الصفحة 302
معه وجوابه ـ مضافاً إلى ورود هذا الإيراد على الصحيحة الواردة في البيت والدار أيضاً فإنّ إصابة البول إليهما لا ظهور فيها في إصابة أرضهما فمن الممكن أن يصيب البول إلى حائطهما ـ ان ذكر الحائط بلحاظ تماس المصلّي معه في حال الجلوس أو القيام فتدبّر.
وكيف كان فهذه الصحيحة لا يمكن الاستدلال بها على وجوب إزالة النجاسة وارتكازه ومفروغيته بوجه أصلاً.
ومنها: موثقة محمد الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إنّ بينكم وبين المسجد زقاقاً قذراً، أو قلنا له: إنّ بيننا وبين المسجد زقاقاً قذراً؟ فقال: لا بأس; إنّ الأرض تطهّر بعضها بعضاً، قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال: لا يضرّك مثله.
وعن الحلبي بطريق آخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: إنّ طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه وليس على حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال: فلا بأس انّ الأرض تطهر بعضها بعضاً، قلت: فأطأ على الروث الرطب؟ قال: لا بأس أنا والله ربّما وطئت عليه ثمّ اُصلّي ولا أغسله.
ويرد على الاستشهاد بها انّ الظاهر من السؤال والجواب كون النظر إلى نجاسة رجل المصلّي وبدنه المانعة عن الصلاة لا إلى تنجيس المسجد وتحريمه ويشهد لهذا الظهور قوله (عليه السلام) : «أنا والله ربّما وطئت عليه ثمّ اُصلّي...» بداهة عدم ارتباطه بالمسجد بل غرضه (عليه السلام) حصول الطهارة للرجل وجواز الصلاة معه من دون حاجة إلى الغسل فانّ الأرض يوجب حصول الطهارة له فهذه الرواية أيضاً أجنبية عن
الصفحة 303
المقام.
ومنها: الروايات المستفيضة الدالّة على جواز اتخاذ الكنيف مسجداً بعد تنظيفه أو طمّه مثل صحيحة عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المكان يكون حشاً زماناً فينظف ويتّخذ مسجداً فقال: الق عليه من التراب حتّى يتوارى فإنّ ذلك يطهر إن شاء الله. وغيرها من الأخبار الواردة في ذلك فانّ مفادها مفروغية عدم ملائمة النجاسة والمسجدية ولزوم إزالتها عن المسجد.
لكن ربّما يقال: إنّ مقتضاها وجوب إزالة النجاسة عن ظاهر المسجد فقط وامّا باطنه فلا تجب إزالة النجاسة عنه ولا يحرم تنجيسه لما يستفاد منها من عدم منافاة نجاسة الباطن مع المسجدية وإلاّ لم يكن الطمّ وإلقاء التراب كافياً في جواز اتّخاذ الكنيف مسجداً لأنّ إلقاء التراب لا يوجب حصول الطهارة المصطلحة له بل غايته منعه من السراية كما لا يخفى وعليه فقد وقع الكلام في انّه هل يستفاد من هذه الروايات حكم تعبّدي مخصوص بموردها أو انّ الحكم المذكور فيها يشمل جميع الموارد فقد ذهب صاحب الجواهر (قدس سره) تبعاً للأردبيلي (قدس سره) إلى اختصاص الحكم بخصوص موردها وما يشبهه ممّا تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر فلا يشمل ما يتيسّر تطهيره.
ويرد عليه أمران:
الأوّل: إنّ ظاهر الروايات كون الطمّ واخلقاء التراب مطهراً بل كونه أطهر من تنظيف المكان الذي يكون ظاهره التنظيف بالماء لا مجرّد جمع العذرات والكثافات عنه وعليه فظاهرها كونه محقّقاً للطهارة المعتبرة في المسجدية لا انّه حكم تعبّدي مخصوص بما تتعذّر إزالة النجاسة عنه أو تتعسّر ويؤيّده عدم إشعار شيء منها بثبوت الحكم التعبّدي الخاص خصوصاً مع اشتمال أكثرها على التعليل بكون إلقاء
الصفحة 304
التراب مطهراً أو انّه أطهر من التنظيف وخصوصاً مع دلالة بعضها على اعتبار التنظيف والإصلاح، ففي خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن بيت كان حشاً زماناً هل يصلح أن يجعل مسجداً؟ قال: إذا نظف واُصلح فلا بأس. فإنّ مقتضى الجمع بينه وبين غيرها اعتبار التنظيف والإصلاح وانّه يحصل بإلقاء التراب والطمّ أيضاً، وعليه فإلقاء التراب أحد الطريقين لحصول الطهارة المعتبرة في المسجدية مطلقاً من دون فرق بين صورة التعذّر والتعسّر وعدمهما.
الثاني: انّه لم يقم دليل على وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد لأنّ عمدة الأدلّة هي ارتكاز المتشرّعة وانعقاد الإجماع في المسألة. ومن الواضح عدم ثبوت الارتكاز بالإضافة إلى الباطن ولم يعلم اندراجه في معقد الإجماع مع انّه دليل لبّي خصوصاً مع فتوى المجمعين بجواز اتّخاذ الكنيف مسجداً بعد طمّه بل بعد طرح التراب بمقدار يقطع ريحه من غير إشعار في كلامهم بكونه حكماً خاصّاً تعبّدياً مستثنى ممّا أجمعوا عليه من وجوب إزالة النجاسة عن المساجد.
وامّا صحيحة علي بن جعفر فهي على تقدير الدلالة واردة في نجاسة ظاهر المسجد أو جداره لأنّ المفروض فيها إصابة بول الدباة إليهما على خلاف العادة.
وامّا هذه الروايات فموردها نجاسة الباطن ومفادها عدم لزوم التطهير على هذا الفرض فكيف يمكن تعميم الحكم بالإضافة إلى البواطن أيضاً.
