(الصفحة201)
وجوبها على تقديره مستتبعاً لاستحقاق الـعقاب، لعدم ترتّبه على الـوجوب الـغيري، و في ذي الـمقدّمـة أيضاً كذلك; لعدم كون وجوبه مشكوكاً كما هو الـمفروض، و وجوب الـحفظ ليس حكماً شرعياً مستقلاًّ، بل إنّما هو حكم عقلي قد عرفت ثبوته في الـمقام، نظراً إلى أنّ مجرّد الاحتمال لايسوّغ الإراقـة بوجه، و لايكون عذراً عند الـعقل أصلاً.
وقد ظهر ممّا ذكرنا: عدم جواز الإراقة في الـوقت ولو مع احتمال حصول الوجدان فيه.
كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لاخصوصيـة للإراقـة بوجه، بل الـملاك هو تحصيل الـطهارة الـمائيـة مع الإمكان، فإبطال الـطهارة و نقض الـوضوء مع الـعلم بعدم الـتمكّن منه، أو احتما لـه احتمالاً عقلائياً، يكون مثل الإراقـة من دون فرق في ذلك بين قبل الـوقت و بعده، كما عرفت.
مجمل الـقول في مسوّغات الـتيمّم
و لنشرع في شرح الـمتن و نقول: «مسوّغات الـتيمّم اُمور».
ذكر الـعلاّمـة في محكيّ «ا لـقواعد» أنّه يجمعها شيء واحد، و هو الـعجز عن استعمال الـماء. ثمّ ذكر أنّ أسباب الـعجز ثلاثـة: عدم الـماء، و عدم الـوصلـة إليه، و الـخوف. و تبعه عليه جماعـة منهم صاحب «ا لـجواهر»، و الـسيّد في «ا لـعروة».
و اُورد عليه: بأنّ الـمراد من الـعجز إن كان هو الـعجز الـعقلي فيلزم خروج كثير من الـمسوّغات، و إن كان أعمّ من الـعقلي و الـشرعي ـ كما في «ا لـجواهر» ـ فيخرج بعضها، كا لـخوف على مال لايجب حفظه، أو على الـنفس ببعض الـمراتب، بناء على عدم حرمته.
(الصفحة202)
و ربّما يقال: بأنّ الـجامع هو سقوط وجوب الـطهارة الـمائيـة.
و يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الـكلام إنّما هو في موارد الـسقوط، و أنّه هل يجمعها شيء واحد، أم لا؟ و لا معنى لجعل نفس الـسقوط جامعاً كما هو ظاهر ـ : أنّه في مورد الـمزاحمـة مع الأهمّ لم يسقط وجوب الـطهارة الـمائيـة، بناء على ما هو الـتحقيق في باب الـتزاحم من عدم سقوط الأمر با لـمهمّ، و إن كان الـمكلّف معذوراً في مخا لـفته.
و قد جعل الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» الـجامع هو عنوان الـمعذور عقلاً أو شرعاً عن الـمائيـة، و استظهر جمعه لجميع الـمسوّغات حتّى ضيق الـوقت، و الـبحث في هذه الـجهـة لايكون بمهمّ، إنّما الـمهمّ هو الـنظر في الآيتين الـواردتين في الـتيمّم، ليعلم مفادهما و مقدار سعـة دلالتهما للإعذار.
فنقول: قد تقدّمت الآيـة الـواردة في سورة الـمائدة، و أمّا ما ورد في سورة الـنساء فهو قوله تعا لـى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لاتَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلاجُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيل حَتّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوّاً غَفُوراً).(1)
و من الـواضح أنّ الآيـة الاُولى بلحاظ إفادتها لأحكام صنوف الـمكلّفين كما مرّ، تكون أجمع من الآيـة الـثانيـة الـتي لم يقع فيها الـتعرّض للوضوء صريحاً، و إن كان الـمراد با لـسكر هو سكر الـنوم أيضاً.
و ربّما يقال: إنّ ظاهر الآيتين لايخلو من إشكال; لأنّه قد جمع فيهما اُمور أربعـة، عطف بعضها على بعض بـ «أو»، و هو يقتضي استقلال كلّ واحد منها في الـسببيـة، مع أنّ
(1)
ا لـنساء / 43.
(الصفحة203)
سببيـة أحد الأوّلين مشروطـة بأحد الاخيرين.
قال الـمقدّس الأردبيلي في كتاب «زبدة الـبيان» في ذيل الآيـة الاُولى: «إنّ نظم هذه الآيـة ـ مثل الـتي سيجيء ـ لايخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الـحدث في أوّلها، و ذكر الـجنابـة فقط بعده، و الإجمال الـذي لم يفهم أنّ الـغسل بعد الـقيام إلى الـصلاة، أم لا، و ترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الـماء، ثمّ عطف «إن كنتم» عليه، و ترك تقييد «ا لـمرضى» و تأخير «فلم تجدوا» عن قوله: «أو جاء»، و ذكر «جاء أحد منكم من الـغائط أو لامستم» مع عدم الـحاجـة إليها; إذ يمكن الـفهم عمّا سبق، و الـعطف بـ «أو»، و الـمناسب با لـواو، و غير ذلك مثل الاقتصار في بيان الـحدث الأصغر على الـغائط، و الـتعبير عنه بـ «جاء أحد منكم من الـغائط»، و الأكبر على «لامستم» و الـتعبير عن الـجنابـة به، و كأنّه لذلك قال في «كشف الـكشّاف» ـ و نعم ما قال ـ : «و الآيـة من معضلات الـقرآن».
