196 .
(الصفحة 202)
الالتزام باشتراط الحياة ، كما هو المقصود ، بل يكون له طريق آخر ; وهو عدم تعيّن الأعلم للتقليد .
وبعبارة أُخرى : الانحصار مترتّب على أمرين : عدم اشتراط الحياة ، واشتراط الأعلميّة ، وبطلانه ـ لما ذكر ـ لا يوجب نفي الأمر الأوّل ، بل له طريق آخر ; وهو رفع اليد عن الأمر الثاني ، واختيار عدم اشتراط الأعلميّة وتساوي الأعلم وغيره ، من حيث جواز الرجوع إليه . وعليه : فيتخيّر المكلّف بينه وبين غيره ، فيرتفع الانحصار .
كما أنّ ما أفاده من استلزام انحصار صيرورة الأئمّة ثلاثة عشر ممنوع جدّاً ; لأنّ المرجعيّة لا تبلغ من حيث المرتبة إلى الإمامة بوجه ، ولعمري أ نّ مثل هذا التعبير من طغيان البيان أو القلم ، فإنّه من الواضح أنّ أبناء السنّة مع استمرار عملهم على الأخذ بفتاوي أشخاص معيّنين من الأموات ، لا يحكمون بإمامتهم وخلافتهم ووجوب الإطاعة لهم ، كما يقولون به في الخلفاء .
والتحقيق : أ نّه لا مجال للمناقشة في أصل السيرة العقلائيّة ، وجري عملهم
على الأخذ بالآراء مطلقاً ، من دون فرق عندهم بين أن يكون صاحب الرأي حيّاً ، أو ميّتاً . غاية الأمر أنّها مردوعة في الشريعة ; لقيام الإجماع الكاشف
عن موافقة المعصوم(عليه السلام)على عدم الجواز ، وهو يكفي في الردع من دون حاجة إلى
أمر آخر .
الثالث : أنّ فتوى الميّت ـ على تقدير كونها حجّة ـ فإمّا أن يقال بحجّيتها فيما إذا كان الميّت مساوياً لغيره من الأموات والأحياء في الفضيلة والمرتبة العلميّة ، وإمّا أن يقال بها في خصوص ما إذا كان أعلم من غيره من تلك الجهة ، ولا مجال للقول بها في كلتا الصورتين :
(الصفحة 203)
أمّا الصورة الأُولى : فلا دليل على الحجّية فيها ; لأ نّه مع الاختلاف بينه وبين غيره في الفتوى والنظر ـ كما هو الغالب والمفروض ـ يكون الدليل قاصراً عن شموله ; لأنّ المتعارضين غير مشمولين لأدلّة الحجّية ، والقاعدة تقتضي التساقط مع التعارض ، كما قد تقدّم البحث عنه(1) ، والإجماع القائم على التخيير بين المجتهدين المتساويين في الفضيلة على تقدير ثبوته ـ كما ادّعاه شيخنا الأنصاري(قدس سره) (2) ـ لايشمل المقام ; فإنّ القدر المتيقّن منه تساوي المجتهدين من الأحياء ; فإنّ الأموات أنفسهم قد ادّعوا الإجماع على عدم جواز الأخذ بآرائهم بعد انقضاء حياتهم ،
كما مرّ نقل كلمات جملة من أعلامهم(3) .
وأمّا الصورة الثانية : فلأنّ مقتضى السيرة العقلائيّة الجارية على الأخذ برأي الميّت من ناحية ، وعلى الأخذ بقول الأعلم من المتخالفين من ناحية اُخرى ، وإن كان هو الجواز ، إلاّ أنّك عرفت(4) أنّ مجرّد جريان السيرة لا يكفي ما دام لم يكن مورداً لإمضاء الشارع لفظاً ، أو مستكشفاً من طريق عدم الردع ، وعدم ثبوت الإمضاء يكفي في عدم جواز ترتيب الأثر عليه ، فضلا عمّا إذا ثبت الردع من طريق الإجماع الكاشف عن موافقته لرأي المجمعين ، وعدم تجويزه الأخذ برأي الميّت والرجوع بفتواه ، كما عرفت .
وممّا ذكرنا يظهر مواضع الردّ والقبول والخلط في هذا الدليل ، فتأمّل .
(1) في ص 141 ـ 142 .
(2) حكى عنه في التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 106 ، ولم نعثر عليه في كتب الشيخ ، إلاّ أنّه يمكن استظهاره من رسالته في الاجتهاد والتقليد ، ضمن مجموعة رسائل: 71 .
(3) في ص194 ـ 195 .
(4) في ص68 ـ 70 .
(الصفحة 204)
وأمّا ما استدلّ به على عدم الاشتراط وجواز الرجوع إلى فتوى المجتهد الميّت ابتداءً فوجوه أيضاً :
الأوّل : إطلاق أدلّة جواز التقليد وحجّية فتوى المجتهد من الآيات والروايات الواردة في هذا الباب(1) ; فإنّها غير مقيّدة بحال الحياة ، فكما أنّها تدلّ على حجّية فتوى الحيّ ، كذلك تشمل فتوى المجتهد الميّت ، نظراً إلى إطلاقها .
والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّ أغلب تلك الأدلّة غير خالية عن المناقشة في الدلالة على أصل جواز التقليد وحجّية الفتوى ، بالنحو الذي هو محّل البحث ،
لِما عرفت سابقاً(2) ـ : ما مرّت الإشارة إليه ; من أنّ العناوين المأخوذة فيها
ظاهرة في الفعليّة التي لا تجتمع إلاّ مع وصف الحياة ، فكما أنّ قوله : «الخمر
حرام» ظاهر في الخمر الفعلي لا ما كان خمراً سابقاً ، وقوله : «العالم يجب إكرامه» ظاهر في المتّصف بالعلم فعلا ، كذلك قوله : «الفقيه المنذر» ظاهر
في المتّصف بهما فعلا .
وهكذا سائر العناوين المأخوذة فيها ، وإن شئت قلت : إنّ المشتقّ ظاهر في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال ; لأ نّه حقيقة فيه ، ومن المعلوم أنّ الاتّصاف بالفعل ملازم لوجود قيد الحياة .
نعم ، قد عرفت(3) أ نّه لا دلالة لهذه الأدلّة على اشتراط وصف الحياة بنحو يفيد نفي الحجّية بالإضافة إلى الميّت ، بل هي ساكتة عن التعرّض لها .
ومن هنا ينقدح أ نّه لا دلالة لها على قول النافين ولا المثبتين ، بل تجتمع مع
(1) الوافية: 305 ـ 306 .
(2 ، 3) في ص197 ـ 202 .
(الصفحة 205)
كليهما ; لسكوتها عن الدلالة على النفي ، أو الإثبات فيما هو محلّ الكلام ومورد النقض والإبرام . نعم ، قد عرفت أنّ هنا رواية واحدة عامّة ظاهرة في اشتراط الحياة ، ضعيفة من حيث السند .
الثاني : جريان السيرة المستمرّة العمليّة من العقلاء على الرجوع إلى آراء العلماء وأنظار المطّلعين ، من دون فرق بين الأحياء والأموات (1)، ولا مجال للإشكال فيه ، كما عرفت(2) .
والجواب عنه : أنّ حجّية السيرة موقوفة على إمضاء الشارع وعدم ردعه عنها ، وقد مرّ(3) أنّ الإجماع الكاشف عن موافقة المعصوم(عليه السلام) لرأي المجمعين ، وحكمهم بعدم جواز تقليد الميّت ابتداءً كاف في مقام الردع ، وعدم اتّصاف السيرة بوصف الحجّية ، كما هو ظاهر .
الثالث : استصحاب حجّية فتوى المجتهد الميّت ; لأنّها كانت مقطوعة قبل موته ، وبعده يشكّ في بقائها ، فلا مانع عن استصحابها أصلا ، ويكفي هذا الاستصحاب الذي لازمه جواز الأخذ بفتوى الميّت في الخروج عن الأصل الأوّلي ، الذي كان مرجعه إلى أنّ الشكّ في الحجّية مساوق للقطع بعدمها ; لأ نّه مع جريانه لا يبقى شك في الحجّية ، كما لا يخفى (4).
وقد أُورد على جريان هذا الاستصحاب بوجوه متعدّدة :
منها : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيّاً ، أو موضوعاً لأثر شرعيّ ، وهذا الشرط متحقّق في المقام على تقدير كون الحجّية
(1) لاحظ التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 101 .
(2، 3) في ص200 ـ 202 .
(4) درر الفوائد للشيخ عبد الكريم الحائريّ : 2/703 ـ 705 ; بحوث في الاُصول، الاجتهاد والتقليد: 21 ـ 24 .
(الصفحة 206)
المستصحبة متأصّلة في الجعل ، بحيث يصحّ اعتبارها من مجرّد جعلها ، وتترتّب عليها آثارها عقلا من صحّة اعتذار كلّ من المولى والعبد بها ، مع أ نّه غير ظاهر ، بل الظاهر أنّها منتزعة عن الحكم الظاهريّ الراجع إلى الأمر بالعمل بالواقع ـ على تقدير المصادفة ـ نظير الأمر بالاحتياط في بعض موارد الشكّ ، وإلى الترخيص على تقدير المخالفة ; فإنّ ذلك هو منشأ صحّة الاعتذار والاحتجاج (1).
والجواب عنه : أنّ الحجّية ـ كما قد حقّق في محلّه ـ من الأحكام الوضعيّة القابلة لتعلّق الجعل بها مستقلاًّ (2)، ويصحّ انتزاعها من مجرّد جعلها ، فهو مجعول شرعيّ لامانع من جريان الاستصحاب فيها بوجه .
ومنها : ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية ، وحاصلة : أنّ جريان الاستصحاب يتوقّف على بقاء موضوع المستصحب عرفاً ، والموضوع في المقام غير باق ; لأنّ الرأي متقوّم بالحياة بنظر العرف ، والموت عند أهل العرف موجب لانعدام الميّت ورأيه ، وإن لم يكن كذلك واقعاً ; لتقوّم الرأي بالنفس الناطقة غير الزائلة بالموت لتجرّدها ، لكنّ المدار في الاستصحاب من جهة بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحّة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف .
ودعوى أنّ الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلاّ أ نّه لا حاجة إلى بقاء الرأي ، بل مجرّد حدوثه في حال الحياة يكفي في جواز تقليده بعد موته ، كما هو الحال في الرواية ، حيث لا مدخليّة لبقاء حياة الراوي في حجّية
(1) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 15 ـ 16 .
