الصفحة 561
العلم .
وأورد عليه بأنّ العلم بتحقّق الواجب الواقعي ليس واجباً مستقلاًّ في مقابل نفس الواجب الواقعي حتّى تجب مقدّماته الوجودية واستحق المكلّف بموافقته المثوبة وبمخالفته العقوبة ، بل المكلّف لما توجّه إليه التكليف الصادر من المولى وعلم به يحكم العقل عليه بوجوب امتثاله فإذا كان قادراً على الامتثال اليقيني يحكم عليه بوجوه وإذا لم يتمكّن منه فالعقل يحكم عليه بوجوب السعي وتحصيل الجهد في حصول مراد المولى ومقصوده فإذا تمكّن من الامتثال الظنّي يحكم عليه بوجوبه فإذا جهد وسعى غاية السعي ولم يصادف المأتي به للواجب الواقعي فهو معذور عنده وفيما نحن فيه تكون غاية السعي هو إتيان مقدار يتمكّن منه من المحتملات فإنّه وإن لم يتمكّن من الموافقة القطعية إلاّ انّ الموافقة الاحتمالية إذا كانت من وجوه متعدّدة بعضها أقرب إلى الامتثال اليقيني من بعض آخر يحكم العقل بوجوب إتيان ما هو أقرب فلا محيص عن الإتيان بقدر ما وسع .
هذا ولكن يمكن أن يقال : إنّ حفظ شرطية الوقت والاهتمام به وتقديمه على سائر الشرائط كما عرفت يقتضي سقوط شرطية القبلة في هذه الصورة أيضاً; لأنّ الجمع بينه وبين اعتبار القبلة مع عدم تمكن المكلّف من إحراز الصلاة إلى القبلة الواقعية المتوقّف على التكرير إلى أربع جهات ممّا لا يكاد يمكن فمع الاهتمام بالوقت لابدّ وأن ترفع اليد عن شرطية القبلة ومع رفع اليد عنها لا يبقى مجال للصلاة إلى أزيد من جهة واحدة وما أفاده المورد من تقدّم بعض وجوه الموافقة الاحتمالية على البعض الآخر إنّما يتمّ فيما إذا كان ذلك البعض أقرب من جهة الاحتمال كما إذا كان احتماله راجحاً ، وامّا إذا لم يكن كذلك كما في المقام لأنّه لا يحصل بالصلاة إلى أزيد من واحدة ظنّ بالموافقة ولا يكون التكرير موجباً لقربها فلا وجه للتقدّم أصلا
الصفحة 562
فالظاهر في هذه الصورة ما أفاده البعض المتقدّم من كفاية صلاة واحدة فتدبّر .
الخامس : لو ثبت عدم القبلة في بعض الجهات بالعلم أو بالبيّنة صلّى إلى المحتملات الاُخر لما عرفت من أنّ الأمر بالصلاة إلى أربع جهات بالإضافة إلى المتحيّر ليس أمراً مولوياً يكون مقتضى إطلاقه ثبوته ولو مع العلم بعدم القبلة في بعض الجهات ، بل يكون أمراً إرشادياً إلى ما هو مقتضى حكم العقل ، ومن المعلوم انحصار حكمه بما إذا كان كلّ واحدة من الجهات محتملة للقبلة فاللاّزم مع العلم بالعدم في بعض الجهات تكرار الصلاة إلى بقية الجهات لعين الملاك .
نعم لو حصل له الظنّ بالعدم في بعض الجهات فهل يجوز له الاقتصار على غيره من الجهات أم لابدّ من التكرار إلى أربع؟ والظاهر هو الثاني; لأنّ حجّية الظنّ المستفادة من دليل التحرّي مقصورة على الظنّ التفصيلي بجهة القبلة ولا ملازمة بين حجّية الظنّ التفصيلي وبين حجّية الظنّ الإجمالي . وبعبارة اُخرى المتفاهم عند العرف من دليل اعتبار الظنّ هو الظنّ بثبوت القبلة في جانب خاصّ لا الظنّ بعدمها فيه مع التردّد في سائر الجهات .
السادس : انّه يجوز التعويل على قبلة بلد المسلمين في صلاتهم وقبورهم ومحاريبهم في الجملة ، وعن التذكرة وكشف الالتباس الإجماع عليه ولا حاجة إلى إقامة الدليل على حجّيتها مع فرض إفادتها للعلم بجهة القبلة لحجّيته من أي طريق حصل كما هو شأن القطع الطريقي ، وامّا مع عدم إفادتها سوى الظنّ بالجهة فمع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالقبلة ولا تحصيل الظنّ الأقوى يكون الدليل على الحجّية هو الدليل الوارد في التحرّي الدالّ على اعتبار الظنّ الحاصل به فإنّها أيضاً من مصاديق التحرّي وطرقه .
وامّا مع التمكّن من تحصيل العلم أو الظنّ المذكور فالدليل على الحجّية هي
الصفحة 563
السيرة القطعية العملية المستمرّة من زمن الأئمّة (عليهم السلام) وفي جميع الأعصار والأمصار بحيث لا مجال لإنكارها ولا لإنكار شرعيتها مع كونها بمرئى ومسمع من الأئمّة (عليهم السلام)ودعوى اختصاصها بصورة عدم التمكّن من تحصيل العلم مدفوعة بما نشاهده من ثبوت السيرة في صورة التمكّن من تحصيل العلم أيضاً فضلا عن التمكّن من تحصيل الظنّ فالإنصاف كما في الجواهر حجّية قبلة البلد مطلقاً .
