(الصفحة 261)
ما ذكرنا في أوّل الكتاب من حكم العقل وإيجابه على المكلّف ، التقليد ،
أو الاجتهاد ، أو الاحتياط(1) ، فعلى تقدير عدم تحقّق الاجتهاد ـ وإن كان من أهل العلم ، وحاز مرتبة من المراتب العلميّة ، وعدم إرادة الاحتياط ـ ينحصر طريقه بالتقليد والرجوع إلى المجتهد وتطبيق العمل على فتواه ، وقد مرّ البحث مفصّلا
في المراد من هذا الوجوب في أوّل الكتاب ، كما أنّا قد تعرّضنا سابقاً لحكم المجتهد الواجد لملكة الاستنباط والبالغ مرتبة الاجتهاد(2) ، وأ نّه هل يجوز له تقليد مجتهد آخر إذا لم يستنبط فعلا ولم يتصدّ للاستخراج بعد ، أو يجب عليه إمّا الاحتياط ، وإمّا التصدّي للاستنباط والعمل على طبق الاستنتاج ؟
لكنّ الكلام هناك في جواز الرجوع إلى مجتهد آخر مستنبط ، والبحث هنا
في وجوب الرجوع إلى المجتهد البالغ هذه المرتبة والمستنبط بالفعل .
(1) في ص 9 ـ 13 .
(2) في ص24 ـ 27 .
(الصفحة 262)
[عمل الجاهل المقصّر أو القاصر من غير تقليد]
مسألة20: عمل الجاهل المقصِّر الملتفت من دون تقليد باطل، إلاّ إذا أتى به برجاء درك الواقع ، وانطبق عليه ، أو على فتوى من يجوز تقليده. وكذا عمل الجاهل القاصر أو المقصِّر الغافل ـ مع تحقّق قصد القربة ـ صحيح إذا طابق الواقع ، أو فتوى المجتهد الذي يجوز تقليده 1.
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين :
المقام الأوّل : في الجاهل المقصّر الملتفت حال العمل ، ولازمه التردّد في كون المأتيّ به هو المأمور به ، وقد صرّح صاحب العروة(قدس سره) (1) ببطلان عمله وإن كان مطابقاً للواقع ; يعني وإن علم بعد العمل مطابقته له ; ضرورة أ نّه ليس المراد مجرّد المطابقة ولو كانت مجهولة ، حتّى يصير ذلك قرينة على كون المراد بالبطلان معنى آخر ، كما سيأتي بيانه . كما أ نّه لا خفاء في كون المراد بالعمل هو العمل العبادي الذي يفتقر في تحقّقه وحصوله إلى قصد الامتثال ونيّة التقرّب ، والدليل عليه ـ مضافاً إلى قوله دام ظلّه : «مع تحقّق قصد القربة» ـ : أنّ معروض الصحّة والبطلان إنّما هو العمل العبادي . وأمّا الواجب التوصّلي فأمره دائر بين الوجود والعدم ، ولا يتّصف بالصحّة والبطلان أصلا .
وكيف كان ، فما يمكن أن يستدلّ به للقول ببطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت ـ ولو انكشف له بعد العمل المطابقة للواقع ، فضلا عن المطابقة لفتوى المجتهد ـ أُمور :
أحدها : ما يظهر من العروة ; من أنّ الجاهل المفروض لا يتمشّى منه قصد
(1) العروة الوثقى : 1 / 8 مسألة 16 .
(الصفحة 263)
القربة ، نظراً إلى أ نّه كيف يجتمع الترديد والشكّ في انطباق المأمور به على المأتيّ به ، مع قصد التقرّب وجعل العمل مقرّباً له إليه تعالى ; فإنّ من لا يعلم أنّ وظيفته القصر أو الإتمام ، أو لا يعلم أ نّه مكلّف بصلاة الظهر يوم الجمعة، أو بالجمعة ، كيف يتمشّى منه قصد التقرّب بإحدى الصلاتين ، مع الالتفات وإمكان الرجوع إلى المجتهد ، أو إمكان الاستنباط إن كانت له ملكة الاجتهاد ؟ ومن الواضح أنّ قوام العمل العبادي ، بقصد التقرّب والإتيان به بما أ نّه موجب لحصول القرب .
والجواب : أ نّه لا يعتبر في العبادة إلاّ أن يكون الداعي إلى إتيانها والمحرّك لإيجادها أمراً مضافاً إلى الله تبارك وتعالى ، ولا يكون شيء من الأُمور الدنيويّة مؤثّراً في حصولها دخيلا في تحقّقها .
ومن المعلوم أنّ الداعي إلى الصلاة قصراً ، بالإضافة إلى الجاهل المفروض ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر بها وكونها هي المأمور بها ; لأنّ المفروض أ نّه ليس له الداعي سوى ذلك من الرياء وغيره .
