الصفحة 282
مفاد الهيئة هو الوجوب بل مجرّد البعث الملائم مع الاستحباب أيضاً كما مرّ.
الثاني: الاعمر الوارد بأمر الصبيان بالصلاة وغيرها من العبادات، فانّ الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء حقيقة، وحيث إنّ الشارع أمر أولياء الصبيان بأمر أطفالهم بالصلاة مثلاً فيثبت بذلك انّه أمر الشارع الأطفال بها. غاية الأمر انّ شيئاً من الأمرين لا يكون على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب فالدليل على محبوبية عبادات الصبي ومشروعيتها تعلّق الأمر الاستحبابي بها بالكيفية المذكورة.
وفيه انّ هذا الأمر انّما يتمّ لو كان أولياء الأطفال مأمورين بأمرهم بجميع العبادات ولكن ذلك لم يثبت إلاّ في خصوص الصلاة إلاّ أن يقال بعدم القول بالفصل بين الصلاة وغيرها من أعمال الصبي وعباداته. هذا تمام الكلام في مباحث النجاسات ويتلوه البحث عن أحكام النجاسات إن شاء الله تعالى.
وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق التي هي جزء من كتابنا الموسوم بـ «تفصيل الشريعة» في شرح «تحرير الوسيلة» بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه المفضال محمد الموحّدي اللنكراني الشهير بالفاضل ابن العلاّمة الفقيه الفقيد آية الله المرحوم فاضل اللنكراني ـ حشره الله مع من يحبّه ويتولاّه من النبي والأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ـ ووفّقني الله لأداء بعض حقوقه الواجبة التي هي أكثر من أن تحصى ولا يحرمني من دعائه في ذلك العالم الذي لابدّ من الانتقال إليه، وكان ذلك في اليوم الحادي عشر من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1395 من الهجرة النبوية على مهاجرها آلاف الثناء والتحية في مكتبة الوزيري في بلدة «يزد» المعروفة بدار العبادة وأنا مقيم فيها بالإقامة الموقتة الإجبارية مع عدم استقامة الحال وتشويش البال والهموم المتعدّدة والغموم
الصفحة 283
المتكثّرة بمعزل من الناس أجمعين حتّى ممّن ينتحل منهم العلم والدين وقد جعلهما وسيلة للوصول إلى حطام الدنيا وذريعة للبلوغ إلى الأغراض السفلى نسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظنا من شرور أنفسنا ويوفّقنا لما هو وظيفتنا من تحصيل معالم الدين وترويج شريعة سيّد المرسلين ونشر معارف أئمّة الحقّ واليقين وأن يعجّل في فرج الإمام المنتظر والحجّة الثاني عشر بحق آبائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
اللهمّ انّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزُّ بها الإسلام وأهله وتذلُّ بها النفاق وأهله.
الصفحة 284
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في أحكام النجاسات
مسألة 1 ـ يشترط في صحّة الصلاة والطواف واجبهما ومندوبهما طهارة البدن حتّى الشعر والظفر وغيرهما ممّا هو من توابع الجسد، واللباس الساتر منه وغيره، عدا ما استثنى من النجاسات وما في حكمها من متنجّس بها، وقليلها ولو مثل رأس الابرة ككثيرها عدا ما استثنى منها، ويشترط في صحّة الصلاة أيضاً طهارة موضع الجبهة في حال السجود دون المواضع الاُخر فلا بأس بنجاستها ما دامت غير سارية إلى بدنه أو لباسه بنجاسة غير معفوّ عنها وتجب إزالة النجاسة عن المساجد بجميع أجزائها من أرضها وبنائها حتّى الطرف الخارج من جدرانها على الأحوط، كما انّه يحرم تنجيسها، ويلحق بها المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة، وكل ما علم من الشرع وجوب تعظيمه على وجه ينافيه التنجيس كالتربة الحسينية بل وتربة الرسول(صلى الله عليه وآله) ـ وسائر الأئمّة(عليهم السلام) والمصحف الكريم حتّى جلده وغلافه، بل وكتب الأحاديث عن المعصومين(عليهم السلام) على الأحوط بل الأقوى لو لزم الهتك بل مطلقاً في بعضها، ووجوب تطهير ما ذكر كفائي لا يختص بمن نجّسها، كما انّه تجب المبادرة مع القدرة على تطهيرها، ولو توقّف ذلك على صرف مال وجب، وهل يرجع به على من نجّسها لا يخلو من وجه، ولو
الصفحة 285
توقّف تطهير المسجد ـ مثلاًـ على حفر أرضه أو تخريب شيء منه جاز بل وجب، وفي ضمان من نجّسه لخسارة التعمير وجه قوي، ولو رأى نجاسة في المسجد ـ مثلاً ـ وقد حضر وقت الصلاة تجب المبادرة إلى إزالتها مقدّماً على الصلاة مع سعة وقتها فلو تركها مع القدرة واشتغل بالصلاة عصى لكن الأقوى صحّتها، ومع ضيق الوقت قدّمها على الإزالة 1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:
المقام الأوّل: في اعتبار طهارة البدن واللباس في صحّة الصلاة والطواف.
