الصفحة 581
الانحراف لأنّ حدّ القبلة على ما مرّ هو ربع الدائرة والانحراف عنه إلى المشرق والمغرب مع عدم البلوغ إليهما ربّما يتّفق كثيراً مع أنّ بعض تلك الروايات تدلّ على وجوب التحويل إلى القبلة ساعة يعلم فكيف يمكن دعوى عدم تعرّضها لحكم الانحراف ، نعم لو قلنا بانحصار الدليل في الصحيحتين أمكن دعوى ذلك لكن عرفت انّ ذيل صحيحة زرارة يدلّ على وجوب الإعادة مطلقاً فما أفاده في توجيه عدم التعرّض ممّا لا يتمّ .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا انّ الأقوى هو القول بعدم وجوب الإعادة في الانحراف اليسير فيما إذا تبيّن الخطأ بعد الفراغ .
وامّا إذا تبيّن في الأثناء فاللاّزم استفادة حكمه من دليل خاص ولا يكفي الدليل على الصحّة بعد الفراغ وذلك لأنّ التبيّن في الأثناء يوجب وقوع بعض آنات الصلاة إلى غير القبلة مع التوجّه والالتفات لأنّ الاستقامة بعد التوجّه لا تتحقّق بدون ذلك ، ومن المعلوم انّ وقوعه إليه كذلك موجب للبطلان بمقتضى القاعدة ولذا لا يجوز الانحراف اليسير كذلك في أنّ في حال الالتفات فالتبيّن في الأثناء لا يمكن استفادة حكمه من التبيّن بعد الفراغ ، نعم يمكن العكس على تقدير كون حكمه هي الصحّة كما لا يخفى .
وكيف كان فيدلّ على حكمه موثقة عمّار المتقدّمة الواردة في التبين في الأثناء وخبر القاسم بن الوليد قال : سألته عن رجل تبيّن له وهو في الصلاة انّه على غير القبلة ، قال : يستقبلها إذا ثبت ذلك وإن كان فرغ منها فلا يعيدها .
ثمّ إنّه لا إشكال في خروج العالم العامد عن مورد الروايات الواردة في الصورة الاُولى من المسألة كما انّه لا إشكال في دخول المجتهد المخطئ في موردها سواء كان اجتهاده قطعياً أو ظنّياً بالظنّ المعتبر في باب القبلة ، كما انّه لا ينبغي التأمّل في
الصفحة 582
دخول الغافل وناسي القبلة فيه لأنّ الظاهر من قول معاوية بن عمّار في روايته : الرجل يقوم في الصلاة . . . هو القيام فيها بنحو مشروع فيشمل الغافل والناسي ، وامّا الناسي للحكم مع العلم بجهة القبلة فالظاهر عدم دخوله في موردها لأنّ الظاهر منه انّ رؤية الانحراف إنّما تحقّقت بعد الفراغ ، كما انّ التعبير الوارد في رواية الحسين بن علوان لا يشمله لأنّه لا يرى في حال الصلاة انّه على القبلة .
وامّا الجاهل فإن كان جهله متعلّقاً بالحكم فالظاهر عدم الدخول فيه أيضاً سواء كان قاصراً أو مقصراً لعدم كون رؤية الانحراف فيه متحقّقة بعد الفراغ وإن كان جهله متعلّقاً بالقبلة فإن كان بانياً على الإتيان بما هو وظيفة الجاهل من الصلاة إلى أربع جهات ـ مثلا ـ ثمّ انكشف له بعد الفراغ عن بعضها انّه كان منحرفاً عن القبلة بالانحراف اليسير فلا يبعد دعوى شمول صحيحة معاوية بن عمّار له أيضاً لأنّه قام في الصلاة بالقيام لامشروع ونظر بعدما فرغ فرأى أنه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا ، نعم لا يشمله رواية ابن علوان . وإن لم يكن بانياً على الإتيان بما هو وظيفة الجاهل بل صلّى إلى جهة واحدة بانياً على السؤال بعده فدعوى دخوله فيها مشكلة جدّاً; لأنّ قيامه فيها لا يكون قياماً مشروعاً بعد عدم البناء على الإتيان بما هو وظيفة الجاهل كما لا يخفى .
الصورة الثانية : ما إذا كان الانحراف أزيد ممّا بين المشرق والمغرب المشهور فيها وجوب الإعادة في الوقت وعدمه في خارج الوقت ، وحكي عن بعض الأصحاب أو قوم منهم إطلاق وجوب الإعادة ولا يكون ذلك صريحاً في مخالفة المشهور والروايات الواردة في هذه الصورة بين ما يدلّ على مرام المشهور وهي روايات متكثّرة وبين ما يدلّ بظاهرها على وجوب الإعادة مطلقاً وبين ما يمكن دعوى ظهوره في وجوب الإعادة في خارج الوقت وكونها متعرّضة لحكم هذا الفرض
الصفحة 583
فقط .
امّا ما يدلّ على مرام المشهور فهي :
صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك انّك صلّيت وأنت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وإن فاتك الوقت فلا تعد .
