الصفحة 182
طبخ حتّى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثمّ يترك حتّى يبرد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. نظراً إلى انّها تدلّ على انّ ذهاب ثلثي العصير الذي هو عبارة عن أربعة دوانيق لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار كثلاثة دوانيق ونصف بسبب النار وذهب نصف الدانق بعد رفعه عنها كفى ومن الواضح عدم الفرق بين مقدار من الثلثين وبين مجموعهما.
ولكن الحقّ انّها أيضاً لا تدلّ على كفاية الذهاب بمثل الشمس والهواء لأنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً يكون مستنداً إلى النار لأنّها صارت موجبة لغليانه ومحدثة فيه الحرارة المستلزمة للذهاب والنقصان ففي الحقيقة مفاد الرواية انّ ذهاب الثلثين الذي لابدّ منه في الحلّية لا يلزم أن يتحقّق حال كونه على النار ومجاوراً لها بل يكفي في الحلّية ذهاب البعض كثلاثة دوانيق ونصف كذلك وذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار وأين هذا من كفاية قيام الشمس أو الهواء مقام النار في إذهاب الثلثين فتأمّل فما صرّح به السيّد من عدم الفرق ممّا لا يساعده الدليل.
ثمّ إنّه لا ينبغي الإشكال في انّ حرمة العصير المغلي لا تختصّ بما إذا استخرج ماء العنب بالعصر بل تعمّ ما إذا خرج مائه من غير عصر ثمّ غلا بالنار أو بنفسه لعدم الفرق بينهما بنظر العرف أصلاً وإن كان عنوان «العصير» بمعناه الحقيقي اللغوي يختصّ بالأوّل إلاّ انّ الحكم عام لعدم مدخلية للعصر في ذلك بل الموضوع هو ماء العنب المغلي كما لا يخفى.
انّما الإشكال فيما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الشمس قبل أن يخرج منه، والظاهر انّ هذه المسألة مجرّد فرض ولا يبتني على أمر واقع لأنّ الماء في جوف العنب لا يكون منفصلاً عن سائر الأجزاء بل هو مشتمل على لحم فيه رطوبة
الصفحة 183
كسائر الفواكه وعليه فلا ماء في جوف العنب حتّى يعرض له الغليان لأنّ الغليان كما مرّ هو القلب والتصاعد والتنازل ولا يتصوّر هذا في مثل العنب قبل خروج الماء منه، وعلى تقدير إمكان ذلك نقول الظاهر حرمته لشمول الدليل له وعدم الفرق بينه وبين غيره بحسب نظر العرف أصلاً. هذا تمام الكلام في أحكام العصير العنبي.
المقام الرابع: في حكم العصير الزبيبي والتمري ويطلق على عصيرهما النبيذ اصطلاحاً خصوصاً في عصير التمر كما عن صاحب الحدائق (قدس سره) كما انّه يطلق على عصير الزبيب النقيع والمراد من عصير التمر أو الزبيب ماء نبذ فيه أحدهما وصار ذا حلاوة لأجل المجاورة والملاصقة والكلام تارة في حكمه من حيث النجاسة والطهارة واُخرى فيه من جهة الحلّية والحرمة.
امّا من جهة النجاسة فالظاهر الاتفاق على عدمها ولكن عن المحقّق الأردبيلي (قدس سره)انّه يظهر من الذكرى اختيار نجاسة عصير التمر والزبيب، وعن مفتاح الكرامة إنكار النسبة .
وكيف كان فقد يستدل على نجاسة العصير الزبيبي ـ بعد البناء على نجاسة العصير العنبي ـ تارة بالاستصحاب التعليقي واُخرى بالاستصحاب التنجيزي أي استصحاب سببية غليانه للنجاسة فانّه ـ سابقاً ـ كان غليانه سبباً للنجاسة حسب الفرض والآن تستصحب تلك السببية ويحكم ببقائها.
ولابدّ أوّلاً من ملاحظة انّ الأدلّة الواردة في العصير الدالّة على نجاسته على ما هو المفروض هل يكون مفادها ثبوت حكم تعليقي مرجعه إلى انّ العصير إذا غلى ينجس بحيث يكون موضوع الحكم ذات العصير ونفسه، والغليان واسطة في الثبوت كالنار التي تكون واسطة لثبوت الحرارة لنفس الماء، أو يكون مفادها ثبوت حكم تنجيزي قد رتّب على العصير المغلي بحيث يكون الموضوع العصير
الصفحة 184
الموصوف بهذا الوصف؟ وبين الصورتين فرق فاحش في باب الاستصحاب ضرورة انّه لو كان الموضوع في قوله: «الماء المتغيّر بالنجاسة نجس» هو الماء الموصوف بوصف التغيّر وكان الونصف من مقدّمات الموضوع ـ كما هو ظاهر الكلام ـ فلا مجال لاستصحاب النجاسة فيما إذا زال التغيّر من قبل نفسه لتغاير الموضوع واعتبار وحدته في جريان الاستصحاب، وامّا لو كان الموضوع هو نفس الماء والتغيّر واسطة في الثبوت كما هو مفاد قوله: «الماء إذا تغيّر بالنجاسة ينجس» فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الفرض بعد بقاء الموضوع الذي هو ذات الماء على ما هو المفروض.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ ظواهر الأدلّة التي استدلّ بها على نجاسة العصير مختلفة فانّ ظاهر بعضها جعل الحكم التنجيزي للعصير المطبوخ أو المغلي، وظاهر بعضها الآخر كمرسلة محمد بن الهيثم: «إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه» جعل الحكم التعليقي لنفس العصير بل وكذا خبر أبي بصير المشتمل على قوله (عليه السلام): «إن طبخ حتّى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال» فإن قلنا: بأنّ نجاسة العصير حكم تعليقي قد ثبت للعصير قبل غليانه ويتوقّف فعلية الحكم وتنجّزه على وجود المعلّق عليه وهو الغليان فلا مانع من استصحاب الحكم التعليقي الذي ثبت في العصير العنبي وابقائه في العصير الزبيبي. وامّا لو كان الحكم ثابتاً بنحو التنجّز فلا مجال للاستصحاب أصلاً كما عرفت.