امّا الصلاة فقد اتّفقوا على اعتبار طهارتهما فيها وقد دلّت عليه الأخبار الكثيرة المتواترة إلاّ انّها وردت في موارد خاصّة من البول والمني ومثلهما ولم ترد رواية في اعتبار إزالة النجس بعنوانه أو طهارة الثوب والبدن كي تكون جامعة لجميع الأفراد ومثبتة للحكم بنحو العموم. نعم يمكن استفادته من صحيحة زرارة قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني إلى أن قال: فإن ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت فلم أرَ شيئاً ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال: تغسل ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. الحديث. فانّه على تقدير كون الضمير في «غيره» راجعاً إلى الدم وكون الخير مرفوعاً معطوفاً عليه تدلّ على مانعية مطلق النجاسات في الصلاة لكن هذا التقدير لا يلائمه ذكر «شيء من مني» عقيب «غيره» ضرورة انّه على هذا التقدير لا حاجة إليه أصلاً. نعم يمكن الاستفادة من الصحيحة من طريق آخر وهو انّ الإمام (عليه السلام) قد عبّر في مقام الجواب عن السؤال عن علّة عدم الإعادة في صورة عدم التيقّن بقوله (عليه السلام) : لأنّك كنت على يقين من طهارتك وهذا التعبير بلحاظ اشتماله على كلمة الطهارة وإضافتها إلى
الصفحة 286
المصلّي مع كون مورد السؤال هو الثوب يعطي انّ المعتبر في الصلاة طهارة المصلّي. غاية الأمر انّ المراد بالمصلّي ليس خصوص بدنه بل أعمّ منه ومن الثوب الذي هو مورد السؤال، فالمستفاد من الصحيحة اعتبار عنوان عام شامل لجميع النجاسات كما هو ظاهر.
كما انّه يمكن استفادة ذلك من السؤال في بعض الروايات بلحاظ دلالته على مفروغية اعتبار الخلو عن النجاسة في صحّة الصلاة عند السائل وتقرير الإمام (عليه السلام)له على ذلك، ففي رواية أبي العلاء عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه ثمّ يذكر انّه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال: لا يعيد قد مضت الصلاة وكتبت له. ودلالته على اعتبار طهارة البدن امّا بالأولوية وامّا بعدم القول بالفصل.
كما انّه يمكن الاستفادة من بعض الروايات الواردة في مثل التكة والجورب والقلنسوة المشتملة على لفظ «القذر» الظاهرة في اعتبار إزالته في غير الاُمور المذكورة ممّا تتمّ الصلاة فيه منفرداً، ففي رواية إبراهيم بن أبي البلاد عمّن حدثّهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) : لا بأس بالصلاة في الشيء الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر مثل القلنسوة والتكة والجورب.
وامّا استفادته من حديث «لا تعاد» المشتمل على لفظ «الطهور» أو مثل قوله (عليه السلام): «لا صلاة إلاّ بطهور..» فمورد الإشكال بل المنع. نعم يمكن الاستفادة من صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا صلاة إلاّ بطهور ويجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار بذلك جرت السنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وامّا البول فانّه لابدّ من غسله. فانّ الظاهر بقرينة الذيل انّه لا تختص الطهارة المعتبرة في الصلاة بالطهارة من الاحداث بل تعمّ الطهارة من مطلق الخبائث كما لا يخفى، ولكن مقتضاها اعتبار
الصفحة 287
طهارة البدن وامّا استفادة اعتبار طهارة الثوب أيضاً فمشكلة فتأمّل، والذي يسهل الخطب ما عرفت من كون المسألة اتفاقية لا كلام فيها. هذا بالنسبة إلى الصلاة.
وامّا الطواف فاعتبار إزالة النجاسة عن الثوب والبدن فيه محكي عن الأكثر بل عن الغنية الإجماع عليه وقد استدلّ عليه بالنبوي المعروف: الطواف بالبيت صلاة. وبخبر يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يرى في ثوبه الدم وهو في الطواف؟ قال: ينظر الموضع الذي رأى فيه الدم فيعرفه ثمّ يخرج فيغسله ثمّ يعود فيتمّ طوافه. وبتحريم إدخال النجاسة وإن لم تسر واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.
وعن ابن الجنيد كراهته في ثوب أصابه دم لا يعفى عنه في الصلاة، وعن ابن حمزة كراهته مع النجاسة في ثوبه أو بدنه. ومال إليه في محكي المدارك استناداً إلى الأصل بعد تضعيف الخبرين ومع حرمة إدخال النجاسة غير المتعدّية والهاتكة حرمة المسجد.
والظاهر انّ النبوي لا دلالة له على كون التنزيل بلحاظ الأحكام المترتّبة على الصلاة جميعها أو الظاهرة منها التي منها الطهارة لأنّه مضافاً إلى عدم اشتراط الطهارة الحدثية التي هي من أظهر آثار الصلاة في الطواف المندوب على ما استظهر وعدم العفو عن الأقلّ من الدرهم من الدم وفيما لا تتمّ الصلاة به عند بعض القائلين باعتبار الطهارة في الطواف كصاحب الجواهر (قدس سره) يكون الظاهر من النبوي التشبيه في الفضيلة والثواب نظراً إلى انّه حيث يكون المغروس في أذهان المتشرّعة انّ تحية المسجد عبارة عن الصلاة فيه فالنبوي مسوق لبيان انّ مسجد الحرام له خصوصية وهي انّ الطواف بالبيت فيه صلاة في الفضيلة ورعاية التحية فتدبّر.
