الصفحة 141
المتنجّسة قابلاً للتطهير لا يمكن رفع اليد عمّا هو المرتكز في أذهان العرف والعقلاء في باب التطهير من أنّ تطهير كلّ شيء إنّما هو بوصول الماء إلى أجزائه المتنجّسة، ويؤيّده انّه لو ورد مثلاً : انّ المتنجّس بالدم يطهر بإيصال الماء إليه حتى يزول لا يمكن أن يقال: إنّ الملاك في ارتفاع النجاسة هو زوال الدم بأي وجه اتفق بالماء أو بغيره، بل للماء خصوصية في باب التطهير.
وبالجملة: معنى الرواية ـ على ما عرفته سابقاً ـ انّ تطهير البئر إنّما يحصل بخروج الماء الجديد العاصم من المادّة وامتزاجه بالمياه الموجودة في البئر إذ الظاهر انّ التعليل الوارد فيها يرجع إلى القضية المطوية في الذيل وهي عروض الطهارة وتجدّدها بعد ذهاب الريح وطيب الطعم، ومعه لا يكون الوجه مجرّد زوال التغيّر بل زواله بنحو خاص وهو امتزاج المياه الخارجة من المادّة مع المياه الموجودة في البئر وقد تقدّم تفصيله فلا نطيل.
ولو سلم انّ ماء البئر تزول نجاسته بمجرّد زوال التغيّر وارتفاعه بأي وجه اتفق فما الدليل على أنّ حكم الماء الكثير غير البئر أيضاً يكون كذلك وهل تسريته ترجع إلى غير القياس الصرف أم لا ترجع إلاّ إليه كما هو ظاهر.
وقد يستدلّ في المقام بقوله(عليه السلام) : «إذا بلغ الماء كراً لم يحتمل خبثاً» نظراً إلى أنّ ظاهره انّ البلوغ إلى ذلك الحدّ مانع عن حمله للخبث مطلقاً، وقد ثبت تقييده بما إذا تغيّر بأحد أوصاف الناسة، وفي غير هذا المورد لم يثبت تقييده فيجب الاقتصار على القدر المتيقّن وهو ما إذا كان التغيّر باقياً غير زائل، والمرجع في غيره الذي منه المقام هو الإطلاق.
وفيه ما عرفت في الجواب عن هذه الرواية في مسألة إتمام القليل المتنجّس كراً من عدم ثبوت هذه الرواية في شيء من كتب الأحاديث للمخالف والمؤالف كما
الصفحة 142
اعترف به المحقّق في المعتبر وإن ادّعى ابن إدريس إجماع الفريقين على نقلها وصحّتها، وعلى فرض الثبوت والاعتبار قد عرفت انّ مفادها لا يكون زائداً على مفاد الأخبار المعروفة الدالّة على اعتصام الكر ولا فرق بين مدلوليهما أصلاً خلافاً لبعض الأعلام كما مرّ في تلك المسألة.
ثمّ إنّه قد يستدلّ لذلك بقاعدة الطهارة بعد الاعتراض على استصحاب النجاسة الوارد على أصالة الطهارة ـ كما حقّق في محلّه ـ .
ومحصل الاعتراض انّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن تكون القضية المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة من حيث الموضوع والمحمول، وهنا ليس كذلك فإنّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو الماء الموصوف بالتغيّر، فاسراء حكمه إلى الماء الذي زال تغيّره اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر مغاير معه.
وأجاب عنه صاحب المصباح(قدس سره) بأنّ المعروض للنجاسة هو نفس الماء والتغيّر علّة لعروضها، والشكّ إنّما نشأ من احتمال انّ عروض النجاسة كما يكون مسبّباً عن حدوث التغيّر، كذلك بقائها يكون مسبّباً عن بقائه بحيث تدور مداره، أو أنّ التغيّر ليس علّة إلاّ لحدوث النجاسة، وبقائها مستند إلى اقتضائها الذاتي، فلا يجوز في مثل ا لمقام نقض اليقين بالشكّ ورفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء الموجود بمجرّد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثِّراً في زوالها.
ولكن الظاهر أنّه لو قلنا بأنّ الموضوع في الأدلّة الواردة في الحكم بالنجاسة هو الماء الموصوف بالتغيّر بأن يكون التغيّر مأخوذاً في الموضوع فلا مانع أيضاً من جريان الاستصحاب وذلك لأنّ مجرى الاستصحاب قد يكون هو العنوان المأخوذ موضوعاً في لسان الدليل، وقد يكون هو المصداق المنطبق عليه ذلك العنوان في الخارج.
الصفحة 143
ففي الأوّل لا إشكال في أنّ جريان الاستصحاب مبني على بقاء الموضوع بعنوانه، فإذا شكّ ـ مثلاً ـ في أنّ العالم الذي كان واجب الإكرام سابقاً، هل يجب إكرامه في الزمان اللاّحق أم لا، فاستصحاب بقاء الوجوب إنّما يجدي بالإضافة إلى خصوص العالم لا غير.
وبعبارة اُخرى: الوجوب المستصحب إنّما هو وجوب إكرام العالم لا وجوب غير الإكرام ولا وجوب إكرام غير العالم، فالموضوع في هذا الاستصحاب لابدّ وأن يكون باقياً بعنوانه المأخوذ في لسان الدليل كما هو غير خفي.