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 326 وما بعدها .
(الصفحة 207)
روايته وجواز الأخذ بها .
مدفوعة بأ نّه لا شبهة في أ نّه لابدّ في جواز التقليد من بقاء الرأي ، ولا يكفي مجرّد الحدوث ، ولذا لو زال بجنون وتبدلّ ، أو مرض أو هرم لما جاز قطعاً(1) .
ويؤيّده أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى العامّي ليست بأعظم منها بالإضافة إليه نفسه ، ومن المعلوم أنّ حجّية الرأي بالإضافة إلى نفسه لا يكفي فيها مجرّد الحدوث ; ضرورة أنّ الحجّية الثابتة لرأي المجتهد بالإضافة إلى نفسه ، موضوعها في كلّ زمان ، الرأي في ذلك الزمان ، لا صرف الحدوث ; ضرورة أ نّه لو زال رأيه بشبهة ونحوها لزالت الحجّية عنه قطعاً ، مضافاً إلى أنّ الموت ملازم لارتفاع الرأي غالباً قبله ولو آناً مّا ، فلا مجال لاستصحابه .
وأجيب عن هذا الإيراد بوجهين :
أحدهما : ما في المستمسك من أنّ الإجماع على عدم حجّية رأي المجتهد مع اختلال الشرائط ـ لو تمّ ـ لا يقتضي عدم الحجّية مع ارتفاع الحياة إذا كان محلاًّ للخلاف ، وارتفاع الحجّية بتبدّل الرأي إنّما هو لكون الحجّية مشروطة بعدم ظهور الخطأ له في المستند ، لا لكونها منوطة بالرأي حدوثاً وبقاءً ، ولذا ترى الشهادة تسقط عن مقام الحجّية إذا ظهر للشاهد الخطأ في المستند ، مع أنّها حجّة بحدوثها إلى الأبد ، ولا ترتفع حجّيتها بموت الشاهد أو نسيانه ، وارتفاع الرأي قبل الموت غالباً إن قام إجماع على قدحه فهو خارج عن محلّ الكلام ـ والكلام في غيره من الفروض ـ وإن لم يقم إجماع على ذلك لم يقدح في جريان الاستصحاب .
وبالجملة : احتمال حجّية الرأي بحدوثه إلى الأبد لا رافع له ، فلا مانع
(1) كفاية الاُصول : 545 ـ 546 .
(الصفحة 208)
من الاستصحاب(1) .
ثانيهما : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ من أنّ مناط عمل العقلاء على رأي كلّ ذي صنعة في صنعته هو أماريّته وطريقيّته إلى الواقع ، وهو المناط في فتوى الفقهاء ; سواء كان دليل اعتباره بناء العقلاء الممضى ، أو الأدلّة اللفظيّة ; فإنّ مفادها أيضاً كذلك ، ففتوى الفقيه بأنّ صلاة الجمعة واجبة ، طريق إلى الحكم الشرعي وحجّة عليه ، وإنّما تتقوّم طريقيّتها وطريقيّة كلّ رأي خبير إلى الواقع إذا أفتى وأخبر بنحو الجزم ، لكنّ الوجود الحدوثي للفتوى بنحو الجزم يوجب كونها طريقاً إلى الواقع أبداً ، ولا ينسلخ عنها ذلك إلاّ بتجدّد رأيه ، أو الترديد فيه ، وإلاّ فهو طريق إلى الواقع ، كان صاحب الرأي حيّاً أو ميّتاً .
فإذا شككنا في جواز العمل به ; من حيث احتمال دخالة الحياة شرعاً في جوازه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها ، فرأي العلاّمة وقوله وكتاب قواعده كلّ كاشف عن الأحكام الواقعيّة ، ووجوده الحدوثي كاف في كونه طريقاً ، وهو المناط في جواز العمل شرعاً ، ولدى العقلاء .
وإن شئت قلت : جزم العلاّمة أو إظهار فتواه جزماً ، جعل كتابه حجّة وطريقاً إلى الواقع ، وجائزَ العمل في زمان حياته ، ويشكّ في جواز العمل على طبقه بعد موته فيستصحب(2) ، انتهى موضع الحاجة من كلامه دام ظلّه .
أقول : وفي كلا الوجهين نظر :
أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ التفكيك بين المقامين من جهة قيام الإجماع هناك وعدمه
(1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 17 .
(2) الاجتهاد والتقليد للإمام الخميني: 122 ـ 123 .
(الصفحة 209)
هنا ممنوع ; لِما عرفت من قيام الإجماع هنا أيضاً على عدم الجواز(1) ، فلا فرق بينهما ، ولو فرض عدم تحقّق الإجماع في المقام ، فأيّ مانع من استفادة حكمه من تلك الموارد التي يكون الرأي فيها باقياً ، ولا يجوز للمقلّد الرجوع إليه والأخذ به ، مع أ نّه في حال الحدوث كان جائز الأخذ ، كما إذا عرض له الفسق مثلا ، بل لا فرق ظاهراً بين المقام ، وبين الموارد التي لا يكون الرأي باقياً لأجل جنون ، أو مرض ، أو هرم .