وصحيحة يعقوب بن يقطين قال : سألت عبداً صالحاً عن رجل صلّى في يوم سحاب على غير القبلة ثمّ طلعت الشمس وهو في وقت أيعيد الصلاة إذا كان قد صلّى على غير القبلة وإن كان قد تحرّى القبلة بجهده أتجزيه صلاته؟ فقال : يعيد ما كان في وقت فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه . والظاهر انّ المراد من قوله : وإن كان قد تحرّى القبلة . . . هو توضيح مورد السؤال وبيان انّ الصلاة على غير القبلة إنّما وقعت مع التحرّي والاجتهاد لا انّه سؤال آخر بحيث كان مورد السؤال أمرين لأنّه لا مجوّز للدخول من دون التحرّي وغرض السائل انّه مع وجود التحرّي هل تجب عليه الإعادة لوقوع صلاته على غير القبلة أم لا .
ومكاتبة محمد بن الحصين قال : كتبت إلى عبد صالح : الرجل يصلّي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلّي حتّى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو قد صلّى لغير القبلة أيعتد بصلاته أم يعيدها؟ فكتب : يعيدها ما لم يفته الوقت أولم يعلم انّ الله يقول وقوله الحقّ : (أينما تولّوا فثم وجه الله)والاستشهاد بقوله تعالى إنّما لعدم وجوب الإعادة مع فوات الوقت الذي يدلّ عليه المفهوم .
ورواية سليمان بن خالد قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلّي لغير القبلة ثمّ يضحى فيعلم انّه صلّى لغير القبلة كيف
الصفحة 584
يصنع؟ قال : إن كان في وقت فليعد صلاته وإن كان مضى الوقت فحسبه اجتهاد . وقوله (عليه السلام) : فحسبه اجتهاده ، شاهد على أنّ المراد من السؤال في مثلها هو ثبوت التحرّي والاجتهاد وإن لم يكن مذكوراً فيه .
وغير ذلك من الروايات الدالّة على مذهب المشهور .
وامّا ما يدلّ على وجوب الإعادة مطلقاً فهي صحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال : قلت : أين حدّ القبلة؟ قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه قال : قلت : فمن صلّى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال : يعيد . فإنّ مقتضى إطلاقه وجوب الإعادة في الوقت وفي خارجه ، كما انّه لا ينبغي الإشكال في أنّه ليس المراد من السؤال الصلاة إلى غير القبلة عالماً عامداً لأنّه مضافاً إلى ظهور السياق في خلافه بشهادة تقييد الصلاة في غير الوقت بيوم الغيم لا يجتمع ذلك مع المسبوقية بنفي الصلاة إلاّ إلى القبلة كما لا يخفى ، ولا فرق في دلالة الرواية على وجوب الإعادة في المقام بين ما لو كان المراد ممّا بين المشرق والمغرب ما استظهرناه منه وبين ما لو كان المراد هو المعنى العرفي المساوي لنصف الدائرة لأنّ الكلام في الانحراف الزائد عن النصف التقريبي .
وامّا ما يمكن دعوى دلالته على وجوب الإعادة في مورد خروج الوقت فهي رواية معمر بن يحيى قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل صلّى على غير القبلة ثمّ تبيّنت القبلة وقد دخل وقت صلاة اُخرى قال : يعيدها قبل أن يصلّي هذه التي قد دخل وقتها الحديث .
أقول : امّا صحيحة زرارة فإطلاقها يقيد بسبب الروايت المفصلة بين الوقت وخارجه ، وامّا رواية معمر بن يحيى فمضافاً إلى احتمال أن يكون المراد بوقت صلاة اُخرى هو وقت الفضيلة دون الاجزاء واستعمال الوقت في وقت الفضيلة شائع جدّاً
الصفحة 585
انّ تقييد مورد السؤال بدخول وقت صلاة اُخرى لا خروج وقت هذه الصلاة يدلّ على أنّ محط السؤال ليس راجعاً إلى أصل وجوب الإعادة بعد خروج الوقت وعدمه ، بل إلى حيث التقدّم والتأخّر بالإضافة إلى الصلاة الداخل وقتها بعد الفراغ عن أصل وجوب الإعادة وانّ محلّ إعادتها هل هو قبل تلك الصلاة أو بعدها ، وعليه فمرجع الجواب إلى أنّ الإعادة إنّما يكون محلّها قبل تلك الصلاة فالجواب أيضاً ناظر إلى تعيين المحلّ بعد الفراغ عن أصل الوجوب ومن المحتمل ـ حينئذ ـ أن تكون الصلاة على غير القبلة غير مستندة إلى أمارة معتبرة شرعية ، وعليه فالرواية لا ترتبط بما هو المفروض في المقام ويظهر انّ اللاّزم هو الأخذ بالروايات المفصّلة .
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الروايات المفصّلة انّه لا فرق في عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت بين ما كان مستقبلا للمشرق أو المغرب أو ما بينهما إلى جهة الشمال وبين ما كان مستدبراً للقبلة وهذا هو المحكي عن كثير منهم السيّد والحلّي وابن سعيد والصدوق وجماعة من المتوسطين ولكن قد حكى عن الشيخين وسلاّر وابن زهرة والصدوق في بعض كتبه وجماعة وجوب القضاء في صورة الاستدبار وعن الروضة نسبته إلى المشهور .
وعمدة الوجه في ذلك ما رواه الشيخ (قدس سره) في محكي النهاية حيث قال : قد رويت رواية انّه إذا كان صلّى إلى استدبار القبلة ثمّ علم بعد خروج الوقت وجب عليه إعادة الصلاة وهذا هو الأحوط وعليه العمل . وحكى السيّد في الناصريات وابن إدريس في السرائر نظيره ولكنّهما لم يعتمدا عليه .