وامّا خبر يونس فمورده الدم ولا يدل على الشمول لجميع النجاسات إلاّ
الصفحة 288
بضميمة عدم القول بالفصل.
وامّا الدليل الثالث فواضح المنع بعد عدم كون مطلق الادخال ولو لم تكن النجاسة مسرية ولا هاتكة محرماً وعدم كون الأمر بالشيء مستلزماً للنهي عن الضدّ وعدم ثبوت الأمر هنا أصلاً حتّى يكون مستلزماً للنهي وغير ذلك من المناقشات الواردة عليه.
ولكن مع ذلك لا محيص عن الالتزام باعتبار الطهارة في الطواف لخبر يونس المتمّم بعدم القول بالفصل ولا يعارضه مرسل البزنطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: رجل في ثوبه دم ممّا لا تجوز الصلاة في مثله وطاف في ثوبه؟ فقال: أجزء الطواف فيه ثمّ ينزعه ويصلّي في صوب طاهر. وذلك لإرساله وعدم ظهوره في وقوع الطواف مع العلم بثبوت الدم في الثوب لأنّه يحتمل أن يكون العلم متأخّراً عن وقوع الطواف فيه كما لا يخفى.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة الواردة في الصلاة والطواف عدم اختصاص اعتبار الطهارة بخصوص الواجب منهما بل هي معتبرة في المندوب منهما أيضاً كما انّه لا فرق في الصلوات الواجبة بين الاداء والقضاء ضرورة عدم كون الفرق بينهما إلاّ من ناحية الزمان فقط.
وامّا اعتبار طهارة الشعر والظفر وغيرهما من توابع الجسد فمضافاً إلى انّه لم يحك الخلاف فيه من الأصحاب يدلّ عليه ما دلَّ على اعتبار طهارة البدن لأنّها أيضاً من أجزاء البدن ما دام كونها متّصلة به غير منفصلة عنه خصوصاً بالتقريب الذي استفدناه من صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة على اعتبار طهارة الشخص بالمعنى الذي يعمّ ثوبه أيضاً فإذا كانت طهارة الثوب دخيلة في اتّصاف الشخص بالطهارة فطهارة مثل الشعر والظفر تكون مدخليتها بطريق أولى كما لا يخفى.
الصفحة 289
ثمّ إنّ المراد باللباس الذي تعتبر إزالة النجاسة عنه أعمّ ممّا يكون ساتراً لعورتي المصلّي وما لا يكون بمعنى انّ ما على المصلّي من اللباس الذي يعدّ بنظر العرف كذلك يعتبر أن يكون طاهراً سواء كان واحداً أو متعدّداً، وامّا ما لا يعد من اللباس كالخيمة التي يصلّي فيها أو اللحاف الذي يكون على المصلّي فلا دليل على اعتبار طهارته. نعم في المصلّي مضطجعاً إيماء إذا فرض كون اللحاف لباساً له كما إذا لفّه مثلاً على بدنه يعتبر طهارة اللحاف لأنّه معدود ـ حينئذ ـ لباساً له من دون فرق بين أن يكون له ساتر غيره أم لا.
وامّا الاستثناء بالإضافة إلى مقدار بعض أنواع النجاسات وكذا نفس بعض الأصناف وكذا بالنسبة إلى بعض أنواع الألبسة فسيأتي الكلام فيه في بعض المسائل الآتية، كما انّ اختلاف حالات المصلّي من جهة العلم والجهل والنسيان والالتفات يأتي البحث فيه مفصّلاً ـ إن شاء الله تعالى ـ فانتظر.
المقام الثاني: في اعتبار طهارة موضع الجبهة في حال السجود في صحّة الصلاة، واعتبار طهارة خصوص موضع الجبهة هو المعروف بين الأصحاب بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه لكن المحكيّ عن أبي الصّلاح اعتبار الطهارة في مواضع المساجد السبعة بأجمعها كما حكي عن المرتضى (قدس سره) اشتراطها في مطلق مكان المصلّي سواء كان من مواضع المساجد أو غيرها.
والظاهر انّ محل الكلام في هذا المقام انّما هو النجاسة غير المتعدّية إلى البدن أو اللباس ضرورة انّه مع فرض التعدّي تبطل الصلاة لأجل كونها فاقدة لشرط طهارة الثوب أو البدن وإن حكى عن الفخر (قدس سره) انّ اعتبار خلوّ المكان عن النجاسة المسرية انّما هو لأجل اعتبار الطهارة في نفس المكان وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كانت النجاسة المسرية ممّا يعفى عنه في الثوب والبدن كما إذا كان أقلّ من مقدار
الصفحة 290
الدرهم من الدم ـ مثلاً ـ فانّه على قول الفخر تكون الصلاة باطلة لفقدانها لشرط طهارة المكان التي تكون خالية عن الاستثناء وعلى قول غيره لا تبطل الصلاة لكونها معفوّاً عنها على ما هو المفروض.