و الـعمدة من هذه الإشكالات هو إشكال الـعطف; لأنّ غيره إمّا قابل للجواب، و إمّا غير قادح.
و أمّا إشكال الـعطف، فقد ذكر جماعـة ـ بل الأكثر ـ في دفعه: أنّ «أو» فيه بمعنى الـواو، نظير قوله تعا لـى: (وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِأَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ)(1)
و هو كما ترى.
و قد دفعه صاحب «ا لـجواهر» (قدس سره): بأنّ الـمراد با لـقيام إلى الـصلاة الـقيام من الـنوم كما ورد في الـنصّ، و يكون الـمراد من قوله تعا لـى: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) صورة الاحتلام، و يكون الـسفر و الـمرض متعلّقين به، و إطلاق الـمرض من جهـة غلبـة الـضرر باستعمال الـماء، و إطلاق الـسفر من جهـة غلبـة فقد بذل الـماء، و الـجميع
(1)
ا لـصافّات / 147.
(الصفحة204)
متعلّق بحدث الـنوم، فيصحّ عطف الـمجيء من الـغائط و الـملامسـة ـ الـمراد بها الـجماع ـ عليه.
و يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ هذا الـتوجيه لايجري في الآيـة الـواردة في سورة الـنساء، و إن كان الـمراد با لـسكر فيها هو سكر الـنوم أيضاً كما لايخفى ـ أنّ حمل الـجنابـة على الاحتلام الـحاصل في الـنوم بعيد، خصوصاً مع كون الـجملـة معطوفـة على قوله تعا لـى: (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الـصَّلاةِ)، فهي في عرضها لا في طولها، كما أنّ حمل الـسفر و الـمرض على الـتعلق به أيضاً كذلك.
و الأولى: إبقاء قوله تعا لـى: (وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ...) على ظاهره، من كون الـمراد مطلق الـجنابـة لاخصوص الاحتلام، و كذا قوله تعا لـى: (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَر)من دون أن يكونا متعلّقين بحدث الـنوم، بل أعمّ منه و من سائر الأحداث صغيرة أو كبيرة، غايـة الأمر أنّ الـوجه في إطلاقهما هو ما أفاده (قدس سره)، و حمل قوله تعا لـى: (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ...) على الـصحيح غير الـمسافر، و جعل قوله تعا لـى: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً)متعلّقاً بالأخيرين.
و هذا الـمقدار يكفي في الـمغايرة الـمسوّغـة للعطف بـ «أو»; لأنّ مرجعه إلى أنّه إن كنتم مرضى و يضرّكم استعمال الـماء، أو على سفر و الـماء مفقود، أو حاضرين غير مسافرين، ولكن لم تجدوا ماءً بعد الابتلاء با لـحدث الأصغر أو الأكبر، فا لـواجب هو الـتيمّم.
و يمكن أن يقال: إنّه كما أنّ الـعرف لايرى خصوصيـة للمجيء من الـغائط، بل هو كنايـة عن حصول الـحدث الأصغر، و كذا لايرى للملامسـة خصوصيـة; لأنّ الـمراد بها هو الـحدث الأكبر، لا هي بعنوانها و لا الأعمّ منها و من الاحتلام، بل مطلق الـحدث
(الصفحة205)
الأكبر كذلك، لايرى الـعرف خصوصيـة للمرض، و الـمراد به حصول الـضرر باستعمال الـماء، و كذا با لـنسبـة إلى الـسفر، فإنّه لايكون له خصوصيـة بعنوانه، بل الـمراد به فقدان الـماء الـملازم له نوعاً، خصوصاً في الأسفار الـتي كانت في تلك الأزمنـة و الأمكنـة.
و على ما ذكرنا: فا لـمستفاد من الآيـة ـ مع قطع الـنظر عن الـذيل الـمشتمل على الـتعليل بعدم تعلّق الإرادة بأن يجعل على الـناس من حرج ـ هو تشريع الـتيمّم للمعذور عن استعمال الـماء، و كذا فاقد الـماء رأساً، أو الـواجد الـذي لايتمكّن من الـوضوء منه; إمّا لكونه في بئر لايتيسّر الـوصول إليه، أو لعدم كفايته للطهارة الـمائيـة، أو لجهـة اُخرى مانعـة عن الـوضوء منه.
و أمّا الـتعليل الـواقع في إحدى الآيتين فقط، فيجري فيه احتمالان:
الأوّل: أن يكون ناظراً إلى أصل اعتبار الـطهارة في الـصلاة مطلقاً من دون اختصاص با لـتيمّم، و مرجعه إلى دفع توهّم كون الـتكليف با لـطهارة عند كلّ صلاة حرجياً، خصوصاً بالإضافـة إلى الـتيمّم، لما فيه من الـتذلّل و الـخضوع الـذي ربّما يشقّ على الـمؤمنين في بدو الإسلام، و الـمراد أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج في جعل الـصلاة مشروطـة با لـطهارة، بل أراد اللّه ليطهّركم و يتمّ نعمته عليكم.