ثمّ إنّه قد قيّد الجواز في المتن تبعاً للأصحاب بما إذا لم يعلم الخطأ فيها ومقتضاه انّه مع عدم العلم بالخطأ ولو كان هناك ظنّ غالب به يجوز التعويل وهذا ليس بواضح فإنّه لم يعلم ثبوت السيرة في مورد الظنّ الأقوى على الخلاف لو لم نقل بالعلم بعدم الثبوت ولا فرق في ذلك بين أن يكون الظنّ بالخلاف راجعاً إلى أصل جهة القبلة أو إلى التيامن والتياسر ، غاية الأمر ثبوت الفرق من جهة ندرة حصول الظنّ بالخلاف من حيث الجهة بخلاف التيامن والتياسر ولكنّه لا يقتضي الفرق في الحكم بعد حصول الظنّ فما عن الذكرى وجامع المقاصد من أنّه لا يجوز الاجتهاد في الجهة قطعاً; لأنّ الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتفاقهم ممتنع بخلاف التيامن والتياسر غير ظاهر بعد فرض الظنّ الأقوى على الخطأ في أصل الجهة ودعوى امتناع حصوله لا ترتبط بالحكم .
وبالجملة فالظاهر اختصاص الجواز بما إذا لم يكن هناك ظنّ غالب على الخطإ والغلط من دون فرق بين صور الخطأ أصلا .
الصفحة 564
مسألة 3 ـ المتحيّر الذي يجب على الصلاة في أزيد من جهة واحدة لو كان عليه صلاتان فالأحوط أن تكون الثانية إلى جهات الاُولى كما انّ الأحوط أن يتمّ جهات الاُولى ثمّ يشرع في الثانية وإن كان الأقوى جواز إتيان الثانية عقيب الاُولى في كلّ جهة 1 .
1 ـ المتحيّر الذي يجب عليه الصلاة إلى أربع جهات ـ مثلا ـ لو كان عليه صلاتان مترتّبتان كالظهرين فلا إشكال في أنّه يجوز له الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل ـ سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل أم لا ـ كما انّه لا إشكال في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل ولا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل كما هو ظاهر إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً كما إذا صلّى الظهر إلى جهة والعصر إلى تلك الجهة ثمّ صلّى الظهر إلى جهة اُخرى والعصر إليها وهكذا ، ونظيره ما إذا تردّد بين القصر والإتمام وأراد الجمع بينهما فهل يجوز له أن يصلّي الظهرين قصراً ثمّ تماماً أو بالعكس أم لا يجوز الشروع في العصر قبل الإتيان بالظهر قصراً وتماماً .
واختار المحقّق النائيني (قدس سره) عدم الجواز بناء على مبناه من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وتأخّره عنه نظراً إلى أنّ في المقام جهتين : إحداهما إحراز القبلة وهو لا يمكن بنحو التفصيل على ما هو المفروض فيجتزئ من جهته بالامتثال الإجمالي ، والاُخرى إحراز الترتيب بين الصلاتين وهو بمكان من الإمكان لجواز الإتيان بجميع محتملات الواجب الأوّل ثمّ الشروع في الثاني ، وعليه يعلم حين الاشتغال بمحتملات العصر بوقوع الظهر قطعاً وحصول الترتيب جزماً ، وعدم العلم بأنّ العصر الواقعي هل هو المحتمل الأوّل أو الوسط أو الأخير إنّما هو
الصفحة 565
للجهل بالقبلة لا الجهل بالترتيب ، وسقوط اعتبار الامتثال التفصيلي بالإضافة إلى شرط ـ لعدم الإمكان ـ لا يوجب سقوط اعتباره بالنسبة إلى ما يمكن من الشرائط كالترتيب في المقام فلا وجه لرفع اليد عن هذه الجهة التي لها دخل في الامتثال أصلا .
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ مضافاً إلى منع المبنى نظراً إلى أنّ الامتثالين إنّما يكونان في رتبة واحدة ولا يكون الإجمالي متأخّراً عن التفصيلي بمنع البناء نظراً إلى أنّه لا فرق بين هذه الصورة وبين ما إذا شرع في محتملات الثاني بعد استيفاء الأوّل ولا يكون الأمر في المقام دائراً بين الموافقة الإجمالية والتفصيلية وذلك لأنّ كلّ واحد من محتملات العصر لو صادف القبلة فقد أتى قبله بالظهر ويتحقّق الترتيب واقعاً وغير المصادف منها عمل لا طائل تحته كغير المصادف من الآخر ولا ترتيب بينهما .
وبالجملة الترتيب أمر إضافي يتقوّم بثلاثة اُمور : وجود الظهر ، ووجود العصر ، وتأخّر الثاني عن أوّل ولا مجال لحصول العلم التفصيلي بتحقّق هذا الأمر الإضافي بعد عدم كون العصر معلوماً إلاّ بالإجمال فلا فرق بين الصورتين .
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكر انّه لا يجوز التمسّك لعدم جواز الشروع في العصر كذلك باستصحاب عدم الإتيان بالظهر الواقعي لأنّ ما يترتّب عليه إنّما هو عدم جواز الدخول في العصر الواقعي ونحن أيضاً نقول به ، ولذا لا نحكم بجواز الإتيان بجميع محتملات العصر قبل الفراغ اليقني من الظهر ولكن ندّعى انّ ما يأتى به هو العصر الواقعي لو كانت الصلاة السابقة عليه هي المأمور بها الواقعية وعلى هذا فترتّبه على الظهر ثابت في جميع محتملاته .