وكيف كان فالدليل على اعتبار طهارة موضع الجبهة ـ مضافاً إلى كون المسألة إجماعية لم يقع فيها خلاف بين الأصحاب وإن كان ربّما يتوهّمالخلاف من جماعة منهم المحقّق (قدس سره) حيث استجود ما حكاه في المعتبر عن الراوندي وصاحب الوسيلة من القول بجواز السجدة على الأرض والبواري والحصر المتنجّسة بالبول فيما إذا تجفّفت بالشمس مع عدم كون الشمس عندهم من المطهّرات لكن التوهّم في غير محلّه لاحتمال كون الترخيص انّما هو من جهة ثبوت العفو عن السجود في خصوص الفرض المذكور، ومن هنا لم يرخصوا في السجود عليها فقط فهو مؤكّد للإجماع على عدم جواز السجود على النجس الذي لم يثبت العفو عنه ـ صحيحة حسن بن محبوب عن أبي الحسن (عليه السلام) انّه كتب إليه يسأله عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثمّ يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب (عليه السلام) إليَّ بخطّه: إنّ الماء والنار قد طهّراه. فانّ ظهور السؤال في كون المنع عن السجود على النجس من الاُمور المسلّمة المفروغ عنها لدى السائل وتقرير الإمام (عليه السلام) له على هذا الاعتقاد وتصريحه بحصول الطهارة للجص بسبب النار والماء الظاهر في أنّه لولا حصول الطهارة لما جاز السجود عليه ممّا لا ينبغي أن ينكر فالصحيحة تامّة الدلالة على اعتبار طهارة موضع السجدة وقد مرّت انّ المسألة إجماعية فلا يبقى مجال للإشكال في أصل الحكم. نعم ربّما يشكل معنى الرواية وانّ الماء والنار كيف طهّرا الجصّ وما المراد بالماء والنار المطهّرين وإن كان الجهل بذلك لا يكاد يقدح في الاستدلال بالرواية على اعتبار الطهارة في موضع السجدة بعد ظهور السؤال في المفروغية
الصفحة 291
والجواب في التقرير والدلالة على انّه لولا الطهارة لما جاز السجود على الجص مع النجاسة كما لا يخفى على اُولي الدراية.
إلاّ انّه ربّما يقال: إنّ المراد بالنار حرارة الشمس وبالماء رطوبة الجص الحاصلة بصبّ الماء عليه لعدم إمكان التجصيص بالجص اليابس فمرجع الرواية إلى انّ الجصّ المشتمل على الرطوبة والمتنجّس بالعذرة وعظام الموتى يطهر بإشراق الشمس عليه.
ولا يخفى عدم تمامية هذا القول لأنّ حمل النار على حرارة الشمس مع عدم إشعار في الصحيحة بوقوع ذلك في محلّ تراه الشمس ويصل إليه نورها بعيد جدّاً خصوصاً مع ملاحظة انّ النار والشمس عنوانان متغايران عند العرف كما انّ حمل الماء على الرطوبة الحاصلة بصبّ الماء عليه أيضاً كذلك.
وذكر بعض الأعلام في الشرح انّ الماء والنار في الصحيحة باقيان على معناهما الحقيقي وانّ الجص قد طهر بهما لأنّ النار توجب طهارة العذرة والعظام النجستين بالاستحالة حيث تقلبهما رماداً والاستحالة من المطهّرات، وامّا الماء فلأنّ مجرّد صدق الغسل يكفي في تطهير مطلق المتنجّس إلاّ ما قام الدليل على اعتبار تعدّد الغسل فيه وخروج الغسالة وانفصالها غير معتبر فإذا صبّ الماء على الجص المتنجّس أو جعل الجص على الماء فلا محالة يحكم بطهارته وإن لم تخرج غسالته فصحّ أن يقال: إنّ الماء والنار قد طهّراه ـ كما يصحّ أن يسجد عليه ولا يمنع الطبخ عنه لأنّ الجص من الأرض ولا تخرج الأرض عن كونها أرضاً بطبخها أصلاً.
وأنت خبير بأنّ انقلاب العذرة وعظام الموتى رماداً بسبب النار انّما يوجب طهارتهما للاستحالة لا طهارة الجص المتنجّس الذي لم يعرض له الاستحالة ضرورة انّ الاستحالة تطهر معروضها لا شيئاً آخر مع عروض النجاسة له قبل
الصفحة 292
تحقّقها ودعوى انّ النار قد طهرت العذرة وعظام الموتى والماء قد طهّر الجص المتنجّس بهما مدفوعة بكونها خلاف ظاهر الصحيحة فانّ ظاهرها مدخلية الأمرين في تطهير الجصّ.