نعم ، في خصوص صورة التبدّل أو الترديد لا مجال لاستفادة حكم المقام منه ; لِما أفاده صاحب الوجه . وبالجملة : فالموارد مختلفة ، والملاك في أكثرها موجود
في المقام .
وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه لو استندنا في المقام إلى علم العقلاء واستمرار سيرتهم على الرجوع إلى الخبير في كلّ فنّ وصنعة ، واستكشفنا أنّ المناط في عملهم هو الأماريّة والطريقيّة إلى الواقع ، وهي متقوّمة بالوجود الحدوثي وأصل تحقّق النظر والفتوى بنحو الجزم ، فلا حاجة لنا إلى الاستصحاب ، ولا يبقى شكّ في بقاء حجّية الرأي بعد موت صاحبه . غاية الأمر أنّ عدم الردع على فرض تماميّته يكشف عن الرضا والإمضاء ، فالحاجة إلى الاستصحاب إنّما هو مع قطع النظر عن السيرة العقلائيّة واستكشاف مناط عملهم ، وبهذه الملاحظة لا دليل على بقاء الموضوع عرفاً ، بعد ما يكون الموت عند أهل العرف موجباً لانعدام الشخص ورأيه رأساً ، كما هو غير خفيّ .
ومنها : أنّ الحجّية المجعولة الراجعة إلى جواز العمل على طبق فتوى المجتهد إن
(1) في ص 194 ـ 196 .
(الصفحة 210)
كانت بنحو القضيّة الخارجيّة ; بمعنى أنّ كلّ مكلّف كان موجوداً جاز له الرجوع إليه ، فهو لا يفيد بالنسبة إلى الموجودين بعد حياته في الأعصار المتأخّرة ، وإن كانت بنحو القضيّة الحقيقيّة ; بمعنى أنّ كلّ من وجد في الخارج ، وكان مكلّفاً في كلّ زمان كان فتواه حجّة بالإضافة إليه ، فإن أُريد إجراء الاستصحاب التنجيزي فلا وجه له ; لعدم إدراك المتأخّرين زمان حياته ، فلا يقين بالنسبة إليهم ، وإن أُريد الاستصحاب التعليقي فجريانه بهذا النحو ممنوع .
وبعبارة أُخرى : أنّ المراد بالحجّية المستصحبة إن كان هي الحجّية الفعليّة فلا يقين بحدوثها ; لأنّ الفعليّة إنّما تتحقّق بوجود المكلّف العامّي في عصر المجتهد ، والمفروض عدم تحقّقه ، وإن كان هي الحجّية الإنشائيّة ، فهي وإن كانت متيقّنة على الفرض ، إلاّ أنّها ليست بمورد للاستصحاب ; للشكّ في سعة دائرة الحجّية المنشأة وضيقها ، وعدم العلم بأنّها هي الحجّية على خصوص من أدرك المجتهد وهو حيّ ، أو أنّها تعمّ من لم يدركه كذلك ، فلا علم لنا بثبوت الحجّية الإنشائيّة بعد الممات ليمكن استصحابها (1).
ويمكن الجواب عنه بأنّ جعل الأحكام على نحو القضيّة الحقيقيّة ليس مرجعه إلى أنّ لكلّ فرد من أفراد عنوان الموضوع إذا وجد يكون حكماً مجعولا برأسه ، بحيث يكون هناك التكثّر في الجعل حسب تكثّر المصاديق وأفراد الموضوع ، بل لايكون في القضيّة الحقيقيّة إلاّ جعل واحد متعلّق بعنوان واحد ، لكن هذا الجعل الواحد يكون حجّة بحكم العقل ، وعند العقلاء لكلّ من يكون مصداقاً للعنوان ، ومنطبقاً عليه الموضوع ، فقوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 103 ; تهذيب الاُصول: 3 / 193 .
(الصفحة 211)
إِلَيْهِ سَبِيلاً}(1) لايتضمّن إلاّ جعلا واحداً متعلّقاً بعنوان واحد ;وهو «مَن استطاع» ، ولكن هذا الجعل ـ مع وحدته وعدم تكثّره ـ حجّة على كلّ متّصف بهذه الصفة .
فحينئذ لو علمنا بوجوب الحجّ بهذا النحو ، ثمّ شككنا في بقائه من جهة طروّ النسخ ، أو جهة اُخرى موجبة للشكّ في بقاء الحكم ، كما إذا احتملنا في وجوب صلاة الجمعة مثلا ، أن يكون مشروطاً بحضور الإمام(عليه السلام) ، بحيث يرتفع الوجوب بانعدام هذا الشرط وارتفاعه ، فأيّ مانع من جريان الاستصحاب ؟ وفي المقام أيضاً كذلك ، وقد حقّقنا في محلّه أنّ جريان الاستصحابات الحكميّة ممّا لا مانع منه أصلا (2).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا في هذا المقام ـ أي المقام الأوّل ـ بطلان جميع الوجوه التي استند إليها للقول بجواز التقليد الابتدائي للميّت ، فلا محيص عن الالتزام باشتراط قيد الحياة في التقليد كذلك .
المقام الثاني : في جواز البقاء على تقليد الميّت وعدمه ، وبعبارة اُخرى : في اشتراط الحياة في المفتي بقاءً وعدمه ، والكلام فيه يقع في صورتين ; لأ نّه إمّا أن لاتعلم المخالفة بينه وبين الحيّ ـ الذي كان يجب الرجوع إليه على فرض عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ـ في الفتوى والرأي ، وإمّا أن تعلم المخالفة بينهما فيها .
