الصفحة 521
فإن كان المراد هو الأوّل الذي يكون كلّ صلاة موجودة في الخارج فرداً واحداً مستقلاًّ فلا يبقى مجال للإشكال في صحّة التمسّك بعموم قوله (عليه السلام) : لا صلاة إلاّ إلى القبلة لأنّ النافلة في حال الاستقرار فرد مستقلّ بل افراد مستقلّة شكّ في خروجها فالشكّ لا محالة إنّما هو في التخصيص الزائد وخروج أفراد كثيرة بعنوان واحد وهي النافلة في حال عدم الاستقرار لا يوجب عدم كون الشكّ في غير أفراد هذا العنوان في التخصيص الزائد كما لا يخفى ، فعلى هذا الاحتمال لا يبقى للإشكال مجال .
وإن كان المراد هو الثاني الذي يكون كلّ نوع فرداً واحداً فالنافلة في حال عدم الاستقرار فرد واحد خارج في بعض الأحوال فالمقام نظير ما إذا ورد أكرم كلّ عالم ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة وشكّ في وجوب إكرامه في غير ذلك اليوم حيث إنّ زيداً فرد واحد خارج عن العموم في يوم الجمعة ، فعدم جواز التمسّك بالعام ـ حينئذ ـ محل نظر بل منع ولتوضيحه نقول : لابدّ من ملاحظة انّ إخراج فرد في حال هل يكون مرجعه إلى التصرّف في عموم العام وإخراج الفرد منه أو انّ حقيقته التصرّف في الإطلاق الاحوالي الثابت للعام مضافاً إلى العموم الافرادي بحيث لو فرض عدم ثبوت الإطلاق الاحوالي لا يكون هناك تصرّف أصلا؟
الظاهر هو الثاني; لأنّ إخراج الفرد في حال لا ينافي العموم اللغوي بوجه لأنّ مفاده دخول تمام الأفراد في حكم العام من غير تعرّض لحالات الافراد والدليل المخرج لا دلالة له على خروج فرد من العام رأساً حتّى يكون تخصيصاً ، بل يدلّ على خروجه في حال وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الشمول لجميع الحالات ، وعليه فالشكّ في ثبوت حكم العام بالنسبة إلى ذلك الفرد في غير تلك الحال مرجعه إلى الشكّ في تقييد زائد على التقييد المعلوم واصالة الإطلاق ترفع هذا
الصفحة 522
الشكّ فإذا قام الدليل على وجوب الوفاء بكلّ عقد كما هو مفاد قوله تعالى : (أوفوا بالعقود)وقام الدليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان كما لو انعقد الاجماع أو دليل نفي الضرر ـ فرضاً ـ على عدم وجوب الوفاء بالعقد الذي ظهر فيه الغبن إلى ساعة ـ مثلا ـ فهذا الدليل الثاني لا يكون منافياً للعموم الافرادي اللغوي الذي هو مفاد الدليل الأوّل بل يكون منافياً للإطلاق الازماني الثابت له ولا محيص إلاّ للرجوع إلى الإطلاق في الشكّ في التقييد الزائد .
والشاهد لما ذكرنا من عدم كون إخراج الفرد في بعض الأحوال تخصيصاً للعام وتصرّفاً في العموم انّه لو فرض قيام الدليل على خروج جميع الأفراد في بعض الحالات لا يتوهّم أحد ثبوت المنافاة بينه وبين الدليل الأوّل ، فلو فرض ثبوت الخيار في تمام العقود في الساعة الاُولى بعد تحقّق العقد لا يكون ذلك منافياً لعموم أوفوا بالعقود أصلا فإذا لم يكن إخراج جميع الافراد كذلك منافياً فكيف يكون إخراج فرد واحد كذلك تصرّفاً في العام ولعمري هذا واضح .
فانقدح انّه على هذا التقدير لا يكون إخراج النافلة في حال عدم الاستقرار منافياً لجواز التمسّك بالدليل لإثبات اعتبار الاستقبال فيها في حال الاستقرار لأنّ مقتضى أصالة الإطلاق ثبوت حكم العام في غير تلك الحال كما عرفت ، هذا كلّه لو كان المنفي هي النكرة وقلنا بإفادتها مع وقوعها في سياق النفي للعموم .
وامّا لو كان المنفي هو الجنس والطبيعة فامّا أن يقال بأنّ الطبيعة المنفية هي الطبيعة بلحاظ سريانهما في الافراد وجريانها في المصاديق ، وامّا أن يقال بأنّها هي نفس الطبيعة والماهية مع قطع النظر عن السريان والجريان .
فعلى الأوّل يرجع هذا الفرض إلى الفرض الأوّل وهو العموم الافرادي بلحاظ كلّ فرد; لأنّ معنى السريان هو الشمول لكلّ فرد وقيام الدليل على منع السريان في
الصفحة 523
طائفة من الافراد لا يوجب إهمال الدليل بلحاظ الافراد التي لم يقم فيها دليل على منع السريان لأنّ الشكّ في الشمول لهذه الافراد شكّ في مانع مستقلّ ومقتضى الدليل هو عدمه كما لا يخفى .