غاية الأمر : أ نّه كانت وظيفته بحكم العقل إمّا الاحتياط والإتيان بكلا المحتملين ; لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة ، أو الرجوع إلى العالم لو كان عاميّاً ، أو الاستنباط لو كانت له ملكة الاجتهاد ، ومع الإخلال بهذه الوظيفة لا يجوز له الاقتصار على المأتيّ به ، إلاّ أنّ هذا الحكم يستمرّ ويدوم ما دام لم ينكشف موافقة عمله للواقع ، أو لرأي العالم ، أو لمقتضي الاجتهاد ، أمّا بعد الانكشاف وتحقّق العلم بالموافقة ـ الذي هو محلّ الكلام في المقام ـ فأيّ خلل في عمله ؟ ولِمَ كان خالياً عن قصد التقرّب ، مع أ نّه لم يكن المحرّك له إلاّ الامتثال ، لا بنحو يقطع بتحقّقه ، بل بهذا المقدار وهو مجرّد الاحتمال ؟
نعم، العبادة بهذه الكيفيّة خالية عن الجزم ، وقد حقّق في محلّه عدم اعتباره ، ومرّ
(الصفحة 264)
البحث عنه سابقاً(1) في إجزاء الاحتياط ، وكفاية الامتثال العلمي الإجمالي ، ولو مع التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ، فانقدح أنّ هذا الوجه ـ الذي هو العمدة في هذا الباب ـ لا يصلح لأن يستند إليه في الحكم ببطلان عبادة الجاهل المفروض .
ثانيها : ما حكاه الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) من أنّ ظاهر كلام السيّد الرضي(قدس سره)في مسألة «الجاهل بوجوب القصر(2)» وظاهر تقرير أخيه السيّد المرتضى(قدس سره) له(3) ، ثبوت الإجماع على بطلان صلاة من لا يعلم أحكامها(4) ; فإنّ الظاهر أ نّه ليس المراد بالعلم هو العلم الوجداني ، بل أعمّ منه ومن الطريق المعتبر القائم على أحكام الصلاة ، وخصوصيّاتها من القصريّة والإتماميّة وغيرهما من الجهات ، كما أنّ شموله للجاهل المفروض في المقام مسلّم لو لم نقل بأ نّه القدر المتيقّن من معقد الإجماع ،
كما هو غير خفيّ .
والجواب أوّلا : ما ذكرناه في محلّه(5) من عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وعدم شمول أدلّة حجّية الخبر لحكاية الإجماع .
وثانياً : أ نّه على تقدير تحقّق الإجماع لا يكون واجداً لملاك الحجّية ; لعدم كونه كاشفاً عن رأي المعصوم(عليه السلام) بعد احتمال كون مستند المجمعين عدم اجتماع الترديد مع قصد التقرّب ، أو مع بعض الجهات الأُخر المعتبرة في صحّة العبادة عندهم ، كالجزم ونحوه .
(1) في ص33 ـ 60 .
(2) حكى عنه قبل الشيخ،الشهيدالأوّل في ذكرى الشيعة: 4/325، ولكن لم نعثر عليه في مضانّه من كتب السيّد .
(3) رسائل الشريف المرتضى : 2/383 ـ 384 .
(4) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري، ضمن مجموعة رسائل : 49 .
(5) سيرى كامل در اصول فقه: 9 / 614 ـ 615 .
(الصفحة 265)
وثالثاً : ـ وهو العمدة ـ أنّ المراد بالبطلان في هذه العبارة ومثلها ـ كالعبارة المعروفة ; وهو أنّ عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل ـ هو عدم جواز الاقتصار على الصلاة ، أو العمل الذي لا يعلم حاله وحكمه ; لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي لزوم تحصيل العلم بالبراءة أو الحجّة عليها ، وليس المراد بالبطلان هو البطلان ولو مع انكشاف الموافقة للواقع ، أو للفتوى ، أو للاجتهاد ، كما هو واضح .
ثالثها : دعوى الإجماع على بطلان عمل خصوص الجاهل المقصّر ; والقدر المتيقّن منه الجاهل المفروض في المقام .
والجواب عنها هو الجواب عن دعوى الإجماع المتقدّمة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّه لا دليل على بطلان عبادة الجاهل المقصّر الملتفت ، بحيث تجب عليه الإعادة ولو بعد انكشاف المطابقة للواقع ، فضلاً عن المطابقة لفتوى المجتهد .
المقام الثاني : في الجاهل القاصر ، والمقصّر الغافل ، وبعدما اخترنا صحّة عبادة الجاهل المقصرّ الملتفت ، تكون الصحّة في هذا المقام بطريق أولى ، فلا كلام فيه من هذه الجهة ، إنّما الكلام في أ نّه لو لم يكن انكشاف المطابقة للواقع وجدانيّاً ثابتاً من طريق العلم واليقين كما هو الغالب ، بل كان الطريق منحصراً بالاجتهاد ، أو بالرجوع إلى المجتهد ، فهل الملاك في القسم الثاني ـ وهو الرجوع إلى المجتهد ـ الرجوع إلى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل ، أو الرجوع إلى المجتهد الفعليّ ـ وهو حال الالتفات ـ فيما إذا كانا متعدّدين ، مع ثبوت الاختلاف بينهما في الفتوى والنظر ، كما إذا كانت فتوى أحدهما القصر في بعض المواضع المردّدة بين القصر والإتمام ، والآخر الإتمام ؟
وعبارة المتن مجملة من هذه الحيثيّة ، ولا دلالة لها على أنّ المراد بالمجتهد الذي
(الصفحة 266)
يجوز الرجوع إليه هو المجتهد حال العمل ، أو المجتهد الفعلي .