وهل هذه رواية مستقلّة غير الروايات المتقدّمة رواها الشيخ بنحو الإرسال وبملاحظة إحاطة الشيخ بالأخبار المأثورة عن النبي والعترة ـ صلوات الله عليه
الصفحة 586
وعليهم أجمعين ـ يستكشف وجودها في الجوامع الأوّلية التي أخذت عنها الجوامع الأربعة الثانوية ، ويؤيّده رواية السيّد والحلّي لها أيضاً ، مع أنّ الروايات المتقدّمة لا يكون فيها ما ورد في مورد خصوص الاستدبار والعلم بعد خروج الوقت أو انّ المراد بها امّا موثقة عمّار المتقدّمة أو رواية معمر بن يحيى المتقدّمة أيضاً؟ ومن البعيد أن يكون المراد هو الثاني لأنّ الموثقة مضافاً إلى ورودها في تبين الخطأ في الأثناء يكون موردها قبل خروج الوقت ولا أقلّ من ثبوت الإطلاق لهما ، كما انّ المراد بدبر القبلة فيها ليس خصوص الاستدبار كما سيأتي ، وامّا رواية ابن يحيى فمضافاً إلى ما عرفت في مفادها من محطّ السؤال والجواب لا دلالة لها على حكم خصوص مورد الاستدبار ، نعم ينافي ما ذكرنا ما حكى من استدلال الشيخ (قدس سره)لمرامه في التهذيب والاستبصار والخلاف برواية عمّار ، كما انّه حكى عن بعض الموافقين له الاستدلال برواية ابن يحيى ولكن شيء من ذلك لا يوجب رفع اليد عن الظاهر من كون الرواية منقولة باللفظ وليس هذا اللفظ في شيء من الروايات المتقدّمة فلاحظ ، فالإنصاف انّه رواية مستقلّة مروية بنحو الإرسال هذا ما يتعلّق بأصل الرواية .
وامّا حجّيتها فيمكن المناقشة فيها بأنّها مروية بنحو الإرسال ومن الممكن انّه لو كانت مذكورة مسندة لاطلعنا على قدح في بعض رواتها وان لم يطلع عليه الشيخ ، مع أنّ الظاهر من عبارة النهاية انّ اعتماد الشيخ عليها إنّما هو لأجل كونها مطابقة للاحتياط لا لحجّيتها في نفسها مضافاً إلى عدم اعتماد السيّد وابن إدريس الناقلين لها أيضاً عليها بوجه فكيف تكون الرواية معتبرة .
وتندفع المناقشة بظهور اعتماد القدماء من الأصحاب القائلين بوجوب الإعادة في خارج الوقت أيضاً على هذه الرواية وذلك لأنّ الحكم بذلك مع وجود
الصفحة 587
الروايات الكثيرة النافية للإعادة في خارج الوقت بنحو الإطلاق الشامل للاستدبار لابدّ وأن يكون مستنداً إلى دليل خاص يكون مقيّداً لإطلاق تلك الروايات ولا يكفي مجرّد الموافقة للاحتياط في رفع اليد عن الإطلاق والحكم بالوجوب في صورة الاستدبار ، وعليه فالظاهر الاعتماد على الرواية وقد عرفت انّه لا يمكن أن يكون المراد بها إحدى روايتي عمّار ومعمّر واستدلال الشيخ إلى رواية عمّار في بعض كتبه لا ينافي الاستناد إلى هذه الرواية كما هو ظاهر ذيل عبارة النهاية كما لا يخفى ، ومخالفة السيّد وابن إدريس إنّما هي لأجل عدم حجّية خبر الواحد عندهما ولو كان مسنداً واجداً لشرائط الحجّية لا لأجل عدم اعتبار خصوص هذه الرواية .
وبما ذكرنا يظهر انّ رفع اليد عن هذه الرواية والحكم بعدم وجوب الإعادة في مورد الاستدبار مشكل جدّاً فالأحوط لو لم يكن أقوى هو الحكم بالوجوب والتفصيل في الانحراف الكثير بين الاستدبار وغيره ، هذا كلّه إذا تبيّن الخطإ بعد الفراغ .
وامّا إذا تبيّن في الأثناء فيدلّ على حكمه الخبران المتقدّمان الواردان في الأثناء في الصورة الاُولى ومقتضى إطلاق الخبر الأوّل هو خبر القاسم بن الوليد انّ التبيّن في الأثناء لا يوجب الإعادة ولو كان الانحراف كثيراً بل ولو كان مستدبراً ، ومقتضى الخبر الثاني وهو موثق عمّار إنّه إذا كان الانحراف المتبيّن في الأثناء إلى دبر القبلة يجب قطع الصلاة ومعناه بطلانها والظاهر انّ المراد من الدبر فيه ليس خصوص الاستدبار بل أعمّ منه وممّا إذا كان الانحراف أقلّ إلى ما بين المشرق والمغرب وذلك بقرينة المقابلة وظهور كون الرواية متعرّضة لحكم جميع فروض المسألة لا خصوص ما بين المشرق والمغرب والاستدبار ومقتضى الجمع بين
الصفحة 588
الخبرين حمل خبر القاسم على ما إذا كان الانحراف يسيراً غير بالغ إلى المشرق والمغرب فاللاّزم ـ حينئذ ـ هو ملاحظة مفاد الموثقة وموردها فنقول : الذي يستفاد منها انّ التبيّن في الأثناء موجب للبطلان إذا كان متوجّهاً إلى دبر القبلة ، وقد عرفت انّ المراد من الدبر هو الانحراف الزائد عمّا بين المشرق والمغرب فالانحراف الزائد عنه موجب للبطلان مطلقاً ولو لم يكن مستدبراً ، نعم مقتضى قوله : ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة اختصاص ذلك بما إذا كان القطع غير موجب للإخلال بالوقت الذي عرفت انّ مقتضى الاستقراء والتتبّع في موارد مزاحمة الوقت مع سائر الشروط هو تقدّمه عليها فاللاّزم تخصيص الحكم بالبطلان بما إذا أدرك الوقت مع قطع الصلاة وتحويل الوجه إلى القبلة ، غاية الأمر انّ قاعدة من أدرك التي تدلّ على توسعة الوقت تحكم بعدم لزوم إدراك جميع الوقت بل إدراك ركعة من الوقت يكفي في لزوم رفع اليد عن الصلاة الواقعة إلى غير القبلة فمع عدم إدراك الركعة أيضاً لا مجال للقول بالبطلان لعدم دلالة الموثقة عليه في هذه الصورة وتقدّم الوقت على سائر الشروط مع المزاحمة .