ا لـثاني: أن يكون ناظراً إلى تشريع الـتيمّم فقط، و مرجعه أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج لأجل جعل الـصلاة مشروطـة بخصوص الـطهارة الـمائيـة، بل وسّع دائرة الـطهارة و عمّمها للطهارة الـترابيـة أيضاً; لئلاّ يقع الـناس في حرج، و مرجعه حينئذ إلى أنّ الانتقال إلى الـتيمّم إنّما هو في موارد لزوم الـحرج من تحصيل الـطهارة الـمائيـة، سواء كان الـحرج في نفسها أو في مقدّماتها.
(الصفحة206)
فا لـمتفاهم من الآيـة صدراً و ذيلاً ـ بعد قوّة هذا الاحتمال و ضعف الاحتمال الأوّل ـ أنّ الـتيمّم طهور اضطراري مشروع في موارد ثبوت الـعذر الـشرعي أو الـعقلي الـتي يكون تحصيل الـطهارة الـمائيـة فيها حرجياً، ولو فرض عدم استفادة بعض الـموارد منها، لكنّه بعد الـعلم بعدم سقوط الـتكليف با لـصلاة و باشتراطها با لـطهور، و أنّ الـتراب أحد الـطهورين، لايبقى إشكال في مشروعيته في جميع موارد الـعذر، خصوصاً بعد اقتضاء الـتدبّر في مجموع الـروايات الـواردة في الـباب لذلك. هذا كلّه في مسوّغات الـتيمّم بنحو الإجمال.
و أمّا تفصيلها فنقول:
الأوّل: في عدم وجدان الـماء
منها، عدم وجدان ما يكفيه من الـماء لطهارته ـ وضوءً كانت أو غسلاً ـ ، و لاإشكال نصّاً و فتوىً في كونه من الـمسوّغات، و قد ادّعى الإجماع جماعـة كثيرة، و لافرق بين الـسفر و الـحضر، كما أنّه لافرق في الأوّل بين ما إذا كان الـسفر طويلاً أو قصيراً.
نعم، حكي عن الـسيّد (قدس سره) في «شرح الـرسا لـة» وجوب الإعادة على الـحاضر، ولكنّه ليس خلافاً في هذه الـمسأ لـة، بل في مسأ لـة الإجزاء، و خا لـف فيما ذكر أبوحنيفـة و أحمد ـ في إحدى الـروايتين ـ وزفر فقا لـوا: إنّ الـحاضر الـفاقد للماء لايصلّي، بل عن زفر دعوى الإجماع عليه، و ظاهر الآيـة ردّ عليهم كما عرفت في معناها.
فلا إشكال في أصل مسأ لـة، كما أنّه لا إشكال في وجوب الـطلب و الـفحص عن الـماء في الـجملـة، و حكي الإجماع عليه عن جملـة من الـكتب الـفقهيـة، بل عن
(الصفحة207)
«ا لـسرائر» دعوى تواتر الأخبار به، و لابدّ أوّلاً من ملاحظـة الآيـة الـشريفـة، ثمّ الـروايات الـواردة.
فنقول: أمّا الآيـة، فقد عرفت في مقام بيان الـمراد منها أنّ الـتكليف با لـصلاة مع الـمائيـة غير مقيّد بحال الاختيار و الـوجدان، بل هو تكليف مطلق، و أنّ الـتعليق بعنوان اضطراري ظاهر عرفاً في أنّ الـطهارة الـترابيـة طهارة اضطراريـة، يسوّغها الاضطرار مع بقاء الـمطلوبيـة الـمطلقـة في الـمائيـة على حا لـها، و مع ذلك يجب عند الـعقل الـفحص و الـطلب في تحصيل الـمطلوب الـمطلق إلى زمان الـيأس، أو حصول عذر آخر، و ليس الـشكّ في الـعذر عذراً عند الـعقلاء، نظير الـشكّ في الـقدرة في الأعذار الـعقليـة.
بل يمكن استفادة لزوم الـطلب من قوله تعا لـى: (فَلَمْ تَجِدُوا)، فإنّ الـظاهر من هذه الـمادّة في الـعربيـة و مرادفاتها في الـفارسيـة، هو الـيأس عن الـوصول إلى الـمطلوب بعد الـطلب و الـفحص عنه.
و ربّما يقال: و لايلزم أن يكون الـمتفاهم من جميع الـصيغ حتّى اسم الـفاعل و الـمفعول كذلك، فلا ينتقض با لـواجد و الـموجود، فإنّه قد يدلّ بعض الـمشتقّات ولو انصرافاً على معنى لايفهم من الآخر، كا لـماء الـجاري حيث يدلّ على الـجريان من مبدأ نابع، بخلاف جري الـماء لصدقه على ما جرى من الـكوز.
أقول: الظاهر عدم كون الواجد و الموجود موردين للانتقاض بوجه، فإنّ الـواجد له معنيان يكون بحسب أحدهما متعدّياً و بحسب الآخر لازماً، و معناه الـمتعدّي لايكون مغايراً لمعنى سائر الـصيغ من جهـة اعتبار الـطلب و الـفحص فيه أصلاً.
و أمّا الـموجود: فتارة يستعمل في مقابل الـمعدوم، و هو بهذا الاعتبار معناه لازم و
(الصفحة208)
لذا يطلق على الـباري تعا لـى أيضاً، و أخرى في مقابل الـمفقود، و هو بهذا الاعتبار متعدّ، ولايغاير معناه مع معنى سائر الصيغ في تلك الجهة، فلايكونان موردين للانتقاض.