نعم ربّما يقال بأنّ الوجه في عدم جواز الشروع في العصر قبل استيفاء محتملات
الصفحة 566
الأوّل هو انّه قد علم من الشرع ـ بمقتضى الأدلّة ـ انّ الاشتغال بالعصر إنّما يجوز بعد العلم بالفراغ من الظهر فمع الشكّ في الفراغ عنه لا يجوز الاشتغال بالأمر المترتّب عليه ودعوى انّ الاشتغال غير الجائز إنّما هو الاشتغال بالعصر الواقعي وفي هذه الصورة لا يعلم كونه هو العصر الواقعي بل كونه عصراً يلازم كون السابق ظهراً فلا وجه لعدم جواز الاشتغال به .
مدفوعة بأنّ المستفاد من الأدلّة مثل دليل العدول ونحوه انّ الشارع لم يرض بالاشتغال بصلاة بعنوان انّها الصلاة اللاّحقة إلاّ بعد العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة فمع الشكّ في الفراغ عن عهدة تكليف الظهر كيف يجوز الشروع في صلاة بعنوان انّها صلاة العصر .
هذا ولكن استفادة هذا القول من الأدلّة مشكلة فإنّ مفادها مجرّد لزوم ترتّب العصر على الظهر وتأخّرها عنها واعتباره في صحّة العصر ، وامّا عدم ارتضاء شارع بالاشتغال بصلاة بعنوان انّها يحتمل كونها الصلاة اللاّحقة قبل العلم بفراغ الذمّة عن التكليف بالصلاة السابقة فلم يظهر من الأدلّة والأخبار الواردة في العدول لا دلالة لها على ذلك أصلا; لأنّ مفادها لزوم العدول مع إمكانه والالتفات إلى عدم تحقّق الترتيب ، فالإنصاف انّه لا مجال لإنكار جواز الشروع في محتملات الواجب الثاني بالنحو المذكور أصلا .
بقي في مسألة اشتباه القبلة فروع ينبغي التعرّض لبعضها :
منها : لو كان من عليه صلاتان مترتّبتان كالظهرين ـ مثلا ـ غير متمكّن إلاّ من الإتيان بأربع أو ثلاث أو اثنتين فهل يجب عليه أن يصلّيها للظهر إلاّ واحدة يصلّيها للعصر أو انّه يجب عليه أن يصلّيها جميعاً للعصر وجهان مبنيان على أنّ المقدار الذي يختص بالعصر من آخر الوقت هل هو مقدار الصلاة إلى القبلة الواقعية وهي
الصفحة 567
أربع ركعات بالإضافة إلى الحاضر فلا يختلف باختلاف حال المكلّف من حيث العلم بالقبلة والجهل بها أو مقدار ما يجب على المكلّف إتيانه فيختلف باختلاف حاله كالقصر والإتمام فإنّ المقدار الذي يختصّ بالعصر من الوقت للمسافر هو مقدار إتيان ركعتين وللحاضر مقدار أربع ركعات .
وبعبارة اُخرى هل المراد من الوقت الاختصاصي ما تفعل فيه الفريضة بنفسها أو ما تفعل فيه الفريضة بمقدّماتها العلمية ، فعلى الأوّل لا يجوز صرف الجميع في العصر بل اللاّزم إبقاء واحدة للعصر والإتيان ببقية المحتملات للظهر أو بواحدة لها أيضاً على الخلاف المتقدّم في أنّه مع عدم إمكان إحراز القبلة بإتيان جميع المحتملات هل اللاّزم استيفاء البقية لكونها أقرب إلى الواقع أو انّه لا يجب ـ حينئذ ـ إلاّ واحدة لعدم تفاوت في مرتبة الموافقة الاحتمالية من جهة الاحتمال ، وعلى الثاني يجب صرف الجميع في العصر لو كان المقدور أربع صلوات ولو كان أقلّ منها يجب الباقي أو خصوص الواحد على الخلاف .
هذا واستظهر سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) الأوّل ولكن لا تبعد دعوى الثاني وانّ اختلاف حالات المكلّف من حيث العلم والجهل بالقبلة أو بالطهارة أو بغيرهما موجب لاختلاف مقدار الوقت الاختصاصي كاختلاف المكلّفين في البطؤ ولاسرعة ونحوهما فإنّ المستفاد من دليل الاختصاص هو اختصاص المقدار من الوقت الذي لا محيص للمكلّف من أن يصرفه في الصلاة اللاّحقة فلا فرق في ذلك بين الفريضة بنفسها وبينها بمقدّماتها العلمية فتدبّر .
ومنها : ما لو تمكّن في الفرض المذكور من الإتيان بالزائدة على الأربع ولكن لم يتمكّن من الثمان بل تمكّن من الإتيان بخمس أو ست أو سبع فهل يجب عليه إيراد النقص على الاُولى وصرف الوقت في محتملات الثانية أو انّه يجب عليه رعاية
الصفحة 568
محتملات الاُولى وإيراد النقص على الثانية وجهان مبنيان على الاحتمالين المذكورين في الفرع السابق وهما انّ المراد بالوقت الاختصاصي للعصر هل هو مقدار الفريضة بنفسها أو مقدارها بمقدّماتها العلمية فعلى الأوّل يجب إيراد النقص على الثانية وعلى الثاني على الأوّل .