بقي في الصورة الثانية شيء وهو انّ مورد الروايات الواردة في هذه الصورة الدالّة على عدم وجوب الإعادة في خارج الوقت هو ما كانت الصلاة الواقعة على غير القبلة مستندة إلى التحرّي والاجتهاد لأنّ موردها الصلاة في يوم غيم أو فيه في قفر من الأرض أو في فلاة منها مضافاً إلى التصريح بذلك في السؤال في صحيحة يعقوب بن يقطين المتقدّمة بناء على ما استظهرنا منها من أنّ قوله : وإن كان قد تحرّى القبلة بجهده . . .
توضيح لمورد السؤال لا انّه سؤال مستقلّ وإلى التصريح بذلك في الجواب في رواية سليمان بن خالد المتقدّمة بقوله : فحسبه اجتهاده ، وعليه فمورد هذه الروايات
الصفحة 589
النافية للقضاء هو المتحرّي الذي تبيّن مخالفة اجتهاده للواقع .
وقد وقع الخلاف بين الأصحاب في أنّه هل يلحق بهذا المورد ما إذا كان المصلّي عالماً بالحكم وبالقبلة ولكن صلّى إلى غير القبلة سهواً أو اشتباهاً أم لا وممّن ذهب إلى الإلحاق وعدم التفصيل المفيد (قدس سره) في المقنعة ، والشيخ في كتابي التهذيب والنهاية وبعض المتأخّرين كالمحقّق الهمداني في المصباح .
ولكن التحقيق عدم الالحاق وفاقاً للعلاّمة في المختلف فإنّ مستند الالحاق إن كان هو إلغاء الخصوصية من مورد الروايات فيرده انّه لا وجه للإلغاء في الحكم المخالف للقاعدة فإنّ مقتضى أدلّة شرطية القبلة بطلان الصلاة في الصورة المفروضة ولازمه وجوب القضاء في خارج الوقت أيضاً مع الإخلال بها فإذا دلّ الدليل على عدم وجوبه في بعض الموارد فلا يجوز التعميم إلى غيره بعد كونه مخالفاً للقاعدة كما عرفت ، نعم يمكن أن يقال بثبوت الإطلاق في بعضها كصحيحة عبد الرحمن المتقدّمة فإنّ قوله (عليه السلام) : إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك انّك صلّيت وأنت على غير القبلة . . . عام شامل للناسي أيضاً فإنّه صلّى على غير القبلة واستبان له بعدها ذلك ، ولكنّ الظاهر عدم ثبوت الإطلاق بحيث يطمئن به ويعتمد عليه لاحتمال كون المراد من الصلاة على غير القبلة هي الصلاة عليه مع كونها مأموراً بها ويؤيّده قوله (عليه السلام) في بعض تلك الروايات : فحسبه اجتهاده ، فتدبّر . وإن كان مستند الإلحاق هو حديث الرفع كما احتجّ به الشيخ على ما حكاه عنه العلاّمة في المختلف وإن لم نجده في كتبه فيدفعه :
أوّلا : انّ المراد من حديث الرفع هو رفع حكم ما فعله الناسي في حال نسيانه بمعنى انّ الفعل الذي فعله الناسي لو كان له حكم لو خلّى وطبعه فذلك الحكم مرفوع في حال صدوره نسياناً ، ومن المعلوم انّ الناسي في المقام لم يعمل عملا له
الصفحة 590
حكم كذلك حتى يرفع مع النسيان لأنّه كان مكلّفاً بالصلاة إلى القبلة الواقعية وهو لم يأت بها ففي الحقيقة يكون كمن لم يصلِّ أصلا فهو لم يعمل عملا كذلك حتى يرفع ذلك الحكم في حال النسيان فالمأمور به في حقّه غير مأتي به والمأتي به لا يكون مأموراً به .
وثانياً : انّه على تقدير دلالة حديث الرفع على عدم وجوب الإعادة فهو معارض بحديث لا تعاد المعروف الدال على وجوب الإعادة مع الإخلال بالقبلة ، والقدر المتيقّن من مورده لو لم نقل بالاختصاص هو الناسي فهو يدلّ على البطلان في مورد النسيان مع الإخلال بالقبلة ولا وجه لدعوى كون مقتضى الجمع بينهما هو حمل حديث الرفع على ما بعد الوقت وحمل حديث لا تعاد على الوقت فإنّه مضافاً إلى كونه جمعاً تبرّعياً لا يساعده العرف ولا يقبله العقلاء يأباه حديث الرفع لإبائه عن التخصيص فاللاّزم بعد ذلك امّا القول بحكومة حديث لا تعاد على حديث الرفع وكونه مخصّصاً له لانحصار مورده بصورة النسيان المحقّق في الصلاة ، وامّا القول بأنّه بعد التعارض لابدّ من الرجوع إلى أدلّة اعتبار القبلة وشرطيتها المقتضية للإعادة مطلقاً كما لا يخفى .