نعم على فرض ثبوت الحكم التعليقي ربّما يستشكل في استصحابه من وجوه اُخر:
الأوّل: انّ موضوع القضية المتيقّنة غير باق في المشكوكة ولا اتحاد بين القضيتين في الموضوع أصلاً ولذا لا يمكن التمسّك بدليل حكم عصير العنب على حكم عصير
الصفحة 185
الزبيب ولا وجه له إلاّ تغاير الموضوع بنظر العرف.
واُجيب عنه بأنّ المعتبر في الاستصحاب وحدة القضية المتيقّنة مع المشكوكة لا وحدة موضوع المستصحب مع موضوع الدليل الاجتهادي، كيف ولو كان الموضوع في الدليل الاجتهادي متّحداً مع موضوع المستصحب لم تكن حاجة إلى الاستصحاب بل كان الحكم ثابتاً بنفس الدليل الاجتهادي، فانّه مع عدم زوال التغيّر الثابت للماء في المثال وبقاء الموضوع الذي هو الماء الموصوف بوصف التغيّر يكون الدليل المبين لحكمه هو نفس الدليل الاجتهادي الدال على انّ الماء إذا تغيّر يصير نجساً ولا حاجة إلى الاستصحاب بوجه.
والظاهر انّ هذا الجواب تامّ بالنسبة إلى مثال الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه لأنّه إذا حدث وصف التغيّر يعرض له النجاسة بمقتضى الدليل الاجتهادي فإذا زال تغيّره من قبل نفسه وشكّ في بقاء نجاسته لا مانع من أن يقال: إنّ هذا الماء المشار إليه الموجود في الخارج كان نجساً والآن كما كان بمقتضى دليل الاستصحاب لا الدليل الاجتهادي لأنّه قاصر عن إفادة حكمه بعد زوال التغيّر ولا دلالة له عليه نفياً ولا إثباتاً.
ولكنّه بالإضافة إلى المقام غير صحيح لأنّ الموضوع في لسان الدليل الاجتهادي هو عصير العنب وهو الذي كانت نجاسته التعليقية معلومة على ما هو المفروض والموضوع الذي نشكّ في حكمه هو العصير الزبيبي وأين هذا من ذاك. نعم لو كان الحكم في السابق مترتّباً على العنب نفسه وشككنا في بقائه بعد صيرورته زبيباً لم يكن هناك مانع من أن يقال: إنّ هذا الشيء الموجود في الخارج كان في السابق محكوماً بحكم كذا والآن نشكّ في بقاء حكمه لأجل تبدّل بعض حالاته وصيرورته يابساً بعد كونه رطباً فتستصحب لأن تبدّل الحال لا يقدح في
الصفحة 186
بقاء الموضوع بل لو لم يكن التبدّل لم يحتجّ إلى الاستصحاب.
وبالجملة: القضية المتيقّنة عبارة عن «العصير العنبي إذا غلى ينجس» والقضية المشكوكة عبارة عن «العصير الزبيبي إذا غلى ينجس» ولا مجال لتوهّم الاتّحاد أصلاً خصوصاً بعد ملاحظة انّ عصير العنب هو ماء نفس العنب ويستخرج منه بالعصر ونحوه وامّا عصير الزبيب فهو ماء خارجي اكتسب الحلاوة من الزبيب الذي نبذ فيه فالعصيران متغايران بتمام المعنى فلا وجه للرجوع إلى الاستصحاب كما هو ظاهر.
الثاني: انّه لابدّ في جريان الاستصحاب من ثبوت حكم ـ وضعياً كان أو تكليفياً ـ أو موضوع ذي حكم قد شكّ في بقائه، وفي الاستصحاب التعليقي لم يثبت حكم في السابق مشكوك البقاء لأنّ الحكم الكلّي الإلهي الثابت لموضوعه الدال عليه قوله: «العصير العنبي إذا غلا ينجس» لا شكّ في بقائه فلا مجال لاستصحابه والحكم الجزئي ـ أي نجاسة هذا الفرد من العصير المسمّب بعصير الزبيب ـ لم يكن ثابتاً في زمان حتّى يثبت بقائه بالاستصحاب.
والجواب: إنّ كيفية ثبوت الأحكام مختلفة فانّها تارة تثبت لموضوعاتها بنحو الفعلية والتنجّز واُخرى بنحو الاشتراط والتعليق، والحكم التعليقي أيضاً أمر مجعول ثابت محقّق في دعائه ولا مجال لدعوى عدم ثبوته فهل يمكن الالتزام بأن جعل وجوب الإكرام لزيد على تقدير مجيئه قبل أن يتحقّق منه المجيء يكون كعدم جعله لعدم تحقّق شرطه؟! فالإشكال من هذا الوجه واضح الدفع.