واحتمل في العروة ثبوت التخيير بين الأمرين وأورد عليه بأنّه لا وجه لهذا الاحتمال; لأنّ الأمر دائر بين الوجهين ، امّا أن نقول باختلاف مقدار وقت صلاة العصر باختلاف حالات المكلّفين من حيث العلم بالقبلة والجهل بها ، وامّا أن نقول بعدم الاختلاف . فعلى الأوّل يتعيّن إيراد النقص على الاُولى وعلى الثاني يتعيّن إيراده على الثانية ولا يبقى وجه للتخيير بين الأمرين .
ولكنّه ربّما يقال في وجهه بناء على اختصاص مقدار الصلاة إلى القبلة الواقعية بالعصر بأنّ الأمر يدور بين الوجهين أحدهما حفظ شرطية القبلة في صلاة الظهر وسقوطها بالنسبة إلى صلاة العصر والآخر عكس ذلك لأنّ ما سوى الوقت المختصّ بالعصر مشترك بينه وبين الظهر فيمكن رعاية القبلة في الاُولى بإتيان جميع محتملاتها وسقوطها في الثانية ويمكن العكس وحيث لا مرجح لأحدهما على الآخر فيجب الحكم بالتخيير .
ويرد لعيه انّ عدم رعاية القبلة في صلاة الظهر التي هي الصلاة المتقدّمة لابدّ وأن يكون مستنداً إلى ما يوجب سقوط شرطيتها وما يوجب ذلك ليس إلاّ العجز عنها وعدم القدرة عليها والمفروض ثبوت القدرة بالإضافة إلى صلاة الظهر بالإتيان بجميع المحتملات وكون صرف القدرة في الصلاة المتقدّمة موجباً لسلبها بالإضافة إلى اللاحقة المتأخّرة لا يسوغ صرفها فيها ولا التخيير بين الأمرين فإنّ التكليف الفعلي بالصلاة إلى القبلة الواقعية بالنسبة إلى الظهر لا يكون له مانع فلا مجال لعدم
الصفحة 569
رعايتها فيها وليس ذلك لأجل ترتّب الثانية على الاُولى واشتراط وقوعها في صحّتها ، بل لأجل ثبوت التكليف الفعلي بالإضافة إلى الاُولى . ألا ترى انّه لو كان الشخص غير قادر على مراعاة القبلة ـ مثلا ـ في إحدى الصلاتين كالظهر والمغرب بمعنى انّه لا يقدر على مراعاتها في كلتيهما بل يتمكّن من حفظها في خصوص إحداهما فهل يجوز له أن يراعي القبلة في الصلاة اللاحقة دون السابقة مع أنّ المغرب لا تكون مترتّبة على الظهر ، غاية الأمر انّ الترتّب في المقام اقتضى تكليف الصلاة السابقة ولزوم رعايته أولا فالتكليف الفعلي الثابت مع فرض القدرة يجب أن يراعى بجميع الخصوصيات ولا يسوغ ترك البعض رعايته في تكليف آخر كما لا يخفى .
هذا ويمكن أن يقال في وجه تخيير العروة انّه حيث لم يثبت من الأدلّة انّ الوقت الاختصاصي للعصر هل هو مقدار صلاة الفريضة بنفسها أو مقدارها بمقدّماتها العلمية فاللاّزم هو الحكم بالتخيير لدوران الأمر بين تعين النقص على الاُولى وبين تعيّنه على الثانية فلا مجال لغير التخيير مع عدم ثبوت الرجحان لشيء من الأمرين .
ويدفعه انّه مع عدم الاستفادة من الدليل يكون مقتضى الاستصحاب هو بقاء الوقت الاشتراكي إلى أن يبقى مقدار صلاة الفريضة بنفسها فيتعيّن ـ حينئذ ـ إيراد النقص على الثانية فتدبّر .
ومنها : ما إذا كان المكلّف المتحيّر متمكّناً من الصلاة إلى الجوانب الأربعة ولم يأت بها حتى زال تمكّنه وبقي متمكّناً من إحداها فالكلام يقع تارة فيما هو وظيفته فعلا واُخرى في وجوب القضاء بعد الوقت وثالثة في تحقّق العصيان وعدمه .
امّا من الجهة الاُولى فلا ينبغي الإشكال في أنّ وظيفته الفعلية هو الإتيان بما
الصفحة 570
يتمكّن منه من الصلاة إلى إحدى الجهات ومرجعه إلى سقوط شرطية القبلة في هذا الحال لما مرّ من عدم مزاحمة شرطية القبلة مع الوقت كما يعلم بالاستقراء والتتبّع في موارد مزاحمة الوقت مع سائر الشروط ، بل بعض الأجزاء كسقوط السورة عند ضيق الوقت فإنّ المستفاد منها انّ الشارع قد اهتم بالوقت ولم يسقط شرطيته في صورة المزاحمة مع الشروط الاُخر وفي المقام مقتضى ذلك سقوط شرطية القبلة مع عدم التمكّن إلاّ من الواحدة لأنّالجمع بين وقوع الصلاة في الوقت واعتبار الاستقبال فيها ممتنع وأهمّيته الوقت توجب الحكم بسقوط شرطية القبلة فلا ينبغي الإشكال ـ حينئذ ـ في أنّ وظيفته الفعلية هي صلاة واحدة والقبلة ساقطة عن الشرطية .