وعلى الثاني يكون الموضوع صرف الطبيعة بلا تكثّر فيه ولا عموم وسريان ، فمع قيام الدليل على خروج النافلة في حال عدم الاستقرار لابدّ امّا من الالتزام بخروج هذه الحال عن مطلق الصلاة والقول بأنّ صلاة الفريضة في حال عدم الاستقرار لا يعتبر فيها الاستقبال ، وامّا من الالتزام بصيرورة ذلك الدليل قرينة على اختصاص الموضوع المنفي بخصوص صلاة الفريضة والحكم بأنّ الدليل لا يدلّ على أزيد من اعتبار الاستقلال فيها و ـ حينئذ ـ فيصحّ للمورد أن يقول : بأنّه حيث لا يصحّ الالتزام الأوّل فلابدّ من الالتزام الثاني ولكن الجواب عنه ـ حينئذ ـ أن يقال : إنّه على تقدير تسليم كون هذا التركيب ظاهراً في نفي الجنس والطبيعة ولكن لا نسلّم ظهوره في عدم كون نفي الجنس بلحاظ السريان ، بل هو الظاهر منه خصوصاً مع ملاحظة ورود الدليل المذكور في النافلة الشاهد على كون الطبيعة الملحوظة إنّما هي الطبيعة السارية لا صرف الماهية . فانقدح من جميع ما ذكرنا صحّة التمسّك بالصحيحة لمذهب المشهور .
الثالث : حديث لا تعاد باعتبار كون الموضوع فيه هو مطلق الصلاة والقبلة من الاُمور الخمسة المستثناة فيه الموجبة للإعادة .
وأورد عليه المحقّق الهمداني (قدس سره) بظهوره في الفريضة التي من شأنها وجوب الإعادة عند الإخلال بشيء من أجزائها وشرائطها ويؤيّده عدّ الوقت من الخمس .
ويدفعه ما عرفت من أنّ الإعادة بما هي إعادة لا يمكن أن يتعلّق بها الحكم
الصفحة 524
الوجوبي الشرعي إثباتاً أو نفياً فمرجع وجوب الإعادة إلى ثبوت خلل في المأتي به من حيث الجزء أو الشرط ، كما انّ مرجع عدم وجوبها إلى تمامية المأتي به وعدم وجود الخلل فيه ، وعليه فحديث لا تعاد لا دلالة له إلاّ على تمامية العمل من غير ناحية الإخلال بأحد الاُمور الخمسة المستثناة فيه ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة لكون الموضوع مطلق الصلاة وطبيعتها .
نعم يمكن الإيراد على الاستدلال به لمثل المقام بأنّه يبتني على أن يكون الحديث بصدد بيان المستثنى ككونه بصدد بيان المستثنى منه بمعنى انّه كما يكون في مقام إفادة عدم الإعادة من غير ناحية الإخلال بأحد الاُمور الخمسة كذلك يكون في مقام بيان ثبوت الإعادة من ناحية الإخلال بأحدها حتّى يجوز التمسّك بإطلاقه لثبوت الإعادة في مثل المقام لتحقّق الإخلال بالقبلة التي هي إحداها ولكن الظاهر عدم ثبوت هذا المعنى في الحديث ، هذا وقد استدلّ المشهور باُمور اُخر أيضاً لكنّها غير مهمّة .
وقد استدلّ للقول بعدم الاعتبار على ما هو ظاهر المحقّق في الشرائع وفاقاً للمحكي عن جملة من قدماء الأصحاب ومتأخّريهم باُمور أيضاً .
منها : أصالة البراءة عن وجوب الاستقبال .
وأورد عيه سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) بأنّها ممّا لا تتمّ لأنّ مدركها امّا حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وامّا حديث الرفع ونظائره الأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق وهو معدوم في النوافل من الأصل .
ولكن الظاهر تمامية ما أفاده فيما إذا كان الشكّ في أصل ثبوت الاستحباب بالإضافة اخلى فعل لعدم جريان شيء من البراءة العقلية والبراءة النقلية فيه ، وامّا
الصفحة 525
إذا كان الشكّ في شرطية شيء في الفعل الذي ثبت أصل استحبابه أو جزئيته له فالظاهرانّه لا مانع من جريان مثل حديث الرفع فيه لأنّ الشرطية والجزئية ولو في المستحبّ إنّما يكون بنحو اللزوم بمعنى انّ اعتبارهما فيه إنّما هو بنحو اللابدية ومرجعه إلى عدم إمكان تحقّق المستحبّ بدونهما ولذا يعبّر عن حكم الشرط فيه بالوجوب الشرطي لا الاستحباب ، وعليه فثبوت الشرطية والجزئية موجب للضيق وإن كان لا يجب على المكلّف أصل الإتيان ولا منافاة بين الأمرين وـ حينئذ ـ فلا مانع من جريان حديث الرفع ودلالته على رفع الضيق في صورة الشكّ في ثبوته . وبالجملة لا فرق في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بين أن يكون ذلك في الواجب أو المستحبّ ، نعم الفرق إنّما هو في البراءة العقلية التي هي ناظرة إلى العقاب الذي يختصّ بالواجب .
فانقدح صحّة التمسّك بأصالة البراءة إلاّ انّه يبتني على عدم وجود الدليل على اعتبار الاستقبال فيما هو محلّ البحث وقد مرّ دلالة كثير من أدلّة المشهور عليه فلا موقع لها معه أصلا .