والإنصاف انّه لا يمكن الوصول إلى معنى الرواية لا من جهة التعليل الواقع في الجواب ولا من جهة أصل السؤال الظاهر في حصول النجاسة للجص مع انّ الجص لا يتّصف بالنجاسة في مفروض الرواية سواء كان الإيقاد عليه بنحو كان الجص في ظرف واقع على العذرة أو عظام الموتى أو بنحو كان ملاقياً لهما. امّا على الأوّل فواضح ضرورة انّ الإيقاد عليه بهذا النحو لا يوجب نجاسته، وامّا على الثاني فلأنّ الملاقاة الحاصلة بين الجص اليابس والعذرة اليابسة إذ هي التي يمكن أن توقد كيف يوجب عروض النجاسة للجص وهكذا عظام الموتى ودعوى كون العظام تشمل المخّ وفيه دهن ودسومة مدفوعة بعدم كون النظر إلى هذه الجهة وعلى تقديره فبالنسبة إلى العذرة التي هي مستقلّة في عروض الشبهة للسائل ولا مجال لإنكار كونها يابسة وإلاّ لا تكون صالحة لأن توقد لا موقع لهذا الكلام فالوصول إلى معنى الرواية وفقه الحديث غير ممكن ولكنّه لا يقدح في الاستدلال بها على المقام كما عرفت.
وامّا اعتبار طهارة سائر المواضع السبعة كما قد حكى عن أبي الصلاح فلم يظهر له وجه وربّما يستدلّ له بالنبوي: «جنّبوا مساجدكم النجاسة» نظراً إلى شمول الجميع للمساجد السبعة بأجمعها ولكن يرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف سند الرواية وعدم معلولية الجابر له ـ انّه يحتمل قوياً أن يكون المراد بالمساجد هي الأمكنة الشريفة المعدّة للعبادة سيّما الصلاة المسمّاة بالمسجد في الكتاب والسنّة في مثل قوله
الصفحة 293
تعالى: (وأقيموا وجوهكم عند كلّ مسجد)(1) وقوله تعالى: (لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم)(2) وقوله تعالى: (ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(3) وقوله تعالى: (انّما يعمّر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)(4)وقوله (عليه السلام) في الرواية: «جنّبوا مساجدكم البيع والشراء والمجانين والصبيان» وغير ذلك من الموارد الكثيرة، ثمّ إنّه على تقدير كون المراد هي مواضع السجود فالمتبادر منه موضع الجبهة لأنّه المنسبق إلى الذهن والمتبادر إليه والتعبير بالجمع انّما هو بلحاظ تكثّر المخاطبين وأفراد المصلّين كما لا يخفى.
وأضعف من ذلك الاستدلال له بصحيحة ابن محبوب المتقدّمة الواردة في الجص فانّ مفادها مجرّد انّه لولا تطهير الماء والنار لما جاز السجود على الجص المتنجّس، وامّا ان عدم الجواز هل يكون مستنداً إلى وجود المانع في خصوص مسجد الجبهة أو إلى وجوده في جميع المواضع السبعة فلا دلالة للصحيحة عليه لو لم نقل بظهور السؤال في نفسه في جواز السجود بمعنى وضع الجبهة عليه نظراً إلى الانسباق والتبادر المتقدّم آنفاً فهذا القول ممّا لا يساعده الدليل بوجه.
وامّا القول المحكي عن السيّد من اعتبار طهارة مكان المصلّي بأجمعه من غير اختصاص بالمواضع السبعة فضلاً عن خصوص موضع الجبهة فقد استدلّ له ـ مضافاً إلى النهي عن الصلاة في المجزرة وهي المواضع التي تذبح فيها الأنعام، والمزبلة والحمّامات وهي مواطن النجاسة فتكون الطهارة معتبرة ـ إلى الروايات
1 ـ الأعراف: 29 .
2 ـ التوبة: 108 .
3 ـ البقرة: 114 .
4 ـ التوبة: 18 .
الصفحة 294
المتعدّدة:
منها: موثقة ابن بكير عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الشاذكونة يصيبها الاحتلام أيُصلّي عليه؟ قال: لا. قال في محكي الوافي: «الشاذكونة بالفارسية الفراش الذي ينام عليه».
ومنها: موثقة عمّار الساباطني عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال: سُئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنّه قد يبس الموضع القذر؟ قال: لا يصلّى عليه واعلم موضعه حتّى تغسله، وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال: إذا كان الموضع قذراً من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطباً فلا يجوز الصلاة حتّى ييبس، وإن كانت رجلك رطبة وجبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلِّ على ذلك الموضع حتّى ييبس، وإن كان غير الشمس أصابه حتّى ييبس فانّه لا يجوز ذلك.
ومنها: صحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه؟ فقال: إذا جففته الشمس فصلِّ عليه فهو طاهر.
ومنها: صحيحة زرارة وحديد بن حكيم الأزدي جميعاً قالا: قلنا لأبي عبدالله (عليه السلام): السطح يصيبه البول، أو يُبال عليه يصلّيفي ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه الشمس والريح وكان جافّاً فلا بأس به إلاّ أن يكون يتّخذ مبالاً.