الثالث: انّ الاستصحاب التعليقي معارض دائماً بالاستصحاب التنجيزي فانّ العصير الزبيبي كما انّه محكوم بالنجاسة لأجل استصحابها بنحو التعليق كذلك محكوم بالطهارة لاستصحاب الطهارة الثابتة له قبل عروض الغليان بلا ارتياب
الصفحة 187
فمقتضى استصحاب بقاء الطهارة فهو يعارض الاستصحاب التعليقي والمرجع بعد التعارض والتساقط قاعدة الطهارة.
والجواب: إنّ الاستصحاب التعليقي حاكم على الاستصحاب التنجيزي المعارض له دائماً فانّ الأصل في التعليقي سببي وفي التنجيزي مسبّبي ولتوضيح السببية والمسبّبية لا بأس بذكر مثال فنقول: إذا شكّ في بقاء نجاسة الثوب الذي غسل بالماء الذي يكون مشكوك الكرية مع كونه كرّاً في السابق قلنا استصحابان: استصحاب كرية الماء واستصحاب نجاسة الثوب ولكن الأوّل مقدّم على الثاني وحاكم عليه ولا مجال للثاني معه لأنّ استصحاب الكرية ينقح موضوع الدليل الاجتهادي الذي يدل على انّ الكر مطهّر للثوب المغسول به فانّ بقاء كرية الماا يوجب اندراجه في موضوع الدليل الاجتهادي الذي حكم عليه بالمطهرية ورفع النجاسة وهذا بخلاف استصحاب نجاسة الثوب فانّه لا ينقح بسببه الدليل الاجتهادي ولا يوجب اندراج شيء من الأدلّة على موضوعه فانّ بقاء نجاسة الثوب ـ على ما هو مقتضى الاستصحاب ـ لا يوجب انطباق الدليل الاجتهادي في المورد و ـ حينئذ ـ نقول: مقتضى الاستصحاب بقاء نجاسة الثوب ومقتضى الدليل الاجتهادي الذي نقح موضوعه باستصحاب الكرية طهارته ومن المعلوم انّ الدليل الاجتهادي مقدّم على الأصل العملي لأنّ الأدلّة الاجتهادية ناظرة إلى ذوات الموضوعات بعناوينها الأوّلية وحاكمة عليها كذلك، وامّا الاُصول فهي ناظرة إليها بعناوينها الثانوية الراجعة إلى كونها مشكوكة الحكم فمفاد ذلك الدليل الاجتهادي المتولّد بالاستصحاب انّ هذا الثوب طاهر ومفاد الاستصحاب بقاء نجاسته إذا ك ان مشكوك النجاسة ومن الواضح انّه لا شكّ في نجاسته مع شمول الدليل الاجتهادي فلا مجال لاستصحاب النجاسة.
الصفحة 188
وبالجملة: التعارض في المثال ليس بين استصحاب الكرية واستصحاب النجاسة لتعدّد الموضوع فيهما فانّ نجاسة الثوب وكرية الماء لا تتّحدان في جهة بل التعارض بين مفاد الدليل الاجتهادي المتولّد من استصحاب الكرية ومفاد استصحاب نجاسة الثوب والأوّل مقدّم بلسانه على الثاني وهذا في نظائر المثال واضح.
وامّا في المقم الذي يكون التعارض بين استصحاب طهارة عصير الزبيب واستصحاب نجاسته التعليقية موجوداً بلا وساطة الدليل الاجتهادي فالوجه في تقديم الاستصحاب التعليقي انّما هو جريانه قبل تحقّق الغليان فانّه في زمان لم يتحقّق الغليان بعد، تكون نجاسته التعليقية مشكوكة فالاستصحاب يجري ويحكم ببقائها وامّا بعد تحقّق الغليان الذي هو زمان الشكّ في بقاء طهارته التنجيزية ـ ضرورة انّه ما لم يتحقّق الغليان لا مجال لهذا الشكّ أصلاً ـ فلا يبقى شكّ في الطهارة والنجاسة بعد جريان الاستصحاب التعليقي قبل الغليان وصيرورة الحكم تنجيزياً بعده بالوجدان فلا يكون مشكوك الحكم بعده تعبّداً فتدبّر.
فانقدح انّ الحقّ عدم ورود بعض الإشكالات الواردة على الاستصحاب التعليقي وإن كان الحقّ عدم جريانه في المقام لعدم نجاسة عصير العنب أولاً وعدم بقاء الموضوع ثانياً كما عرفت هذا كلّه في حكم العصير الزبيبي من جهة الطهارة والنجاسة.
وامّا من جهة الحلّية والحرمة فنقول: المشهور ـ كما عن الحدائق وطهارة الشيخ ـ الحلية ولكن ذهب بعض إلى الحرمة ونسب ذلك إلى جملة من متأخّري المتأخّرين. وما يمكن الاستدلال به على الحرمة أمران:
الأوّل: الاستصحاب وقد عرفت عدم جريانه والعمدة فيه عدم اتحاد الموضوع
الصفحة 189
في القضيتين: المتيقّنة والمشكوكة.