ومنها : الروايات التي يستفاد منها ذلك وهي كثيرة :
مثل ما رواه الصدوق باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال له : استقبل القبلة بوجهك ولا تقلب بوجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فإنّ الله عزّوجلّ يقول لنبيّه في الفريضة : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره) (الحديث) . فإنّ تفسير الآية بورودها في الفريضة شاهد على عدم اعتبار الاستقبال في غيرها .
وحسنة الحلبي أو صحيحته عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال قال : إذا التفت في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً وإن كنت قد
الصفحة 526
تشهدت فلا تعد .
وما نقله ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب الجامع للبزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يلتفت في صلاته هل يقطع ذلك صلاته؟ قال : إذا كان الفريضة والتفت إلى خلفه فقد قطع صلاته فيعيد ما صلّى ولا يعتدّ به وإن كانت نافلة لا يقطع ذلك صلاته ولكن لا يعود . وتعلّق النهي بالعود ظاهر في كون المفروض في السؤال هو الالتفات عمداً ولكنّه محمول على الكراهة لعدم الحرمة على فرض عدم قطع الصلاة كما هو صريح الرواية والحكم بعدم القطع في النافلة مع الالتفات كذلك إلى الخلف لا يكاد يجتمع مع اعتبار الاستقبال فيها أيضاً كما هو ظاهر .
وما رواه الشيخ (قدس سره) في النهاية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى : (فأينما تولوا فثم وجه الله) قال : هذا في النوافل خاصّة في حال السفر فامّا الفرائض فلابدّ فيها من استقبال القبلة . فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلّي بلا خلاف كما عرفت ويؤيّده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة .
وغير ذلك من الروايات التي تدلّ على ذلك ولكن إعراض المشهور عنها وعدم الفتوى على طبقها مع وضوح دلالتها وصحّة سند أكثرها يوجب الوهن فيها خصوصاً مع ما عرفت من إنكار المتشرّعة الصلاة إلى غير القبلة في حال الاستقرار ولا فرق عندهم بين الفريضة والنافلة في هذه الجهة أصلا ، وعليه فالظاهر ما هو المشهور فتدبّر .
ثمّ إنّه وقع الخلاف أو الإشكال في جواز صلاة النافلة مع عدم الاستقرار إلى
الصفحة 527
غير القبلة إذا كانت متعلّقة للنذر وغيره وانّه هل لا يكون الاستقبال معتبراً فيها كذلك ، وكذا في اعتبار الاستقبال فيما إذا صارت الفريضة مستحبّة كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى ومنشأ الإشكال انّ عنوان الفريضة المأخوذ في الأدلّة هل يكون المراد به ما هو واجب بالفعل ويلزم على المكلّف الإتيان به كذلك أو انّ التعبير به إنّما هو للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات وكذا عنوان النافلة المأخوذ في دليل عدم اعتبار الاستقبال هل المراد به ما هو مستحبّ بالفعل ولو كان بحسب عنوانه واجباً أو أنّه إشارة إلى العناوين المستحبّة كصلاة الليل ونحوها ، فعلى الأوّل تلزم رعاية الاستقبال في النافلة لامنذورة لوجوبها بالفعل ولزوم الإتيان بها على المكلّف كذلك كما انّه لا تلزم رعايته في الصلاة المعادة لعدم وجوبها فعلا ، وعلى الثاني ينعكس الحكم فيعتبر في الثاني دون الأوّل كما لا يخفى ، هذا ما يستفاد من كلماتهم .
ولكن الظاهر انّه لا مجال لهذا البحث أصلا لعدم صيرورة النافلة واجبة أصلا ولو كانت متعلّقة للنذر ونحوه وذلك لما مرّ سابقاً من أنّ تعلّق النذر بالنافلة لا يوجب صيرورة النافلة واجبة فإنّ الوجوب الجائي من قبل النذر إنّما يكون متعلّقاً بالوفاء بالنذر الذي هو عنوان خاصّ ، ومجرّد تحقّق الوفاء بالنذر خارجاً بسبب الإتيان بالمنذور لا يوجب تغيّر حكمه لعدم سراية الحكم من متعلّقه إلى شيء آخر ولو كان متّحداً معه وجوداً بل لا يعقل التغيّر فإنّ اتصاف صلاة الليل ـ مثلا ـ بالاستحباب إنّما يكون له دخل في صحّة النذر وانعقاده ووجوب الوفاء به وذلك لاعتبار الرجحان في متعلّقه الذي هو ملازم لثبوت الاستحباب في المقام ، وعليه فكيف يمكن أن يكون الوجوب المتفرّع على الاستحباب موجباً لزواله وقيامه مقامه واجتماعهما أيضاً مستحيل بداهة ، وعليه فلا يعقل أن يكون النذر مغيّراً
الصفحة 528
للاستحباب الثابت للمنذور قبل تعلّق النذر ، فكما انّ تعلّق النذر بالفعل الواجب لا يوجب زوال وجوبه وقيام الوجوب النذري مقامه فكذلك إذا كان المنذور مستحبّاً فإنّه لا يتغيّر حكمه الاستحبابي بسبب تعلّق النذر .