واُجيب عن الدليل الأوّل انّه يمكن أن يكون النهي عن الصلاة في هذه المواضع من جهة عدم التناسب بين الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المتّقين وقربان المؤمنين وبين هذه الأمكنة لاستقذارها واستخباثها ودلالتها على مهانة نفس من يستقربها ويؤيّده تعلّق النهي بالأماكن المذكورة بعناوينها الأوّلية غير الملازمة
الصفحة 295
للنجاسة فإنّ مثل عنوان المزبلة لا يلازمها بوجه مع انّه يمكن اتخاذ موضع لا يعلم نجاسته بل علم طهارته بالتطهير وشبهه مع انّ إطلاق النهي يشمل هذه الصورة أيضاً فيكشف ذلك عن عدم كون النهي لأجل النجاسة الموجودة في تلك الأمكنة وعلى تقديره فغاية مفادها مانعية النجاسة عن الصلاة في مثلها، وامّا انّ المانعية انّما هو لأجل اعتبار طهارة المكان بأجمعه فلا دلالة للروايات عليه فمن الممكن أن يكون المعتبر طهارة المواضع السبعة أو خصوص مسجد الجبهة كما لا يخفى. والإنصاف ما عرفت من كون النهي فيها نهي تنزيه ولا يكون ناظراً إلى النجاسة وإطلاقه يشمل صورة عدمها أيضاً.
وامّا الموثّقتان الدالّتان على النهي عن الصلاة في المكان النجس الشاملتان بإطلاقهما لما إذا كانت طهارة موضع الجبهة أو جميع المواضع السبعة معلومة بالخصوص فالجواب عن الاستدلال بهما انّهما معارضتان بما يدلّ صريحاً على الجواز في نفس موردهما كصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الشاذكونة يكون عليها الجنابة أيصلّى عليها في المحمل؟ قال: لا بأس. ورواية محمّد بن أبي عمير قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : اُصلّي على الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة؟ فقال: لا بأس.
ومقتضى الجمع حمل الموثقين على الكراهة لصراحة المعارضين في الجواز وتقييد مورد السؤال في الصحيحة بالمحمل لا يشعر باختصاص نفي البأس في الجواب به كما لا يخفى.
وربّما يجمع بينهما بطريق آخر أفاده بعض الأعلام في الشرح وهو انّ الصحيحتين وإن كانتا ظاهرتين في الإطلاق من حيث رطوبة الشاذكونة وجفافها إلاّ انّه لابدّ من تقييدهما بصورة الجفاف وعدم رطوبتهما للأخبار المعتبرة الدالّة
الصفحة 296
على اعتبار الجفاف في مكان المصلّي إذا كان نجساً، فإذا قيّدناهما بصورة الجفاف فلا محالة تنقلب النسبة بينهما وبين موثقة ابن بكير من التبائن إلى العموم المطلق فيتقيّد بهما إطلاق الموثقة وتكون محمولة على خصوص صورة الرطوبة.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى انّ هذا النحو من الجمع على تقدير تماميته انّما يجري في خصوص موثقة ابن بكير دون موثقة عمّار التي موردها صورة يبوسة الموضع القذر ـ ان حمل الموثقة على صورة الرطوبة حمل على الفرد النادر خصوصاً بعد ملاحظة انّ الجنابة لا تتّصف بالرطوبة إلاّ في أوائل الإصابة سيّما في البلاد الحارّة فحملها عليه مع هذه الجهة غير مستقيم، وامّا الأخبار التي أوجبت تقييد المعارضين بصورة الجفاف فلابدّ من ملاحظتها وانّها هل تدلّ على اعتبار طهارة المكان بمعنى جفافه إذا كان نجساً ولو لم تكن النجاسة مسرية إلى المصلّي أو ثوبه أصلاً أم لا؟ فالإنصاف انّ الحمل على الكراهة جمع عقلائي بينهما.
وامّا ما عدى الموثقتين من الصحيحتين المذكورتين دليلاً للسيّد فالجواب انّهما أيضاً معارضتان بالأخبار الدالّة على الجواز وهي كثيرة:
منها: صحيحة علي بن جعفر انّه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول، ويغتسل فيهما من الجنابة أيُصلّى فيهما إذا جفّا؟ قال: نعم.
ومنها: صحيحته الاُخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) أيضاً قال: سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلّى عليه؟ قال: إذا يبست فلا بأس.
ومنها: صحيحته الثالثة عنه أيضاً قال: سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفّت من غير أن تغسل؟ قال: نعم لا بأس.
ومنها: صحيحته الرابعة عنه أيضاً قال: سألته عن رجل مرّ بمكان قد رشّ فيه
الصفحة 297
خمر قد شربته الأرض وبقي (بقيت) نداوته أيصلّى فيه؟ قال: إن أصاب مكاناً غيره فليصل فيه وإن لم يصب فليصل ولا بأس.
ومنها: موثقة عمّار الساباطي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن البارية يبل قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفّت فلا بأس بالصلاة عليها.
وجه المعارضة انّ الصحيحتين تدلاّن على عدم كفاية الجفاف بمجرّده بل لابدّ من عروض المطهر ولو كان هي الشمس وامّا هذه الأخبار فمفادها كفاية مجرّد الجفاف ولو لم يكن مستنداً إلى الشمس بل مورد بعضها صورة عدم إصابة الشمس أصلاً.