وفي الثاني يجري الاستصحاب ولو لم يكن منطبقاً عليه عنوان الموضوع في زمان الشكّ فضلاً عمّا إذا كان الانطباق مشكوكاً، فإذا شكّ ـ مثلاً ـ في أنّ زيداً الذي كان عالماً سابقاً وواجباً إكرامه لأجل كونه عالماً هل يكون واجب الإكرام بعد زوال علمه لاحتمال كون العالمية واسطة في الحدوث أم لا، فلا مانع من جريان استصحاب بقاء وجوب إكرامه لأنّ المفروض انّ هذا الشخص الذي كان واجب الإكرام في السابق باق في زمان الشكّ من غير تبدّل ولا تغيّر وإن كان في هذا الزمان لا ينطبق عليه عنوان العالم المأخوذ في الدليل ولأجله عرض الشكّ في بقاء وجوب الإكرام، لأنّا لا نريد إجراء الدليل وإسرائه إلى زمان الشكّ حتّى يقال: إنّ شموله مبني على صدق موضوع والمفروض عدمه. كيف ولو شمله الدليل لا يبقى مجال للاستصحاب أصلاً ـ كما هو المحقّق في الاُصول ـ بل المراد انّ هذا الفرد الخارجي الذي كان منطبقاً عليه عنوان الموضوع سابقاً باق في زمان الشكّ من دون تبدّل فإبقاء الحكم السابق عليه ليس من قبيل إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر أصلاً.
ومن هنا يظهر الجواب عن الشبهة التي أوقعها بعض الأعاظم(قدس سره) وهي أنّه لا
الصفحة 144
إشكال بينهم في أنّ اللاّزم، الرجوع إلى العرف في مقام بيان المراد من الموضوعات الواردة في الأدلّة الشرعية، كما أنّه لا إشكال أيضاً في أنّ بقاء الموضوع المعتبر في جريا الاستصحاب إنّما هو البقاء بنظر العرف.
فحينئذ يرد عليهم انّه لو كان الموضوع العرفي باقياً لا مجال لجريان الاستصحاب لأنّ المفروض بقائه فيشمله الدليل الاجتهادي، ولو لم يكن الموضوع باقياً فلا يجري الاستصحاب أيضاً لعدم اتحاد القضيتين ـ حينئذ ـ كما هو المفروض، فعلى كلا التقديرين لا موقع للاستصحاب في البين.
والجواب انّه خلط بين موضوع الاستصحاب وموضوع الأدلّة فإنّه وإن كان المرجع في كليهما هو العرف إلاّ انّه قد يكون موضوع الاستصحاب بنظره متحقّقاً وباقياً دون موضوع الدليل كما يظهر بالنظر في المثال الذي ذكرناه.
وفيما نحن فيه نقول: إنّه وإن كان الموضوع في لسان الدليل بحسب ما يستفيده العرف منه هو الماء المتغيّر، وبعد زوال التغيّر لا يكون موضوع هذا الحكم باقياً قطعاً، ولذا لا يجوز عندهم التمسّك بالدليل واستفادة الحكم منه إلاّ انّه حيث وصل ذلك الحكم إلى مرتبة الخارج وانطبق على بعض الأفراد فلا يشكّ العرف في بقاء ذلك الفرد بحاله وإن زال عنه وصف التغيّر فيتمسّك بدليل لا تنقض ويستفيد الحكم من ذلك الدليل والتحقيق أكثر من ذلك موكول إلى بحث الاستصحاب من الاُصول.
الثالث: إذا حصل التغيّر لبعض أجزاء الكر ولم يكن الباقي كراً فالظاهر نجاسة الجميع غاية الأمر انّ تنجّس المقدار المتغيّر إنّما حصل لأجل التغيّر وتنجّس الباقي الذي يكون دون الكر إنّما يكون مستنداً إلى الملاقاة مع الماء المتنجّس لأنّ المفروض كونه قليلاً منفعلاً بمجرّد الملاقاة ولا يحصل الطهارة للمجموع إلاّ إذا زال التغيّر عن
الصفحة 145
البعض بالامتزاج بالماء المعتصم وامتزج المقدار الباقي به أيضاً لما عرفت من أنّ مجرّد زوال التغيّر من غير طريق الامتزاج بالماء المعتصم غير كاف كما أنّ مجرّد الاتصال في الماء القليل المتنجّس لا يكفي أيضاً بل لابدّ من تحقّق الامتزاج.
الصفحة 146
مسألة 14 ـ للكر تقديران: أحدهما: بحسب الوزن وهو ألف ومئتا رطل عراقي، وهو بحسب حقة كربلاء والنجف المشرّفتين ـ التي هي عبارة عن تسعمائة وثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلث مثقال ـ خمس وثمانون حقة وربع ونصف ربع بقالي ومثقالان ونصف مثقال صيرفي، وبحسب حقة اسلامبول ـ وهي مائتان وثمانون مثقالاً ـ مائتا حقّة واثنتان وتسعون حقة ونصف حقة، وبحسب المنّ الشاهي ـ وهو ألف ومئتان وثمانون مثقالاً ـ يصير أربعة وستّين منّاً إلاّ عشرين مثقالاً، وبحسب المنّ التبريزي يصير مائة وثمانية وعشرين منّاً إلاّ عشرين مثقالاً وبحسب منّ البمبئي ـ وهو أربعون سيراً وكلّ سير سبعون مثقالاً ـ يصير تسعة وعشرين منّاً وربع منّ، وبحسب الكيلو المتعارف 906 و383.
وثانيهما: بحسب المساحة وهو ما بلغ ثلاثة وأربعين شبراً إلاّ ثمن شبر على الأحوط بل لا يخلو عن قوّة1.
1 ـ أقول: امّا تقديره بالوزن فقد وردت فيه روايتان:
إحداهما: مرسلة ابن أبي عمير ـ التي تلقّاها الأصحاب بالقبول ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: الكر من الماء الذي لا ينجسه شيء ألف ومأتا رطل.