ولكن الإنصاف انّ الفتوى بعدم وجوب إزالة النجاسة عن باطن المسجد مشكلة لأنّه ـ مضافاً إلى انّ المرتكز عند المتشرّعة منافاة المسجدية مع النجاسة ومن الواضح انّ باطن المسجد لا يكون خارجاً عن عنوان المسجدية بمجرّد كونه متّصفاً بأنّه باطن ـ يكون المستفاد من روايات اتخاذ الكنيف مسجداً الحاجة إلى التطهير، غاية الأمر كون طمّه بالتراب مطهّراً له بالطهارة المعتبرة في المسجدية
الصفحة 305
وعليه فلا يمكن استفادة جواز تنجيس الباطن منها خصوصاً مع انّه لا يرى فرق بين الباطن وبين سقف المسجد مثلاً. نعم لو تنجّس الباطن لا يحتاج تطهيره إلى الماء بل يكفي إلقاء التراب عليه، وامّا جواز التنجيس فلا دلالة لها عليه فيشكل الأمر فيما يقع في هذه الأزمنة أحياناً من جعل أرض المسجد بعد حفره بمقدار أذرع حشّاً ومحلاًّ معدّاً للخلاء وجل محلّ الصلاة هو السقف الواقع على ذلك المحل.
ثمّ إنّه ربّما يستدلّ على وجوب إزالة النجاسة عن المساجد بقوله تعالى مخاطباً لإبراهيم الخليل (عليه السلام) : (وطهِّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود)(1)بتقريب انّ الأمر ظاهر في الوجوب وانّ الوجوب لا يختصّ بالمخاطب فقط كما انّه لا ينحصر بخصوص بيت الله الحرام لعدم القول بالفصل فيشمل جميع المساجد ولكنّه ربّما يقال إنّ الطهارة المأمور بها لم يعلم كونها هي الطهارة المصطلح عليها في زماننا بل الظاهر كونها بمعناها اللغوي أعني النظافة من القذارات.
ويرد عليه انّ حمل الطهارة على معناها اللغوي إن كان مع حفظ ظهور الأمر في الوجوب كما هو الظاهر فاستفادة وجوب إزالة النجاسة المصطلحة عن الآية بطريق أولى. نعم تمكن المناقشة بأنّه لا يظهر من الآية كون وجوب تطهير المسجد من حيث نفس المسجد بل من جهة الواردين فيه وهو يغاير المطلوب فتدبّر.
ثمّ إنّ وجوب الإزالة لا يختصّ بأرض المسجد بل يشمل بنائها من حائطه وسقفه من الداخل قطعاً ضرورة اتصاف البناء بعنوان المسجدية والجزئية له، وامّا البناء من خارج المسجد كالطرف الخارج من الجدران والواقع فوق السقف فمع فرض كونه جزءً من المسجد بأن جعله الواقف كذلك وقع الإشكال في وجوب
1 ـ الحج: 26 .
الصفحة 306
إزالة النجاسة عنه مع عدم تحقّق الهتك والإهانة والظاهر انّ الدليل العمدة في الباب وهو الارتكاز والإجماع لا دلالة له على الوجوب فيه بعد عدم ثبوت اللسان لهما حتّى يتمسّك بإطلاقه والأخبار الواردة في اتّخاذ الكنيف مسجداً أيضاً لا تدلّ على وجوب إزالة النجاسة عن ذلك لأنّ غاية مفادها منافاة النجاسة في الظاهر مع المسجدية. نعم صحيحة علي بن جعفر على تقدير دلالتها يمكن التمسّك بإطلاقها وترك الاستفصال على وجوب تطهير الطرف الخارج من الجدار أيضاً لكن عرفت كونها أجنبية عن المقام فلا دليل على الوجوب في هذه الصورة إلاّ فيما إذا تحقّق الهتك والإهانة ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه. هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بوجوب الإزالة.
الحكم الثاني: حرمة التنجيس والدليل عليها هي الملازمة العرفية فانّه إذا ثبت وجوب إزالة النجاسة عن المسجد بمقتضى ارتكاز المتشرّعة وانعقاد الإجماع في المسألة تثبت حرمة التنجيس عند العرف لأنّ الملاك هي المنافاة بين النجاسة والمسجدية وهي كما تقتضي وجوب الإزالة مع ثبوتها كذلك تقتضي حرمة التنجيس مع عدمها كما لا يخفى مع انّ رواية الحلبي المتقدّمة على فرض عدم كونها أجنبية عن المقام واردة في مورد التنجيس كما انّ حرمة إدخال النجاسة في المسجد ولو لم تكن مسرية كما سيجيء البحث فيه بعد هذا الحكم تدلّ بالأولوية على حرمة التنجيس.
وكيف كان فلا إشكال في أصل هذا الحكم وفي انّ حرمة التنجيس تنحصر بالمواضع التي تجب إزالة النجاسة عنها فإذا لم نقل بوجوب الإزالة عن الطرف الخارج من جدار المسجد فلا يكون تنجيسه أيضاً بمحرم إذا لم يكن موجباً للهتك والإهانة كما هو ظاهر.
الصفحة 307
بقي الكلام في هذا المقام في حرمة إدخال النجاسة في المسجد ومحلّ البحث فيها ما إذا لم تكن مسرية موجبة لتنجّسها وإلاّ فلا إشكال في الحرمة لما عرفت من حرمة التنجيس وما إذا لم يكن موجباً للهتك والإهانة وإلاّ فلا إشكال أيضاً في الحرمة ولو لم يكن المدخل هي النجاسة بل القذارات العرفية لما يعلم بالضرورة من الشرع من وجوب تعظيم المساجد التي هي بيوت الله ومحالّ العبادة ولاسيّما الصلاة التي أهمّها فالكلام في إدخال النجاسة غير المتعدية والهاتكة.