والجمع بينهما امّا بحملهما على إرادة خصوص مسجد الجبهة وانّه لابدّ من خلوّه عن مطلق النجاسة يابسة كانت أم رطبة ولا يشترط ذلك في بقية المواضع، وامّا بالحمل على الكراهة لصراحة هذه الأخبار في الجواز ويؤيّد هذا الجمع الاستثناء الواقع في صحيحة زرارة وحديد بن حكيم بقوله (عليه السلام) : «إلاّ أن يكون يتّخذ مبالاً» فانّه لا وجه للنهي عن صورة الاتخاذ مبالاً مع فرض حصول الجفاف بالشمس والريح إلاّ كونه غير ملائم لما هو أهمّ العبادات والقرب من الصلاة، ويمكن الجمع بنحو آخر وهو انّ تقييد الجفاف بالشمس فيهما ليس لأجل مدخلية الشمس في ترتّب الحكم بل انّما هو لأجل كون الجفاف في مثل السطح انّما يتحقّق به نوعاً فالمقصود مجرّد حصول الجفاف من أي طريق ويؤيّده عطف الريح على الشمس في إحداهما مع انّ الريح لا يكون مطهراً وإن كان يبعده قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «فهو طاهر».
وكيف كان فلا يمكن استفادة اعتبار طهارة مكان المصلّي من مثل الروايات المذكورة. نعم يقع الكلام بعد ذلك في استفادة اعتبار الجفاف في مكانه ولو بالنسبة
الصفحة 298
إلى غير المواضع السبعة بحيث لو كانت في مكانه نجاسة رطبة غير مسرية إلى الثوب والبدن أصلاً لكانت مانعة من الصلاة فيه وعدمها، والظاهر انّه لا يستفاد من هذه الأخبار الدالّة على اعتبار الجفاف مع ملاحظة الأخبار الدالّة على اشتراط طهارة الثوب والبدن إلاّ انّ الرطوبة المانعة انّما هي ما إذا كانت موجبة للسراية إلى الثوب أو البدن فمجرّد وجود النجاسة غير المسرية في مكان المصلّي لا يمنع عن الصلاة. ومن هنا يعلم انّ السراية وحدها غير كافية في المانعية بل فيما إذا كان الثوب أو البدن متنجّساً بسببها بما لا يعفى عنه في الصلاة فإذا كان هناك دم رطب وقد سرى إلى الثوب أو البدن ولكنّه كان أقلّ من الدرهم أو كان من القروح أو الجروح أو كان الثوب الساري إليه ممّا لا تتمّ الصلاة فيه وحده كالجورب وشبهه فلا يكون مانعاً عن صحّة الصلاة وبذلك يظهر بطلان ما حكى عن الفخر (قدس سره) ممّا تقدّم من جعل اعتبار الطهارة من شرائط المكان من حيث هو، وإن حكى عن إيضاحه انّه حكى عن والده (قدس سره) دعوى الإجماع على صحّة الصلاة في ذي المتعدّية وإن كانت معفوّاً عنها. فانّ الظاهر انّ دعوى الإجماع انّما نشأت من إطلاقات كلماتهم وهي منصرفة إلى الإرادة من تلك الجهة وكيف لا فقد صرّح غير واحد على ما حكي بخلاف ذلك وربّما استدلّوا عليه باستلزامه تفويت شرط الثوب والبدن ومن ذلك ظهر صحّة ما أفاده في المتن من قوله: «فلا بأس بنجاستها ـ أي سائر المواضع ـ ما دامت غير سارية إلى بدنه أو لباسه بنجاسة غير معفوّ عنها». كما انّه ظهر ممّا ذكرنا انّ اعتبار طهارة موضع الجبهة ومسجدها انّما هو لأجل تحقّق السجود على موضع طاهر وعليه فالمعتبر انّما هي الطهارة في حال السجود فلو كان مسجد الجبهة متنجّساً في غير حال السجود طاهراً حاله لا يقدح ذلك في صحّة الصلاة أصلاً كما لا يخفى.
الصفحة 299
المقام الثالث: في وجوب إزالة النجاسة عن المساجد وحرمة تنجيسها فالكلام يقع في حكمين:
الأوّل: وجوب الإزالة وقد ادّعى غير واحد الإجماع عليه ولم ينقل الخلاف فيه من أحد عدا ما عن صاحب المدارك (قدس سره) من الميل إلى جواز تنجيسها الملازم عرفاً لعدم وجوب إزالة النجاسة عنها، ووافقه على ذلك صاحب الحدائق (قدس سره) ولكن الارتكاز في أذهان المتشرّعة وانعقاد الإجماع القطعي في المسألة أوجبا شذوذ المخالفة مضافاً إلى الروايات الواردة الآتية.
ولكن الحدائق استدلّ على مرامه بموثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة؟ قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة. نظراً إلى انّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الصلاة في المسجد فتدلّ على جواز تنجيس أرض المسجد وحائطه.
ويرد عليه وضوح انّ الرواية مسوقة لبيان حكم آخر وهو انّ انفجار الدمل الملازم لخروج مقدار من الدم نوعاً وتحقّق التنجّس به لا يمنع عن إدامة الصلاة بل يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة ولا دلالة لها على جواز المسح على حائط المسجد أو أرضه فهل يمكن التمسّك بإطلاقها لجواز تنجيس حائط الغير بدون اذنه فالظاهر انّ الرواية ناظرة إلى ما ذكر من عدم استلزام انفجار الدمل لبطلان الصلاة. نعم ربّما يقال في منشأ توهّم الاستلزام انّ مسح المنفجر من الدمل بمثل الحائط أو الأرض فعل كثير قاطع للصلاة والجواب ناظر إلى عدمه ولكن هذا القول مندفع بكون المسح مذكوراً في الجواب دون السؤال بل محط نظر السائل هو الانفجار الملازم لخروج مقدار من الدم نوعاً كما لا يخفى. ومنه يظهر فساد ما قيل في مقام الجواب من انّ انفجار الدماميل لا يستلزم وجود الدم بل
الصفحة 300
الغالب العدم فتدبّر.