وامّا من الجهة الثانية فالظاهر عدم وجوب القضاء عليه; لأنّه معلّق على الفوت وهو غير متحقّق لأنّك عرفت انّ ضيق الوقت أوجب سقوط شرطية القبلة فالصلاة الواقعة كانت واجدة لجميع الشروط المعتبرة فيها والخصوصيات الدخيلة في صحّتها فلم يتحقّق فوت الواجب حتّى يجب قضائه وليس الحكم بوجوب الواحدة في الوقت لأجل انّها أحد المحتملات حتى يلزم الإتيان ببقية المحتملات خارج الوقت ويكون الإتيان بالمجموع موجباً للعلم بوقوع الصلاة إلى القبلة بل لما عرفت من أنّه إنّما هو لأجل سقوط شرطية القبلة مع المزاحمة مع شرطية الوقت ومع السقوط لا يبقى مجال للقضاء والإتيان ببقية المحتملات أصلا .
وامّا من الجهة الثالثة فاللظاهر ثبوت العصيان وتحقّق المخالفة العمدية وإن كان ربّما يقال بعدم تحقّق العصيان نظراً إلى أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصلاة والتخيير بين أفرادها في أجزاء الوقت ففي حالة وجدان الماء تكون الصلاة مع الطهارة المائية مصداقاً لطبيعة الصلاة التي هي المأمور بها وفي حالة فقدان الماء تكون الصلاة مع
الصفحة 571
الطهارة الترابية مصداقاً لها . وفي حالة تمكّن المكلّف من الصلاة إلى القبلة الواقعية تكون الصلاة إليها مصداقاً لها وفي حالة عدم التمكّن تسقط شرطية القبلة وتكون الصلاة إلى أيّة جهة مصداقاً لها .
ولكن الظاهر ثبوت العصيان لأنّ العنوانين المتقابلين إذا كانا عرضيين كعنواني المسافر والحاضر فالحكم كما ذكر من أنّه لا يجب على المكلّف حفظ أحد العنوانين بعدم الخروج منه إلى الآخر بل يجوز التبديل دائماً سواء كان قبل تحقّق التكليف وتنجّزه أو بعده لعدم اقتضاء التكليف حفظ موضوعه .
وامّا إذا لم يكن العنوانان كذلك بل كانا طوليين فلا يجوز الانتقال من العنوان الأوّل إلى الآخر وذلك كما في مسألة وجدان الماء وفقدانه فإنّ المستفاد من دليل التيمّم انّ الانتقال إليه إنّما هو في صورة الاضطرار واللابدية ومرجعه إلى عدم كون الصلاة معه وافية بتمام المصلحة المتحقّقة في الصلاة مع الطهارة المائية وكما في المقام فإنّ سقوط شرطية القبلة في مفروض المسألة إنّما هو للعجز وعدم القدرة على رعاية القبلة الواقعية ، ومن المعلوم انّه لا يجوز التعجيز اختياراً ولا يسوغ الانتقال إلى العنوان الاضطراري ولذا حكموا بعدم جواز إراقة ماء الوضوء وكذا إبطاله وإيجاد حالة العجز فالعصيان تحقّق في مثل المقام .
ومنها : ما إذا علم المتحيّر بعد الإتيان بمحتملات ما يجب عليه تكراره واعتقاد رعاية الجميع بأنّه لم يأت بجميعها بل ترك واحداً منهما إجمالا أو تفصيلا كما إذا علم بترك الصلاة إلى جهة الأيسر ـ مثلا ـ فهل يجب عليه الإتيان بما علم انّه لم يأت به في الوقت أو بعده أو لا يجب؟ وجهان :
من جريان قاعدة الفراغ إذا شكّ بعد الوقت بالنسبة إليه لأنّه وإن كان عالماً بترك بعض المحتملات إلاّ انّه بالإضافة إلى المأمور به الواقعي الذي هي الصلاة إلى
الصفحة 572
القبلة الواقعية يكون شاكّاً .
وبعبارة اُخرى هو شاكّ بعد الفراغ في أنّه هل كان المأتي به واجداً للقبلة المعتبرة فيه أم لا فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ وكذلك يكون شاكّاً بعد الوقت في أنّه هل تحقّق منه الصلاة إلى القبلة الواقعية أم لا فلا مانع من جريان قاعدة الشكّ بعد الوقت .
ومن عدم الدليل على الفرق بين المقام وبين ما إذا اقتصر على ثلاثة محتملات عالماً ملتفتاً إلاّ مجرّد تخيّل الإتيان بالجميع واعتقاده في زمان وهل يكون ذلك فارقاً فإنّه كيف يوجب الاعتقاد به سقوط شرطية القبلة على تقدير عدم تحقّقها فيما أتى به من المحتملات ومع عدم السقوط يكون حكم العقل بلزوم إحراز القبلة بالإتيان بالجميع بحاله من دون أن يحدث فيه فتور أو قصور ومورد جريان قاعدة الفراغ هو ما إذا شكّ في اشتمال العمل على جميع أجزائه وشرائطه ومرجعها إلى رفع اليد عن الجزء والشرط المشكوك على تقدير الإخلال به ، وامّا المقام فليس فيه إلاّ مجرّد التخيّل والاعتقاد في زمان مع انكشاف خلافه بعده ، وكيف يكون ذلك موجباً لسقوط شرطية القبلة ومع عدمه لا محيص عن الإتيان بالمحتمل الفائت في الوقت وفي خارجه ، غاية الأمر انّه لو كان معلوماً بالتفصيل لكان اللاّزم الإتيان به بالجهة التي علم بعدم الإتيان بالصلاة إليها ولو كان معلوماً بالإجمال لكان اللاّزم الإتيان بها إلى أربع جهات لعدم إحراز تحقّق الاستقبال بدونه ، وعليه فقد تحقّق منه سبع صلوات لإحراز وقوع صلاة واحدة إلى القبلة .