وقد حكى القول بالحرمة عن أكثر أهل العلم بل عن الخلاف والسرائر وغيرهما نفي الخلاف عنه، وعن الشهيد (قدس سره) دعوى الإجماع عليه.
والمستند لهم في ذلك أمران:
الأوّل: قوله تعالى: (انّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام)(1) حيث فرع النهي عن قرب المشركين المسجد الحرام الذي هو كناية عن دخولهم فيه على نجاستهم فيستفاد منه عدم ملائمة النجاسة مع الكون في المسجد ولو لم تكن متعدية، والفرق بين سائر المساجد والمسجد الحرام منفي بعدم القول بالفصل وقد نوقش في الاستدلال به بوجوه:
أحدها: ابتناء الاستدلال على كون المراد بالنجاسة هي النجاسة المصطلحة التي لها أحكام كثيرة كحرمة الأكل والمانعية عن الصلاة وغيرهما كما كانت تستعمل بهذا المعنى في عصر الأئمّة (عليهم السلام) ولسانهم وأنّى للمستدلّ بإثبات ذلك فمن أين يعلم ثبوت النجاسة بهذا المعنى في زمان نزول الآية الشريفة بل الظاهر انّ المراد منها هي القذارة المعنوية وهي قذارة الشرك ويؤيّده تعليق الحكم على الوصف المشعر
1 ـ التوبة: 28 .
الصفحة 308
بالعلية وانّ الوجه في النهي هو الاتّصاف بوصف الشرك مع انّه يساعده الاعتبار أيضاً فانّ المشرك لا تلائم بين اعتقاده وبين المسجد الحرام الذي هو مركز التوحيد ومحلّ العبادة الخالصة فكيف يناسب مع من يعبد الأصنام فالآية أجنبية عن الدلالة على المقام.
ثانيها: انّه على فرض كون النجاسة في الآية بالمعنى الشرعي المصطلح عليه لكن لم يثبت كون منشأ النهي عن دخولهم في المسجد الحرام نجاستهم ذاتاً لقوّة احتمال ورودها مورد الغالب من كون تجويز الدخول لهم ـ كما كانوا عليه قبل نزول الآية ـ يستلزم سراية النجاسة إلى المسجد وعليه فلا يبعد أن يكون النهي عن دخولهم بهذه الملاحظة فلا يستفاد منها إلاّ حرمة النجاسة المتعدّية الخارجة عن فرض المسألة.
ثالثها: انّه لو كان النهي في الآية متفرّعاً على النجس ـ بالكسر ـ الذي هو صفة مشبهة ومعناه حامل النجاسة وواجدها لكان المستفاد منها حرمة إدخال جميع النجاسات لأنّها متّصفة بهذه الصفة التي لها معنى اشتقاقي بل يمكن التعميم إلى المتنجسات أيضاً فانّها أيضاً نجس ـ بالكسر ـ لكن النهي فيها لم يتفرّع عليه بل فرع على النجس ـ بالفتح ـ الذي هو معنى حدثي يرجع إلى النجاسة والقذارة فكأنّه فرع النهي على نفس النجاسة. ومن المعلوم انّ إطلاقها يحتاج إلى خصوصية مرخصة كالتوغّل فيها وثبوت أعلى المراتب لها فالنهي عن الدخول من آثار هذه المرتبة الكاملة ولا يمكن استفادة ثبوتها بالإضافة إلى المراتب الدانية أيضاً، فإذا قيل: «زيد عدل فاكرمه» لا يستفاد منه وجوب إكرام كل عادل، بل مفاده وجوب إكرام من كان مثل زيد في البلوغ إلى المرتبة القوية من العدالة المصحّحة لإطلاق العدل عليه وعليه فلا يستفاد من الآية إلاّ النهي عن دخول المسجد بالإضافة إلى
الصفحة 309
من كان مثل المشرك في صحّة إطلاق النجاسة والقذارة عليه ولم يثبت له مثل فيما نحن بصدده من النجاسات التي يراد إدخالها في المسجد.
والإنصاف: إنّ هذه المناقشة لا مفرّ عنها أصلاً، وامّا المناقشة الثانية فالجواب عنها واضح ضرورة انّ المتبادر من الآية كون سبب المنع نجاستهم ذاتاً لا تنجيسهم للمسجد الذي قد يتّفق أحياناً. وبعبارة اُخرى المستفاد منها كون السبب هي الجهة الموجودة في ذات المشرك بما هو مشرك لا أمراً عرضياً ربّما يتّفق نوعاً أو أحياناً فهذه المناقشة واضحة المنع كما انّ المناقشة الاُولى أيضاً كذلك لما عرفت في أوائل مباحث النجاسات من انّ النجاسة والقذارة لها مصداقان أحدهما حقيقي وهو الذي يكون قذراً عند العرف والعقلاء وثانيهما اعتباري جعلي وهو الذي لا يستقذره الناس لو خليت طباعهم وأنفسها وقد ألحق هذا المصداق الشارع بالقسم الأوّل موضوعاً واعتبر القذارة والنجاسة له كذلك ونجاسة المشرك المجعولة في الآية من هذا القبيل ولا مجال لدعوى كونها بالمعنى العرفي بعد عدم ثبوت القذارة له عند العرف أصلاً والحمل على القذارة المعنوية يحتاج إلى ارتكاب خلاف الظاهر.
الأمر الثاني: النبوي المرسل: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» فانّ ظهور الاعمر في الوجوب وظهور المساجد في الأمكنة المعهودة المعروفة عند المتشرّعة المعدّة للعبادة والصلاة دون مساجد الجبهة أو المواضع السبعة وكذا ظهور النجاسة في النجاسة المصطلح عليها ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلاً فمقتضاه ـ حينئذ ـ لزوم إيجاد التباعد والتفاصل بين المسجد والنجاسة فلا يجوز إدخالها فيه ولو لم تكن متعدّية.