ثانيتهما: صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال: والكر ستمائة رطل.
وهما بظاهرهما متنافيان، وعن السيّد المرتضى، والصدوق في الفقيه تحديد الكر بألف وثمانمائة رطل بالعراقي بحمل «الرطل» في المرسلة على الرطل المدني الذي يوازي كلّ رطل منه واحداً ونصفاً من الرطل العراقي فيكون الألف ومأتا رطل بالرطل المدني مساوياً للألف وثمانمائة بالرطل العراقي.
وربّما يناقش في سند المرسلة نظراً إلى أنّ المراسيل لا يجوز الاعتماد عليها مطلقاً
الصفحة 147
سواء كان مرسلها ابن أبي عمير أم غيره لا لأجل أن توثيقه بنقل الرواية عن أحد يقصر عن توثيق أرباب الرجال كالكشي والنجاشي، بل لأجل العلم الخارجي بأنّه قد روى عن غير الثقة أيضاً ولو من باب الاشتباه والخطأ في الاعتقاد وهذا ممّا يعلم به جزماً وإذاً يحتمل أن يكون البعض في قوله في سند الرواية: «عن بعض أصحابنا» هو البعض غير الموثق الذي روى عنه ابن أبي عمير في موضع آخر مسنداً، ومع الشبهة في المصداق لا يبقى مجال للاعتماد على مراسيله.
وأنت خبير بأنّ العلم بأنّه قد يروي عن غير الثقة لا يوجب عدم الاعتماد بروايته فيما لم يتحقّق فيه هذا العلم ضرورة انّا نعلم بأنّ توثيقات أرباب الرجال لا تكون مطابقة للواقع في جميع الموارد، بل قد يكون التوثيق من باب الاشتباه والخطأ في الاعتقاد فهذا العلم لا يوجب رفع اليد عن الرواية خصوصاً لو كان العلم مقصوراً على دائرة المسانيد. وبالجملة فمع الاعتراف بأنّ توثيقه لا يقصر عن توثيقهم وبأنّه لا يرسل في مراسيله إلاّ عن الثقة باعتقاده لا مجال لرفع اليد عنها بمجرّد العلم بأنّه قد وقع منه الخطأ في بعض الموارد كما هو ظاهر، فالإشكال من حيث السند ممّا لا مجال له أصلاً.
وتحقيق الحق في بيان رفع التنافي بين الروايتين انّه لا إشكال في أنّ لكل من مكّة والمدينة والعراق رطلاً مخصوصاً، كما أنّه لا شبهة في أنّ الرطل المكي ضعف الرطل العراقي، كما أنّ الرطل المدني ثلثا رطل المكي وزائداً على الرطل العراقي بالنصف، وـ حينئذ ـ فالجمع بين الروايتين بحمل المرسلة على الرطل العراقي والصحيحة على الرطل المكي ـ كما هو المشهور ـ متوقّف على كون الرطل العراقي والمكي عياراً متعارفاً لأهل المدينة التي ورد أكثر الروايات فيها، وإثبات هذا المعنى لا يحتاج إلى تكلّف بعد وضوح انّ المدينة كانت مورداً لاختلاف الناس والمسلمين خصوصاً
الصفحة 148
من كان منهم قائلاً بإمامة الصادقين(عليهما السلام) ـ الذين ورد أكثر الروايات الفقهية عنهما ـ ففي كلّ سنة كان يسافر جمع كثير من العراق لاداء فريضة الحجّ والتشرّف بزيارة بيت الله الحرام، ولا محالة كانوا يدخلون المدينة ويستأنسون مع أهلها ولأجله صار رطلهم شائعاً فيها أيضاً، وهكذا أهل مكّة مضافاً إلى قلّة البعد والفصل بينهما، الموجبة لقرب ما هو شائع في إحداهما بما هو شائع في الاُخرى.
وبالجملة: فلا ينبغي الارتياب في أنّ الرطل العراقي وكذا المكّي كانا شائعين في المدينة المنوّرة بل ربّما يستفاد من حديث الكلبي النسابة. انّ إطلاق الرطل كان منصرفاً إلى الرطل العراقي حيث إنّه بعد بيان الإمام(عليه السلام) مقدار الرطل في مورد الرواية سأل عنه وقال: بأيّ الأرطال؟ قال: بأرطال مكيال العراقي، فإنّ ظاهره اعتماد الإمام(عليه السلام) على الإطلاق مع كون مراده واقعاً هو الرطل العراقي، وليس ذلك إلاّ لشيوعه في المدينة كشيوع الرطل المدني بل أولى كما لا يخفى، ويؤيّد حمل الصحيحة على الرطل المكّي ما ذكره بعضهم من أنّ محمد بن مسلم ـ راوي الصحيحة ـ كان من أهل الطائف والإمام(عليه السلام) تكلّم على طبق عرفه واصطلاحه، وإن كان ربّما يناقش في ذلك بأنّه لا عبرة بعرف السامع في المحاورات بل المتكلّم إنّما يلقي كلامه بلغته وحسب اصطلاحه ولاسيما إذا لم يكن مسبوقاً بالسؤال.