وفي حكم فوات بعض المحتملات ما إذا علم ببطلان أحد المحتملات من جهة نقصانه لأجل ترك الركن فيه سهواً فإنّه يجب عليه إعادته في الوقت وبعده سواء كان ذلك المحتمل معلوماً بالتفصيل أو معلوماً بالإجمال ، غاية الأمر لزوم إعادة
الصفحة 573
واحدة في الأوّل والجميع في الثاني كما عرفت .
وامّا لو علم بترك ما لا تبطل الصلاة بتركه سهواً بل يجب عليه قضائه بعد الفراغ كالتشهّد والسجدة الواحدة فلا إشكال أيضاً في أصل وجوب قضائه بعد الفراغ وانّه لا مجال لجريان قاعدة الفراغ نظراً إلى عدم العلم بتركهما في المأمور به الواقعي لما عرفت من ثبوت حكم العقل بحاله إنّما الإشكال في أنّه هل يكون قضائه موجباً لإحراز صلاة كاملة إلى القبلة أم لا .
فنقول : لو علم تفصيلا بتركه في خصوص المحتمل الأخير لكان قضائه بعده بلا فصل مع الخصوصيات المعتبرة فيه موجباً للعلم بوقوع الصلاة إلى القبلة الواقعية .
وامّا لو علم تفصيلا بتركه في غير المحتمل الأخير كالمحتمل الثالث ـ مثلا ـ أو علم إجمالا بتركه في واحد من المحتملات من دون تعيين فالمسألة مبنية على أنّ الأجزاء المنسية التي يجب قضائها بعد الفراغ من الصلاة هل تكون أجزاء للصلاة ومتمّمة لها ، غاية الأمر انّه قد تغيّرت مواضعها واكتفى الشارع بإتيانها بعدها وأوجب سجدتي السهو لأجل تغيّر مواضعها أو انّها تكون مأموراً بها مستقلّة والمصلحة الفائتة في الصلاة لأجل نسيانها تتدارك بها وإن كانت خارجة عن الصلاة؟
فعلى الأوّل يشترط فيها عدم الانفصال عنها وعدم تخلّل المنافي بينها وبينها مضافاً إلى سائر الشرائط المعتبرة في أجزاء الصلاة . وبعبارة اُخرى يعتبر فيها جميع ما يعتبر في سائر الأجزاء بخلاف الثاني فإنّها بناء عليه لا يقدح الانفصال بينها وبين الصلاة ولا يضرّ فعل المنافي بينهما ، غاية الأمر لزوم رعاية القبلة والطهارة في حال الإتيان بها .
فإن قلنا بالمبنى الأوّل فاللاّزم هي إعادة الصلاة التي علم تفصيلا بترك التشهّد
الصفحة 574
فيها سهواً لعدم حصول العلم بوقوع الصلاة إلى القبلة الواقعية بمجرّد قضاء التشهّد المنسي لوقوع الفصل بينه وبين الصلاة التي هي المحتمل الثالث فرضاً مضافاً إلى احتمال تحقّق الاستدبار بسبب الإتيان بالمحتمل الأخير ، وعليه فقد تحقّق المنافي في البين ولابدّ من إحراز عدم التخلّل ولا يجدي مجرّد احتماله كما لا يخفى .
وامّا في صورة العلم الإجمالي فالاحتياط إنّما يتحقّق بقضاء الجزء المنسي بعد المحتمل الأخير ثمّ إعادة بقيّة المحتملات من رأس ولا يتحقّق بقضاء الجزء إلى أربع جهات بعد احتمال الانفصال وتحقّق المنافي وهو الاستدبار كما عرفت .
وإن قلنا بالمبنى الثاني ففي صورة العلم التفصيلي يأتي بقضاء التشهّد مرّة إلى الجهة التي علم بكون الصلاة إليها فاقدة له ولا يقدح الفصل القطعي والمنافي الاحتمالي بوجه على ما هو المفروض . وفي صورة العلم الإجمالي لابدّ من قضاء الجزء المنسي إلى أربع جهات ليتحقّق العلم بوقوع صلاة كاملة إلى القبلة الواقعية وتدارك ما فات من المصلحة كما هو ظاهر .
تتميم :
كما انّالمتحيّر في القبلة يجب عليه تكرار الصلاة إلى أربع جهات في الصلوات اليومية كذلك يجب عليه التكرار مع فقد العلم والظنّ في سائر الصلوات غير اليومية واجبة كانت كصلاتي الآيات والأموات أم مستحبّة كصلاة الليل والمناقشة في وجوب التكرار في صلاة الميّت نظراً إلى أنّ مفاد الدليل لزوم التكرار في الصلاة وهي ليست بصلاة بل دعاء ، مدفوعة ـ مضافاً إلى منع عدم كونها صلاة ـ بأنّ الدليل على لزوم التكرار إنّما هو حكم العقل به بعد ملاحظة شرطية القبلة وتوقّف إحرازها على التكرار إلى أربع جهات وهذا لا يختصّ بباب الصلاة بل يجري في كلّ ما تكون القبلة معتبرة فيه إذا اشتبهت وتردّدت بين الجهات وقد عرفت انّ الرواية
الصفحة 575
إرشاد إلى حكم العقل .