الثاني: الروايات التي تكون عمدتها رواية زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثمّ يصب عليه الماء ويوقد تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث فانّ النار قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر ويصيبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفى عنه الماء؟ فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. وقد روى هذه الرواية العلاّمة المجلسي (قدس سره) عن نسخة عتيقة وجدها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي. والكلام فيها تارة من حيث السند، واُخرى من جهة المتن وثالثة من حيث المفاد والدلالة فهنا جهات ثلاث:
الجهة الاُولى: فيما يتعلّق بالسند من جهة وثاقة زيد النرسي وانّه هل يكون له أصل أم لا وانت النسخة التي وصلت إلى أيدي الناقلين عنها كالمجلسي (قدس سره) هل تكون نسخة كتاب زيد وأصله أم لا؟
امّا وثاقة زيد النرسي فالظاهر انّه لم يرد في شيء من الكتب الرجالية والتراجم بالإضافة إليه مدح ولا قدح ومن أجله ربّما يتوهّم عدم وثاقته لأنّ الموثق عبارة عمّن كان له توثيق في شيء من تلك الكتب، مضافاً إلى انّ الصدوق وشيخه ابن الوليد لم ينقلا عنه أصلاً بل ضعفا كتابه وقالا: انّه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني.
نعم قد حاول العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) تصحيح سندها استناداً إلى انّ الشيخ قال في حقّه: «له أصل» وقال النجاشي: «له كتاب» قال: إنّ تسمية كتابه «أصلاً» ممّا يشهد بحسن حاله واعتبار كتابه فانّ الأصل في اصطلاح المحدّثين من أصحابنا بمعنى
الصفحة 190
الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر، وليس بمعنى مطلق الكتاب ولهذا نقل عن المفيد (قدس سره) انّه قال: صنّفت الإمامية من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عهد أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) أربعمائة كتاب تسمّى «الاُصول» ومعلوم انّ مصنّفات الإمامية فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير كما يشهد به تتبّع كتب الرجال، فالأصل أخصّ من الكتاب ولا يكفي فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر بل لابدّ أن يكون معتمداً.
وقال أيضاً: إنّ «الأصل» يؤخذ في كلمات الأصحاب مدحاً لصاحبه ووجهاً للاعتماد على ما تضمّنه، وربما يضعفون بعض الروايات لعدم وجدان متنها في شيء من الاُصول إلى أن قال (قدس سره) : إنّ سكوت ابن الغضائري عن الطعن فيه مع طعنه في جملة من المشايخ يدل على وثاقته حتّى قيل: «السالم من رجال الحديث من سلم من طعنه» ومع ذلك لم يطعن فيه بل قال: إنّ زيد النرسي وزيد الزراد قد رويا عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وقال أبو جعفر ابن بابويه: إنّ كتابهما موضوع وضعه محمد بن موسى السمّان، وغلط أبو جعفر في هذا القول فانّي رأيت كتبهما مسموعة من محمد بن أبي عمير انتهى.
أضف إلى ذلك ان ابن أبي عمير قد روى عنه وعن كتابه وهو لا يروي إلاّ عمّن يثق به ومن أجله قد اشتهر بين الأصحاب انّ مراسيله كمسانيد غيره فضلاً عن مسانيده وهو من أصحاب الإجماع وفي غاية الوثاقة والعدالة والورع والضبط على ما يستفاد من تتبّع كتب الرجال.
فتحصّل من جميع ما ذكرنا وثاقة زيد النرسي وثبوت الأصل له، والعجب من الصدوق (قدس سره) حيث إنّه مع تضعيفه كتاب زيد وإنكاره كونه له ـ كما عرفت ـ قد روى في «الفقيه» رواية عن ابن أبي عمير عن زيد النرسي مع التزامه في ديباجته بأن لا
الصفحة 191
يورد فيها إلاّ ما كان حجّة بينه وبين الله تعالى.
وامّا كون النسخة التي بيد المجلسي هي النسخة الصحيحة المطابقة لكتاب زيد النرسي فثباته مشكل جدّاً مع كثرة الفصل الزماني بينهما لكون زيد في سنة مأة وخمسين بعد الهجرة والمجلسي فيما يقرب الألف بعدها، وذكر انّ تاريخ كتابتها 374، وممّا يؤيّد عدم اعتبار تلك النسخة انّ صاحب الوسائل (قدس سره) لم ينقل عنها في وسائله مع كونها موجودة عنده على ما نقله الشيخ الخبير المتتبّع الشريعة الاصبهاني (قدس سره)اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ وجود الأخبار المروية في كتب الأصحاب عن زيد النرسي كتفسير علي بن إبراهيم وكامل الزيارة لجعفر بن قولويه استاذ الشيخ المفيد (قدس سره)وثواب الأعمال للصدوق وكتاب العروس لجعفر بن أحمد القمي وعدّة الداعي لابن فهد المعروف والزهد لحسين بن سعيد والكافي للكليني والفقيه كما عرفت بأجمعها في تلك النسخة يوجب الاطمئنان بصحّتها. ودعوى احتمال كون النسخة موضوعة وانّما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدّعى وإيهاماً على انّها كتاب زيد وأصله، بعيدة جدّاً بعد عدم وجود الداعي إلى ذلك، والعجب انّ من جملة الأفراد التي وقعت في سند رواية كامل الزيارة المنتهية إلى زيد النرسي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) هو علي بن بابويه والد الصدوق وشيخ القميين الذي خاطبه الإمام العسكري (عليه السلام) في توقيعه بقوله: يا شيخي ومعتمدي، وعليه فيمكن المناقشة في النسبة إلى ولده الصدوق كون أصله موضوعاً فانّه كيف يمكن الجمع بين رواية الوالد عنه وبين اعتقاد الولد كونه موضوعاً ويؤيّده روايته بنفسه عن أصل زيد في الفقيه وثواب الأعمال كما عرفت.