فانقدح انّ النافلة لا تصير واجبة بوجه حتّى يبحث في اعتبار الاستقبال فيها مطلقاً أو في حال عدم الاستقرار ووجوب صلاة الليل أو خصوص الوتر على النبي (صلى الله عليه وآله) لا دلالة له على صيرورة النافلة واجبة فإنّ صلاة الليل عنوان خاص يختلف حكمه باختلاف الافراد فبالاضافة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يكون واجباً وبالنسبة إلى غيره يكون مستحبّاً فالنافلة لم تصر واجبة بل ما كانت نافلة في حقّنا تكون واجبة في حقّه (صلى الله عليه وآله) وهو غير ما نحن فيه ، هذا والظاهر انّ الفريضة أيضاً لا تصير مستحبّة حتّى يبحث فيها كذلك وصلاة المعادة جماعة لا تكون شاهدة على هذا أمر وذلك لأنّ متعلّق الاستحباب ليس هي نفس صلاة الظهر ـ مثلا ـ الفريضة التي أتى بها فرادى بل متعلّقه هو عنوان الإعادة جماعة وهذا يغاير عنوان الصلاة التي هي فريضة كعنوان الجماعة المستحبّ فيها .
وبعبارة اُخرى الصلاة المعادة لها حيثيتان فباعتبار كونها صلاة الظهر فريضة واجبة وباعتبار كونها تكراراً لصلاة الظهر وإعادة لها جماعة مستحبّة ولا يلزم من ذلك وجوب الإتيان بها ثانياً فإنّ متعلّق الوجوب هي نفس العنوان من دون مدخلية التعدّد والتكرّر فلا وجه للزوم الإتيان بها كذلك فصلاة الفريضة لا تصير مستحبّة بوجه فلا مجال للبحث المذكور أصلا .
ثمّ إنّه لم يقع التعرّض في المتن للقبلة وانّها أيّ شيء وكذا للخصوصيات المعتبرة في الاستقبال وكذا للبحث عن المستقبل بالكسر وانّه هل يكون فرق بين القريب والبعيد أم لا ونحن نتعرّض لها في ضمن اُمور :
الصفحة 529
الأوّل : انّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة والظاهر انّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد ومن كان في الحرم خارجاً عن المسجد ومن كان خارجاً عنهما وقد حكى ذلك عن السيّد وابن الجنيد وأبي الصلاح وابن إدريس والمحقّق في بعض كتبه ونسب إلى المتأخّرين بل إلى الأكثر والمشهور ، ولكنه حكى عن الشيخين وجماعة من القدماء وبعض المتأخّرين انّ الكعبة قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لمن في الحرم والحرم قبلة لمن خرج عنه ، وفي الشرائع انّه الأظهر ، وفي الذكرى نسبه إلى أصحابنا ، وعن الخلاف الإجماع عليه ونقول :
امّا الآيات الواردة في القبلة فمفاد جميعها هو وجوب تولية الوجه شطر المسجد الحرام ومحلّ نزولها إنّما هي المدينة المنوّرة التي تكون خارجة عن الحرم فمن جهة دلالتها على وجوب التوجّه شطر المسجد يدلّ على أنّ الحرم لا يكون قبلة بوجه والظاهر انّ المراد بالمسجد الحرام فيها هي نفس البيت شرّفه الله تعالى والتعبير عنه به إنّما هو لأجل قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار لأنّ عدم دلالتها على حكم من يصلّي في نفس المسجد بل كانت الصلاة ـ حينئذ ـ في المسجد كالصلاة في جوف الكعبة كما هو ظاهر . فانقدح انّ المراد من المسجد في الآيات الواردة إنّما هي الكعبة ويؤيّده انّ تولية الوجه شطره في مثل المدينة يوجب التولية شطر الكعبة فتدبّر .
وامّا الروايات فكثيرة منها تدلّ على المشهور بل ربّما تبلغ عشرين رواية مثل رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قلت له : متى صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله)إلى الكعبة؟ قال : بعد رجوعه من بدر . وفي نقل آخر عنه ـ الذي جعله في الوسائل رواية مستقلّة مع أنّها لا تكون كذلك ـ زيادة : وكان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً ثمّ اُعيد إلى الكعبة . فإنّ دلالتها على انّه (صلى الله عليه وآله) قد صرف إلى الكعبة مع كونه في المدينة واضحة وكان ذلك مسلّماً عند الراوي ولذا لم يسئل
الصفحة 530
عنه بل انّما سئل عن زمان صرف فيه الرسول إلى الكعبة .
ورواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في حديث قال : قلت له : إنّ الله أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس قال : نعم ألا ترى انّ الله يقول : (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتبع الرسول) الآية ثمّ قال : إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس فقيل لهم : إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وجعلا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين .
ورواية عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّ الله بعث جبرئيل إلى آدم فنزل غمام من السماء فأظلّ مكان البيت فقال جبرئيل : يا آدم خطّ برجلك حيث أظل الغمام فإنّه قبلة لك ولآخر عقبك من ولدك الحديث . وغير ذلك من الروايات الكثيرة الدالّة عليه ، مع أنّه ربّما يقال كما في محكي حاشية المدارك : انّ كون الكعبة قبلة من ضروريات الدين والمذهب حتّى انّ الإقرار به يلقن الأموات فضلا عن الأحياء كالإقرار بالله تعالى . وفي الجواهر : يعرفه الخارج عن الإسلام فضلا عن أهله .