ولكن يرد على الاستدلال به ـ مضافاً إلى إرسال الرواية بحيث نقلها صاحب الوسائل (قدس سره) عن جماعة من أصحابنا في كتب الاستدلال المشتملة على النقل بهذا
الصفحة 310
النحو ـ انّ المتبادر من الأمر بالتجنيب هو كون المراد حفظ المساجد عن أن تتنجّس ومراقبتها من أن تتلوّث بالنجاسة، فغاية مفاده النهي عن تنجيس المساجد ولا دلالة له على حرمة إدخال النجاسة غير المتعدية التي هي المفروض في المسألة.
وبعبارة اُخرى الاستدلال بالنبوي يبتني على أن يكون المراد بالنجاسة هي الأعيان النجسة التي تطلق عليها النجاسة أحياناً مسامحة وتجوّزاً من باب زيد عدل كما عرفت نظيره في الأمر الأوّل في إطلاق النجس ـ بالفتح ـ على المشركين في الآية الشريفة، وامّا لو كان المراد بها هي النجاسة المصدرية فمفاده ما ذكرنا من دلالته على حرمة التنجيس الخارج عن محلّ البحث وهذا الاحتمال لو لم تكن الرواية ظاهرة فيه كما هو الظاهر لا تكون ظاهرة في غيره الذي يبتنى عليه الاستدلال.
وقد تحصّل ممّا ذكرنا انّه لم ينهض الدليل لإثبات حرمة إدخال النجاسة في المسجد فالأظهر هو الجواز كما ذهب إليه كثير من المتأخّرين بل لعلّه هو المشهور بينهم ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الأصل بعد عدم قيام الدليل على الحرمة ـ الروايات الدالّة على جواز مرور الحائض والجنب مجتازين في المساجد وحملها على كون المراد بيان الجواز من حيث حدثي الحيض والجنابة ودفع التوهّم من ناحيتهما مدفوع بغلبة مصاحبتهما للنجاسة خصوصاً في مثل الحائض التي لا تتصدّى للتطهير نوعاً قبل تمامية الحيض، ومثله ما دلّ على جواز دخول المستحاضة في المسجد من الروايات التي منها موثقة عبد الرّحمن التي وقع فيها السؤال عن المستحاضة وانّه أيطأها زوجها وهل تطوف بالبيت؟ إلى أن قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام): فإن ظهر ـ أي الدم ـ على الكرسف فلتغتسل ثمّ تضع كرسفاً آخر ثمّ
الصفحة 311
تصلّي فإذا كان دماً سائلاً فلتؤخّر الصلاة إلى الصلاة ثمّ تصلّي صلاتين بغسل واحد، وكل شيء استحلّت به الصلاة فليأتها زوجها ولتطف بالبيت. ولا وجه لتوهّم الاختصاص بالطواف الواجب لأجل الضرورة بعد إطلاق السؤال وشموله للطواف المندوب أيضاَ فمفادها جواز دخول المستحاضة المسجد الحرام والطواف بالبيت وإن كانت مستحاضة كثيرة ودمها سائلاً.
هذا مضافاً إلى استقرار السيرة خلفاً عن سلف على دخول من كان على بدنه قرح أو جرح المساجد لحضور الجماعات ونحوه وكذلك من كان بدنه أو ثيابه متنجّساً بغير دم القروح والجروح أيضاً كذلك استقرّت السيرة على عدم منع دخول الأطفال المساجد مع العلم بنجاستهم غالباً لأنّهم لا يستنجون ولا يتطهّرون غالباً وعليه فلا يبقى مجال للإشكال في جواز إدخال النجاسة فضلاً عن المتنجّس في المسجد. نعم يمكن أن يقال بانّ إدخال نفس النجاسة لعلّه لا يخلو عن الهتك إذا لم يكن هناك غرض عقلائي وضرورة عرفية وقد عرفت انّ صورة الهتك خارجة عن محلّ الكلام لأنّه لا مجال للإشكال في الحرمة فيها.
والمستفاد من المتن أيضاً الجواز حيث اقتصر فيه على وجوب الإزالة وحرمة التنجيس ولم يتعرّض لتحريم الإدخال أصلاً.
المقام الرابع: في أنّه يلحق بالمساجد في الحكمين المذكورين ـ وجوب الإزالة وحرمة التنجيس ـ المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة وكل ما علم من الشرع وجوب تعظيمه على وجه ينافيه التنجيس كالتربة الحسينية بل وتربة الرسول وسائر الأئمّة (عليهم السلام) والمصحف الكريم حتّى جلده وغلاه بل وكتب الأحاديث عن النبي أو الأئمّة ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ مع الهتك على الأقوى في جميعها وبدونه أيضاً في بعضها على ما وقع به التصريح في المتن. ولكنّه أفاد السيّد (قدس سره)في
الصفحة 312
«العروة» انّ المشاهد المشرّفة كالمساجد في حرمة التنجيس بل وجوب الإزالة إذا كان تركها هتكاً بل مطلقاً على الأحوط لكن الأقوى عدم وجوبها مع عدمه ويظهر منه التفكيك في المشاهد بين حرمة التنجيس ووجوب الإزالة بثبوت الأولى مطلقاً والثاني في خصوص صورة الهتك وقد تصدّب بعض الأعلام في الشرح لتوجيهه بما يرجع إلى انّ حرمة تنجيس المشاهد لا تكون من جهة تبعيتها للمساجد بل هي ثابتة ولو لم يكن تنجيس المساجد محرماً وذلك لأنّها ـ بما تشتمل عليه من آلاتها وأسبابها ـ امّا أن تكون ملكاً للإمام قد وقفت لأن يزار فيها وامّا أن تكون ملكاً للمسلمين قد وقفت لأن يكون مزاراً لهم ولوحظ في وقفها نظافتها وطهارتها والوقوف حسب ما يقفها أهلها فالتصرّف فيها في غير الجهة الموقوفة لأجلها محرّم شرعاً. نعم التنجيس فيما لا تنافي نجاسته جهة الوقف ممّا لا محذور فيه كالخانات الموقوفة للزوّار والمسافرين في مسيرهم وعليه فحرمة التنجيس في المشاهد على القاعدة ولا تحتاج إلى دليل كالمساجد.