والإنصاف: انّه لا دليل على وثاقة زيد النرسي ولو كان له أصل لأنّ ما قيل من ان ابن أبي عمير قد روى عنه وهو لا يروي إلاّ عن الثقة فهو رجم بالغيب لعدم
الصفحة 192
التزامه بذلك ولم ينقل إلينا التزامه أصلاً، ودعوى استفادته من التتبّع في الروايات مدفوعة بأنّه فرع ثبوت وثاقة جميع من روى عنهم وأنّى لكم بإثباته فمجرّد نقل ابن أبي عمير عنه لا يكشف عن وثاقته، وامّا ما عرفت من العلاّمة الطباطبائي من استفادة الوثاقة من طريق ثبوت الأصل له ففيه انّه لم يدلّ دليل على كون «الأصل» في الاصطلاح بهذا المعنى ومن المحتمل أن يكون المراد منه ثبوت كتاب له في اُصول العقائد من الإمامة وغيرها كما انّه يحتمل ـ قوياً تبعاً لسيّدنا الاستاذ ـ دام ظلّه ـ أن يكون الأصل قسماً من الكتاب قسيماً للمصنف نظراً إلى انّ الأصل عبارة عن الكتاب الموضوع لنقل الحديث سواء كان مسموعاً عن الإمام بلا واسطة أو عنها، وسواء كان مأخوذاً من كتاب وأصل آخر أم لا، ولا يبعد أن يكون غالب استعماله فيما لم يؤخذ من كتاب آخر، وامّا المصنّف فهو عبارة عن كتاب موضوع لغير نقل الحديث كالتاريخ والتفسير والرجال ونحوها، والشاهد عليه مقابلة المصنّف بالاُصول في كثير من العبارات وجعل كليهما قسمين من الكتاب في بعضها وقول بعضهم في عدّة من الموارد: له أصل معتمد.
أضف إلى ذلك انّ اقتصار المشايخ الثلاثة من روايات أصل زيد النرسي على حديثين أو ثلاث أحاديث يدلّ على عدم اعتمادهم عليه مع وضوح كونهم مجدّين في نقل الأخبار وجميع الروايات وعليه فلم يثبت وثاقة زيد النرسي ولو كانت المناقشة في النسخة غير تامّة.
الجهة الثانية: في متنها وقد وقع فيه اختلاف، قال في المستدرك: «عن زيد النرسي في أصله قال: سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثمّ يصبّ عليه الماء ويقود تحته؟ فقال: لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث فإنّ النار قد أصابته، قلت: فالزبيب كما هو في القدر ويصبّ عليه الماء ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء
الصفحة 193
فقال: كذلك هو سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصارت حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد. قلت: هكذا متن الخبر في نسختين من الأصل وكذا نقله المجلسي (قدس سره) فيما عندنا من نسخ البحار ونقله في المستند عنه، ولكن في كتاب الطهارة للشيخ الأعظم تبعاً للجواهر ساقا كذلك: عن الصادق (عليه السلام) في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصبّ عليه الماء؟ فقال: حرام حتّى يذهب الثلثان وفي الثاني ـ الجواهر ـ إلاّ أن يذهب ثلثاه، قلت: الزبيب كما هو يلقى في القدر؟ قال: هو كذلك سواء إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فقد فسد، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتّى يذهب ثلثاه. بل فيه نسبة الخبر إلى زيد الزراد وزيد النرسي، ولا يخفى ما في المتن الذي ساقاه من التحريف والتصحيف والزيادة وكذا نسبته إلى الزراد».
والعجب من شيخ الشريعة (قدس سره) حيث إنّه لمّا أرى صراحة الرواية ـ بهذا المتن ـ في خلاف مدّعاه السابق أخذ في الإشكال والطعن على الأكابر فقال: هذا الذي اتّفق من هؤلاء الأكابر أمر ينبغي الاسترجاع عند تذكّر مثله والاستعاذة بالله العاصم عن الوقوع في شبهه. ثمّ نقل الرواية على طبق نقل المجلسي الموافق لما نقلناه أولاً عن المستدرك ثمّ قال ـ بعد كلام ـ : وأوّل من عثرت عليه ممّن وقع في تلك الورطة الموحشة والهوّة المظلمة الشيخ الفاضل المتبحِّر الشيخ سليمان الماحوزي البحراني فتبعه من تبعه، ثمّ ذكر وصية الفاضل الهندي في آخر كشف اللثام المتضمّنة للزوم الرجوع إلى كتب الأخبار في نقلها وعدم صحّة الاعتماد على الكتب الفرعية.
وأنت خبير بأنّه ينبغي أن يسترجع عند تذكّر مثل هذا الكلام من إطالة اللسان والطعن على الأكابر الأعلام فانّ الشيخ سليمان البحراني ـ على ما يظهر من ترجمته ـ كان زميلاً للعلاّمة المجلسي وعديلاً له وكان محقّقاً عالماً عاملاً فقيهاً محدثاً، وعن
الصفحة 194
بعض تلامذته انّ هذا الشيخ كان اعجوبة في الحفظ والدقّة وسرعة الانتقال في الجواب والمناظرة وكان ثقة في النقل إماماً في عصره، وحيداً في دهره، أذعنت له جميع العلماء، وأقرّت بفضله جميع الحكماء وكان جامعاً لجميع العلوم علاّمة في الفنون حسن التقرير عجيب التحرير خطيباً شاعراً مفوّهاً، ونقل ما يقرب منه عن صاحب الحدائق.