ولكنّه هنا روايات تدلّ على مذهب الشيخين ومن تبعهما بل عقد في الوسائل باباً لذلك كمرسلة عبدالله بن محمد الحجّال عن بعض رجاله عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا .
ورواية بشر بن جعفر الجعفي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال : سمعته يقول : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للناس جميعاً . ومرسلة الصدوق قال : قال الصادق (عليه السلام) : إنّ الله تبارك وتعالى جعل الكعبة قبلة لأهل
الصفحة 531
المسجد وجعل المسجد قبلة لأهر الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا . ورواية أبي غرّة قال : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكّة ومكّة قبلة الحرم والحرم قبلة الدنيا . ولكنّها ـ مضافاً إلى ثبوت الضعف أو الإرسال في جميعها عدى مرسلة الصدوق حيث إنّها معتبرة كما مرّ مراراً ـ تكون بينها المعارضة أيضاً لدلالة ما عدى الأخيرة على ثبوت التثليث في القبلة وقد زيدت عليها في الأخيرة واحدة وهي نفس بلد مكّة لمن كان خارجاً عنه وداخلا في الحرم .
وكيف كان فالظاهر انّه لا مجال للأخذ بهذه الروايات مع معارضتها للروايات المتكثّرة المتقدّمة بل للآية الشريفة على ما عرفت خصوصاً مع ملاحظة ثبوت الشهرة من حيث الفتوى على خلافها ، بل يمكن ادّعاء الإجماع على خلاف مضمونها لاستبعاد أن يفتي مثل الشيخ (قدس سره) الذي عمل بمضمونها في أكثر كتبه بجواز أن يصلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على نحو لا يكون مستقبلا للكعبة بوجه كان صلّى متوجّهاً إلى زواوية من المسجد فاللاّزم امّا طرحها وامّا حملها على كون المراد هو اتساع جهة المحاذاة للبعيد وثبوت الفرق بينه وبين القريب كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
الثاني : انّ المراد بالكعبة ليس خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء بل المراد به هو البيت وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء وعن المنتهى : لا نعرف فيه خلافاً بين أهل العلم ، وعن كشف اللثام انّه إجماع من المسلمين ويشهد له مضافاً إلى ذلك روايات كرواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سأله رجل قال : صلّيت فوق أبي قبيس العصر فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي؟ قال : نعم إنّها قبلة من موضعها إلى السماء . ورواية خالد بن أبي إسماعيل قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يصلّي على أبي قبيس مستقبل القبلة فقال : لا بأس .
الصفحة 532
ومرسلة الصدوق قال : قال الصادق (عليه السلام) : أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا . والظاهر انّه ليس المراد ثبوت القسمين للأرض العليا والسفلى وانقسام كلّ واحدة إلى السبع بل العنوانان إنّما يلاحظان بالإضافة إلى الأرضين السبع التي يظهر ثبوتها من بعض الأدعية والروايات بل من الكتاب ، وعليه فالمراد بالأرض السابعة العليا هي التي نمشي على مناكبها ونستقرّ فيها ، والرواية ـ حينئذ ـ تكون ناظرة إلى أساس البيت وامتداده من التخوم إلى ما نحن فيه ولا تعرّض لها لامتداده إلى عنان السماء كما لا يخفى .
ثمّ إنّ مقتضى ما ذكرنا لزوم التوجّه إلى نفس الكعبة وما هو مسامت له من الفوق أو التحت فالصلاة في قعر الأرض أو قعر البحار ممّا لا مانع منه ، كما انّ الصلاة في الطائرات وإن بعدت عن الأرض كثيراً لا مانع عنها أيضاً مع مراعاة الاستقبال ، نعم لو خرج عن كرة الأرض ودخل في كرة اُخرى كالقمر ونحوه فالاستقبال إنّما يتحقّق بالتوجّه إلى كرة الأرض ولا يقدح فيه الاختلاف باعتبار اختلاف جهة كرة الأرض; لأنّ الملاك هو التوجّه إلى الكعبة وهو لا يتحقّق إلاّ بذلك كما لايخفى .
ثمّ الظاهر خروج حجر إسماعيل من الكعبة وانّه لا يكفي التوجّه نحوه وإن وجب إدخاله في الطواف لكنّه لا ملازمة بين المقام وبين الطواف وجه الخروج دلالة رواية صحيحة صريحة على ذلك وهي رواية معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحجر أمن البيت هو أم فيه شيء من البيت؟ قال (عليه السلام) : لا ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن اُمّه فيه فكره أن يوطأ فجعل عليه حجراً وفيه قبور أنبياء . ويظهر من الروايات الكثيرة الاُخر التي جمعها في الوسائل في الباب الثلاثين من أبواب الطواف انّ خصوصية الحجر إنّما هي لأن فيه قبر اُمّ إسماعيل وكذا قبر
الصفحة 533
نفسه وكذا قبور عذارى بنات إسماعيل وقبور أنبياء ، ويظهر منها عدم كونها من البيت بوجه ولا خصوصية له غير ما ذكره فالتوجّه إليه لا يجدي ، ولكن المحكي عن الذكرى انّ ظاهر الأصحاب انّ الحجر من الكعبة بأسره وانّه قد دلّ النقل على أنّه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بخلافه وكذلك كان في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ونقل عنه (صلى الله عليه وآله) الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة وبذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخله فيها ثمّ أخرجه الحجّاج بعده إلى ما كان ، ولأنّ الطواف يجب خارجه ، وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها وفي الطواف خارجه وبعض الأصحاب له فيه كلام أيضاً مع ءخجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف . ولكن حكي عن كشف اللثام انّه قال : وما حكاه إنّما رأيناه في كتب العامّة وتخالفه أخبارنا .