الصفحة 591
المقدّمة الثالثة في الستر والساتر
مسألة 1 ـ يجب مع الاختيار ستر العورة في الصلاة وتوابعها كالركعة الاحتياطية وقضاء الأجزاء المنسية على الأقوى وسجدتي السهو على الأحوط وكذا في النوافل دون صلاة الجنازة وإن كان الأحوط فيها أيضاً ، ولا يترك الاحتياط في الطواف 1 .
1 ـ الكلام في الستر من جهتين :
الاُولى : في الوجوب النفسي الذي يتعلّق به مطلقاً في حال الصلاة وغيرها .
الثانية : في الوجوب الشرطي الذي يتعلّق به في حال الصلاة ومثلها والفرق بين الجهتين يرجع إلى اُمور :
منها : انّ الأوّل يتعلّق بالرجل بالنسبة إلى عورته وبالمرأة بالإضافة إلى جميع بدنها عدى ما استثنى على القول به فيما إذا كانا معرضين لنظر الغير كما يأتي إن شاء الله تعالى . والثاني يكون ثابتاً عليهما مطلقاً ولو لم يكونا معرضين لنظر الغير .
ومنها : انّ الأوّل أعمّ من حيث الساتر أي لا يجب أن يكون هو الثوب بل يكفي ورق الشجر أو الطين أو غيرها ، بل لا يلزم الساتر لأنّ الملاك عدم تعلّق الرؤية به فيكفي التستّر بمثل الظلمة والغبار وهذا بخلاف الثاني فإنّه يلزم فيه الساتر ويكون له مراتب بل لا يكفي بعض مراتبه أصلا وتسقط شرطية الستر مع عدم التمكّن من غيره كما سيجيء .
ومنها : انّه لا يعتبر في الأوتل أن يكونا لابسين له بل يكفي أن يكون الساتر بحيث يكون حائلا بينه وبين الغير وإن كان منفصلا عنه بخلاف الثاني فإنّه يجب أن
الصفحة 592
يكون المصلّي لابساً له .
ومنها : انّه لا يعتبر في الأوّل صفة في الساتر فيجوز أن يكون حريراً للرجل من جهة التستّر به وإن كان يحرم عليه من جهة اللبس كما انّه يجوز أن يكون نجساً أو ميتة أو من أجزاء غير مأكول اللحم ، وامّا الثاني فيعتبر فيه أوصاف وخصوصيات يأتي التعرّض لها إن شاء الله تعالى .
ثمّ إنّ الكلام في الجهة الاُولى يقع في مقامين :
المقام الأوّل : في حكم الرجال والواجب عليهم ستر العورة فقط كما هو المتّفق عليه بين المسلمين والمشهور بين العامّة وجوب التستّر من السرّة إلى الركبتين ويستحبّ ذلك عند الخاصّة .
ويدلّ على وجوب ستر العورة قوله تعالى : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم انّ الله خبير بما يصنعون)(1) . ومفاد الآية مع قطع النظر عمّا ورد في تفسيرها من الروايات انّه يجب غضّ البصر وحفظ الفرج ، والمراد من الغضّ من الشيء هو النقص عنه لأنّ الغضّ هو النقصان ومعنى الغضّ من البصر هو التقليل في النظر ومراعاة عدمه في بعض الموارد ، وامّا احتمال كون كلمة «من» في الآية زائدة فغير صحيح لا في خصوص هذه الآية بل في جميع الموارد إلاّ فيما كان هناك ضرورة شعرية ضرورة انّه لا وجه لذكر كلمة زائدة لا يترتّب عليها فائدة ولو التأكيد فاحتمال الزيادة لا مجال له بوجه وربّما يحتمل أن تكون كلمة «من» لابتداء الغاية نظراً إلى أنّ الرؤية والإبصار شروع ومقدّمة للأعمال المترتّبة عليه التي لا ينبغي صدورها لقبحها وشناعتها ويؤيّد هذا الاحتمال
(1) سورة النور : 30 .
الصفحة 593
ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني سبنده عن علي (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم) معناه لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن أو يمكِّنه من النظر إلى فرجه ، ثمّ قال : (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن) أي ممّن يلحقهن النظر كما جاء في حفظ الفروج ، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا وغيره .