ولكنّ الذي اختاره صاحب العروة(قدس سره) : هو اعتبار المطابقة لفتوى المجتهد الذي قلّده بعد ذلك ، والاحتياط بالمطابقة لفتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده حال العمل (1).
والوجه في ذلك ـ على ما أفاده بعض الأعلام في شرحه على العروة ـ : أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر عمّا هي عليه بفتوى المجتهد ، أو بقيام الأمارة على خلافها ، بناءً على ما هو الحقّ من الطريقيّة لا السببيّة ، وحيث إنّ الإعادة وعدمها فعل من أفعال المكلّف ، وهو لا يدري حكمها عند الالتفات إلى عمله ، فلا مناص له من أن يرجع في حكمها إلى من يجب عليه تقليده في زمان الابتلاء بالشكّ في وجوب الإعادة ; فإنّه إذا أفتى بالصحّة فمعناه عدم وجوب الإعادة ، وإذا أفتى بالفساد معناه وجوب الإعادة .
وأمّا فتوى المجتهد الأوّل فلا يترتّب عليها أثر ; لأنّها قد سقطت عن الحجّية بالموت ، أو النسيان ، أو غيرهما ، والمجتهد الثاني وإن لم تكن فتواه متّصفة بالحجّية من الابتداء ، وإنّما حدثت حجّيتها بعد ذلك ; إمّا لأ نّه لم يكن لها موضوع سابقاً لعدم كونه مجتهداً ، وإمّا لعدم كونه واجداً لبعض الشروط كالأعلميّة أو العدالة ، إلاّ أنّ ما تتضمّنه تلك الفتوى بعد اتّصافها بالحجّية حكم كلّي إلهي لا يختصّ بوقت دون وقت ، بل يعمّ الأزمنة المتقدّمة والمتأخّرة ، فيشمل العمل في حال وقوعه في السابق ، فالملاك في اتّصاف العمل بالصحّة هو المطابقة لفتوى المجتهد الثاني ، التي
(1) العروة الوثقى : 1 / 8 مسألة 16 .
(الصفحة 267)
لاتختصّ بعصر دون عصر ، ولا زمان دون زمان(1) .
ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد أنّ الإعادة وعدمها فعل حاليّ من المكلّف ، وظرف وقوعه لا يمكن أن يكون هو الزمان الماضي المقارن للمجتهد الأوّل ، فيجب على الجاهل الرجوع في حكمه إلى المجتهد الفعلي ; لعدم اتّصاف فتوى المجتهد الأوّل بالحجّية في حال الإعادة ، كما هو المفروض .
فالجواب : أنّ الإعادة وعدمها لا يعقل أن يكون محكوماً بحكم شرعيّ تعبّديّ حتّى يجب أن يرجع في حكمه إلى المجتهد ; لأنّ لزوم الإعادة وعدمها إنّما هو من الأحكام العقليّة ; فإنّ العقل بعد ما رأى صحّة العمل الواقع ، ومطابقته للمأمور به من جميع الجهات والخصوصيّات ، يحكم بعدم لزوم الإعادة ، كما أ نّه لو رأى عدم المطابقة يحكم بلزوم الإعادة ، فالحاكم باللزوم وعدمه إنّما هو العقل ، ولا مجال فيه للتقليد والرجوع إلى المجتهد .
ودعوى أنّ حديث «لا تعاد»(2) المعروف الوارد في الصلاة ، الدالّ على عدم لزوم الإعادة من ناحية الإخلال بغير الخمسة المستثناة فيه ، يدلّنا على أنّ المتصدّي لبيان حكم الإعادة نفياً وإثباتاً إنّما هو الشارع والتعبّد الشرعي ، فلا مجال لما ذكر من اختصاص الحاكم بالعقل .
مدفوعة بأنّ مرجع عدم لزوم الإعادة المذكور فيه إلى عدم مدخليّة غير تلك الخمسة في الصلاة المأمور بها في جميع الحالات ، كما أنّ مرجع اللزوم إلى مدخليّة الخمسة في الصلاة في تمام الحالات ، ولا محيص من حمل الحديث على ذلك ، وإلاّ
(1) التنقيحفي شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد : 200 ـ 201 .
(2) الفقيه : 1 / 181 ح857 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 312 ، كتاب الصلاة ، أبواب القبلة ب9 ح1 .
(الصفحة 268)
فواضح أنّ الإعادة ليست من المسائل التقليديّة التي كان الواجب فيها الرجوع إلى الفقيه .