وكيف كان لا يبقى مجال لما ذكر مع ثبوت رواية صحيحة صريحة على خلافه خصوصاً مع التعبير بقوله (عليه السلام) : ولا قلامة ظفر كما هو ظاهر .
الثالث : ظاهر الآيات الواردة في الاستقبال انّ اللاّزم هو تولية الوجه جانب الكعبة وهل المراد به هو خصوص الوجه بحيث لو كان جميع مقاديم البدن متوجّهاً إلى غير القبلة وكان الوجه وحده متوجّهاً إليها لكفى ذلك في حصول ما هو المأمور به في تلك الآيات أو انّ المراد به هو جميع مقاديم البدن كما يشهد به قوله تعالى : (فلنولينك قبلة ترضاها)(1) حيث نسب التولية إلى المخاطب وظاهره التولية بجميع المقاديم أو انّ المراد به هو الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن فلا يكفي توجه الوجه وحده ولا يلزم توجّه ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه من المقاديم كالكتف
(1) سورة البقرة : 144 .
الصفحة 534
الأيمن أو الأيسر وجوه واحتمالات ، ولا يبعد أن يقال برجحان الوجه الثالث; لأنّ المتفاهم عند العرف من توجّه الوجه إلى شيء هو توجّهه بوضعه الطبيعي غير المائل إلى اليمين واليسار ، ومن الواضح انّ توجّهه في هذه الحالة ملازم لتوجّه المقاديم التي تحاذيه فالمستفاد من الآيات لزوم التوجّه بهذا المقدار كما هو ظاهر .
الرابع : انّه لا خفاء في أنّ سطح الوجه الذي أمر بتوليته جانب الكعبة يكون له انحناء لأنّه على التقريب يكون ربع الدائرة المحيطة بالرأس ومن الواضح انّ السطح الذي يكون منحنياً ليس على نحو يخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية لاقتضاء الانحناء ذلك فالخطوط الخارجة من أجزاء الوجه على نحو يكون كلّما كان طوله أكثر كان الفصل بينها أزيد كما هو الشأن في هذا النوع من الخطوط غير المتوازية وـ حينئذ ـ فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج جزء من أجزاء وجهه خط مستقيم واقع إلى الكعبة دون الجزء الآخر و ـ حينئذ ـ يقع الكلام والإشكال في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء هل هو بأن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خط مستقيم إلى ذلك الشيء ولو لم يكن ذلك الجزء وسط الوجه بل في يمينه أو يساره أو انّ اللاّزم في صدق هذا العنوان هو أن يكون الخط الخارج من خصوص وسط الوجه واقعاً إليه وإن كانت الخطوط الخارجة من غيره من أجزاء الوجه واقعة إلى غيره؟ الظاهر هو الوجه الثاني; لعدم تحقّق هذا المفهوم عند العرف بمجرّد خروج خط من جزء من الأجزاء ولو كان في منتهى اليمين أو اليسار فاللاّزم هو وقع خصوص الخط الخارج من وسط الوجه ، نعم لا مجال لاحتمال اعتبار وقوع جميع الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه لما عرفت من عدم كونها متوازية ومع فرض عدم التوازي يستحيل وقوع الجميع إلاّ إذا كان في غاية القرب إلى الكعبة فتدبّر .
هذا بالنسبة إلى القريب ، وامّا بالإضافة إلى البعيد فسيأتي الكلام فيه .
الصفحة 535
الخامس : قد وقع الاختلاف ـ بعد الاتفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي كالقريب من عين الكعبة أو الحرم أو انّها هي جهة الكعبة كما هو المشهور بين الفقهاء وقد وقع الاختلاف في تفسير الجهة أيضاً فالمحكي عن جمع من الكتب انّها ما يظنّ به الكعبة أو ما يظنّ انّه الكعبة أو انّها السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه ، وعن جامع المقاصد انّ جهة القبلة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه ومثلها في الروضة بزيادة ذكر منشأ القطع وهي الامارة الشرعية .
ومقتضى هذه التفاسير باعتبار أخذ الظنّ أو الاحتمال في معنى الجهة هو اختلاف معناها باختلاف المكلّفين من جهة هذه الحالات لأنّه قد يعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة وقد يعلم بوجودها في خمسها وهكذا فالجهة تختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين مع أنّ الظاهر انّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعي لا ارتباط له بحال المكلّف من حيث العلم والجهل والآية ناظرة إليه .
وأغرب التعارف ما حكاه صاحب الجواهر (قدس سره) عن الفاضل المقداد وما حكي عن ابن فهد من أنّ جهة الكعبة التي هي القبلة للبعيد خط مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب ويمرّ بسطح الكعبة ويعتبر انّ يخرج من موقف المصلّي خط مستقيم آخر واقع على الخط المذكور على نحو يحدث بين جنبيه زاويتان قائمتان فلو كان الخط الخارج من موقف المصلّي واقعاً على الخطّ المذكور بحيث تحدث زاويتان إحداهما حادّة والاُخرى منفرجة لا يتحقّق التوجّه نحو الكعبة ولم يكن المصلّي مستقبلا إليها .