ولو قطعنا النظر عمّا ذكر وقلنا بأنّ شيوع الرطلين في المدينة لا يوجب الحمل عليهما وعدم الحمل على الرطل المدني بوجه بل لفظ «الرطل» مجمل مردّد بين احتمالات ثلاثة لا مزية لأحدها على الآخر وليس الجمع المذكور جمعاً عرفياً عقلائياً موجباً للخروج عن عنوان المتعارضين والمتخالفين فهل يمكن تأييده بطريق سلكه بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ أم لا؟
قال ما ملخّصه: إنّ لكلّ من الروايتين دلالتين إيجابية وسلبية والإجمال الثابت
الصفحة 149
فيه إنّما هو بالإضافة إلى إحدى الدلالتين، وامّا بالإضافة إلى الاُخرى فهي صريحة وصراحة كلّ منهما ترفع الإجمال عن الاُخرى.
فدلالة الصحيحة على العقد الإيجابي ـ وهو كون الكر ستمائة رطل ـ مجملة لعدم ظهور المراد بالرطل فيها، وعلى العقد السلبي ـ وهو عدم كون الكر زائداً على ذلك المقدار ـ صريحة لصراحتها في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكي.
والمرسلة دلالتها على العقد الإيجابي أيضاً مجملة، وعلى العقد السلبي وهو عدم كون الكر أقلّ من ذلك المقدار ولو بأقلّ محتملاته الذي هو الرطل العراقي صريحة، وحيث إنّ الصحيحة صريحة في عقدها السلبي تكون مبيّنة لإجمال المرسلة في عقدها الإيجابي وتدلّ على أنّ الرطل فيها ليس بمعنى المدني أو المكي وإلاّ لزاد الكر عن ستمائة رطل، كما أنّ المرسلة لمّا كانت صريحة في عدم كون الكر أقلّ من المقدار المذكور فيها كانت مبيّنة لإجمال الصحيحة في عقدها الإيجابي وبياناً على أنّ المراد بالرطل فيها خصوص الأرطال المكّية وإلاّ لنقص عن المقدار المذكور فيها وهذا من الوضوح بمكان وجمع عرفي مقدم على الطرح بالضرورة.
ويرد عليه انّ الجمع بهذا الطريق ليس جمعاً عرفياً عقلائياً فإنّ معنى الجمع العرفي أن لا يتحيّر العرف بعد ملاحظة الدليلين أو أزيد ولا يرى معارضة في البين وفي المقام ليس كذلك فإنّ التحديد بالأكثر والتحديد بالأقلّ متنافيان وإن كان الرطل المأخوذ فيهما مجملاً كما هو غير خفي.
مع عدم صحّته في نفسه فإنّه إذا كانت دلالة الصحيحة على العقد الإيجابي مجملة باعتبار عدم ظهور المراد من الرطل فيه فكيف تعقل أن تكون صريحة في عقدها السلبي مع ثبوت اللفظ المجمل فيه أيضاً وهل يكون هذا اللفظ في العقد السلبي
الصفحة 150
خارجاً عن الإجمال مع أنّ دعوى الصراحة في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكّي إن كانت مستندة إلى نفس الصحيحة فلابدّ وأن يكون منشأها الوقوع في مقام التحديد لأنّ العدد لا مفهوم له ومن المعلوم انّ الوقوع في مقام التحديد غايته الظهور في عدم الزيادة ولا وجه لادّعاء الصراحة وإن كانت مستندة إلى ملاحظة المرسلة وفتوى الأصحاب فيرد عليها ـ مضافاً إلى احتمال أن يكون الرطل فيها هو الرطل المكّي وقد عرفت فتوى بعض الأصحاب بأنّ الكرّ ألف وثمانمائة رطلاً بالرطل العراقي ـ انّه لابدّ في مقام ملاحظة دلالة الرواية من النظر إلى نفسها من دون لحاظ رواية اُخرى أو فتوى الأصحاب أصلاً فدعوى صراحة الصحيحة فيما أفاده ممنوعة جدّاً ومنه يظهر النظر فيما أفاده في المرسلة من ثبوت الدلالتين ووجود دلالة صريحة في البين ترفع الإجمال عن الصحيحة.
فالإنصاف انّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا لابدّ من حمل الروايتين على الرطل العراقي بملاحظة رواية الكلبي النسّابة المتقدّمة الظاهرة في أنّ الإطلاق يحمل على العراقي وبعده تتحقّق المعارضة والترجيح مع المرسلة لموافقته للشهرة الفتوائية بين الأصحاب التي هي أوّل المرجّحات في باب تعارض الروايتين وبالنتيجة يحكم بأنّ مقدار الكر بالوزن ألف ومأتا رطل بالرطل العراقي كما هو ظاهر هذا كلّه في التقدير بالوزن.
وامّا تقديره بحسب المساحة والاشبار فقد اختلفت فيه الأقوال ومقتضى النصوص متفاوت جدّاً بل كلّ نصّ يدلّ على غير ما يدلّ عليه الآخر ـ كما سيجيء نقلها ـ والمشهور بينهم بل ربّما يحكي دعوى الإجماع عليه انّ الكر هو ما كان كلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً فيكون مجموع المساحة اثنين
الصفحة 151
وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر.
وقيل: ما بلغ مكعبه إلى مائة شبر وهو المنقول عن ابن الجنيد. وقيل: هو ما كان كلّ واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار فيكون المجموع سبعة وعشرين شبراً وهذا هو الذي نسب إلى القمّيين واختاره جماعة من المحقّقين كالعلاّمة والشهيد وثاني المحقّقين، وذهب المحقّق وصاحب المدارك(قدس سرهما) إلى أنّه ما بلغ مكعبه ستّة وثلاثين شبراً، وعن قطب الراوندي انّه ما بلغ أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير، وقيل: أو احتمل أن يكون ما بلغ مكعبه إلى ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان ونصف ثمن.
والمهمّ في المقام نقل الروايات الواردة فيه وبيان مدلولها ووجه الجمع بينهما فنقول:
منها: صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر وسعة (سعته خ ل).