وإن كان المراد أنّ الطريق إلى الأحكام الواقعيّة التي لا تتغيّر عمّا هي عليه بقيام الأمارة على خلافها منحصر بالفعل في فتوى المجتهد الثاني ، التي لا تختصّ ما تتضمّنه بوقت دون وقت ، فالجواب أنّ الطريق الفعلي وإن كان منحصراً بذلك ، إلاّ أنّ الطريق في حال وقوع العمل كان موجوداً ; وهو فتوى المجتهد الأوّل ، ومجرّد عدم تحقّق التقليد منه في ذلك الزمان ، وعدم الاستناد إلى فتواه فيه لا يوجب عدم الاتّصاف بالصحّة ، إلاّ أن يقال بأ نّه على فرض التقليد أيضاً يكون اللازم عليه رعاية فتوى المجتهد الثاني ، وقد تقدّم بطلانه في المسألة السادسة عشر المتقدّمة .
وبالجملة : فأيّ فرق في اتّصاف العمل بوقوعه صحيحاً وعدمه ، بين أن يكون معنوناً بعنوان التقليد ومستنداً إلى فتوى المجتهد ، وبين أن لا يكون ; فإنّ التقليد لايكون من شرائط صحّة العمل ، ووجوبه ـ أي وجوب التقليد ـ بأيّ نحو كان ـ مقدّمياً أو نفسيّاً أو طريقيّاً ـ لا يقتضي أن تكون المخالفة معه موجبة للبطلان ; لوضوح عدم كونه وجوباً شرطيّاً مرجعه إلى مدخليّة متعلّقه في صحّة العمل ، وما ذكرنا من كفاية المطابقة لفتوى المجتهد الأوّل في اتّصاف العمل بالصحّة لا يوجب أن تكون حجّية الفتوى واعتبارها من باب السببيّة ، بل على تقدير كونها من باب الطريقيّة ـ كما هو الحقّ ـ تكفي المطابقة لها ، بل هي الملاك في الصحّة وعدمها ، كما اختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) ، حيث قال :
إنّ الفتوى حجّة على العامّي ومنجّزة لتكاليفه من حين وجوب رجوعه إلى ذلك المفتي ، فتؤثّر في الوقائع المتجدّدة والأعمال المستقبلة . ووجوب القضاء وعدمه هنا وإن كان مربوطاً بالأعمال المستقبلة ، لكنّه فرع بطلان العمل وصحّته
(الصفحة 269)
المنوطين بنظر من كانت وظيفة العامّي الرجوع إليه والأخذ منه ، وهو أعلم عصره حال العمل دون هذا المفتي ، بل ربما لا وجود له في تلك الحال ، أو لم يكن بمجتهد ،
أو كان مفضولا بالإضافة إلى غيره(1) .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الملاك في الصحّة وعدمها ولزوم الإعادة وعدمه هي المطابقة لخصوص فتوى المجتهد ، الذي كان يجب الرجوع إليه حال العمل ، فتدبّر .
(1) بحوث في الاُصول ، الاجتهاد والتقليد : 188 .
(الصفحة 270)
[طرق ثبوت فتوى المجتهد]
مسألة21: كيفيّة أخذ المسائل من المجتهد على أنحاء ثلاثة: أحدها: السماع منه. الثاني : نقل العدلين أو عدل واحد عنه أو عن رسالته المأمونة من الغلط، بل الظاهر كفاية نقل شخص واحد إذا كان ثقة يُطمَأنّ بقوله. الثالث: الرجوع إلى رسالته إذا كانت مأمونة من الغلط 1.
1 ـ ذكر الماتن ـ دام ظلّه ـ أنّ العلم بفتوى المجتهد والاطّلاع على رأيه يحصل بأحد أُمور ثلاثة :
أحدها : أن يسمع منه شفاهاً ; سواء أفاد قوله العلم أم لا ، نظراً إلى حجّية ظاهر الكلام عند العقلاء من دون اختصاص بما إذا أفاد الظنّ الشخصي بالمراد ، أو بما إذا لم يكن هناك ظنّ شخصيّ بالخلاف ، أو بخصوص من قصد إفهامه ; لِما حقّق في محلّه(1) من أنّ ظاهر الكلام حجّة عقلائيّة مطلقاً مع تشخيص الصغرى وإحراز الظهور العرفي . هذا ، مضافاً إلى أ نّه من أوضح مصاديق الإنذار ، والجواب عن السؤال الواجب بمقتضى آية السؤال(2) ، وإلى دلالة الروايات الواردة في الإرجاع إلى أشخاص معيّنين(3) .
ثانيها : إخبار عدلين أو عدل واحد أو ثقة يُطمأنّ بقوله عنه ، أو عن رسالته المأمونة عن الغلط .
أقول : أمّا إخبار عدلين وقيام البيّنة فـممّا لا إشكال في حجّيته في الموضوعات
(1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 205 وبعدها .
(2) سورة الأنبياء : 21 / 7 .
(3) تقدّم ذكرها في ص82 ـ 88 .
(الصفحة 271)
الخارجيّة بأجمعها إلاّ ما قام الدليل على التخصيص فيه ; مثل الزنا ونحوه ،
وقد قدّمنا البحث عن حجّية البيّنة بما لا مزيد عليه(1) .