وجه الأغربية انّه لو كان موقف المصلّي قريباً من المشرق فرضاً وعلم بفعل
الصفحة 536
المعصوم أو غيره انّ الكعبة واقعة قريب المغرب يلزم على هذا بطلان الصلاة لو توجّه نحو الكعبة لأنّ الخط الذي يخرج من موقف المصلّي ويقع على الكعبة ليس بحيث يحدث بين طرفيه زاويتان قائمتان بل تحدث من طرف اليمين زاوية منفرجة ومن اليسار حادّة والتالي باطل بالضرورة .
وأجود التعاريف ما ذكره المحقّق في المعتبر من أنّها السمت الذي فيه الكعبة ومراده من السمت إحدى الجهات الست فإنّ الشخص إذا أحاطت به دائرة ووقع في مركزها يكون كلّ ربع من الدائرة إحدى الجهات الأربع لذلك الشخص من اليسار واليمين والقدام والخلف فالمراد بالسمت هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه فيكفي بناء عليه توجّه الوجه نحو ذلك الربع .
وتوضيحه على ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ البروجردي (قدس سره) انّ الوجه كما عرفت يكون ربع الدائرة المحيطة بالرأس تقريباً وهي تتشكّل من الوجه واليمين واليسار والعنق أو القفا وقد مرّ انّ الخطوط الخارجة من كلّ جزء من أجزاء محيط الدائرة لا تكون بنحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طوله أكثر كان الفصل بينها أزيد ، ولكن لو فرض ثبوت دائرة كبيرة محيطة بهذه الدائرة لكان منتهى الخطوط الخارجة من الدائرة الصغيرة متساوية من حيث النسبة مع مبدأ الخطوط بمعنى انّ الخطوط الخارجة من الدائرة الصغيرة الواقعة على الدائرة الكبيرة إذا خرجت من ربعها يكون منتهاها أيضاً ربع الدائرة الكبيرة وهكذا إذا كان القوس الذي هو مبدئها ثلث الصغيرة يكون القوس الذي هو منتهاها ثلث الكبيرة فالنسبة محفوظة وإن كانت الخطوط غير متوازية ، وعلى ما ذكر فالدائرة الكبيرة في المقام هي دائرة الأرض لكونها كروية ، لكن المقصود منها خصوص الدائرة التي تمرّ بسطح الكعبة وتقع الكعبة في جزء من أجزاء محيطها فالمصلّي إذا وقف في مركز هذه الدائرة يكون
الصفحة 537
كلّ ربع من دورة رأسه محاذياً لربع الدائرة الكبيرة ولا محالة إذا وقف محاذياً للربع المشتمل على الكعبة تقع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على نفس الكعبة لما عرفت من عدم كون الفصل بين الخطوط الخارجة من ربع الدائرة الصغيرة أزيد من ربع الدائرة الكبيرة فلا محالة تقع إحدى خطوط الوجه على عين الكعبة ، غاية الأمر الفرق بين القريب والبعيد إنّما هو في أنّ القريب يلزم عليه أن يكون الخط الخارج من وسط وجهه واقعاً على الكعبة ، وامّا البعيد فيكفي له وقوع إحدى الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه ولو كان من طرف اليمين أو اليسار .
وبالجملة فالمراد من الجهة هو القدام الذي يكون إحدى الجهات الأربع وهو الربع من الدائرة المحيطة بالمصلّي المارّة على عين الكعبة ومرجع الاكتفاء بالجهة إلى الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع لوقوع إحدى الخطوط على الكعبة لا محالة كما عرفت .
ويدلّ على ذلك ـ مضافاً إلى لزوم الحرج الشديد والعسر الأكيد لو أوجبنا خروج ذلك الخطّ من وسط الوجه بالإضافة إلى البعيد أيضاً وهو منفي في الشريعة ـ اُمور :
الأوّل : الآيات الشريفة الآمرة بتولية الوجه شطر المسجد الحرام فإنّ الشطر بمعنى الناحية والجانب ، ومن المعلوم انحصار الجوانب في الأربع كما عرفت ، فجانب الكعبة هو الربع المشتمل عليها وليس المراد وقوع الكعبة في وسطه فإنّه مع إحراز ذلك لا يبقى مجال للتوجّه إلى الجانب ضرورة انّ التوجّه ـ حينئذ ـ إلى نفس الكعبة فالمراد هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه ، وعليه فمفاد الآيات الاكتفاء بالتوجّه نحو ذلك الربع .
الثاني : الروايات الدالّة على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع اشتباه القبلة
الصفحة 538
وتعذّر الترجيح نظراً إلى أنّ ظاهرها انّه مع الإتيان بالصلوات الأربع والصلاة إلى أربع جهات يكون المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة الواقعية وتصير صلاته واجدة لشرط الاستقبال وهذا إنّما يتمّ بناء على ما ذكرنا من أنّ القبلة هو الربع المشتمل على الكعبة وانّه يكفي وقوع الخط الخارج من جزء من أجزاء الوجه عليها وإن لم يكن ذلك الجزء وسط الوجه ، وامّا بناء على كون القبلة أضيق من الربع وأقلّ من ذلك المقدار يلزم الإتيان بأكثر من الصلوات الأربع كما لا يخفى ، فهذه الروايات شاهدة على ما ذكرنا .