والظاهر انّ المراد بالسعة هي كلّ واحد من الطول والعرض، والدليل عليه ـ مضافاً إلى أنّ المفهوم منها عند العرف هو هذا المعنى ـ ذكرها في مقابل العمق فقط، وكسره بناء عليه يبلغ إلى ست وثلاثين شبراً لأنّ الذراع عبارة عن مقدار شبرين.
وقد استظهر بعض الأعلام من هذه الصحيحة مذهب القمّيين الذي اختاره أيضاً نظراً إلى أنّه ليس المراد بالسعة الوارد فيها هو الطول والعرض لأنّ الظاهر انّ مفروض كلامه(عليه السلام) هو المدور لأنّه فرض أن سعته ذراع وشبر مطلقاً أي من جميع الجوانب والأطراف وهذا لا يتصوّر إلاّ في الدائرة لأنّها التي تكون نسبة أحد أطرافها إلى الآخر بمقدار معيّن مطلقاً لا تزيد عنه ولا تنقص وهذا بخلاف سائر الأشكال من المربع والمستطيل وغيرهما على أنّ مقتضى طبع الماء أيضاً ذلك، وإنّما
الصفحة 152
يتشكّل بسائر الأشكال بقسر قاسر ثمّ أفاد في ذيل كلامه انّ تحصيل المساحة على هذه الكيفية ينتج سبعة وعشرين شبراً بلا زيادة ولا نقصان إلاّ في مقدار يسير وهو لا محيص عن المسامحة فيه لأنّ النسبة بين القطر والمحيط ممّا لم تظهر حقيقتها لمهرة الفنّ والهندسة فكيف يعرفها العوام إلاّ بهذا الوجه المسامحي التقريبي الذي يكون بناء الحكم عليه بعد جعل المعرف مثل الشبر الذي يكون في المتوسطين أيضاً مختلفاً في الجملة.
وأنت خبير بأنّ الحمل على الدائرة خلاف الظاهر لأنّه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف خصوصاً مع ملاحظة ذكر العمق في كثير من الروايات الواردة في المقام في مقابل الطول والعرض كما سيظهر ومع ملاحظة انّ مساحة الماء إنّما تكون بتبع مساحة الظرف الواقع فيه، غاية الأمر بمقداره وكون مقتضى طبع الماء الاستدارة لا يؤيّد ذلك بعد كون طبيعة كلّ جسم مقتضية للاستدارة من دون اختصاص ذلك بالماء فلابدّ من ملاحظة الظرف مع أنّ سعة الدائرة لا يكون من جميع الجوانب متساوية بل في كلّ جانب لوحظ مع ما هو مقابله من الجانب الآخر وإلاّ فالنسبة بين بعض الأقواس مع البعض الآخر لا يكون كذلك.
وبالجملة لا وجه لدعوى ظهور الرواية في الدائرة وعلى تقديره فالنتيجة إنّما هي ثمانية وعشرون شبراً وربع شبر تقريباً لأنّ حاصل ضرب مساحة الدائرة المحقّقة من ضرب الشعاع في نفسه والحاصل في عدد 14,3 في العمق يكون زائداً على السبعة والعشرين بشبر وربع شبر وهذا المقدار ممّا لا تنبغي المسامحة فيه بوجه كما هو ظاهر فالرواية على هذا التقدير لا تكون مفتى بها لأحد من الأصحاب.
ومنها: المرسلة التي ذكرها الصدوق في المجالس قال: روى انّ الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولاً في ثلاثة أشبار عرضاً في ثلاثة أشبار عمقاً. وكسره يبلغ سبعاً
الصفحة 153
وعشرين شبراً.
ومنها: المرسلة المذكورة في كتاب «المقنع» قال: روى انّ الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر. وكسره يبلغ ـ باعتبار ـ إلى خمس وعشرين شبراً، وـ باعتبار آخر ـ خمساً وعشرين شبراً بعد المائة، و ـ باعتبار ثالث ـ ثمانية وتسعون شبراً وثمن شبر تقريباً.
ومنها: رواية إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شيء، فقال: كر، قلت: وما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.
وقد ادّعى بعض الأعلام صراحتها في الدلالة على مدّعاه، لأنّها وإن لم تشتمل على ذكر شيء من الطول والعرض والعمق إلاّ انّ السائل كغيره يعلم انّ الماء من الأجسام وكلّ جسم مكعّب يشتمل على أبعاد ثلاثة لا محالة ولا معنى لكونه ذا بعدين فإذا قيل: ثلاثة في ثلاثة مع عدم ذكر البُعد الثالث علم انّه أيضاً ثلاثة، وعليه إذا ضربنا الثلاثة في الثلاثة ثمّ الحاصل في الثلاثة يبلغ سبعة وعشرين شبراً.
وليت شعري انّه ما الفرق بين هذه الرواية وصحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة حيث حمل الاُولى على الدائرة وهذه على غيرها وهل مجرّد ذكر العمق فيها قرينة عليه أو انّ ذكر كلمة «السعة» أوجب الحمل على الدائرة ففي هذه الرواية وإن لم تكن هذه الكلمة مذكورة إلاّ أنّ الاقتصار على ذكر البُعدين لِمَ لا يكون قرينة على كون المراد هي الدائرة مع كون الأصل في الأجسام سيّما الماء على قوله هي الاستدارة ولعمري انّه تحكّم صرف كما أنّ ذكر العمق في الاُولى لا يكاد يصلح قرينة على الحمل المذكور بعد وضوح كون المراد من أحد البُعدين في هذه الرواية هو العمق لا محالة.