وامّا وجوب الإزالة فيما إذا لم يكن بقاء النجاسة فيها مستلزماً للهتك فلم يقم عليه دليل وتعظيم شعائر الله لا دليل على وجوبه على إطلاقه ولا يمكن الالتزام بوجوبه بما له من المراتب وإلاّ يلزم وجوب إزالة القذارات الصورية أيضاً.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم جريان ما أفاده من الدليل في مثل الصفا والمروة اللذين هما من شعائر الله والمشاهد المشرّفة إذا لم يكن التنجيس في مورد موجباً للهتك لعدم كون مثلهما من مصاديق: الوقوف على حسب ما يقفها أهلها وإلى انّه لم يعلم كون الطهارة والنظافة ملحوظة للواقف أصلاً ـ انّه على تقدير الملاحظة لا سبيل إلى إثبات حرمة التنجيس بعنوانه الذي هو ظاهر المدعى فانّ الوقوف على حسب ما يقفها أهلها انّما يقتضي وجوب رعاية الجهات الملحوظة للواقف
الصفحة 313
المنظورة له، وامّا حرمة الجهات المخالفة فلا يقتضيه سيّما إذا اُريد إثبات الحرمة للجهة المخالفة بعنوانها لا بعنوان المخالفة للجهة الملحوظة كما عرفت انّه ظاهر المدعى.
وبعبارة اُخرى الظاهر انّ المراد حرمة التنجيس بعنوانه المغاير للاحترام والتعظيم والدليل لا يفي بإثبات ذلك، مع انّ الحرمة لو كانت من الجهة المذكورة لكان مقتضاها وجوب الإزالة أيضاً فانّه كما تجب رعاية الجهات الملحوظة للواقف كذلك تجب إعادتها على تقدير المخالفة ولو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة انّه كما انّ احداث النجاسة مخالف لنظر الواقف كذلك إبقائها بعد حدوثها فاللازم سدّ باب الإبقاء أيضاً ولو بالإزالة فتدبّر. فالإنصاف انّ ما أفاده لا يرجع إلى محصّل وانّ التفصيل بين الحكمين ممّا ليس إليه سبيل بل الظاهر ثبوت الحكمين في خصوص ما إذا تحقّق الهتك والإهانة لعدم وجود الدليل على أزيد من ذلك فانّ القدر المتيقّن من التعظيم الواجب الذي علم من الدين ثبوته ومنافاته للنجاسة انّما هو ما إذا كان تركه محقّقاً للإهانة والاستخفاف، وامّا إذا لم يكن كذلك فلم يثبت وجوبه. هذا كلّه بالإضافة إلى غير المصحف.
وامّا المصحف الكريم الذي هو أساس الدين وأكبر الأمرين اللذين تركهما النبي في المسلمين حينما اختار لقاء ربّ العالمين فلا إشكال في وجوب إزالة النجاسة عن ورقه وخطّه بل عن جلده وغلافه فيما إذا كان بقاء النجاسة فيه مستلزماً للهتك وموجباً للمهانة وكذلك لا إشكال في حرمة التنجيس في هذه الصورة بعد العلم بكونه أكمل الكتب السماوية وهتكه هتك الله سبحانه بل مطلق الهتك بالإضافة إليه محرم ولو لم يكن بالتنجيس أو ترك الإزالة بل ربّما يبلغ إلى حدّ الكفر والارتداد كما لا يخفى.
الصفحة 314
وامّا فيما لم يتحقّق الهتك والإهانة أصلاً كما إذا كان مشتغلاً بقراءة القرآن فأخذ الورق باليد الرطبة المتنجّسة الخالية عن عين النجاسة فهل وجوب الإزالة أو حرمة التنجيس ثابت فيه أيضاً أم لا؟ يمكن أن يقال بدلالة المتن على ثبوت الحكمين في المصحف مطلقاً لأنّه وإن لم يصرّح بالمراد من البعض المذكور فيه إلاّ انّ الظاهر كون المصحف مراداً امّا وحده أو مع بعض الاُمور المذكورة وذلك لأهمّية المصحف بمرتبة لا يبلغها شيء من المذكورات بعد كونه كلام الله النازل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهدايتهم أجمعين من الأوّلين والآخرين وهي المعجزة الخالدة الوحيدة، ومع ذلك يقع الكلام في مدرك ثبوتهما فيه ولو مع عدم تحقّق الهتك أصلاً كما في المثال المذكور.