وامّا الروايات الدالّة على وجوب الإزالة فمنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن الدابة تبول فتصيب بولها المسجد أو حائطه أيُصلّى فيه قبل أن يُغسل؟ قال: إذا جفّ فلا بأس. بتقريب انّ المستفاد من الرواية انّ وجوب إزالة النجاسة عن المسجد كان مرتكزاً ومفروغاً عنه عند السائل وانّما كان مورد ترديده هو وقتها وانّه هل يكون على الفور أو انّه يجوز تأخيرها عن الصلاة وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على هذا الارتكاز ولم يردعه عن هذا الاعتقاد.
ويمكن المناقشة في الاستدلال بالصحيحة بوجوه:
أحدها: عدم وجوب الإزالة في خصوص موردها فانّ بول الدابة لا يكون نجساً حتّى ينجس المسجد ويقع المصلّي في ضيق التكليف من هذه الجهة.
وقد اُجيب عنه بأنّ سؤاله عن بول الدابة يحتمل أن يكون مستنداً إلى احتماله نجاسة أبواب الدواب أو اعتقاده لها ـ كما ذهب إليه جملة من فقهاء العامّة ـ ومنه يظهر انّ عدم حكمه (عليه السلام) بطهارته مستند إلى التقية وعدم إظهاره المخالفة مع المخالفين، كما انّ تعليق نفي البأس على صورة الجفاف لعلّه من جهة استقذاره مع الرطوبة وعدمه مع عدمها ولا يقدح ذلك في الاستدلال بالرواية أصلاً.
ثانيها: انّه يحتمل أن لا يكون السؤال في الرواية ظاهراً في الارتكاز والمفروغية عند السائل بل كان سؤاله راجعاً إلى حكم ترجيح أحد الأمرين المستحبّين على الآخر حيث انّ ظاهر الصحيحة سعة الوقت للصلاة وتمكّن المكلّف من الإتيان بها بعد الغسل ومن الظاهر انّ المبادرة إلى الواجب الموسع مستحبّة كما انّ تنظيف المسجد عن القذارة والكثافة ولو لم تكن نجسة أمر مرغوب فيه في الشريعة، فالسؤال إنّما يرجع إلى انّ المستحبّين أيّهما أولى بالتقديم من غيره ويؤيّد ذلك
الصفحة 301
التفصيل في الجواب بين صورة الجفاف وعدمه فانّه لا يلائم مع نجاسة بول الدابة مضافاً إلى انّه من البعيد في حق علي بن جعفر أن يكون محتملاً أو معتقداً بنجاسته بل يناسب التفصيل مع ما ذكر فانّه مع عدم حصول الجفاف يكون استقذاره باقياً بحاله، فتقديم الغسل أولى، وامّا مع الجفاف فتقديم الصلاة كذلك.
وفيه: انّ التعبير بعدم البأس لا يلائم مع كون السؤال عن ترجيح أحد المستحبّين على الآخر كما هو ظاهر.
والإنصاف: انّ الرواية ـ سؤالاً وجواباً ـ ناظرة إلى مطلب آخر وهو انّ تنجّس المسجد بإصابة بول الدابة النجس إليه هل يمنع عن الصلاة فيه باعتبار اشتراط طهارة مكان المصلّي أو خصوص مسجد الجبهة أو لا يمنع عن ذلك، امّا كون المفروض نجاسة بول الدابة فلدلالة قوله: «قبل أن يغسل» عليه ضرورة أن الغسل إنّما يطلق في موارد النجاسة فلا ينبغي الإشكال من هذه الجهة في كون المفروض نجاسة بول الدابة وعليه فالدابة انّما هي بمعناها العامّ الشامل لمثل الكلب أيضاً، وامّا كون النظر إلى اعتبار طهارة المكان فمضافاً إلى ظهور السؤال فيه في نفسه وإلى دلالة الجواب المشتمل على خصوصية التعبير بنفي البأس وعلى تعليقه على صورة الجفاف الظاهر في انّ الرطوبة مانعة لأجل السراية يدلّ عليه كثير من روايات علي بن جعفر في المقام المتقدّم فانّ التعبير فيها وفي هذه الرواية واحد ولنقتصر على ذكر واحدة منها وهي صحيحته عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلّى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم.
فهل ترى فرقاً بين السؤال في هذه الرواية والسؤال في رواية المقام وعلى ما ذكر فلا دلالة في الرواية على وجوب إزالة النجاسة عن المسجد أصلاً بل هي ناظرة إلى ما عرفت. نعم يبقى فيما ذكرنا شيء وهو انّ إصابة البول إلى حائط المسجد لا يلائم
|