نعم في الرواية أمران آخران:
الصفحة 154
أحدهما: انّ جعل هذه الرواية رواية مستقلّة ثانية بعد كون الراوي والسائل في كلتيهما هو إسماعيل بن جابر والمسؤول أيضاً هو أبو عبدالله الصادق(عليه السلام) ومورد السؤال هو الماء الذي لا ينجّسه شيء مشكل جدّاً; لأنّه من البعيد السؤال عن شيء واحد من شخص واحد أزيد من مرّة واحدة، وعليه فلا يبعد أن يقال بكونهما رواية واحدة، غاية الأمر انّ الجواب الصادر من الإمام(عليه السلام) لا يعلم انّه هل كان مطابقاً للاُولى أم الثانية.
ثانيهما: عدم خلوّ سند الرواية من ضعف لأنّه قد رواها في الكافي عن ابن سنان عن إسماعيل بن جابر. ورواها الشيخ ـ تارة ـ عن عبدالله بن سنان عن إسماعيل بن جابر، و ـ اُخرى ـ عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر، ومن المعلوم انّها رواية واحدة ـ وإن لم نقل بوحدتها مع الرواية السابقة ـ وعليه فيتردّد الأمر بين أن يكون الراوي عن إسماعيل بن جابر هو عبدالله بن سنان الذي هو موثّق بلا إشكال، وبين أن يكون الراوي عنه هو محمد بن سنان المطعون في أكثر الكتب الرجالية ولم يقل أحد بوثاقته إلاّ المفيد(قدس سره) في بعض كلماته، وحكى انّه نص على قدحه في بعض كلماته الاُخر.
وبالجملة لا ينبغي الارتياب في ضعف الرجل، ومع هذا الترديد لا تكون الرواية مشمولة لأدلّة حجّية خبر الواحد التي يرجع جميعها إلى بناء العقلاء على العمل بقول الثقة وترتيب آثار الصدق عليه ـ كما حقّق في موضعه ـ وإطلاق «ابن سنان» وإن كان منصرفاً إلى عبدالله بن سنان إلاّ أنّ الظاهر انّ حذف كلمة «محمد» إنّما وقع من الناسخين ، ويؤيّده كون الراوي عنه هو البرقي الذي يكون أقرب إلى محمد بن سنان بل مراجعة الأسانيد والتتبّع فيها تقضي بأنّ البرقي لا يروي عن عبدالله بن سنان ولا هو من إسماعيل بن جابر، وعليه فالرواية غير قابلة للاعتماد
الصفحة 155
عليها، وقد استظهر المجلسي من سند الكافي انّ المراد بـ «ابن سنان» هو محمد بن سنان، وقال صاحب المدارك: الذي يظهر من كتب الرجال وتتبّع الأحاديث انّ ابن سنان الواقع في طريق الرواية واحد وهو محمد وإن ذكر عبدالله وهم...
ومن العجيب بعد ذلك ما أفاده بعض الأعلام بعد نسبة النقل عن عبدالله بن سنان إلى الكافي وعن ابن سنان إلى الوافي وجعل تصريحه في أوّله بأنّ ابن سنان قد يطلق على محمد بن سنان شهادة بأنّه مع الإطلاق يكون المراد به عبدالله بن سنان من أنّ المتعيّن الحمل على عبدالله بن سنان وحمل ما اشتمل على محمد بن سنان على اشتباه الكتاب أو سهو القلم.
فإنّ ما يكون مشتملاً على المطلق هو الكافي دون الوافي وقد صرّح في الثاني بعبدالله وقد عرفت انّ مراجعة الأسانيد تقضي بأنّ الراوي عن إسماعيل هو محمد، كما أنّ من يروي عنه البرقي أيضاً محمد لا عبدالله كما يظهر بالمراجعة إلى كتاب «جامع الرواة» للأردبيلي وقد صرّح فيه بأنّ البرقي يروي كثيراً عن عبدالله ولا رواية له عن محمّد في غير هذا المورد الذي هو محلّ الشكّ، وعليه فكيف يكون المتعيّن هو الحمل على عبدالله.
ومنها: ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الكرمن الماء كم يكون قدره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكر من الماء.
ومستند المشهور هي المشهور هي هذه الرواية، وربما يورد على سندها بأنّ أحمد بن محمد هو أحمد بن محمد بن يحيى وهو ضعيف أو مجهول، ولكن الظاهر انّ أحمد بن محمد ـ عند الإطلاق ـ هو ابن عيسى وهو ثقة مع أنّ ابن يحيى أيضاً ثقة،
الصفحة 156
كما أنّ المراد بـ «أبي بصير» هو ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه، مع أنّ هذه الكنية إنّما هي لثلاثة كلّهم ثقة ـ على ما هو الحقّ ـ هذا ما يتعلّق بسند الرواية.
وامّا ما يتعلّق بدلالتها فنقول: امّا أن يكون قوله: «ثلاثة أشبار ونصف» بعد قوله: «في مثله» منصوباً فيكون خبراً بعد الخبر لقوله: «إذا كان الماء» وـ حينئذ ـ فالرواية متعرّضة لمقدار كلّ واحد من الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، امّا الأوّل فواضح، وامّا الثاني فلدلالة قوله: «في مثله» عليه، وامّا الثالث فلدلالة ما بعد هذا القول عليه. وامّا أن يكون مجروراً ـ بناءً على أن يكون بياناً لقوله: «في مثله» فتكون الرواية متضمّنة ـ حينئذ ـ لحكم العمق والطول فقط، وعليه وإن كان يستفاد منها مقدار العرض أيضاً إلاّ أنّه لا دليل على اختصاص الرواية بما إذا لم يكن الماء ـ باعتبار ظرفه ـ على نحو الدائرة، غاية الأمر انّه لا دليل على إخراج مثل هذه الصورة مع وضوح التفاوت بينهما جدّاً.