وقد استدلّ شيخنا الأنصاري (قدس سره) على وجوب إزالة النجاسة عن خصوص خطّ المصحف بفحوى حرمة مسّ المحدث له. والظاهر انّ مراده من الفحوى والأولوية انّه إذا كان مسّ المحدث للخطوط حراماً مع انّه لا تتأثّر الخطوط بمسّه أصلاً فتنجيسها المؤثّر في الخطوط يكون حراماً بطريق أولى.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى انّ ملاك حرمة المسّ لعلّه كان مغايراً لملاك حرمة التنجيس على تقديرها ولم يعلم ملاك حرمة المسّ بوجه فكيف يمكن التشبّث بالفحوى معه وإلى اختصاص الدليل على فرض تماميته بخصوص الخطوط ولا ينطبق على الورق فضلاً عن الجلد والغلاف ـ انّ مقتضاه حرمة التنجيس ولا دلالة له على وجوب الإزالة إلاّ على تقدير القول بمنع غير المتطهّر عن مسّ الكتاب ووجوب حفظه من أن يمسّه المحدث وإلاّ فلا يقتضي الدليل وجوب الإزالة بوجه. فانقدح انّه لم ينهض دليل لثبوت الحكمين في المصحف مع عدم تحقّق الإهانة والهتك إلاّ انّه حيث يكون تعظيم القرآن مساوقاً لتعظيم الدين وتكريمه تكريم
الصفحة 315
شريعة سيّد المرسلين فالأحوط لو لم يكن الأقوى لزوم التباعد والتفاصل بينه وبين النجاسات خصوصاً بعد نفي الإشكال عنه من مثل شيخ المشايخ أجمعين وبعد إمكان دعوى أولوية المصحف عن المسجد ضرورة انّ إضافته إلى الله تعالى أشدّ من إضافة المسجد إليه لأنّه المعجزة الوحيدة.
ومن المعلوم انّ عروض التنجّس له يوجب التنفّر والانزجار وانحطاط مرتبته العالية في الأنظار العادية فاللازم مراعاة ذلك في نفس المصحف وشؤونه من الورق والجلد والغلاف فتدبّر.
المقام الخامس: في أحكام متعلّقة بالإزالة غير ما ذكر:
منها: انّ وجوب الإزالة في موارد ثبوته كفائي ولا يختص بمن تحقّق منه التنجيس بل هو وغيره سواء في هذه الجهة وذلك لعدم اختصاص أدلّة الوجوب ببعض دون بعض بل يشمل الخطاب جميع من استجمع شرائط هذا التكليف فهو متوجّه إلى العموم وحيث انّ الإزالة لا تكون قابلة للتكليف بها إذا قام بها بعض المكلّفين لعدم بقاء موضوعها بعد تحقّقها فلا محالة يصير الحكم بنحو الوجوب الكفائي.
وعن الشهيد في ظاهر «الذكرى» اختصاص الوجوب بمن أدخله.
ويرد عليه ـ بعد وضوح كون مراده خصوص ما إذا كان من أدخله واجداً لشرائط التكليف وبعد الإيراد عليه بأنّه ربّما لا يكون الإدخال من فعل المكلّف أصلاً ـ انّه إن كان المراد انّ الأمر بالإزالة متوجّه إلى خصوص الفاعل المختار العالم بثبوت هذا التكليف ولا تكليف بالإضافة إلى غيره أصلاً سواء تحقّق من المكلّف أم لم يتحقّق فالجواب عنه ما عرفت من عدم اختصاص أدلّة الوجوب وشموله لجميع المكلّفين.
الصفحة 316
وإن كان المراد انّ الأمر بالإزالة يتوجّه أوّلاً إلى خصوص الفاعل المذكور عيناً فإذا عصى وخالف يتوجّه في المرتبة الثانية إلى العموم كفاية نظير ما ذكروه في إنفاق الوالد على ولده الفقير وبالعكس حيث انّه واجب عيني في حقّ المنفق وإذا عصى ولم يتحقّق منه الإنفاق يجب على غيره كفاية فالجواب عنه انّه لا يستفاد ذلك من الدليل فانّه ليس في شيء من الأدلّة إشعار بتعدّد المرتبة وثبوت العينية والكفائية بل ليس هنا إلاّ تكليف واحد متوجّه إلى العموم ولا محالة يكون كفائياً.
نعم وجّهه في المصباح بقوله: «ويمكن توجيهه فيما لو كان من أدخله متعمّداً في فعله آثماً به بدعوى انّه يستفاد عرفاً ممّا دلّ على وجوب التجنيب حرمة التنجيس أعني جعل المسجد متنجّساً أعمّ من احداثه وإبقائه فيجب عليه عيناً رفعه تخلّصاً عن التنجيس المحرم كما انّه يجب عليه وعلى غيره من المكلّفين إزالته كفاية للأمر بالتجنيب الشامل للجميع فليتأمّل».
ويرد عليه إنّ حرمة التنجيس وإن كانت تستفاد من الأمر بالإزالة بالملازمة العرفية المتقدّمة إلاّ انّها تتقدّم بحسب المورد على الأمر بالإزالة ضرورة انّ الأولى فيما إذا لم تتلوّث المسجد بعد والثانية بعد تحقّق التنجيس وإن شئت قلت حرمة التنجيس لا معنى لثبوتها بالإضافة إلى البقاء أصلاً وإلاّ يلزم أوّلاً ثبوت التكليفين وكون مخالفة واحدة مخالفة لهما معاً، وثانياً انّه على هذا التقدير لا اختصاص له بمن أدخله فانّه لو كان الدليل عليها وجوب الإزالة وهو ثابت على الجميع فالحرمة المستفادة منه أيضاً ثابتة عليهم فلا اختصاص ولعلّه لما ذكرنا أمر بالتأمّل.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان ما عرفت من الشهيد (قدس سره) وانّ الوجوب في جميع الموارد لا يكون إلاّ كفائياً.
ومنها: إنّ وجوب الإزالة على الفور وقد استظهر نفي الخلاف فيه بل عن المدارك
الصفحة 317
والذخيرة نسبته إلى الأصحاب والوجه فيه انّ المرتكز عند المتشرّعة والمستفاد من الفتاوى والإجماعات المحكية ما عرفت من كون الملاك في هذا الحكم احترام المسجد ومثله ومنافاة ذلك للنجاسة الموجبة للتنفّر نوعاً وهذا يقتضي أن يكون الوجوب على الفور كما انّ المستفاد من الروايات الدالّة على ذلك ـ على تقدير الإغماض عن المناقشة فيها ـ هو وجوب حفظ المسجد عن النجاسة وحرمة إحداثها فيه أو إبقائها ولا مجال لاحتمال أن يكون المراد مجرّد تبعيدها عن المسجد في زمان من الأزمنة المستقبلة سيما بالنسبة إلى خبر علي بن جعفر (عليه السلام)فتدبّر.