أمّا الصورة الاُولى : فقد استدلّ فيها على جواز البقاء بوجوه :
منها : الاستصحاب (3)، وتقريبه أنّه تارة : يستصحب الحكم الوضعي ; وهي الحجّية الثابتة لفتوى المجتهد الميّت قبل موته . واُخرى : يستصحب الحكم التكليفي ،
(1) سورة آل عمران : 3 / 97 .
(2) سيرى كامل در اصول فقه: 14 / 38 وما بعدها و ص 326 وما بعدها .
(3) مفاتيح الاُصول: 624، الفصول الغرويّة : 423 .
(الصفحة 212)
وعلى هذا التقدير تارة: يستصحب الحكم الواقعيّ الثابت لصلاة الجمعة مثلا ، الذي تكون فتوى المجتهد الميّت طريقاً إليه ، وكاشفة عن ثبوته وتحقّقه . واُخرى:يستصحب الحكم الظاهري بناءً على كون الحجّية المجعولة للأمارة مستلزمة لإنشاء أحكام ظاهريّة على طبق مؤدّاها مطلقاً ; سواء كانت موافقة للواقع
أو مخالفة له ، كما نسب إلى المشهور (1).
أقول : أمّا استصحاب الحجّية فلا يرد عليه شيء من الإيرادات المذكورة في الاستصحاب المتقدّم في المقام الأوّل عدا كون الموضوع هو الرأي والنظر ، وهو
لا يكون باقياً بعد الموت بحسب نظر العرف والعقلاء ، حيث يرون الموت موجباً لانعدام الشخص بجميع شؤونه وآثاره ; وذلك لأنّ الحجّية الفعليّة تكون مجرى الاستصحاب في هذا المقام ; لأنّ المفروض وجود المكلّف في عصر المجتهد الميّت ، وثبوت الحجّية لفتواه بالإضافة إليه ، فلا مانع من استصحابها إلاّ على تقدير عدم جريان الاستصحابات الحكميّة ، أو دعوى عدم كون الحجّية مجعولا شرعيّاً ولا موضوعاً لأثر شرعيّ ، وكلاهما خلاف التحقيق .
وأمّا استصحاب الحكم الواقعي ، فيرد عليه : اختلال كلا ركني الاستصحاب ; لعدم اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء . أمّا اليقين بالحدوث ; فلعدم ثبوت اليقين الوجدانيّ ، واليقين التعبّدي ـ الذي هو نتيجة حجّية فتوى الميّت ، وكونها كاشفة عنه وطريقاً إليه أيضاً ـ غير ثابت بعد الموت ; لأنّ المفروض الشكّ في الحجّية بعد الموت ، فلا يقين بالحدوث في حال الشكّ في البقاء .
وتنظير المقام بموارد ثبوت العلم التعبّدي في الأحكام أو الموضوعات
(1) لاحظ كفاية الاُصول: 547 .
(الصفحة 213)
الخارجيّة ـ كما إذا دلّت الرواية المعتبرة على حكم وشكّ في بقائه من جهة ; كبقاء وجوب صلاة الجمعة بعد ارتفاع الحضور ، أو قامت البيّنة على نجاسة شيء ، ثمّ شكّ في بقائها وزوالها بالتطهير ، حيث يجري الاستصحاب في هذه الموارد ـ في غير محلّه ; فإنّه في تلك الموارد يكون اليقين التعبّدي في حال الشكّ في البقاء محفوظاً ; لعدم الشكّ في بقاء حجّية الرواية واعتبار البيّنة ، وهذا بخلاف المقام .
نعم ، لـو فرض الشكّ في بقاء الحجّية بالإضافة إليهما لا مجال حينئذ لاستصحاب الحكم الذي هو مفادهما ، بل اللازم الرجوع إلى استصحاب الحجّية كما في المقام .
وأمّا الشكّ في البقاء ، فانتفاؤه ظاهر ; لأنّ الحكم الواقعي ـ على تقدير حدوثه وثبوته ـ يكون باقياً قطعاً ; لأ نّه لم يحدث شيء يشكّ معه في البقاء على ما هو المفروض ، فاستصحاب الحكم الواقعي ممّا لا مجال له أصلا .
وأمّا استصحاب الحكم الظاهري ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ استتباع الحجّية المجعولة للأحكام الظاهريّة على طبق مؤدّى الحجّة ومفادها ممنوع ، بل لا يترتّب على جعل الحجّية إلاّ آثارها من المنجّزيّة والمعذّريّة بالإضافة إلى الأحكام الواقعيّة ; لعدم الفرق بين حجّية القطع ، وحجّية الظنون المعتبرة فيما يرجع إلى معنى الحجّية وآثارها أصلا ـ : ما أورده عليه المحقّق الخراساني(قدس سره) في «الكفاية» من أ نّه من المحتمل ، بل المقطوع أنّ الأحكام التقليديّة عند أهل العرف لا تكون أحكاماً لموضوعاتها بقول مطلق ، بحيث عدّ من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه بسبب تبدلّ الرأي ونحوه ، بل إنّما تكون أحكاماً لها بحسب رأيه ، بحيث عدّ من انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه عند التبدّل ، ومجرّد احتمال ذلك يكفي في عدم صحّة
(الصفحة 214)
استصحابها ; لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً(1) .