و أمّا الـتشبيه با لـماء الـجاري، فلا يكاد يتمّ; لأنّك عرفت في مبحث الـمياه أنّ اسم الـفاعل من الـجريان ربّما لادلالـة له على الـجريان من مبدأ نابع، كما في مثال الـكوز; لأنّه يصدق على الـماء الـخارج منه أنّه جار منه، إلاّ أن يقال بثبوت الانصراف في بعض موارده، و هو ما لو كان هذا الـعنوان بنحو الـصفـة لابنحو الـخبر، ففي مثل الـماء الـجاري يكون الانصراف متحقّقاً، دون «ا لـماء جار» كما لايخفى.
و كيف كان: فلا إشكال في دلالـة الآيـة على لزوم الـطلب و الـفحص.
و أمّا الـروايات:
فمنها: روايـة الـسكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) قال: «يطلب الـماء في الـسفر; إن كانت الـحزونـة فغلوة، و إن كانت سهولـة فغلوتين، لايطلب أكثر من ذلك».(1)
ولو سلّم ضعف في سندها، و اغمض عمّا عن الـشيخ (قدس سره) من إجماع الـشيعـة على الـعمل بروايات الـكسوني الـذي يستفاد منه وثاقته، و كذا وثاقـة الـنوفلي; لأنّه قلّما يتّفق عدم كون الـنوفلي في طريقها، ولكنّها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً و حديثاً، فا لـمناقشـة فيها من حيث الـسند غير مسموعـة، ولكنّ دلالتها قابلـة للمناقشـة، فإنّ الـظاهر منها أنّه بصدد بيان مقدار الـفحص بعد مفروغيـة أصله، و أمّا كونه واجباً أو مستحبّاً فلا دلالـة لها عليه، خصوصاً بعد ملاحظـة ذيلها و هو قوله (عليه السلام): «لايطلب أكثر
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 1، الـحديث 2.
(الصفحة209)
من ذلك»، إلاّ أن يقال: إنّ قوله: «يطلب الـماء في الـسفر» جملـة تامّـة مستقلّـة، مفهومها وجوب طلب الـماء في الـسفر كوجوبه في الـحضر، فهي مسوقـة لإفادة أصل وجوب الـطلب. و قوله: «إن كانت الـحزونـة ...» مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و الـنظر فيها إلى أنّ مقدار الـطلب في الـسفر يختلف مع مقداره في الـحضر، و الـجملـة الأخيرة موكّدة لهذه الـجهة، و على هذا الـتقدير تتمّ دلالة الـرواية على إفادة وجوب الـطلب، ولكنّ الأمر سهل بعد دلالـة الآيـة الـكريمـة عليه با لـنحو الـذي ذكرنا.
و منها: روايـة علي بن سا لـم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال قلت له: أيتمّم ـ إلى أن قال ـ فقال له داود الـرقّي: أفأطلب الـماء يميناً و شمالاً؟
فقال: «لا تطلب الـماء يميناً و لاشمالاً و لا في بئر، إن وجدته على الـطريق فتوضّأ منه (به)، و إن لم تجده فامض».(1)
و هي مع ضعف سندها بعلي بن سا لـم ـ الـمشترك بين الـمجهول و الـبطائني الـضعيف ـ محمولـة على الـخوف من اللصّ و الـسبع، و الإطلاق إنّما هو لأجل كون الأسفار مظنّـة الـخطر نوعاً، خصوصاً في تلك الأزمنـة و الأمكنـة، مع أنّه يحتمل قويّاً أن تكون الواقعة عين ما رواه ابن محبوب، عن داود الرقّي قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): أكون في الـسفر فتحضر الـصلاة و ليس معى ماء، و يقال إنّ الـماء قريب منّا، فأطلب الـماء و أنا في وقت يميناً و شمالاً.
قال: «لاتطلب الـماء، ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك الـتخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك الـسبع».(2)
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 3.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 1.
(الصفحة210)
و تؤيّده روايـة يعقوب بن سا لـم قال: سأ لـت أباعبدا للّه (عليه السلام) عن رجل لايكون معه ماء، و الـماء عن يمين الـطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك.
قال: «لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع».(1)
فإنّ عدم الأمر مع وجود الـماء عن يمين الـطريق و يساره ـ الـذي يجب تحصيله و الـوصول إليه في نفسه ـ يدلّ على أنّ الـمانع عن وجوب الـطلب في صورة احتمال وجود الـماء أيضاً، إنّما هو الـتغرير بنفسه و عروض اللصّ و الـسبع له، فمع انتفاء الـمانع يبقى الـطلب على وجوبه، فلا يبقى إشكال ـ بعد ما ذكرنا ـ في أصل وجوب الـطلب في الـجملـة، و أنّ ما عن الأردبيلي (قدس سره) من استحباب الـطلب ضعيف جدّاً. هذا كلّه با لـنسبـة إلى أصل الـطلب.
و أما با لـنسبـة إلى مقداره، ففي الـمتن: «و يجب الـفحص عنه إلى الـيأس، و في الـبريـة يكفي الـطلب غلوة سهم في الـحزنـة، و غلوة سهمين في الـسهلـة»، و مرجعه إلى الـتفصيل بين الـبريـة و غيرها، بالاكتفاء با لـمقدار الـمذكور في الاُولى، و وجوب الـفحص إلى الـيأس في الـثانيـة.