وبالجملة كان هذا الشيخ الجليل معاصراً للمجلسي وهو قد روى الحديث بالمتن المطابق لرواية الشيخ في الطهارة تبعاً للجواهر على ما أفاده المستدرك، وكيف يمكن نسبة الغلط والتصحيف إليه بمجرّد مخالفة حديثه لنسخة المجلسي بعد انّه يحتمل ـ قوياً ـ وجود نسخة اُخرى عنده غير ما عند المجلسي.
وكيف كان فالرواية مختلفة المتن لا مجال للاتكال على خصوص نسخة أصلاً.
الجهة الثالثة: في دلالتها والإنصاف انّ دلالتها على حرمة عصير الزبيب بعد الغليان ـ لو أغمض عن سندها واختلاف متنها ـ تامّة، وما يقال: من انّ التعبير في ذيلها بالفساد دون التحريم ـ على نقل المجلسي ـ لا يبعد أن يستظهر منه صيرورته معرضاً لطرو الفساد والإسكار عليه فلا دلالة له على الحرمة، مدفوع بانّ المتفاهم عند العرف من التعبير بالفساد في لسان الشارع هو الحرمة وليس من شأن الإمام (عليه السلام) بيان ما لا يرتبط بالشرع من فساده تكويناً أو إسكاره كذلك.
وقد يتمسّك للتحريم بروايات اُخر:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال: كل ع صير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. بدعوى شمولها ـ بمقتضى لفظ العموم ـ لعصير الزبيب أيضاً.
وفيه أوّلاً: انصراف العصير إلى خصوص العنبي، ويؤيّده انّه لا يصحّ أن يكون
الصفحة 195
مطلق العصير موضوعاً للحكم بالحرمة ولو مع قيد إصابة النار إيّاه، ودعوى انّه لا مانع من خروج ما خرج مدفوعة بلزوم تخصيص الأكثر المستهجن عرفاً فلابدّ من الحمل على خصوص العصير العنبي.
وثانياً: لو فرض العموم والشمول لكل عصير ـ من أيّة فاكهة كان لكن نقول العصير الزبيبي ليس بعصير أصلاً فانّ العصير ماء يخرج من جوف الفاكهة ـ مثلاًـ بالعصر والزبيب ليس مشتملاً على ماء أصلاً بل المراد بعصيره ـ كما عرفت ـ هو ماء نبذ فيه الزبيب واكتسب الحلاوة منه للمجاورة فهو ليس بعصير حقيقة فلا معنى لشمول الدليل له.
ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتّى يخرج طعمه ثمّ يؤخذ الماء فيطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يرفع فيشرب منه السنة؟ فقال: لا بأس به. والتعبير عنها بالصحيحة يبتني على وثاقة سهل بن زياد ـ كما هو الأصحّ ـ وهي تشتمل على تقرير الإمام (عليه السلام) السائل بما كان في ذهنه من حرمة عصير الزبيب قبل ذهاب ثلثيه ونفي البأس عنه بعد ذهابهما.
وفيه: انّ الظاهر انّ السائل لم يكن شكّه إلاّ من جهة انّ ماء الزبيب المطبوخ إذا ذهب ثلثاه وبقى ثلثه هل يجوز شربه في طول السنة أو انّه معرّض للفساد والإسكار ولا يجوز شربه. وبعبارة اُخرى: السؤال إنّما هو من جهة عروض الإسكار له أو عدمه بعد ذهاب ثلثيه ولا دلالة له على تحقّق التحريم بمجرّد الغليان وتوقّف رفعه على التثليث.
ومنها: موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن الرجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث؟ فقال: إن كان مسلماً ورعاً مؤمناً
الصفحة 196
(مأموناً) فلا بأس أن يشرب.
ونحوها: رواية علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم انّه على الثلث فيحلّ شربه؟ قال: لا يصدق إلاّ أن يكون مسلماً عارفاً. بتقريب انّ الشراب ـ في الروايتين ـ بإطلاقه يشمل كل عصير ويستفاد منهما لزوم التثليث ولا وجه له إلاّ رفع الحرمة.
وفيه: انّهما بصدد بيان جواز الاعتماد على أخبار من يخبر بذهاب الثلثين في مورد يحتاج إليه وعدم جوازه ولا دلالة لهما على لزوم ذهابهما في كل عصير ولا تكونان بصدد بيانه أصلاً، مع انّ شمول «الشراب» لكل عصير لم يقم عليه دليل.
ومنها: موثقة عمّار أو مرسلته قال: وصف لي أبو عبدالله (عليه السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتّى يصير حلالاً فقال لي: تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ثمّ تصبّ عليه الماء إلى أن قال: فلا تزال تغليه حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث الحديث. فانّها ظاهرة في انّ الزبيب المطبوخ لا يصير حلالاً إلاّ بعد التثليث.