وأمّا إخبار عدل واحد أو ثقة واحد فالإكتفاء به مبنيّ على حجّية خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة أيضاً ، وقد تكلّمنا في هذه الجهة فيما سبق(2) ، وذكرنا أنّ إقامة الدليل عليها في غاية الإشكال ، وأنّ نفس اعتبار البيّنة وجعل الحجّية لها دليل على أ نّه لا يجوز الاكتفاء بالواحد مقام المتعدّد ، وبالوثاقة مقام العدالة .
نعم ، ربما يقال بأ نّه لا ينبغي التأمّل في حجيّة إخبار الثقة في محلّ الكلام وإن لم نقل باعتباره في الموضوعات الخارجيّة ; لأنّ الإخبار عن الفتوى إخبار عمّا هو من شؤون الأحكام الشرعيّة ; لأ نّه في الحقيقة إخبار عن قول الإمام(عليه السلام) مع الواسطة ، ولا فرق في حجّية خبر الثقة بين أن يتضمّن نقل قول المعصوم(عليه السلام) ابتداءً ، وبين أن يتضمّن نقل الفتوى التي هي إخبار عن قوله(عليه السلام) (3).
ولكنّه غير خفيّ أنّ الإخبار عن الفتوى ليس إخباراً عن الحكم وقول الإمام(عليه السلام)بوجه ; فإنّ الفتوى عبارة عن نظر المجتهد ورأيه ، ولا سيّما مع الإضافة إلى شخص خاصّ ومجتهد مخصوص ، والإخبار عن النظر والرأي لا يكون إخباراً عن قول الإمام(عليه السلام) أصلا ، بل هو إخبار عمّا أدّى إليه نظره ، فعلى تقدير عدم حجّية خبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة ـ كما هو المفروض ـ لا مجال لدعوى الاعتبار في خصوص المقام .
نعم ، يبقى الكلام في الفرق بين المقام ، وبين ثبوت الاجتهاد والأعلميّة ; حيث
(1 ، 2) في ص247 ـ 260 .
(3) التنقيح في شرح العروة الوثقى، الاجتهاد والتقليد: 315 ـ 316 .
(الصفحة 272)
إنّ ظاهر الماتن ـ دام ظلّه ـ هناك عدم ثبوت شيء منهما بشهادة عدل واحد ، فضلا عن الثقة غير العادل ، وصريحه هنا الثبوت بنقل العدل أو الثقة ، فيقع الكلام في
الفرق ; فإنّه إذا كان خبر العدل أو الثقة حجّة في الموضوعات الخارجيّة فَلِمَ لا يكون حجّة في باب الاجتهاد والأعلميّة ؟ وإذا لم يكن حجّة فيها فما الدليل على اعتباره في مفروض المسألة ؟
ودعوى أ نّه قد قيّد اعتبار خبر الثقة بما إذا كان يطمأنّ بقوله ، وقد مرّ(1) أنّ الاطمئنان هو العلم العادي الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم ويكون حجّة عقلائيّة ، كما أنّ العلم الحقيقي حجّة عقليّة .
مدفوعة ـ مضافاً إلى أ نّه ليس المراد بالاطمئنان في المقام هو الاطمئنان الشخصي ، بل الظاهر هو حصول الاطمئنان نوعاً ، وإلى أ نّه لو كان المراد هو الاطمئنان الشخصي أيضاً فليس المقصود هو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العقلاء معاملة العلم ـ بأ نّه حينئذ يبقى سؤال الفرق بحاله ، فإنّه لِمَ لَمْ يتعرّض لثبوت الاجتهاد والأعلميّة بمثل هذا الاطمئنان مع كون المقصود ثبوتهما به أيضاً ، فتدبر .
والظاهر أنّ محطّ النظر في الفرق بينهما أنّ خبر الواحد على تقدير كونه حجّة في الموضوعات الخارجيّة فإنّما يكون حجّة في خصوص المحسوسات منها ، وأمّا الأُمور الحدسيّة فهي خارجة عن دائرة الاعتبار والحجّية ، وحيث إنّ الاجتهاد والأعلميّة يكونان من الاُمور الحدسيّة ، فلا تكون شهادة العدل الواحد حجّة فيهما فضلا عن الثقة ، وهذا بخلاف نقل الفتوى والنظر ; فإنّه من الأُمور المحسوسة ; لأنّ
(1) في ص247 .
(الصفحة 273)
المفروض أنّ الناقل إنّما ينقل عن نفس المجتهد أو عن رسالته ، ولكنّك عرفت في
بحث حجّية البيّنة(1) أنّ الاجتهاد والأعلميّة وإن لم يكونا من الأُمور الحسيّة ، إلاّ أنّهما حيث يكونان من الأُمور الحدسيّة القريبة إلى الحسّ يعامل معهما عند العقلاء معاملة الأُمور المحسوسة ، كما يظهر بمراجعتهم ، وإلاّ لا تكون البيّنة فيهما أيضاً حجّة ، كما لا يخفى .