و وجه الـحكم في الـثانيـة واضح، فإنّه بعد دلالـة الآيـة على أصل وجوب الـفحص، يكون الـتحديد با لـيأس و ثبوته مع الـرجاء، و مادام الـرجاء مستفاداً من الـتعليل الـواقع فيها بلحاظ عدم تعلّق الإرادة با لـحرج و الـمشقّـة، ضرورة أنّه مع عدمه يلزم الـحرج، نعم لاتختصّ الـغايـة با لـيأس، بل يرتفع الـوجوب بضيق الـوقت أيضاً. كما تدلّ عليه صحيحـة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إذا لم يجد الـمسافر الـماء فليطلب مادام في الـوقت، فإذا خاف أن يفوته الـوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 2.
(الصفحة211)
ا لـوقت، فإذا وجد الـماء فلا قضاء عليه، و ليتوضّأ لما يستقبل».(1)
و موردها و إن كان هو الـمسافر إلاّ أنّه لايختصّ الـحكم به; لعدم خصوصيـة له من هذه الـجهـة.
و أمّا الاُولى: فوجه الـحكم فيها روايـة الـسكوني الـمتقدّمـة، الـدالّـة على التفصيل بين الـحزونـة و الـسهولـة، و أنّه يكفي في الاُولى غلوة و في الـثانيـة غلوتان، و أنّه لايجب الـطلب أزيد من ذلك.
و قد عرفت أنّها روايـة مشهورة عمل بها الأصحاب قديماً و حديثاً، بل عبّروا بمتنها في فتاويهم، فلا مجال للإشكال فيها بضعف الـسند، و هي حاكمـة على حكم الـعقل، و مفسّرة للآيه الـشريفـة و شارحـة لمفادها، بالإضافـة إلى الـمسافر.
نعم، تعارضها صحيحـة زرارة الـمتقدّمـة، الـدالّـة على أنّ المسافر إذا لم يجد الماء فليطلب مادام في الـوقت، فإنّ ظاهرها وجوب الـطلب إلى أن يتحقّق الـخوف من أن يفوته الـوقت، من دون أن يكون مقدّراً با لـمقدار الـمذكور، فبين الـروايتين منافاة.
نعم، في «حاشيـة» الـمحقّق الـبهبهانى (قدس سره) على «ا لـمدارك»: هذه الـروايـة ـ يعني صحيحـة زرارة ـ وردت بإسناد آخر: «فليمسك» بدل: «فليطلب».
أقول: و هو ما رواه الـشيخ بإسناده، عن الـحسين بن سعيد، عن الـقاسم بن عروة، عن ابن بكير، عن زرارة.(2)
و على هذا الـطريق فلا دلالـة للصحيحـة على مقدار الـطلب، بل موردها صورة عدم الـوجدان، الـمحمول على عدمه بعد الـطلب با لـمقدار الـواجب عليه، و أمّا كون
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.
(2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.
(الصفحة212)
ا لـمقدار الواجب عليه ماذا، فلا دلالة لها عليه، فا لـمنافاة إنّما هي على الـطريق الآخر.
كما أنّه تعارضها على هذا الـطريق الـروايات الـمتعدّدة الـدالّـة على جواز البدار و صحّـة الـصلاة في سعـة الـوقت مع الـتيمّم، كصحيحـة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصاب الـماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت.
قال: «تمّت صلاته، و لا إعادة عليه».(1)
نعم، توافقها طائفـة اُخرى، و هي الـروايات الـدالّـة على عدم جواز البدار، و وجوب الانتظار إلى أن يتضيّق الـوقت، و سيأتي الـبحث في هذه الـجهـة إن شاء اللّه تعا لـى.
و كيف كان: فقد قيل في مقام الـجمع بين صحيحـة زرارة، و موثّقـة الـسكوني وجوه:
أحدها: أنّ الـصحيحـة مسوقـة لبيان وجوب الـطلب في سعـة الـوقت لامع الـضيق، و أمّا مقدار الـطلب فغير مقصود لها، فلا تنافي خبر الـسكوني.
و اُورد عليه: بأنّ الـصحيحـة كادت تكون صريحـة في إرادة أنّه يطلب الـماء إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، و يخاف فوت الـصلاة، فحينئذ يصلّي مع الـتيمّم.
ثانيها: ما أفاده في «ا لـمصباح» من أنّ وجوب الـفحص عن الـماء في الـجهات الأربع ـ على ما يقتضيه خبر الـسكوني ـ مشروط بإرادة الـمسافر الـمتمكّن من الـفحص ـ ا لـذي لم يتضيّق عليه الـوقت ـ الـصلاة في مكان مخصوص، كما لو نزل بعد الـظهر مثلاً منزلاً، و أراد أن يصلّي فيه، و إلاّ فله الـضرب في الأرض في جهـة من الـجهات ولو في الـجهـة الـموصلـة إلى الـمقصد، برجاء تحصيل الـماء في أثناء
(1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 9.