ولكن الظاهر انّ كلمة «من» في الآية للتبعيض بمعنى كون مدلولها إيجاب غضّ بعض الأبصار الظاهر في ترك النظر إلى بعض الاُمور ويؤيّده كلمة «الغضّ» الظاهرة في النقصان كما عرفت ، ولا يبعد دعوى كون قوله تعالى : (ويحفظوا فروجهم) قرينة على أنّ المراد من البعض الذي يجب ترك النظر إليه هو فروج الغير كما انّ الابهام في هذا القول من جهة عدم ظهور كون المراد حفظ الفرج من الزنا أو من نظر الغير يرتفع بالجملة الاُولى من الآية الشريفة ويصير ظاهراً بملاحظتها في كون المراد هو الحفظ من النظر ، فإجمال كلّ من الجملتين الشريفتين يرتفع بالاُخرى ويدلّ عليه مضافاً إلى ظهور الآية فيه في نفسها كما عرفت نفي البعد عنه الرواية المتقدّمة ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد في تفسير الآية من الرواية الاُخرى الدالّة على أنّ كلّ ما ورد في القرآن من حفظ الفرج ، فالمراد منه هو حفظه من الزنا إلاّ هذه الآية وهي :
مرسلة الصدوق المعتبرة قال : وسئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ : (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم) ، فقال : كلّ ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ في هذا الموضع فإنّه للحفظ من أن ينظر إليه ، فإنّ الظاهر انّ هذا التفسير ليس تفسيراً تعبّدياً غير ملائم لما هو
الصفحة 594
ظاهر الآية بعد التأمّل بل بيان للظاهر بالنحو الذي ذكرنا من ارتفاع إبهام حفظ الفرج بالجملة الشريفة الاُولى وإذا كانت الجملة الثانية يرتفع ابهامها بالجملة الاُولى فلِمَ لا يرتفع إبهام الجملة الاُولى بالثانية ، فالإنصاف ظهور الآية فيما ذكرنا كما دلّت عليه رواية النعماني ولا يكون مدلولها أمراً تعبّدياً وتفسيراً على خلاف ما تدلّ عليه الآية بظاهرها .
وقد ذكر بعض الأعلام انّ مفاد الآية وجوب حفظ الفرج عن كلّ ما يترتّب منه من الاستلذاذات إذ الاستلذاذ به قد يكون بلمسه وقد يكون بالنظر إليه وقد يكون بغير ذلك من الوجوه على ما تقتضيه القوّة الشهوية والطبع البشري وذلك لأنّ حفظ الفرج في تلك الآيات الكريمة غير مقيّد بجهة دون جهة .
ويرد عليه مضافاً إلى ما ذكرنا من أنّ مقتضى الارتباط بين الجملتين في الآية الشريفة أن يكون إبهام كلّ واحدة منهما مرفوعاً بالآخر ونتيجته أن يكون مفاد الآية ناظراً إلى حرمة النظر إلى عورة الغير ووجوب حفظها عن نظر الغير انّ ذلك لا يكفي في إثات المدعى لأنّه عبارة عن حرمة النظر إلى عورة الغير مطلقاً سواء كان مع التلذّذ أو بدونه والآية على هذا التفسير تختص بما إذا كان مع التلذّذ كما لا يخفى هذا بالنظر إلى الكتاب .
وامّا الروايات الواردة في هذا الحكم فكثيرة :
منها : ما رواه الصدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عن النبي ـ عليه وعليهم السلام ـ في حديث المناهي قال : إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض فليحاذر على عورته ، وقال : لا يدخل أحدكم الحمّام إلاّ بمئزر ، ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم وقال : من تأمّل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة
الصفحة 595
المرأة ، وقال : من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة غير أهله متعمّداً أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله إلاّ أن يتوب .
ولا يخى انّ النهي عن نظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم كما في جملة من الأخبار إن كان المراد به هو النهي عن غيبة المؤمن وإذاعة سرّه وكشف عيوبه كما ورد تفسيره بذلك في جملة من الروايات فلا يرتبط بالمقام وإن كان المراد هو النهي عن النظر إلى العورة المصطلحة فهو ناظر إلى المقام ، كما انّه لو كان المراد منه الأعمّ على تقدير إمكان يجدي لنا أيضاً وهنا رواية ظاهرة في أنّ المراد به ما نبحث عنه هنا وإن كانت الرواية المذكورة أيضاً مشعرة بل ظاهرة في ذلك فتدبّر ، وتلك الرواية ما رواه حنان بن سدير عن أبيه قال : دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاماً بالمدينة فإذا رجل لي البيت المسلخ فقال لنا : مَن القوم؟ إلى أن قال : ما يمنعكم من الازر فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : عورة المؤمن على المؤمن حرام ، قال : فبعث أبي إلى عمّي كرباسة فشقّها بأربعة ثمّ أخذ كلّ واحد منّا واحداً ثمّ دخلنا فيها إلى أن قال : فسألنا عن الرجل فإذا هو علي بن الحسين (عليهما السلام) .
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في آداب الحمّام الدالّة على وجوب الدخول فيه مع المئزر أو على النهي عن دخوله إلاّ بمئزر أو على أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلايدخل الحمّام إلاّ بمئزر أو على غير ذلك من التعبيرات وقد جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب آداب الحمّام ، ومن المعلوم انّه لا خصوصية للحمّام بل التعرّض له إنّما هو لأجل كونه محلاًّ للنظر بعد إخراج اللباس من البدن ، كما انّه لا خصوصية للمئزر بل المراد هو كلّ ما يوجب تحقّق السرّ ويمنع عن النظر .
وفي مقابل هذه الروايات رواية ظاهرها الكراهة وهي ما رواه ابن أبي يعفور
الصفحة 596
قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) : أيتجرّد الرجل عند صبّ الماء ترى عورته؟ أو يصبّ عليه الماء ، أو يروى هو عورة الناس؟ قال : كان أبي يكره ذلك من كلّ أحد .