ومنها: انّه لو توقّفت الإزالة على صرف مال وجب ولا يسقط لأجل ذلك فانّه في هذه الصورة يكون صرف المال مقدّمة للإزالة الواجبة، ومقدّمة الواجب امّا واجبة عقلاً وشرعاً أو عقلاً فقط. وعلى أيّ حال لا ريب في وجوبها.
ولكنّه ربّما يقال: إنّ المال الذي يتوقّف الإزالة على بذله إن كان من أموال نفس المسجد كاُجرة الدكاكين الموقوفة لمصالح المسجد أو كان بمقدار يسير لا يعدّ صرفه ضرراً على المتصدّي ولم يكن حرجياً في حقّه ففي هذه الصورة يجب بذله من باب وجوب المقدّمة، وامّا إذا كان ضررياً أو موجباً للحرج فالظاهر عدم وجوب البذل لأنّ الإجماع أو مثله من الأدلّة اللبّية لا يشمل هذه الصورة بعد وجود القدر المتيقّن لها، والروايات وإن كانت مطلقة إلاّ انّ حكومة أدلّة نفي الضرر أو الحرج على جميع الأحكام الشرعية التي منها وجوب الإزالة ـ على ما هو المفروض ـ تقتضي عدم الوجوب في المقام وقد ذهبوا إلى انّ الميّت إذا لم يكن له مال يشترى به الكفن ولم يكن من تجب عليه نفقته موسراً لا يجب عليه ولا على غيره شراء الكفن له وانّما يدفن عارياً أو يكفن من بعض أسهم الزكاة لأنّ الواجب الكفائي هو التكفين لا بذل الكفن، كما انّ الواجب هو التغسيل دون شراء الماء له وهذا الحكم لا دليل عليه
الصفحة 318
سوى قاعدة نفي الضرر.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى انّ لازم ما أفاده التفصيل في باب التكفين أيضاً بأن يقال بذل الكفن إن لم يكن ضرراً على المتصدّي ولا حرجياً في حقّه يجب عليه في هذه الصورة مع انّ ظاهره ثبوت الحكم هناك بنحو الإطلاق، وإلى انّ لزوم الضرر والحرج انّما هو إذا لم يجز الرجوع به على من نجّسه ولم يكن ضامناً له فمن الممكن أن نختار ضمانه فيما سيجيء من البحث عنه فنفس الفرض يتوقّف على نفي الضمان وبدونه لا يتحقّق أصلاً ـ الفرق بين المقام وبين باب التكفين وعدمن كون المقايسة في محلّها ضرورة انّ الواجب هناك هو التكفين الذي هو من أعمال المكلّفين وبدون وجود الكفن يكاد لا يتحقّق الواجب فلا معنى لبقاء وجوبه بدونه. وامّا الواجب في المقام فهو الإزالة التي يكون موضوعها متحقّقاً لفرض تلوّث المسجد بالنجاسة. غاية الأمر توقّفها على بذل الماء.
وبعبارة اُخرى عمل المكلّف هنا يتوقّف على بذل المال، وامّا هناك فالتكفين لا يتوقّف عليه بل الكفن محتاج إليه والمقايسة الصحيحة انّما هي مقايسة المقام بما إذا كان التكفين مع وجوب الكفن متوقّفاً على بذل مال كما إذا كان إحضار الكفن الموجود متوقّفاً عليه فهل لا يجب البذل في هذه الصورة أو يجب بعنوان المقدّمة مع انّ في دليلي الضرر والحرج سيما الأوّل كلاماً مذكوراً في محلّه.
ومنها: انّه فيما لو توقّفت الإزالة على بذل مال وقد بذلها لتحقّقها فهل يرجع به إلى من نجس المسجد على تقدير كون المتصدّي للإزالة غيره أم لا؟ فيه وجهان والمذكور في المتن انّ الرجوع به لا يخلو عن وجه والمختار في «العروة» انّ عدم الرجوع لا يخلو عن قوّة.
وذكر بعض الأعلام في توضيح كلام السيّد (قدس سره) ما حاصله: «انّه إذا نجس أحد
الصفحة 319
مال غيره واحتاج تطهيره إلى بذل الاُجرة عليه فالظاهر عدم ضمانه للاُجرة لأنّ أدلّة الضمان وإن كانت تشمل العين وأوصافها من دون فرق بين وصف الصحّة وغيرها من أوصاف الكمال إلاّ انّ اُجرة التطهير والإرجاع إلى الحالة السابقة لا دليل على ضمانها، فإذا صار تنجيس مال الغير موجباً لسقوطه عن المالية كما إذا نجس لبن الغير ـ مثلاً ـ أو سبباً لنقصان في قيمته فلا إشكال في الضمان لنفس المال أو مقدار النقص الحاصل، وامّا اُجرة التطهير فلا وجه لضمانها فإذا كان هذا حال تنجيس ملك الغير فحال تنجيس المسجد الذي هو وقف ومعنى وقفه تحريره واضح لأنّه لا معنى لشمول أدلّة الضمان له بعد اختصاصها بمال الغير وقد ثبت انّ إتلاف أرض المسجد ونفسه غير موجب للضمان فما ظنّك بإتلاف صفاتها الكمالية».