(الصفحة213)
ا لـطريق إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، ضرورة أنّ الـعود إلى الـمكان الأوّل ليس واجباً تعبّدياً، فحيثما طلب الـماء في جهـة ولو في الـجهـة الـمؤدّيـة إلى الـمقصود بمقدار رميـة سهم أو سهمين، فله أن يصلّي في الـمكان الـذي انتهى إليه طلبه، و أن لايعود إلى الـمكان الـذي ابتدأ منه، لكن يجب عليه الـفحص عن الـماء فيما حوله با لـنسبـة إلى الـمكان الـذي انتهى إليه الـسير، فله في هذا الـمكان أيضاً ـ كا لـمكان الأوّل ـ أن يختار أوّلاً الـضرب إلى مقصده مثلاً في الـجهـة الـتي يقرّبه، و هكذا إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، و يتعيّن عليه الـصلاة مع الـتيمّم. فثمرة الـعود إلى الـمكان الأوّل إنّما هي جواز الـصلاة مع الـتيمّم بعد الـفحص عن الـماء في سائر الـجهات با لـمقدار الـمعتبر شرعاً، و إن لم يتضيّق عليه الـوقت فتقيّد روايـة زرارة بما عدا هذه الـصورة.
و يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الـميزان في الـجمع هو ما كان مقبولاً عند الـعرف و مطابقاً لفهمهم، و من الـمعلوم أنّ الـجمع بهذا الـنحو مخا لـف للأنظار الـعرفيـة ـ أنّه بعد تسليم دلالـة صحيحـة زرارة على وجوب الـطلب مادام في الـوقت إلى أن يتضيّق، كيف يمكن حملها على الـصورة الـمذكورة، و الـقول بأنّه في غير هذه الـصورة يكفي الـطلب مقدار سهم أو سهمين ولو كان في أوّل الـوقت، مع أنّ الـفرق بين ما إذا كان الـضرب في الأرض في الـجهـة الـموصلـة إلى الـمقصد برجاء تحصيل الـماء في أثناء الـطريق، وبين ما إذا لم يكن مقروناً بهذا الـرجاء غير متّضح؟!
ثا لـثها: ما أفاده الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» من حمل الـصحيحـة ـ الـظاهرة في لزوم الـتأخير، و وجوب الـطلب مادام الـوقت ـ على الاستحباب; لصراحـة الـموثّقـة في عدم الـوجوب.
و يؤيّده: أنّه لامحيص عن حمل الـصحيحـة على الاستحباب ولو لم تعارضها
(الصفحة214)
ا لـموثّقـة، لوجود روايات دالّـة على جواز البدار، فإذا حملت على الاستحباب لأجلها ترتفع معارضتها مع الـموثّقـة أيضاً.
و الإنصاف: صحّـة هذا الـجمع، و أنّه لامحيص عنه، نعم مورد الـموثّقـة هو الـمسافر، و الـتعبير الـواقع في الـمتن هو الـبرّيـة; و لعلّه لأجل أنّ الـسفر ملازم نوعاً للكون في الـبرّيـة، و منه يظهر أنّه ليس الـمراد به هو الـسفر الـشرعي، بل الـمراد به هو الـسفر الـعرفي الـثابت فيه تلك الـملازمـة، و عليه فا لـسفر بما هو سفر لايكون له موضوعيـة أصلاً، بل الـملاك على ما هو الـمتفاهم عند الـعرف هو ما ذكر.
و عليه فلايبعد دعوى كون حكم سكّان الـبوادي و الـجبال حكم الـمسافرين من حيث الـطلب في الأرض، و إن كان بينهما فرق من جهـة أنّ الـسكونـة موجبـة للاطّلاع على وجود الـماء في الـحوا لـي و عدمه، و الـمفروض في الـروايـة من لايكون مطّلعاً عليه، كما لايخفى.
بقي في هذا الـمقام اُمور:
الأوّل: الـطلب في جميع الـجوانب
أ نّه قد عرفت أنّ خبر الـسكوني يكون حاكماً على الآيـة الـشريفـة، الـظاهرة في نفسها و بمقتضى حكم الـعقل في لزوم طلب الـماء إلى حدّ الـيأس، و مفسّراً للمراد منها بالإضافـة إلى الـمسافر، فهو لايكون بصدد إفادة أصل إيجاب الـطلب، بل هو مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و دالّ على عدم وجوب مازاد على ذلك الـمقدار.
و عليه فيظهر عدم اختصاص الـطلب بخصوص جهـة من الـجهات الأربع، بل لابدّ و أن يكون الـطلب في جميع الـجوانب، و من الـواضح أ نّه ليس الـمراد منها هي
(الصفحة215)
ا لـخطوط الـمتقابلـة، بل الـمراد من كلّ جهـة هو ربع الـدائرة، فا لـملاك هو شمول دائرة الـطلب لجميع الـجوانب، غايـة الأمر أنّ سعتها لاتزيد على الـمقدار الـمذكور.
و عن «ا لـنهايـة» و «ا لـوسيلـة» الاقتصار على الـيمين و الـيسار، و عن «ا لـمقنعـة» الاقتصار على الأمام و الـيمين و الـشمال.
لكن قد عرفت: أنّ مقتضى حكم الـعقل وجوب الـضرب في جميع الـجهات، و يمكن أن يكون الـمراد من كلّ من الـيمين و الـيسار فيما عن «ا لـنهايـة» و «ا لـوسيلـة» هو نصف الـدائرة، كما أنّه يمكن أن يكون الإهمال الـواقع فيما عن «ا لـمقنعـة» با لـنسبـة إلى الـخلف لأجل وقوع الـطلب فيه با لـمرور منه، فتدبّر.