وقد ادّعى بعض الأعلام قصور دلالة الرواية على مسلك المشهور لعدم اشتمالها على ذكر الأبعاد الثلاثة وظاهرها هو الدائرة كما في صحيحتي إسماعيل بن جابر ومدلولها ـ حينئذ ـ انّ الكرّ ما يقرب من ثلاثة وثلاثين شبراً وهو ممّا لا قائل به فلابدّ من حملها على اختلاف سطح الماء الراكد لعدم تمركز الماء في الصحاري في الموارد المسطحة فينطبق ـ حينئذ ـ على مفاد صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة، وأورد على الشيخ البهائي(قدس سره) في الحبل المتين باعتبار دعواه صراحة دلالة الرواية على مسلك المشهور ورجوع الضمير في «مثله» إلى ثلاثة أشبار ونصف بأنّه تكلّف محض لاستلزامه التقدير في الرواية في موضعين:
أحدهما: في مرجع الضمير بتقدير المقدار، وثانيهما: بعد كلمة «مثله» بتقدير لفظة في لعدم استقامة المعنى بدونهما وانّ الصحيح إرجاع الضمير إلى الماء وعدم
الصفحة 157
اشتمال الموثقة على الأبعاد الثلاثة.
وأنت خبير بأنّه على فرض دلالة الرواية على التعرّض للبُعدين لا وجه لدعوى ظهورها في الدائرة وأيّ فرق بينها وبين الرواية الثانية لإسماعيل بن جابر حيث حملها على الأبعاد الثلاثة مع اشتمالها على ذكر بعدين فقط وأعجب من ذلك تصريحه في المقام بأنّ ظهور الرواية في الدائرة كظهور صحيحتي إسماعيل بن جابر فيها مع تصريحه كما عرفت بعدم كون الثانية منهما ناظرة إلى الدائرة بوجه ولذا اعترضنا عليه آنفاً بأنّه لا وجه للفرق بين الصحيحتين كما لا يخفى.
والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لحمل قوله: «ثلاثة أشبار ونصف» بعد قوله: «في مثله» على الخبر بعد الخبر وذلك لأنّه بناءً عليه يلزم أن يكون النصف منصوباً مكتوباً مع الألف ودعوى كون الكتابة في الخبر الأوّل أيضاً كذلك مدفوعة مضافاً إلى أنّه قد رواها في الوافي بصورة النصب ان حمله على الغلط لا يوجب حمل الثاني عليه أيضاً، وعليه فلابدّ من أن يكون بياناً لقوله: «في مثله» وـ حينئذ ـ يستفاد من الرواية انّ قوله: «في مثله» شروع في بيان البُعد الآخر بعد تمامية بيان البُعد الأوّل لأنّه بناء على ما ذكر لا يمكن أن يكون هذا القول متعلّقاً بالبُعد الأوّل كما هو واضح، وعليه فهل لا يكون هذا موجباً لظهور قوله: «في عمقه» في بيان البُعد الثالث أم يكون موجباً له، غاية الأمر انّ مقدار العمق لا يكون مذكوراً والظاهر انّ الوجه في عدم التعرّض ظهور المراد وانّ مقداره هو مقدارهما فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على مذهب المشهور.
ومنها: رواية حسن بن صالح الثوري عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا كان الماء في الركي كرّاً لم ينجسه شيء، قلت: وكم الكر؟ قال: ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها. والركي: جمع الركية وهي البئر، وهذه الرواية باعتبار
الصفحة 158
انّ موردها هي الركية ومن المعلوم انّها على نحو الدائرة تخالف ما عليه المشهور سيما بعد ذكر العرض فقط في مقابل العمق، ولو سلّم التعميم باعتبار انّ السؤال إنّما وقع عن مقدار الكر مطلقاً ـ من دون تقييد بالماء الموجود في الركي ـ فلا محالة لا يكون المورد خارجاً عن ذلك الحكم العام إلاّ أنّ سند الرواية ضعيف باعتبار الحسن بن صالح. مع أنّ الرواية نقلت عن الاستبصار مع زيادة: «ثلاثة أشبار ونصف طولها» في أوّل الرواية وإن كان الكافي والتهذيب خاليين عن الزيادة وعلى ذلك فيحتمل كون الصادر من الإمام(عليه السلام) مشتملاً على بيان الأبعاد الثلاثة وإن كان يبعده ـ أوّلاً ـ عدم كون المورد وهو الركي ذات الأبعاد الثلاثة و ـ ثانياً ـ خلوّ الكافي الذي هو أضبط الكتب الأربعة والتهذيب الذي مؤلِّفه نفس الشيخ(قدس سره) عن الزيادة ـ وثالثاً ـ ذكر العمق في وسط الطول والعرض مع أنّ التداول إنّما يقتضي ذكر الطول والعرض ثمّ بيان العمق كما لا يخفى، ولكن مع ذلك كلّه لقائل أن يقول: إنّ احتمال النقيصة أقوى من احتمال الزيادة عند دوران الأمر بين الاحتمالين.