وهذا الإيراد يمكن وروده على استصحاب الحكم الواقعي أيضاً ; فإنّ العرف يرى الحكم الواقعي منجّزاً ما دام الرأي باقياً ، فإذا زال بالموت ، أو بالتبدّل ،
أو بغيرهما لا يكون منجّزاً عندهم بوجه .
ومنها : إطلاق الأدلّة اللفظيّة الدالّة على التقليد من الآيات والروايات الواردة فيه عموماً أو خصوصاً(2) ; فإنّ مقتضى إطلاقها أ نّه لا فرق في حجّية الإنذار ووجوب الحذر عقيبه ، واعتبار قول أهل الذكر ، وجواز تقليد من كان واجداً للأوصاف المتعدّدة ، وترتيب الأثر على قول مثل زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وزكريّا ابن آدم ، ويونس بن عبدالرحمن(3) ، بين البقاء على الحياة بعد تحقّق الرجوع والتقليد والأخذ والتعلّم ، وبين عدم البقاء عليها . غاية الأمر اعتبار الحياة في الحدوث ; لظهور العناوين في الفعليّة كما عرفت(4) . وأمّا بحسب البقاء فلا دلالة فيها على الاعتبار ، بل مقتضى إطلاقها العدم ، كما هو ظاهر (5).
ومنها : ـ وهو العمدة في المقام ـ السيرة العقلائيّة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم في كلّ فنّ وصنعة ، من دون فرق بين أن يكون العالم ـ الذي رجع إليه ـ باقياً على حياته عند العمل بقوله ، أم لم يكن كذلك ، ومن الواضح عدم تحقّق الردع عن هذه السيرة العمليّة العقلائيّة ، والإجماع الرادع عن السيرة في التقليد الابتدائي غير
(1) كفاية الاُصول : 547 .
(2) سبق ذكرها في ص71 ـ 88 .
(3) وسائل الشيعة 27 : 138 ـ 148 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح4 ، 8 ، 9 ، 14 ـ 23 ، 25 ، 30 ، 33 ـ 35 .
(4) في ص197 ـ 202 .
(5) الفصول الغرويّة: 423، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 109 ـ 110 .
(الصفحة 215)
متحقّق هنا . نعم ، حكي عن شيخنا الأعظم الأنصاري(قدس سره) (1) دعوى الإجماع ، واستظهاره من إطلاق كلمات المجمعين ، ولكنّها ممنوعة جدّاً ; لذهاب جمع كثير وجمّ غفير إلى جواز البقاء على تقليد الميّت ، فلا مجال معه لدعوى الإجماع(2) .
هذا ، ويمكن دعوى السيرة العمليّة من المتشرّعة في الصدر الأوّل ، حيث إنّهم بعد الرجوع إلى أحد من أصحاب الأئمة(عليهم السلام) ، وأخذ المعالم منه، لم يكن واحد منهم متوقّفاً عن العمل حتى يثبت له بقاء حياة من رجع إليه ، أو يرجع إلى الغير بعد ثبوت الممات ، خصوصاً مع بعد الشقّة، كما ورد في بعض الروايات المتقدّمة(3) .
فالإنصاف أنّ هذا الدليل كاف في جواز الاعتماد عليه ، والحكم بجواز البقاء على تقليد الميّت وعدم وجوب الرجوع عنه إلى الحيّ .
نعم ، هنا أمران ربما توهّم اعتبارهما في جواز البقاء :
الأوّل : العمل بفتوى المجتهد الميّت على تقدير كون التقليد عبارة عن الاستناد إلى قول الغير في العمل ; فإنّه على هذا التقدير لو لم يتحقّق من المقلّد عمل على طبق فتوى المجتهد الميّت يكون العمل به بعد الموت تقليداً ابتدائيّاً لا محالة ، وقد مرّ أ نّه غير جائز(4) . وهذا بخلاف ما لو كان التقليد بمعنى الالتزام أو غيره من الأُمور التي لا يكون للعمل فيها دخل أصلا ; فإنّه لا يكون جواز البقاء على تقليد الميّت مشروطاً بسبق العمل ، بل يكفي مجرّد الالتزام ونحوه في جواز البقاء .
ولكن لا يخفى أنّ مسألة جواز البقاء على تقليد الميّت لا تكون بهذا العنوان
(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 62 .
(2) مستمسك العروة الوثقى: 1 / 15 و 19 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 110 ـ 111 .
(3) في ص86 .
(4) في ص 193 ـ 211 .
(الصفحة 216)
وهذه العبارة واردة في دليل من آية أو رواية ، ليكون الحكم بالجواز دائراً مدار عنوان البقاء على التقليد ; كي يلزم ملاحظة معنى التقليد أوّلا ، وعنوان البقاء ثانياً ، بل هذه العبارة واقعة في كلمات الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . واللازم ملاحظة الأدلّة الدالّة على الجواز ليظهر أنّها هل تدلّ على اشتراط الجواز بالعمل في حال الحياة أم لا؟
فنقول : أ مّا استصحاب الحجّية ، فمقتضاه بقاء فتوى الميّت على وصف الحجّية الراجعة إلى التنجيز والتعذير بعد موته ، فالموضوع هو رأي المجتهد وفتواه ، ولا نظر له إلى حال المكلّف الذي قلّده من جهة العمل على طبق فتواه وعدمه ، كما هو واضح .