نعم الظاهر عدم وجوب التكرار في الصلوات التي لا يكون بنائها على التكرار على ما هو المعلوم من مذاق الشرع كصلاة الجمعة والعيدين ، كما انّه لا يجب التكرار فيما لا يمكن فيه التكرار كحال الاحتضار والدفن فلابدّ من الالتزام بسقوط القبلة عن الشرطية وقد عطف السيّد (قدس سره) في العروة على الأمرين الذبح والنحر وقال في الجميع : بأنّه مع عدم الظنّ تخيّر والأحوط القرعة .
أقول : الظاهر انّه لا مجال لدعوى السقوط في مثل الذبح ممّا لا يمكن فيه التكرار ولا يكون من الوظائف الوجوبية فإنّ السقوط في مثل الدفن إنّما هو لأجل انّه لابدّ منه وحيث إنّ التكرّر غير ممكن فلا محيص عن السقوط ، وامّا الذبح فلا يكون من حيث هو واجباً حتّى تكون رعايته مع عدم إمكان التكرّر مستلزمة لسقوط القبلة عن الشرطية وهذا كما في مثل الصلاة المندوبة إذا لم يتمكّن من التكرار فإنّ مقتضى القاعدة فيها عدم إتيان بها لا الإتيان من دون رعاية القبلة ، نعم يمكن استفادة عدم الاعتبار من الدليل الدال على السقوط في نفس الموارد أو على السقوط في بعض الموارد الاُخر كما إذا كان الحيوان عاصياً أو واقعاً في برّ ونحو ذلك نظراً إلى إلغاء الخصوصية ولكن الكلام في المقام إنّما هو مع فرض الاعتبار وإن عدم التمكّن من حيث هو يوجب السقوط أم لا .
وامّا الرجوع إلى القرعة فالظاهر عدم كون مثل المقام مورداً له امّا لاختصاص الرجوع بموارد عمل الأصحاب فيها بعمومات القرعة ، وامّا لاختصاص أدلّة القرعة بموارد تزاحم الحقوق وعدم العموم فيها لكلّ أمر مشتبه أو مشكل على ما يترائى من ظواهرها ومن المعلوم عدم تحقّق شيء من الأمرين في المقام فتدبّر .
ثمّ إنّه يجب التكرار في الأجزاء المنسية وسجدتي السهو بناء على وجوب
الصفحة 576
الاستقبال لهما ـ كما هو الظاهر من الأدلّة ـ فإذا اشتبهت القبلة بعد الصلاة مثلا وقبل الإتيان بقضاء الجزء المنسي أو سجدتي السهو يجب عليه التكرار لما عرفت من عموم حكم العقل بذلك .
الصفحة 577
مسألة 4 ـ من صلّى إلى جهة بطريق معتبر ثمّ تبيّن خطائه فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين والشمال صحّت صلاته ، وإن كان في أثنائها مضى ما تقدّم منها واستقام في الباقي من غير فرق بين بقاء الوقت وعدمه وإن تجاوز انحرافه عمّا بينهما أعاد في الوقت دون خارجه وإن بان استدباره إلاّ انّ الأحوط القضاء مع الاستدبار بل مطلقاً ، وإن انكشف في الأثناء انحرافه عمّا بينهما فإن وسع الوقت حتّى لادرك ركعة قطع الصلاة وأعادها مستقبلا وإلاّ استقام للباقي وصحّت على الأقوى ولو مع الاستدبار والأحوط قضائها أيضاً 1 .
1 ـ لا إشكال في أنّ الإخلال الاستقبال مع العمد والالتفات مبطل للصلاة وموجب للإعادة والقضاء لأنّه مقتضى الشرطية المستفادة من مثل قوله (عليه السلام) في بعض الروايات المتقدّمة : لا صلاة إلاّ إلى القبلة ، ضرورة انّه بدونه تلزم اللغوية .
وامّا الإخلال به بدونه كما إذا صلّى إلى جهة قطع بكونها القبلة ثمّ تبيّن خطائه أو اعتمد على البيّنة أو الظنّ في صورة جواز الاعتماد عليه ففيه صورتان :
الاُولى : ما إذا كان الانحراف يسيراً بحيث لم يبلغ حدّ المشرق والمغرب وفيها قولان : الأوّل وجوب الإعادة عليه في الوقت فقط وقد حكي ذلك عن الناصريات والمقنعة والمبسوط والخلاف والنهاية والمراسم والوسيلة والغنية والسرائر حيث إنّهم أطلقوا القول بوجوب الإعادة في الوقت إذا صلّى لغير القبلة من دون أن يتعرّضوا لحكم خصوص الانحراف اليسير . الثاني عدم وجوب الإعادة مطلقاً وهو الأقوى للأخبار الكثيرة الدالّة عليه :
كصحيحة معاوية بن عمّار انّه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ فيرى انّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا ، فقال له : قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة .
الصفحة 578
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه قال : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت ؟ قال : يعيد .
وموثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته قال : إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة .
ورواية الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهم السلام) انّه كان يقول : من صلّى على غير القبلة وهو يرى انّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب .
وفي مقابل هذه الروايات الأخبار الواردة في مطلق الصلاة على غير القبلة الدالّة على وجوب الإعادة في الوقت وعدمه في خارجه وسيأتي نقلها إن شاء الله تعالى في الصورة الثانية ولكن الظاهر عدم صلاحيتها للمعارضة مع هذه الروايات وتقدّم هذه عليها وتوضيحه :
انّ الصحيحتين الدالّتين على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة إن كان المراد منهما انّ ما بينهما قبلة حقيقة لعامّة المكلّفين في جميع الأحوال وكان المراد منهما تعيين حدّ القبلة وبيان حقيقتها كما استظهرناه منهما سابقاً ولابدّ وان يكون المراد ـ حينئذ ـ ممّا بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على شيء من أجزائه انّه مشرق للشمس أو مغرب بل ما بينهما وهو الربع من الدائرة المفروضة فهما واردتان على تلك الأخبار لدلالتهما على تعيين حدّ القبلة ووردها في حكم من صلّى إلى غير القبلة فالموضوع فيها أمر وفي الصحيحتين أمر آخر ، نعم مقتضى إطلاق ذيل
الصفحة 579
صحيحة زرارة وجوب الإعادة مطلقاً على من صلّى لغير القبلة والمراد من الصلاة لغير القبلة فيها ـ حينئذ ـ هي الصلاة الخارجة عن الربع المفروض وإن لم يصلِّ إلى المشرق والمغرب العرفيين الاعتداليين فمقتضى إطلاق الذيل وجوب الإعادة من دون تقييد بالوقت وبما إذا كان الانحراف بالغاً إليهما .
وإن كان المراد من الصحيحتين انّ ما بين المشرق والمغرب قبلة تنزيلا ومرجعه إلى أنّ الانحراف عن القبلة الواقعية إذا لم يتجاوز عمّا بينهما لا يقدح بصحّة الصلاة ولابدّ وأن يكون المراد من المشرق والمغرب ـ حينئذ ـ الاعتداليين ويكون ما بينهما بمقدار نصف الدائرة تقريباً كما انّ المراد ـ حينئذ ـ من الصلاة إلى غير القبلة المفروضة في ذيل صحيحة زرارة هي الصلاة الخارجة عن النصف المذكور فهما حاكمتان على تلك الأخبار لورودهما فيمن صلّى إلى غير القبلة ودلالة الصحيحتين على عدم كون الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب صلاة إلى غير القبلة بل هي صلاة إليها تعبّداً وتنزيلا فهما بمنزلة المفسّرة لموردها والشارحة لموضوعها .
نعم الذي يبعد الحكومة انّ فرض الصلاة لغير القبلة قد وقع في أكثر تلك الأخبار في كلام السائل دون الإمام (عليه السلام) ومن البعيد أن يكون مراد السائل من الصلاة لغير القبلة هي الصلاة إلى غير ما بين المشرق والمغرب ، نعم لا يبعد فيما وقع هذا الفرض في كلام الإمام (عليه السلام) كما في بعض تلك الأخبار ، وعليه فينحصر طريق الجمع بما يأتي في الروايتين الآخرتين .
وامّا غير الصحيحتين من الروايتين فربّما يقال بأنّ التعارض بينهما وبين تلك الأخبار هو تعارض العموم من وجه وكما يمكن تقييد تلك الأخبار المفصلة بين الوقت وخارجه بما إذا لم يكن الانحراف إلى ما بين المشرق والمغرب بل زائداً عليه
الصفحة 580
كذلك يمكن تقييد الروايتين بإرادة عدم الإعادة في خارج الوقت فقط ولا ترجيح للأوّل على الثاني بل الأمر بالعكس كما قاله صاحب الحدائق (قدس سره) لأنّ القدماء من الأصحاب حكموا بوجوب الإعادة في الوقت مطلقاً وقيّدوا الروايات الدالّة على عدم قادحية الانحراف اليسير فالترجيح ـ حينئذ ـ مع الثاني .
ولكن الظاهر عدم تمامية هذا القول بل اللاّزم الالتزام بكون الروايتين مخصصتين لتلك الأخبار فيختص موردها بما إذا كان الانحراف أزيد ممّا بين المشرق والمغرب ولا يمكن العكس لأنّه لو كانت تلك الأخبار مخصّصة لهما واختص موردهما بما إذا علم بالانحراف في خارج الوقت يلزم أن تكون الخصوصية المذكورة فيهما وهو كونه بين المشرق والمغرب لغواً لأنّه ـ حينئذ ـ لا يبقى مجال للتفصيل في صور الانحراف مع أنّهما صريحتان في ثبوت التفصيل ومدخلية الخصوصية المذكورة ، وعليه فاللاّزم ابقائهما على حالهما والتصرّف في تلك الأخبار ، كما انّ اللاّزم الالتزام بالتخصيص بالإضافة إلى ذيل صحيحة زرارة بناء على كون المراد منها ما ذكرنا وحمله على كون المراد من الصلاة لغير القبلة هي الصلاة إلى غير ما بين المشرق والمغرب الاعتداليين كما لا يخفى .
وامّا القدماء من الأصحاب فقد عرفت انّهم لم يتعرّضوا لحكم خصوص الانحراف اليسير ، بل أطلقوا القول بوجوب الإعادة في الوقت وقد ذكر سيّدنا العلاّمة الاستاذ (قدس سره) انّ عدم تعرّضهم له يحتمل أن يكون لأجل طرحهم للروايات الدالّة على ذلك وهو بعيد مع صحّتها ويحتمل أن يكون لما فهموا منها من كون مدلولها إنّما هو تعيين حدّ القبلة وانّ ما بين المشرق والمغرب قبلة حقيقة فلا تكون الروايات متعرّضة لحكم الانحراف عن القبلة .
ويرد عليه انّ كون مدلول الروايات هو تعيين حدّ القبلة لا ينافي التعرّض لحكم
|