ا لـثاني: في كون وجوب الـطلب عقلياً
قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ وجوب الـطلب في الـمقام لايكون وجوباً نفسياً كما عن «قواعد الـشهيد» و «ا لـحبل الـمتين» و «ا لـمعا لـم»، و لاغيريّاً بمعنى أن يكون الـطلب شرطاً في صحّـة الـتيمّم تعبّداً كما اختاره في «ا لـجواهر» و نسب إلى الـمشهور احتمالاً، بل هو عقلي محض، منشأه لزوم إحراز الـعذر عن ترك الـمطلوب الـمطلق أى الـصلاة مع الـطهارة الـمائيـة، الـتي لاتكون مقيّدة بمثل الـوجدان على ما مرّ، فا لـحاكم به هو الـعقل بعد ملاحظـة دليل الـتكليف.
و ليس في الـمقام دليل لفظي يدلّ على الـوجوب حتّى يبحث عن كونه نفسياً أو غيرياً; لأنّ روايـة الـسكوني قد عرفت أنّها ليست بصدد إفادة أصل الإيجاب، بل هي تدلّ على بيان مقداره، كما أنّ صحيحـة زرارة محمولـة على الاستحباب على ما مرّ، فليس هنا دليل لفظي يدلّ على الـوجوب حتّى يبحث في نوعه.
(الصفحة216)
ولو سلّم دلالـة الـروايتين على وجوب الـطلب، فلا شبهـة في عدم دلالتهما على الـوجوب الـنفسي; لظهور الأوامر في الإرشاد في مثل الـمقام، فهو إمّا إرشاد إلى حكم الـعقل، و إمّا إرشاد إلى الـشرطيـة. لاسبيل إلى الـثاني; لأنّ الـظاهر من قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «يطلب الـماء في الـسفر» أنّ الـطلب واجب لتحصيل الـماء، لا لشرطيته في الـتيمّم، كما أنّ الـظاهر من الـصحيحـة أيضاً ذلك، و أنّ شرط الـتيمّم هو خوف فوت الـوقت، لاا لـطلب، فلا محيص عن حمل الـروايتين ـ على تقدير دلالتهما على الـوجوب ـ على الإرشاد إلى ما هو مقتضى حكم الـعقل.
و يترتّب على ذلك: أنّ لزوم الـطلب في الـجوانب الأربع إنّما هو مع احتمال وجود الـماء فيها، و إلاّ فمع الـعلم بعدمه في واحد منها أو أزيد أو في جميعها لامعنى لوجوب الـطلب في الـجهـة الـتي يعلم بعدمه فيها.
نعم، لو علم بوجوده فوق الـمقدار يجب تحصيله مع بقاء الـوقت و عدم تعسّره، لخروجه عن منصرف روايـة الـسكوني قطعاً، فيرجع في حكمه إلى ما هو ما مفاد الآيـة، و مقتضى حكم الـعقل، نعم مع ضيق الـوقت أو تعسّر تحصيل الـماء، كما إذا كان الـماء بعيداً، يسقط الـوجوب.
و قد انقدح ممّا ذكرنا: بطلان ما حكي عن الـقائلين بكون وجوب الـطلب نفسياً من لزوم الـطلب ولو مع الـعلم بعدم وجود الـماء; لضعف مبناهم مع أنّ نفس مفهوم الـطلب لايجتمع إلاّ مع رجاء الـوصول إلى الـمطلوب، و احتمال حصوله، و لايلتئم مع الـعلم با لـعدم.
ثمّ الـظاهر أنّ الـظنّ بوجود الـماء في الـزائد على الـمقدار لايكون كا لـعلم به; لعدم الـدليل على اعتباره، و عدم صدق الـوجدان معه، نعم لو بلغ إلى مرتبـة الاطمئنان
(الصفحة217)
ا لـذي يكون علماً عرفياً، لايبعد وجوب الـطلب معه، لصدق الـوجدان حينئذ كما هو ظاهر.
ا لـثا لـث: في تفسير الـحزونـة و الـسهولـة
ا لـواردتين في روايـة الـسكوني و فتاوى الأصحاب، الـتي قد عرفت أنّهم قد عبّروا فيها بمتنها.
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «ا لـسهل نقيض الـجبل، و الـحزن ما غلظ من الأرض و فيها حزونـة»، و الـمستفاد من تفسير الـحزن كون الأرض مأخوذة في معناه، و أنّه عبارة عن الأرض الـتي كانت فيها غلظـة، ولكن ذيله يشعر بل يدلّ على أنّ الـحزن بمعنى مطلق ما كان واجداً لوصف الـحزونـة، أي الـغلظـة.
و يؤيّد الأوّل: ما عن «ا لـقاموس» و «ا لـمجمع» من تفسيره بما غلظ من الأرض، و كذا ما عن الأصمعي من أنّ الـحزن الـجبال الـغلاظ.
و يؤيّد الـثاني: ما في «ا لـمنجد» من قوله: «حزن يحزن حزونـة، الـمكان صار حزناً أي غليظاً». فإنّه كا لـصريح في أنّ الـحزن هو نفس الـغلظـة الـتي هي معنى وصفي عامّ، و إن قال بعده: «ا لـحزن ما غلظ من الأرض».