وحكى المحقّق الهمداني (قدس سره) عن جماعة انّهم ذكروا انّه لولا مخافة المشهور لأفتينا على طبق هذه الرواية وقلنا بكراهة كشف العورة ، ولكنّ الظاهر انّ الكراهة في مقابل الحرمة اصطلاح فقهي والتقابل إنّما هو في لسان الفقه والفقهاء ، وامّا في لسان الروايات فلم يعلم التقابل بينهما بل كثيراً ما تطلق الكراهة ويراد منها الحرمة مع أنّه على تقدير تسليم ظهورها في الكراهة في مقابل الحرمة ، فمن المعلوم انّه ليس ظهورها بحدّ يقاوم مع ظهور الروايات المتقدّمة في الحرمة خصوصاً مع التعبير بأنّ الإيمان بالله واليوم الآخر لا يكاد يجتمع مع الدخول في الحمّام بغير مئزر ، فالإنصاف انّه لا مجال للفتوى على طبق هذه الرواية على تقدير ظهورها في الكراهة .
ثمّ إنّه بعد الفراغ عن أصل البحث يقع الكلام في سعة دائرة الحكم وضيقه من جهة انّه هل يختص حرمة النظر إلى عورة الغير بما إذا كان الغير مكلّفاً وكذا ينحصر وجوب حفظ الفرج بما إذا كان الناظر كذلك أو يعمّ غير المكلّف من الطفل والمجنون أيضاً ، الظاهر هو الثاني; لإطلاق الآية الدالّة على الحكمين وتوجيه التكليف إلى المؤمن لا يقتضي تخصيص المتعلّق به أيضاً ويؤيّده قوله تعالى : (قل للمؤمنات . . .)فإنّه لا يمكن الالتزام بأنّه لا يجب عليهنّ حفظ فروجهنّ عن المجنون والطفل المميّز بوجه ، نعم الطفل غير المميّز خارج عن الحكمين كما هو ظاهر .
وقد حكي عن الصدوق من المتقدّمين جواز النظر إلى عورة الكافر واختاره صاحب الحدائق من المتأخّرين والوجه فيه أوّلا المناقشة في ثبوت الإطلاق للآية من هذه الجهة فإنّ المستفاد منها بلحاظ توجيه التكليف إلى المؤمنين والمؤمنات انّ
الصفحة 597
النظر إنّما هو إلى جامعة المسلمين والمتدينين ولا نظر لها إلى الكافر بوجه والروايات الكثيرة المتقدّمة بعضها الواردة في الحمّام ظاهرة في الاختصاص بالمسلمين خصوصاً مع التعبير فيها بعورة المؤمن أو المسلم أو نحوهما ممّا لا يشمل الكافر بوجه ، هذا مضافاً إلى وجود روايتين ظاهرتين في الكراهة :
إحداهما : مرسلة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار .
ثانيتهما مرسلة الصدوق قال : روي عن الصادق (عليه السلام) انّه قال : إنّما أكره النظر إلى عورة المسلم فامّا النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار .
هذا ولكن الظاهر إطلاق الحكم وشموله للنظر إلى عورة الكافر أيضاً لثبوت الإطلاق للآية وتوجيه الخطاب إلى المؤمنين والمؤمنات لا يقتضي الاختصاص وهل يمكن الالتزام بعدم وجوب حفظ الفرج عن نظر الكافر مع أنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالاُصول من دون فرق وذكر المؤمن والمسلم والأخ في روايات الحمّام إنّما هو لأجل كونه مورداً للابتلاء نوعاً مضافاً إلى عدم ثبوت المفهوم لها بحيث ينافي إطلاق الآية .
وامّا الروايتان فقد نوقش فيهما بالإرسال أولا وبإعراض الأصحاب عنهما الكاشف عن وجود خلل فيهما ولو مع العلم برواتهما ثانياً المناقشة من حيث السند مدفوعة بأنّ الاُولى مرسلها ابن أبي عمير الذي اشتهر اعتبار مراسيله والثانية وإن كانت منسوبة إلى الرواية دون الإمام (عليه السلام) إلاّ انّ الظاهر عدم كونه رواية اُخرى بل الظاهر انّها بعينها هي مرسلة ابن أبي عمير رواها الصدوق من دون التعرّض لسندها بوجه ، وامّا الاعراض فالظاهر تحقّقه وكونه قادحاً في حجّية الرواية واعتبارها ولكن ربّما يقال تارة بعدم كون الاعراض موجباً لسقوط الرواية عن
الصفحة 598
الحجّية واُخرى بعدم ثبوت موضوع الإعراض وذلك لوجود طائفتين من الروايات في المقام ، ومن الممكن أن يكون الأخذ بالطائفة الاُخرى الدالّة على حرمة النظر إلى عورة الكافر أيضاً لأجل رجحانها على هذه الطائفة من موافقة الكتاب والشهرة الفتوائية لا لأجل الاعراض والمهجورية الكاشفة عن وجود الخلل فيها .
هذا والظاهر انّه لا مجال لإنكار موضوع الاعراض واحتمال عدمه أصلا ; لأنّه على غير هذا التقدير لا تصل النوبة إلى الترجيح لعدم المعارضة بين الطائفتين بعد كون قاعدة حمل المطلق على المقيّد مقتضية للجمع والخروج عن موضوع التعارض فلولا الإعراض لكان اللاّزم تقييد الإطلاق وتخصيص الحكم بخصوص المسلم وقد حقّق في محلّه قدح الاعراض في الحجّية فالمرسلة وإن كانت معتبرة سنداً ولكنّها مهجورة دلالة فلا فرق بين المسلم والكافر من هذه الجهة مع أنّ النسبة إلى الصدوق إنّما نشأت من نقله الرواية المذكورة وإلاّ فهو لم يفت بخلاف الأصحاب صريحاً .