والإنصاف انّ إشعارها بذلك بل دلالتها عليه لا ينبغي المناقشة فيه أصلاً إلاّ انّ الرواية مردّدة بين الموثقة والمرسلة والمتن المذكور الدالّ على الحرمة انّما يكون سندها مرسلاً لا يجوز الاعتماد عليه، وامّا الموثقة فمتنها هكذا. قال: سُئل عن الزبيب كيف يحلّ طبخه حتّى يشرب حلالاً؟ قال: تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثمّ تطرح عليه اثنى عشر رطلاً من ماء إلى أن قال: ثمّ توقد تحته النار حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار الحديث. وهذا لا يكون ظاهراً في المدعى لأنّ محطّ نظر اسائل على هذا المتن هو انّ الزبيب كيف يطبخ حتّى يبقى عدّة أيّام كسنة أو أزيد من دون أن يعرضه الفساد والإسكار فهو نظير صحيحة علي بن جعفر ـ المتقدّمة ـ الواردة في السؤال عن طبخه بنحو يجوز أن يشرب منه السنة.
الصفحة 197
ومنها: الرواية الواردة في منازعة إبليس(لع) مع آدم ونوح (عليهما السلام) الدالّة على انّ ثلثا العنب له ـ لع ـ وثلثه لغيره.
وفيه: ما عرفت من منع دلالة مثلها على ذلك وإلاّ لكان اللازم أن يتحقّق التثليث في المادة العنبية مطلقاً وهو لا يلتزم به أحد.
فانقدح: من جميع ما ذكرنا انّه لا دليل على حرمة عصير الزبيب ونجاسته فهو طاهر وحلال بمقتضى قاعدتي الطهارة والحلّية وأوضح منه في الحكمين عصير التمر الذي يعبّر عنه بـ «النبيذ» لعدم توهّم جريان الاستصحاب التعليقي فيه أو دلالة روايات المنازعة عليه بوجه. نعم هنا روايات تدلّ على انّ النبيذ قسمين: مسكر وهو الحرام منه وغير مسكر وهو الحلال منه مثل:
صحيحة: معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ رجلاً من بني عمّي وهو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك. فقال: أنا أصف لك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام، قال: فقلت له: فقليل الحرام يحلّه كثير الماء؟ فردّ بكفّه مرّتين: لا، لا.
وصحيحة صفوان الجمّال قال: كنت مبتلى بالنبيذ معجباً به فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام): أصف لك النبيذ ؟ فقال: بل أنا أصف لك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلّ مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام الحديث.
وحديث وفد اليمن وفيه بعدما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله) عن النبيذ وأطالوا في وصفه انّه (صلى الله عليه وآله) قال: يا هذا قد أكثرت عليّ أفيسكر؟ قال: نعم، قال: كل مسكر حرام.
وفي مقابلها رواية ظاهرها حرمته مطلقاً بمجرّد الغليان وهي ما عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) انّه قال: الحلال من النبيذ أن تنبذه وتشربه من يومه ومن الغد فإذا تغيّر فلا تشربه ونحن نشربه حلواً قبل أن يغلي. فإنّ الظاهر انّ
الصفحة 198
المراد من التغيّر فيها الغليان ويشهد له قوله (عليه السلام) في الذيل: «قبل أن يغلي».
وفيه ـ مضافاً إلى ضعف سندها وإرسالها ـ انّه يمكن أن يكون المراد بالتغيّر الإسكار ويمكن أن يستشهد عليه بقوله (عليه السلام): «نحن نشربه حلواً قبل أن يغلي» حيث يشعر بأنّ عدم الشرب بعد الغليان ليس حكماً إلزاميّاً على الناس بل أهل البيت (عليهم السلام)كانوا لا يشربونه للزوم البعد الكثير بينهم وبين المسكر الذي ورد فيه ما ورد ـ فحينئذ ـ يكون التغيّر مقابلاً للغليان ويرجع إلى صيرورته مسكراً فلا منافاة بينها وبين الروايات المتقدّمة.
فتحصّل انّه لا دليل على حرمة النبيذ مطلقاً، وامّا نجاسته فقد يتمسّك لها بروايات:
منها: موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن النضوح قال: يطبخ التمر حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثمّ يمتشطن.
ومنها: موثقته الاُخرى عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث انّه سُئل عن النضوح المعتق كيف يصنع به حتّى يحلّ؟ قال: خذ ماء التمر فاغسله (فاسخنه ـ ظ) حتّى يذهب ثلثا ماء التمر.
وفي التمسّك بهما نظر لأنّ الظاهر انّ محطّ نظر السائل في الروايتين انّه كيف يصنع النضوح ـ وهو الطيب الخاص ـ حتّى لا يصير مع بقائه وصيرورته عتيقاً فاسداً ومسكراً فالأمر بإذهاب الثلثين يكون لدفع طروّ الفساد عليه.