هذه هي عمدة الروايات الواردة في المقام وأصحّها ـ على ما قيل ـ صحيحة إسماعيل بن جابر المتضمّنة للذراع والشبر التي عرفت انّ مفادها ستّة وثلاثين شبراً لكنّها معرض عنها لدى الأصحاب، قال في محكي المنتهى ـ بعد ذكر الصحيحة ـ : «وتأوّلها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال وهو حسن لأنّه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار» مضافاً إلى ما عرفت منّا من عدم كونها رواية اُخرى في مقابل صحيحته الاُخرى بل الظاهر كونهما رواية واحدة والجواب الصادر منه(عليه السلام) غير معلوم، وبهذا ظهر عدم إمكان الاعتماد على روايته الاُخرى أيضاً التي هي عمدة مستند القمّيين أو خصوص ابن بابويه منهم فلا يبقى من الروايات المعتبرة من حيث السند التامّة من حيث الدلالة إلاّ رواية أبي بصير التي هي مستند
الصفحة 159
المشهور وعلى تقدير التعارض بين دليلهم ودليل القمّيين بدعوى كونه رواية مستقلّة معتبرة لأنّ ابن سنان فيها هو عبدالله لا محمّد أو انّ محمّداً أيضاً ثقة كما اختاره بعض المتأخّرين من الرجاليين ودلالتها أيضاً على الأبعاد الثلاثة ظاهرة لكان الترجيح أيضاً مع دليل المشهور لموافقته للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما هو التحقيق ـ فالأحوط بل الأقوى ما عليه المشهور.
بقي الكلام فيما هو المهمّ في المقام من رفع التنافي بين الروايات الدالّة على تقدير الكر بالأشبار وبين ما يدلّ على تقديره بالوزن، حيث إنّ تقديره بالوزن يكون ـ دائماً أو غالباً ـ أقلّ من ثلاث وأربعين شبراً كما حكي عن الأمين الاسترابادي انّه قدر ماء المدينة بالوزن المعيّن في الكر فلم يبلغ إلاّ ستّة وثلاثين شبراً، وعن ظاهر «مرآة العقول» للمجلسي(قدس سره) انّ وزنه يساوي ثلاثة وثلاثين شبراً تقريباً، وعن بعض أفاضل المتأخّرين أقلّ من ذلك.
وتحقيق المقام أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ أضبط التقديرات هو التقدير بالوزن، إذ ليس الوزن قابلاً لطرو الزيادة والنقصان عليه أصلاً، وهذا بخلاف غيره، وـ حينئذ ـ فنقول: ظاهر الروايات الواردة في تقدير الكر بالوزن انّ حدّ الكر بحسب الواقع هو هذا المقدار الذي لا يقبل الزيادة النقيصة، والروايات الدالّة على التقدير بالأشبار وإن كان ظاهرها أيضاً انّ حدّ الكرّ هو هذا المقدار الذي يكون مدلولاً لها إلاّ انّه من الواجب صرفها عن هذا الظهور باعتبار تفاوت الأشبار جدّاً، ولا ينحصر التفاوت بالأشخاص غير المتعارفة من حيث الشبر بل الأفراد المتعارفة المتوسطة تكون أشبارهم متفاوتة، وهذا التفاوت وإن كان قليلاً في شبر واحد إلاّ أنّه بالإضافة إلى ثلاث وأربعين شبراً ربّما يبلغ أشباراً متعدّدة وـ حينئذ ـ يعلم انّ بناء هذا التقدير كان على المسامحة والتسهيل بالإضافة إلى المكلّفين من حيث تعذّر
الصفحة 160
الوزن أو تعسّره غالباً، ومع ذلك فقد جعل هذا التقدير أمارة على المقدار الواقعي للكر بمعنى انّ التقدير بالأشبار يبلغ إلى ذلك المقدار الواقعي في جميع الأوقات، بل يكون أزيد منه غالباً فبناء التقدير بالأشبار وإن كان على التسهيل إلاّ أنّه مع ذلك قد روعي فيه الاحتياط بالإضافة إلى المقدار الواقعي للكر، وهذا الاحتياط إنّما هو للتحفّظ على الواقع والوصول إليه دائماً نظير الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، وليس من باب الاحتياط في الحكم ـ الذي لا يمكن وقوعه من الإمام(عليه السلام) ـ فالأخبار الواردة في المقام لا تكون متعارضة بعد التأمّل أصلاً، بل ما يدلّ منها على التقدير بالأشبار إنّما هو ناظر إلى التقدير بالوزن ـ الذي هو الأصل في باب التقادير ـ .
هذا مضافاً إلى أنّه من الواضح كون الحكم كلّياً مترتّباً على جميع المياه الموجودة في العالم فيمكن أن يكون الماء في الخفة إلى حدّ يكون تقديره بالوزن بالغاً إلى تكسير الأشبار المعيّنة في الكر إذ لا تكون المياه متساوية من حيث الوزن بل يختلف وزنها حسب اختلافها في الخفة وعليه يحمل الاختلاف فيما حكي عن الاعلام المتقدّمين في توزين ماء المدينة والنجف فتدبّر. وبهذا يجاب عمّا أورد على رفع التنافي بالنحو المذكور من أنّ التفاوت بين التحديدين حيث يكون ممّا لا يتسامح به لكثرته وبعد الفاصلة بينهما فلا مجال لأن يجعل أحدهما طريقاً ومعرفاً لما هو ناقص عنه بكثير.
وذلك ـ أي الجواب عن الإيراد ـ ما عرفت من أنّ كثرة التفاوت وبُعد الفاصلة إن كانت دائمية أو غالبية فهو يقدح في جعل الكثير طريقاً وأمارة لما هو الناقص عنه بكثير، وامّا إذا كان التفاوت مختلف والفاصلة متفاوتة فقد يكون أكثر وقد يكون أقلّ وقد لا يكون أصلاً لما عرفت من كون الحكم كلّياً من طرف وانّ المياه
|