بقي الكلام في اُمور :
الأوّل : في المراد من العورة وقد عبّر عنها في الآية بالفرج ويستفاد من الروايات الصريحة الواضحة انّ المراد بها القبل والدبر ولكن في بعض الروايات انّها ما بين السرّة والركبة ، امّا الطائفة الاُولى فكثيرة منها مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال : العورة عورتان : القبل والدبر والدبر مستور بالاليتين فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة .
ومنها : مرسلة الصدوق قال الصادق (عليه السلام) : الفخذ ليس من العورة . ومنها ما عن محمد بن حكيم قال الميثمي : لا أعلمه إلاّ قال رأيت أبا عبدالله (عليه السلام) أو من رآه
الصفحة 599
متجرّداً وعلى عورته ثوب فقال : إنّ الفخذ ليست من العورة .
وفي مقابلها رواية بشير النبال قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الحمّام فقال : تريد الحمّام؟ قلت : نعم ، فأمر بإسخان الماء ثمّ دخل فاتزر بازار فغطّى ركبتيه وسرّته إلى أن قال : ثمّ قال : هكذا فافعل . ورواية الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام)قال : إذا زوج الرجل أمَته فلا ينظرن إلى عورتها والعورة ما بين السرّة والركبة .
ولكن بشير النبّال ضعيف أوّلا والعمل أعمّ من الوجوب ثانياً والأمر بالفعل إنّما هو لأجل ذلك أي الاستحباب أو لرعاية الأدب كما لا يخفى ، والحسين أيضاً ضعيف ويحتمل أن يكون المراد من عورة الأمَة ذلك لا مطلق النساء ولا الرجال وعلى تقدير ظهورها في التعميم يكون مقتضى الجمع بين الطائفتين هو الحمل على الاستحباب ويؤيّده رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال : إذا تعرّى أحدكم نظر إليه الشيطان فطمع فيه فاستتروا .
الثاني : في أنّ المحرم في باب النظر إلى العورة هل هو النظر إلى اللون أو أعمّ منه ومن الحجم فالمشهور على الأوّل وعن المحقّق الثاني ، الثاني ودليل المشهور فهم العرف من الآية والرواية وانّ الحفظ والستر إنّما يتحقّق بستر اللون وترك النظر إليه فقط وقد استدلّ لهم أيضاً برواية رواها الصدوق بإسناده عن عبيدالله الرافقي في حديث إنّه دخل حمّاماً بالمدينة فأخبره صاحب الحمّام انّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يدخله فيبدأ فيطلي عانته وما يليها ثمّ يلفّ ازاره على أطراف احليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه فقلت له يوماً من الأيّام : إنّ الذي تكره أن أراه قد رأيته قال : كلاّ انّ النورة سترة (ستره) . ومرسلة محمد بن عمر انّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاّ بمئزر قال : فدخل ذات يوم الحمّام فتنوّر فلمّا أطبقت النورة على بدنه ألقى المئزر فقال له مولى له : بأبي أنت واُمّي انّك
الصفحة 600
لتوصينا بالمئزر ولزومه ولقد ألقيته عن نفسك فقال : أما علمت انّ النورة قد أطبقت العورة . ولكن الاستدلال بهما غير تام لعدم العلم بكون النورة غير ساترة للحجم كما لايخفى .
الثالث : انّه لا إشكال كما عرفت في وجوب الستر مع العلم بوجود الناظر ، وامّا مع الشكّ فيه فهل يجب الستر أم لا؟ ذكر المحقّق الهمداني (قدس سره) انّ فيه وجهين من جريان أصالة الإباحة وعدم الوجوب الجارية في الشبهات الموضوعية ومن أنّه ربّما يقع في الحرام مع عدم التستّر ومقتضى لزوم رعاية التكليف الإلهي الاحتياط وقد قوى بعد بيان الوجهين الوجه الأوّل .
ولكنّه ذكر بعض الأعلام في شرح العروة انّه هنا خصوصية تمنع عن جريان اصالة الإباحة ولو مع القول بجريانها في الشبهات الموضوعية التحريمية وهي التعبير في الآية الشريفة عن الستر بحفظ الفروج فإنّ المتفاهم من كلمة «الحفظ» هو المراقبة والتحفّظ وهو لا يتحقّق إلاّ مع الرعاية في صورة احتمال وجود الناظر أيضاً .
ويرد عليه مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده هو التفكيك في الآية المتعرّضة لبيان حكمين والالتزام بأنّ جملة «ويحفظوا فروجهم» دالّ على الوجوب مع احتمال الناظر أيضاً ، وامّا جملة «يغضوا من أبصارهم» فلا دلالة له على ذلك; لعدم وقوع التعبير بالحفظ فيها ، ومن المعلوم بطلان هذا النحو من التفكيك انّ التعبير بالحفظ لا دلالة له على ما رامه لأنّ معناه التخفّي والتستّر ولا شهادة فيه على الرعاية في صورة احتمال وجود الناظر أيضاً ويؤيّده انّ لازمه الالتزام بذلك في سائر الآيات الدالّة على لزوم حفظ الفرج التي يكون مفادها اللزوم من جهة الزنا ومثله على ما دلّ عليه الرواية المتقدّمة المتضمّنة لأنّ كلّ ما في الكتاب من حفظ الفرج فالمراد به
|