وممّا ذكرنا ظهر انّ الأمر بالاغتسال منه في بعض الروايات انّما يكون مورده النبيذ المسكر ـ الذي عرفت نجاسته في المقام الثاني ـ والرواية هي ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه قال: سألته عن النضوح يجعل فيه النبيذ أيصلح للمرأة أن تصلّي وهو على رأسها؟ قال: لا حتّى تغتسل منه. والشاهد عليه رواية علي
الصفحة 199
الواسطي قال: دخلت الجويرية ـ وكانت تحت عيسى بن موسى ـ على أبي عبدالله (عليه السلام) وكات صالحة فقالت: إنّي أتطيّب لزوجي فيجعل في المشطة التي أمتشط بها الخمر وأجعله في رأسي؟ قال: لا بأس. فانّها تشهد بكون المجعول في المشطة قد يكون هو الخمر، ونفي البأس عن ذلك ظاهر في عدم الحرمة تكليفاً وانّه لا مانع من الامتشاط بالمشطة الكذائية فلا ينافي وجوب الغسل لأجل الصلاة الذي هو مفاد رواية علي بن جعفر فتدبّر.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا في مسألة العصير انّ العنبي منه ـ الذي يطلق عليه نوعاً العصير من دون إضافة ـ طاهر مطلقاً وحرام بعد تحقّق الغليان له وغاية الحرمة فيما إذا غلى بالنار هو ذهاب الثلثين وفيما نشّ بنفسه تبدّل العنوان وتغيّر الموضوع وامّا عصير التمر ـ المصطلح عليه بالنبيذ ـ وكذا عصير الزبيب ـ المعروف بالنقيع ـ فالظاهر طهارتهما وحلّيتهما ما لم يعرض لهما الإسكار. نعم لا تنبغي المناقشة في انّ مقتضى الاحتياط الاجتناب.
ومقتضى إطلاق المتن ثبوت الحرمة فيما إذا غلى بالنار مع عدم ذهاب الثلثين انّ صيرورته دبساً بعد الغليان قبل التثليث لا يوجب التحليل وإن احتمل ذلك ـ تارة ـ من جهة انّ الحرمة انّما كانت في الروايات مترتّبة على شرب العصير فإذا فرض انّه صار مأكولاً لصيرورته دبساً فقد ارتفع موضوع الحرمة وتبدّل إلى عنوان آخر.
واُخرى من جهة انّه يستفاد من التتبّع في الروايات انّ الغاية المقصودة من ذهاب الثلثين هي صيرورة العصير مصوناً من عروض الإسكار عليه وتلك الغاية حاصلة عند صيرورته دبساً فلا وجه لبقاء الحرمة، ـ وثالثة ـ من جهة ما حكى عن الشهيد الثاني (قدس سره) من انّ العصير إذا صار دبساً فقد انقلب من حال إلى حال والانقلاب من أحد موجبات الطهارة والحلّ كما في انقلاب الخمر والعصير خلاًّ.
الصفحة 200
والظاهر عدم تمامية شيء من الوجوه الثلاثة:
أمّا الوجه الأوّل فيرد عليه أوّلاً: عدم كون عنوان «الشرب» مستعملاً في مقابل «الأكل» دائماً بل كثيراً ما يطلق على معنى عام يشمل مثل شرب التتن أيضاً فضلاً عن المأكول، وثانياً لا نسلّم أن يكون الموضوع في جميع الروايات هو الشرب فانّ الحرمة قد علقت في بعضها على نفس العصير كما في صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ـ المتقدّمة ـ : «كل عصير أصابته النار فهو حرام» والإطلاق يشمل ما إذا صار العصير دبساً كما هو ظاهر.
وامّا الوجه الثاني فيرد عليه انّه حدس ظنّي لم يقم الدليل على اعتباره وليس لأخبار الباب ظهور في انّ الغاية من ذهاب الثلثين هي صيرورته كذلك وهل ترى من نفسك أن تقول بأنّه لو صبّ على العصير بعد غليانه مادّة مزيلة لمادّته الالكلية بحيث يقطع بأنّه لا يصير مسكراً يتحقّق له الحلّية بذلك الحصول الغاية المقصودة؟!
وامّا الوجه الثالث فيرد عليه انّ الانقلاب غايته أن يكون مطهّراً لا محلّلاً والكلام في الحلّية لا في الطهارة، ودعوى: انّ مراد الشهيد (قدس سره) من الانقلاب لعلّه هو الاستحالة وهي مغيّرة للموضوع رافعة للحكم بالحرمة، غير مسموعة إذ الاستحالة عبارة عن انعدام الشيء ووجود شيء آخر، وبعبارة اُخرى: الاستحالة هي تبدّل الشيء عمّا كانت شيئيته به من الصورة النوعية فهي انعدام صورة نوعية ووجود صورة اُخرى كاستحالة الكلب ملحاً والخشبة المتنجسة رماداً ومنه يظهر انّ إطلاق «المطهر» على الاستحالة وعدّها من جملة المطهّرات مبني على التسامح لأنّها مغيّرة للموضوع وبتبعه يتغيّر الحكم بمقتضى الأدلّة المثبتة للأحكام على العناوين والموضوعات. وامّا الانقلاب فهو عبارة عن تبدّل وصف إلى وصف آخر كتبدّل الحنطة خبزاً والخمر خلاًّ من دون أن يكون هناك تبدّل في الصورة النوعية،
الصفحة 201
وصيرورة العصير دبساً إنّما هي من مصاديق الانقلاب دون الاستحالة ولم يقم دليل على كونه محلّلاً بل ولا على كونه مطهّراً ـ كما سيأتي البحث عنه ـ نعم خرجنا عن ذلك في خصوص انقلاب الخمر خلاًّ وعكسه بالنص ولا يمكن التعدّي عن مورده إلى غيره.
والحاصل: انّه لا دليل على حلّية العصير قبل ذهاب الثلثين وإن صار دبساً وعدم إمكان التثليث في هذه الصورة أو إمكانه بنحو أفاده السيّد (قدس سره) في «العروة» من صبّ مقدار من الماء عليه فإذا ذهب ثلثاه يصير حلالاً لبعد سدّ الشارع طريق الاستفادة منه ـ حينئذ ـ فتأمّل لا يوجب تغييراً في أصل الحكم كما لا يخفى.
|