ثالثها : الوجدان في رسالته ، فإذا كانت الرسالة بخطّه أو ملحوظة له بتمامها فالدليل على حجّيتها هو الدليل على حجّية قوله ولفظه ، وكما يجري في لفظه أصالة عدم الخطأ والاشتباه المعوّل عليها عند العقلاء ، كذلك يجري في رسالته أيضاً في مورد اعتماد العقلاء عليها ، وهو ما إذا لم يكن هناك ظنّ شخصيّ بالخطأ والاشتباه ناشئ عن كثرته ، ولا يعتبر الظنّ الشخصي بعدم الخطأ ، كما ربّما يشعر به عبارة المتن ، فتدبّر .
وأمّا إذا لم تكن الرسالة بخطّه ولم تكن ملحوظة له بتمامها، فالدليل على حجّيته هو الدليل على حجّية خبر الثقة ، وحيث إنّك عرفت عدم حجّيته في الموضوعات الخارجيّة فلابدّ من قيام البيّنة وشهادة العدلين بكونها موافقة لآرائه ونظراته .
(1) في ص252 ـ 253 ، 256 ـ 257 .
(الصفحة 274)
[حكم صور تعارض الطريقين]
مسألة22: إذا اختلف ناقلان في نقل فتوى المجتهد فالأقوى تساقطهما مطلقاً; سواء تساويا في الوثاقة أم لا، فإذا لم يمكن الرجوع إلى المجتهد
أو رسالته يعمل بما وافق الاحتياط من الفتويين، أو يعمل بالاحتياط 1.
1 ـ قد عرفت في المسألة المتقدّمة طرق ثبوت فتوى المجتهد والاطّلاع عليها وكيفيّة أخذ المسائل منه ، والمقصود هنا بيان حكم صور تعارض الطريقين ،
وقد تعرّض الماتن ـ دام ظلّه ـ لفرض واحد منها ; وهو اختلاف الناقلين في نقل الفتوى ، والتفصيل : أنّ التعارض قد يتحقّق بين فردين من نوع واحد ، وقد يتحقّق بين نوعين من أنواع الطرق المتقّدمة .
الأوّل : كما إذا تعارضت البيّنتان أو الناقلان ـ بناءً على حجّية نقل الواحد التي قد عرفت المناقشة فيها(1) ـ أو تعارضت الرسالتان أو فردان من السماع ، كما إذا سمع منه الفتوى بالجواز مرّة ، وبالحرمة اُخرى ، وفي هذه الصورة إذا لم يكن التاريخ مختلفاً ـ على فرض إمكانه ـ أو كان ولكن علم بعدم العدول وعدم تبدّل الرأي له ، فاللاّزم الحكم بالتساقط وسقوط كلّ من الطريقين عن الحجّية على ما هو مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين وتنافي الدليلين . وأمّا مع اختلاف التاريخ ، وعدم العلم بالعدول ، واحتمال حصول تبدّل الرأي ، فمقتضى القاعدة حجّية الطريق المتأخّر ، ولا مجال لاستصحاب عدم العدول بعد ثبوت الأمارة ووجود الدليل ، كما هو ظاهر .
(1) في ص271 ـ 273 .
(الصفحة 275)
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الحكم في جميع موارد التعارض بين فردين من نوع واحد في غير الفرض الأخير هو التساقط وعدم اعتبار شيء من الطريقين .
الثاني : وهو ما إذا كان التعارض بين النوعين ، ففيه فروض :
منها : تعارض النقل مع السماع من المجتهد شفاهاً ، وقد حكم صاحب العروة(قدس سره) (1) فيه بتقدّم السماع ، والوجه فيه ـ بعد وضوح كون المفروض صورة
اتّحاد التاريخ ، أو الاختلاف مع العلم بعدم العدول ، وكون المفروض صورة عدم حصول العلم من السماع منه ، وإلاّ يكون تقدّمه من باب تقدّم القطعي على الظنّي ـ ما يقال : من أنّ النقل طريق إلى السماع ، فالعلم بالسماع يستوجب العلم بمخالفته للواقع .
ولكن هذا الوجه غير صحيح ; فإنّك عرفت أنّ المفروض صورة عدم حصول العلم من السماع ، فكون النقل طريقاً إليه لا يوجب تأخّره عنه وسقوطه عن الحجّية لدى المعارضة ، فالإنصاف أ نّه لابدّ إمّا أن يقال بعدم تقدّم السماع على النقل فيما هو المفروض ; لتحقّق المعارضة المقتضية للتساقط ، وإمّا أن يقال بأنّ الوجه هو تقدّم السماع على النقل عند العقلاء ، وانصراف دليل حجّية النقل عن صورة المعارضة للسماع ، فتدبّر .
ومنها : تعارض الرسالة مع السّماع ، والظاهر أنّ الرسالة إذا لم تكن بخطّه ، ولم تكن ملحوظة له بتمامها ، تكون بمنزلة النقل والإخبار عن المجتهد ، ويجري فيه ما يجري في تعارض النقل والسماع . وأمّا إذا كانت بخطّه ، أو كانت ملحوظة له بأجمعها ، فلا وجه لتقديم السماع عليها بعد جريان أصالة عدم الخطأ في كليهما ، بل
(1) العروة الوثقى : 1 / 16 مسألة 59 .