الثالث : الروايات الدالّة على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه قال : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال : يعيد .
وصحيحة معاوية بن عمّار انّه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى انّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له : قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة .
والبحث في هاتين الروايتين يقع من جهات :
الاُولى : في المراد من المشرق والمغرب المذكورين فيهما والظاهر انّه ليس المراد منهما منتهى الخطّ الذي يقع من طرف اليمين واليسار بالإضافة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة وإن كان هو المفهوم منهما عند العرف فإنّ المتفاهم عندهم من المشرق والمغرب هما الطرفان اللّذان يتقاطع الخط الخارج منهما مع الخطّ الذي يخرج من نقطة الشمال إلى الجنوب ، وعليه فيكون ما بينهما عبارة عن نصف الدائرة تقريباً ، بل الظاهر انّ المراد منهما كلّ ما يصدق عليه انّه
الصفحة 539
مشرق للشمس أو مغرب لها ، ومن المعلوم انّ لها مشارق مختلفة ومغارب متفاوتة تطلع كلّ يوم من إحدى الاُولى وتغرب في إحدى الثانية ، فالمراد ممّا بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه انّه مشرق للشمس أو مغرب لها . وبعبارة اُخرى : المراد من المشرق هو ربع الدائرة الذي يكون مشرقاً ومن المغرب كذلك ، فالمراد ممّا بينهما هو الربع الواقع بين الربعين الذي لا يصدق على جزء منه شيء من العنوانين .
ويدلّ على تعدّد المشارق والمغارب ـ مضافاً إلى كونه محسوساً لا ريب فيه ـ قوله تعالى : (فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب اننا لقادرون)(1) بناء على ما حكي عن بعض المفسِّرين من كون المراد مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول وإن كان في حمل الآية على ذلك تأمّل إلاّ انّ التعدّد غير قابل للإنكار ، وعليه فالظاهر انّ المراد ممّا بينهما هو المقدار الخارج عن العنوانين وهو لا ينطبق إلاّ على ربع الدائرة المفروضة كما لا يخفى .
الثانية : في أنّ مفاد الروايتين هل هو كون ما بين المشرق والمغرب قبلة مطلقاً في جميع الحالات وعلى جميع لمكلّفين بمعنى انّ الحكم الأوّلي الثابت على الجميع هو أنّ القبلة ما بين المشرق والمغرب فهو قبلة واقعية لا يختلف فيها الحالات أو انّ المراد كونه قبلة في الجملة؟ ربّما يقال بالثاني; نظراً إلى أنّ مفاد الروايتين مجرّد صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة إلى ما بين المشرق والمغرب ، وامّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد فلا يستفاد منهما أصلا ويمكن أن يختصّ ذلك بحال الاشتباه أو خطأ المجتهد في اجتهاده أو غيرهما من الأعذار .
(1) سورة المشارق : 40 .
الصفحة 540
وبالجملة فالعبارة الواقعة في الروايتين قضية مجملة لا دلالة لها على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات ، هذا والظاهر انّ المراد هو المعنى الأوّل وتوضيحه :
انّ الإمام (عليه السلام) ذكر في رواية زرارة انّه لا صلاة إلاّ إلى القبلة وقد مرّ معناه وانّ مفاده توقّف انطباق عنوان الصلاة على كلّ فرد يؤتى به في الخارج بهذا العنوان على وقوعها إلى القبلة وظاهره هو الوقوع إلى القبلة الواقعية ثم سأل زرارة عن حدّ القبلة المذكورة في الكلام .
وبعبارة اُخرى سأل عن حدّ القبلة الواقعية وأجابه الإمام (عليه السلام) بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة مع تأكيده بكلمة «كلّه» ومن الواضح ظهور الجواب عن ذلك السؤال في كونه بياناً للقبلة الواقعية بحيث لو حمل على كونه قبلة في بعض الحالات ولبعض المصلّين خصوصاً مع ندرة تلك الحالة وقلّة ذلك الفرد لا يلائم وقوعه جواباً لذلك السؤال أصلا فلابدّ من أن يكون المراد هو كون ما بينهما قبلة واقعية ويؤيّده السؤال بعد ذلك عن الصلاة إلى غير القبلة والجواب بوجوب الإعادة فتدبّر . وبالجملة لا مجال لإنكار ظهور صحيحة زرارة في كون المراد منها بيان القبلة الواقعية مطلقاً .
وامّا صحيحة معاوية بن عمّار فيمكن أن يقال : إنّ هذا التعبير بلحاظ وقوعه جواباً عن سؤال الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا ظاهر في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب ، غاية الأمر انّ الانحراف اليسير اشتباهاً لا يقدح في صحّة الصلاة ومضيها ، وعليه فلا دلالة لهذه الصحيحة على كون ما بينهما قبلة مطلقاً ، بل لها دلالة على عدمه وانّ القبلة أخصّ من ذلك العنوان .
ولكن الظاهر انّ المفروض في السؤال وإن كان هو الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا إلاّ انّ جواب الإمام (عليه السلام) ردع للسائل عمّا توهّمه من كون صلاته وقعت على
|