والعجب منه حيث زعم انّ القائل بالضمان في مفروض المسألة يقول بضمان من نجس المسجد بالإضافة إلى نفس المسجد أو مالكه التقديري حيث ينفي شمول أدلّة الضمان لاختصاص موردها بما إذا ثبت المالية أوّلاً وكونها للغير ثانياً مع انّ الضمان على تقديره انّما هو بالإضافة إلى المتصدّي للإزالة الباذل للمال لأجلها فإذا لم يتصدّ أحد للإزالة لا يكون هناك ضمان أصلاً كما انّه إذا تبرّع متبرِّع ببذل المال أيضاً كذلك فالضمان انّما هو بالإضافة إليه والوجه في ثبوته انّما هو كون عمله الذي هو التنجيس صار موجباً لثبوت تكليف على العموم بنحو الكفاية والمفروض انّ موافقته تتوقّف على بذل المال، فقياس المسجد بمال الغير الذي لا تجب إزالة النجاسة عنه بوجه في غير محلّه جدّاً. نعم تمكن المناقشة في انّ ذلك بمجرّده لا يثبت الضمان بعد عدم نهوض الدليل عليه إلاّ أن يقال باستفادة ذلك من قاعدة الغرور المبتنية على ضمان الغار لكونه سبباً لضمان المغرور فانّه إذا كانت السببية للضمان
الصفحة 320
موجبة لضمان السبب فالسببية للتكليف المتوقّف على بذل المال أيضاً كذلك فتدبّر.
ومنها: انّه لو توقّف تطهير المسجد على حفر أرضه أو تخريب شيء منه فهل يجوز ذلك بل يجب أم لا؟ وعلى تقدير الجواز وتحقّق الحفر أو التخريب فهل يكون من نجّسه ضامناً لخسارة التعمير أم لا؟
امّا جواز الحفر أو التخريب بل وجوبهما فلتوقّف الإزالة المأمور بها عليهما فلا ينبغي التأمّل في الجواز بل الوجوب لكن ربّما يقال: إنّ ذلك انّما هو فيما إذا كان حفره أو تخريبه بمقدار يسير ولم يعد إضراراً با لمسجد ومانعاً عن الصلاة والعبادة فيه، وامّا إذا لم يكن كذلك فالحكم بالجواز فضلاً عن الوجوب محلّ إشكال ومنع لتزاحم ما دلَّ على وجوب الإزالة مع الأدلّة الدالّة على حرمة الإضرار بالمسجد وحرمة الإضرار لو لم يكن أقوى وأهمّ فعلى الأقلّ يكون محتمل الأهمّية دون وجوب الإزالة فلا مسوغ للحكم بالجواز ولو استند في دليل الوجوب إلى الإجماع فالخطب سهل جدّاً لعدم شمول الإجماع للإزالة المستلزمة للإضرار بالمسجد.
كما انّه ربّما يقال: إنّ حرمة تخريب المسجد تختصّ بما إذا لم يكن لمصلحة المسجد كالتوسعة وإحداث باب ونحوها ممّا يترتّب عليه مصلحة عامّة وتطهير المسجد من هذا القبيل فلا مزاحم لما دلَّ على وجوب إزالة النجاسة عنه.
وأورد عليه بأنّ المراد بالمصلحة المسوغة للتخريب الفائدة العائدة إلى المتردّدين والطهارة ليست منها، ومجرّد الوجوب لا يقتضي ذلك فالتزاحم بحاله فإن اُحرزت الأهمية في أحدهما أو احتملت وإلاّ فمقتضى ذلك جواز كل من الأمرين.
والحقّ أن يقال إنّ المراد بالإضرار بالمسجد إن كان هو مجرّد تخريبه أو حفر أرضه الذي ينطبق عليه عنوان التخريب أيضاً، فمضافاً إلى عدم معلومية شمول
الصفحة 321
دليل حرمته للمقام بعد كون الغرض حفظ احترام المسجد وبعده عن النجاسة غير الملائمة مع المسجدية فإنّ المنساق من دليله ما إذا كان الغرض هو الإضرار بالمسجد، نقول بأنّ ذلك الدليل على فرض شموله للمقام انّما يكون مورده التخريب من غير التعمير، وامّا لو قلنا بوجوب التعمير بعده وإرجاعه إلى الحالة الاُولى فالظاهر عدم الشمول مع هذه الجهة وعليه فدليل وجوب الإزالة ولو كان هو الإجماع أو الإرتكاز يشمل المقام ويحكم بوجوبها ولو كان التطهير متوقّفاً على التخريب أيضاً.
وامّا لو كان المراد بالإضرار هي المانعية عن الصلاة والعبادة فيه فمجرّد المانعية في زمان محدود لا ينفي وجوب الإزالة ولا يزاحمه بعد عدم قيام الدليل على حرمة المانعية في هذه الصورة أصلاً. فالإنصاف جواز التخريب والحفر بل وجوبهما مطلقاً كما هو ظاهر المتن.
وامّا ضمان من نجّسه لخسارة التعمير الذي مرجعه إلى ثبوت وجوب الطمّ وتعمير الخراب بالإضافة إليه فقط لا إلى ثبوت الوجوب على العموم وجواز الرجوع إليه كما في الحكم المتقدّم الذي كان مورده توقّف الإزالة على بذل المال فانّه في المقام لا تكون الإزالة متوقّفة على بذله أصلاً بل تعمير الخراب وطمّ الحفر متوقّفان عليه وظاهر الحكمب الضمان على خصوص من نجّسه كون التكليف ثابتاً في حقّه فقط.
وبالجملة فلا دليل على ضمان المتصدّي للإزالة المباشر للتطهير امّا لأجل انّ الحفر والتخريب انّما صدر لمصلحة المسجد وتطهيره، والتصرّف فيما يرجع إلى الغير إذا كان لمصلحة الغير لا يكون مستتبعاً للضمان، وامّا لاختصاص أدلّة الضمان بما إذا أتلف مال الغير والمساجد لا تكون مملوكة بل محرّرة ومنفكّة عن الملكية لوجه الله
|