(الصفحة 276)
لابدّ إمّا من القول بالتساقط ، كما فيما إذا تعارض فردان من السماع على ما عرفت ، وإمّا من القول بتقديم الرسالة على السماع ، نظراً إلى جريان السيرة العقلائيّة على عدم إجراء أصالة عدم الخطأ في فرض السماع عند تعارضه مع الكتابة .
ولعلّ السرّ فيه : أنّ الاحتفاظ والعناية المعمولة في الكتابة بمقدار لا يبلغه الاحتفاظ المرعي في القول ، وذلك مستند إلى تصرّم القول وانعدامه بعد وجوده والكتابة باقية ، خصوصاً لو فرض تكثيرها بسبب الطبع ونحوه ، كما هو المعمول في هذه الأزمنة ، ومن هنا لا يبعد القول بتقدّم الرسالة الكذائيّة المأمونة من الغلط على القول والسماع .
ومنها : تعارض الرسالة مع نقل الغير ، وقد ظهر ممّا ذكرنا حكمه ; فإنّه إذا كانت
الرسالة بخطّه ، أو كانت ملحوظة له بتمامها تكون الرسالة متقدّمة ; لأنّها إذا كانت متقدّمه على السماع من نفسه لما ذكرنا من الوجه ، فتقدّمها على السماع من الغير بطريق أولى ، وإذا لم تكن الرسالة كذلك ، بل كانت مكتوبة للثقة الذي جمع فتاوي المجتهد فيها ، فلا يبعد أيضاً القول بتقدّم الرسالة لأجل أنّها أضبط ، والعناية المعمولة في الكتابة لا تكون مرعيّة في القول نوعاً .
ولكن قيّد صاحب العروة(قدس سره) هذا التقدّم بما إذا كانت الرسالة مأمونة من الغلط(1) ، وهل المراد بهذا القيد ما إذا كانت الرسالة مأمونة من الغلط ، زائدة على المقدار الذي يعتبر في جواز الاعتماد على الرسالة ، وإن ناقشنا في اعتباره ، نظراً إلى أنّ المعتبر عدم الظنّ الشخصي بالخطأ ، لا وجود الظنّ الشخصي بعدم الخطأ ، أو أنّ المراد منه وجود نفس ذلك القيد المعتبر في جواز الاعتماد على الرسالة؟ وعلى الأوّل
(1) العروة الوثقى : 1 / 16 مسألة 59 .
(الصفحة 277)
يكون مرجع هذا التقييد إلى وجود المرجّح الموجب لتقدّم الرسالة ، وعلى الثاني تكون الرسالة بنفسها متقدّمة على النقل .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أ نّه لا حاجة إلى وجود المرجّح ، بل الرسالة بنفسها متقدّمة على النقل إذا كانت واجدة لشرط الحجّية والاعتبار ; وهو الأمن من الغلط بالمعنى الذي ذكرنا ، لا ما يشعر به ظاهره ، فتدبّر جيّداً .
(الصفحة 278)
[وجوب تعلّم المسائل التي هي محلّ الابتلاء غالباً]
مسألة23: يجب تعلّم مسائل الشكّ والسهو وغيرها ممّا هو محلّ الابتلاء غالباً، إلاّ إذا اطمأنّ من نفسه بعدم الابتلاء بها، كما يجب تعلّم أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ومقدّماتها. نعم، لو علم إجمالا أنّ عمله واجد لجميع الأجزاء والشرائط وفاقد للموانع ، صحّ وإن لم يعلم تفصيلا 1 .
1 ـ الظاهر أنّ المراد من الوجوب هو الوجوب الشرطيّ الذي مرجعه إلى أنّ تعلّم مسائل الشكّ والسهو ونحوها بالمقدار الذي هو محلّ الابتلاء غالباً ، ولا يطمئنّ من نفسه بعدم الابتلاء به ، دخيل في صحّة العبادة ووقوعها موافقة للأمر المتعلّق بها ، وذلك بقرينة الحكم بالصحّة في مورد العلم الإجمالي بكون عمله واجداً لجميع الأجزاء والشرائط ; لدلالته على كون محطّ البحث هي الصحّة والبطلان ، والأُمور الدخيلة في الأوّل ، أو الموجبة للثاني كما لا يخفى ، مع أ نّه لا وجه للوجوب الشرطي .
ضرورة أ نّه لو لم يتعلّم مسائلهما أصلا ، واتّفق عدم الابتلاء بها ، لا مجال للحكم ببطلان عمله ، كما أ نّه إذا اتّفق الابتلاء ولكنّه عمل على طبق حكمه من دون أن يعلم به ـ كما لو فرض أ نّه بنى على الأكثر في الشكّ بين الثلاث والأربع ، ثمّ انكشف أ نّه عمل على طبق وظيفته ـ لا يكون العمل باطلا ، وكذلك إذا اتّفق الابتلاء ولكنّه رفع اليد عن صلاته وأتى بصلاة اُخرى خالية عن الشكّ والسهو يكون عمله صحيحاً ، فالوجوب الشرطي ممّا لا وجه له ، من دون فرق بين ما إذا تمكّن من إحراز الامتثال بالاحتياط ، وما إذا لم يتمكّن .