وأمّا الإطلاقات ، فهي أيضاً كذلك ; لأنّ الملاك في وجوب الحذر هو إنذار المنذر الحيّ ، وفي وجوب ترتيب الأثر هو كون المسؤول أهل الذكر من دون مدخليّة لعمل المكلّف في ذلك أصلا .
وهكذا السيرة العقلائيّة التي هي العمدة في أصل مسألة التقليد ; فإنّ عدم مدخليّة العمل عند العقلاء في ترتيب الأثر على قول العالم بعد الرجوع إليه واضح لا ريب فيه .
فانقدح أنّ العمل لا دخل له في جواز البقاء . نعم ، بناءً على كون التقليد عبارة عن العمل لابدّ من تحقّق العمل في الجملة ولو ببعض المسائل ، فيجوز له حينئذ البقاء بالإضافة إلى جميع المسائل ولو فيما لم يعمل بها ; وذلك لئلاّ يلزم التقليد الابتدائي الذي قام الدليل على عدم جوازه ، فالفرق حينئذ بين مدخليّة العمل في معنى التقليد وعدمها يظهر في جواز البقاء على الثاني مطلقاً ـ ولو لم يعمل على طبق فتوى الميّت أصلا ، فلا يجب عليه العدول إلى المجتهد الحيّ ـ وعدم جواز البقاء إلاّ
(الصفحة 217)
على تقدير العمل ببعض المسائل ، فيجوز له البقاء ولو بالنسبة إلى ما لم يعمل بها ، وفي غير هذا التقدير يجب عليه العدول إلى الحيّ ; لأ نّه مع البقاء لا يتحقّق إلاّ التقليد الابتدائي الذي لا يكون جائزاً ، ولذا ذكر في المتن أ نّ جواز البقاء إنّما هو بعد تحقّق التقليد بالعمل ببعض المسائل ، فتأمّل جيّداً .
الثاني : أن يكون المقلّد ذاكراً لفتوى الميّت بعد موته ، بحيث لو نسيها بعد ما أخذها وتعلّمها لم يجز له البقاء ، وقد اختار مدخليّة هذا الأمر في جواز البقاء بعض الأعلام في شرح العروة على ما في تقريراته ، وأفاد في وجهه : أنّه بالنسيان ينعدم أخذه السابق ورجوعه إلى الميّت قبل موته ; لأنّ المقلّد حينئذ إنّما يعلم أنّ الميّت أفتى في مسألة العصير مثلا إمّا بنجاسته ـ على تقدير غليانه ـ أو بطهارته ، وهو كالعلم الإجمالي بأنّ الحكم الواقعي إمّا الحرمة أو الإباحة ليس بمورد للأثر ، بل يحتاج إلى رجوع جديد ، وجواز الرجوع إلى الميّت حينئذ يحتاج إلى دليل ; لأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، وقد تحقّق عدم جوازه(1) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد بهذا الشرط هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث كان المقلّد بنفسه ذاكراً ، ومع عدمه لم يجز له البقاء ـ وإن كان الاطّلاع على فتواه ممكناً بالرجوع إلى رسالته العمليّة ، أو سائر مقلّديه الذاكرين لفتواه ـ فلا دليل على اعتباره في جواز البقاء ، وكون النسيان موجباً لأن يصير رجوعه من التقليد الابتدائي ممنوع جدّاً ; فإنّ الذُكر لا دخالة له في عنوان البقاء بوجه ; فإنّ المقلِّد لو نسي فتوى المجتهد في حال حياته ، ثمّ اطّلع عليه وتعلّمه ثانياً ، هل يصير ذلك موجباً لتقليد جديد في تلك الحال ، أم لا يكون هناك إلاّ البقاء على التقليد الأوّلي؟
(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 112 .
(الصفحة 218)
فإذا عمل في الحجّ على طبق آرائه ومناسكه ، ثمّ نسيها فأراد الحجّ ثانياً ، فهل يعدّ هذا تقليداً ابتدائيّاً ، أم لا يكون إلاّ بقاءً على التقليد الأوّل ؟
مضافاً إلى ما عرفت ; من أنّ البقاء بعنوانه لا دليل على جوازه ، بل مقتضى الأدلّة بقاء حجّية فتوى الميّت بعد موته ، وجواز الأخذ به لمن كان مقلّداً له في حال الحياة، ولا دلالة لها على اعتبار الذُكر وعدم النسيان بوجه ، وإلى أ نّه لو كان مثل هذا يعدّ تقليداً ابتدائيّاً لم يقم دليل على عدم جواز هذا النحو من التقليد الابتدائي ، فتأمّل .
وإن أريد بالذُكر هو الذُكر في مقابل النسيان ، بحيث لا يكون الاطّلاع على فتواه ممكناً ; لعدم وجود رسالة عمليّة له ، وعدم من كان مطّلعاً على نظره ، فاعتبار هذا المعنى وإن كان مسلّماً إلاّ أ نّه دخيل في إمكان البقاء ، لا في جوازه ; ضرورة أ نّه مع عدمه لا يعقل أن يبقى على تقليد الميّت ، فلا مجال للحكم بأ نّه تقليد ابتدائيّ للميّت ، كما هو واضح .
وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا علمت المخالفة بين المجتهد الميّت والحيّ في الفتوى والنظر ، فتارة : تكون أعلميّة أحدهما بالإضافة إلى الآخر معلومة ، واُخرى: غير معلومة .
ففي الفرض الأوّل: يجب الرجوع إلى الأعلم الحيّ أو البقاء على تقليد الميّت الأعلم ; لِما عرفت من تعيّن الأعلم للتقليد(1) .
وفي الفرض الثاني : قد يقال : بأ نّه لا يكاد يشكّ في أنّ الفتويين ساقطتان حينئذ عن الاعتبار ; لأنّ الإطلاقات لا تشمل المتعارضين ، فلا حجّية لفتوى
(1) في ص140 ـ 173 .
(الصفحة 219)
الميّت ولا الحيّ ، ومعه يتعيّن على المكلّف الاحتياط فيما إذا تمكّن منه ، ومع عدم التمكّن ; إمّا لدوران الأمر بين المحذورين ; وإمّا لعدم سعة الوقت للاحتياط ، كما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب القصر في مورد ، وأفتى الآخر بوجوب التمام فيه ،
ولم يسع الوقت للجمع بين القصر والإتمام ، فالفتويان أيضاً ساقطتان عن الحجّية ، والوظيفة هو الامتثال الاحتمالي ; وهو العمل على طبق إحداهما مخيّراً ; لأنّ المكّلف إذا لم يتمكّن من الامتثال الجزمي والعلمي الإجمالي في مورد ، يتنزّل العقل
إلى الامتثال الاحتمالي ، كما لا يخفى .
أقول : هذا مبنيّ على عدم كون الحكم في المجتهدين المتساويين في الفضيلة ـ إذا كانا حيّين ـ هو التخيير من حيث التقليد ، أو على اختصاص الدليل على التخيير بما إذا كانا كذلك، فلا يشمل مثل المقام. وأمّا لو قلنا بأنّ الحكم هناك هو التخيير ، وعدم اختصاصه بتلك الصورة ، وشمول دليل التخيير من الإجماع أو السيرة
أو غيرهما لمثل المقام، فلا مجال للرجوع إلى الاحتياط والحكم بوجوب الامتثال العلمي الإجمالي أوّلا ، والتنزّل إلى الامتثال الاحتمالي ثانياً ، خصوصاً مع ملاحظة ما ادّعي من الإجماع على عدم وجوب الاحتياط على المكلّف العامّي، كما مرّ البحث عنه مفصّلا(1).
ثمّ إن عدم العلم بأعلميّة أحدهما يجتمع مع احتمالها في خصوص واحد منهما ، مع أنّك عرفت (2) أ نّه إذا كان واحد منهما على نحو التعيين محتمل الأعلميّة ، يكون مقتضى أصالة التعيين العقليّة الأخذ به .
(1) في ص119 .
(2) في ص138 ـ 139 ، 158 ، 171 ـ 172 .
(الصفحة 220)
بقي في هذه المسألة ـ وهي المسألة الثالثة عشرة ـ فروع لابدّ من التعرّض لها :
أحدها : أ نّه يجوز الرجوع عن تقليد الميّت إلى الحيّ الأعلم ، وذكر في المتن أ نّ الرجوع أحوط ، وتخصيصه جواز الرجوع بما إذا كان المجتهد الحيّ أعلم ، إنّما هو مبنيّ على حكمه بعدم جواز العدول إلى المساوي احتياطاً ، كما أنّ احتياطه بالرجوع إلى الحيّ الأعلم مبنيّ على عدم تعيّن الأعلم للتقليد ، وأنّ لزوم تقليده إنّما هو من باب حكم العقل بالاحتياط في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجّية .
وقد تقدّم (1) أ نّ مقتضى التحقيق جواز العدول إلى المساوي ، فيجوز
له الرجوع عن الميّت إلى الحيّ المساوي ، وتقدّم أيضاً تعيّن الأعلم للتقليد لقيام الدليل عليه(2) . وعليه : فيجب العدول إلى الحيّ الأعلم .
وقد مرّ منّا الإشكال على سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه(3) ـ بأ نّه إذا كان عدم جواز العدول مبتنياً على الاحتياط العقلي ، والحكم بلزوم تقليد الأعلم أيضاً مبتنياً عليه ، فعند دوران الأمر بينهما لا ترجيح لاختيار الأعلم ، ولا مجال للحكم بلزوم تقليده كذلك والعدول إليه ، بل مقتضى ما أفاده مجرّد الجواز ، وتخيير المكلّف بين العدول والرجوع وبين البقاء ، كما لا يخفى .
ثانيها : ما أفاده في المتن بقوله : «ولا يجوز بعد ذلك الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً على الأحوط» . والظاهر أنّ مراده ـ دام ظلّه ـ عدم جواز الرجوع إلى فتوى الميّت ثانياً بعد رجوعه إلى الحيّ الأعلم ، والوجه في عدم جواز الرجوع حينئذ واضح ;
(1) في ص124 ـ 136 .
(2) في ص140 ـ 166 .
(3) في ص137، 159 ـ 160 .
|