(الصفحة 279)
نعم ، مع عدم التمكّن من إحراز الامتثال به ربما يقال كما قيل بأ نّه يجب عقلا
تعلّم مسائل الشكّ والسهو مع علمه بالابتلاء أو احتماله ، بناءً على ما اختاره المشهور من حرمة قطع الصلاة وإبطالها(1) ، نظراً إلى أنّ إحراز الامتثال حينئذ يتوقّف على تعلّم المسائل ; لعدم تمكّنه من قطع الصلاة وإبطالها واستئنافها ، وعدم جواز البناء على أحد طرفي الشكّ وإتمامها مع الإعادة ; لاحتمال أن يكون المتعيّن
في حقّه هو البناء على الطرف الآخر ، وقد قطعها بالبناء على عكس ذلك ، وهذا لاحتمال أن يكون ما أتى به ناقصاً عن الواجب أو زائداً عليه ، ويكون مع الإتيان به قد نقص عن صلاته أو زاد فيها متعمّداً وهو موجب لبطلانها ، فبناءً على مسلك المشهور لا سبيل إلى إحراز امتثال الأمر بالصلاة سوى التعلّم ،فيصير حينئذ
واجباً عقليّاً (2).
ولكنّه يرد عليه : أنّ المراد من عدم التمكّن من قطع الصلاة واستئنافها إن كان هو عدم التمكّن عقلا لضيق الوقت وشبهه ، فبناء ذلك على مسلك المشهور من حرمة قطع الصلاة وإبطالها ، غير صحيح ; إذ لا فرق مع عدم التمكّن كذلك بين القول بحرمة قطع الصلاة والقول بعدمها . وإن كان المراد به هو عدم التمكّن شرعاً بلحاظ حرمة قطع الصلاة على مسلك المشهور ، فيرد عليه : أنّ حرمة القطع لا تقتضي توقّف إحراز الامتثال على التعلّم حتى يجب عقلا ; فإنّه يمكن إحرازه بدون التعلّم ، وإن كان ملازماً لارتكاب محرّم وهو قطع الصلاة ، فالجمع بين الأمرين اللّذين هما حرمة قطع الصلاة وإبطالها ، وكون التعلّم مقدّمة إحرازيّة للامتثال ممّا لم يعلم له
(1) مفتاح الكرامة : 3 / 45 ، جواهر الكلام : 11 / 123 ، كتاب الصلاة من مصباح الفقيه : 427 ، كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 308 .
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الاجتهاد والتقليد: 298 ـ 299 و 375 ـ 376 .
(الصفحة 280)
وجه ، هذا كلّه مع العلم بالابتلاء .
وأمّا مع الشكّ فيها فربّما يقال بأ نّه لامانع من جريان استصحاب عدم الابتلاء في نفسه; لأ نّه كما يجري في الأُمور الحاليّة يجري في الأُمور الاستقباليّة أيضاً ، والمجعول في باب الاستصحاب هو الطريقيّة والوسطية في الإحراز ; أعني جعل ما ليس بعلم علماً تعبّداً ، كما هو الحال في جميع الطرق والأمارات ، إلاّ أنّ المانع من جريان الاستصحاب هي الأدلّة القائمة على وجوب التفقّه والتعلّم ; لدلالتها على وجوب التعلّم وجوباً طريقيّاً في كلّ مورد استند ترك الواجب في ظرفه إلى ترك التعلّم.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب مع عدم كون المستصحب مجعولا شرعيّاً ، ولا مترتّباً عليه أثر شرعي ، ممنوع ـ : أ نّه بناءً على ما أفاده
من أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو الطريقيّة والوسطية في الإحراز ، وجعل
ما ليس بعلم علماً تعبّداً لا مجال لدلالة تلك الأدلّة على وجوب التفقّه والتعلّم
في المقام ; لوضوح أنّ موردها ما إذا احتمل ترك الواجب مستنداً إلى ترك
التعلّم ، ومع وجود العلم التعبّدي بعدم الابتلاء لا يحتمل ذلك حتّى تجري تلك
الأدلّة .
وبعبارة اُخرى : كما أ نّه مع العلم الوجداني بعدم الابتلاء لا دلالة لتلك
الأدلّة على وجوب تعلّم مسائل الشكّ والسهوبالوجوب الطريقي، كذلك مع العلم التعبّدي الذي هو بمنزلة العلم الوجداني ; فإنّه إذا كان عدم الابتلاء معلوماً
في محيط الشرع ، فلاوجه حينئذ للحكم بلزوم التعلّم كماهو ظاهر. نعم، مع عدم جريان الاستصحاب كما هو المختار لا بأس بالرجوع إلى تلك الأدلّة والحكم بوجوب التعلّم .
|