قال الـماتن دام ظلّه في «رسا لـة الـتيمّم»: «و لايبعد أن يكون الاحتمال الـثاني أرجح، فيقال: أرض سهلـة و حزنـة، و رجل سهل الـخلق، و نهر سهل أي ذو سهولـة، و سهل الـموضع، بل و أسهل الـدواء بمعنى، و يفهم بالانتساب إلى الـمتعلّقات كيفيـة الـسهولـة، و كذا الـحزن، فإذا قيل للجبال الـغلاظ الـحزن كصرد، و للشاة الـسيّئـة الـخلق الـحزون، و لقدمـة الـعرب على الـعجم في أوّل قدومهم الـذي أسحقوا فيه ما
(الصفحة218)
أسحقوا من الـدور و الـضياع الـحزانـة، يكون بمعنى واحد، بل لااستبعد أن يكون الـحزن مقابل الـفرح من هذا الأصل و إن اختلفت الـهيآت».
ثمّ إنّه بناء على مدخليـة الأرض في معنى الـحزونـة، لابدّ من ملاحظـة الـغلظـة و الـسهولـة بالإضافـة إلى ذات الأرض، فا لـحزونـة حينئذ عبارة عن الأرض الـتي تكون با لـذات واجدة للغلظـة، ككونها جبلاً مثلاً، و أمّا ما لم تكن كذلك، فلا تكون حزونـة ولو كانت مشتملـة على الـغلظـة الـعرضيـة باعتبار وجود الأشجار و إحداثها فيها، إلاّ أن يقال: إنّ اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة لاينافي شمولها لما إذا كانت الـغلظـة عرضيـة، و عليه فإسراء الـحكم إلى الأراضي الـمشجّرة ـ كما في «ا لـعروة» ـ لايحتاج إلى دعوى إلغاء الـخصوصيـة حتّى يقال: إنّ عهدتها على مدّعيها.
و كيف كان: فبناء على اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، لايبقى فرق بين جعل الـكون في قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «إن كانت الـحزونـة فغلوة ...» تامّاً و الـحزونـة فاعلاً، أو جعله ناقصاً و الأرض الـمحذوفـة اسماً لاعتبار الأرض على كلا الـتقديرين، فلا يكون فرق في الـبين.
و أمّا على تقدير عدم اعتباره فيه، فعلى تقدير جعل الـكون ناقصاً، يكون الأمر كما مرّ، و أمّا على تقدير جعله تامّاً، فحيث لاتكون الأرض حينئذ معتبرة في الـمفهوم، و لاتكون محذوفـة اسماً، فا لـملاك وجود الـمانع و تحقّق الـغلظـة ولو كان مثل الـشجر و الـثلج و نحوهما، و حيث إنّه لايحصل للنفس طمأنينـة بعدم اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، و لالعدم جعل الـكون ناقصاً، فلا محيص عن الاحتياط لدلالـة الآيـة و حكم الـعقل على لزوم الـطلب زائداً على الـمقدار الـمذكور في روايـة الـسكوني، فيحتاط بالأخذ بالأكثر، كما لايخفى.
(الصفحة219)
ا لـرابع: في تفسير الـغلوة الـواقعـة في الـروايـة
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «غلوت با لـسهم غلواً إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، و الـغلوة الـغايـة رميـة سهم»، و قال: «غلا يغلو غلواً، أي جاوز فيه الـحدّ»، و يظهر منه مجيئها بمعنى رميـة سهم أيضاً.
و قال في «ا لـقاموس»: «غلا في الأمر غلواً: جاوز حدّه، و با لـسهم غلواً و غلواً رفع يديه لأقصى الـغايـة» إلى أن قال: «فهو رجل غلاء كسماء، أي بعيد الـغلو با لـسهم، و الـسهم ارتفع في ذهابه و جاوز الـمدى».
و في «ا لـمنجد»: «غلا يغلو غلواً و غلوا الـسهم و با لـسهم: رمى به أقصى الـغايـة» إلى أن قال: «ا لـغلوة الـمرّة من غلا الـغايـة، و هي رميـة سهم أبعد ما تقدر عليه الـمغلى، و الـمغلاة سهم يغلى به، أي يرمى به أقصى الـغايـة».
و الـمستفاد منها أنّ الـغلوة لاتكون بمعنى مطلق رميـة سهم، بل يكون معناها مقيّداً بأقصى الـغايـة و أبعد مقدور الـرامي.
نعم، ذكر في «مجمع الـبحرين»: «و في الـحديث: ذكر الـغلوة، و هي ـ با لـفتح ـ مقدار رميـة سهم». ولكنّ الـظاهر أنّه لايلائم مع معنى هذه الـمادّة الـمستعملـة في موارد كثيرة، كا لـغليان في مثل الـعصير، و الـغلوّ في رديف الـمبا لـغـة، و الـغلاة في فرق الـمسلمين، و الـغلاء في الـسعر، و الـغا لـيـة الـتي تكون مركّبـة من عدّة من الـطيب كأنّها هي نهايـة مراتب الـطيب، و أغلى الـثمن في شراء الـزوجـة، و نحوها من موارد الاستعمال، فا لـظاهر بحسب اللغـة ما ذكره جلّ اللغويين من كونها عبارة عن الـرميـة لأقصى الـغايـة.
و أمّا الـفقهاء: فقد اختلفت كلماتهم، فجملـة منهم قد عبّروا بمتن روايـة الـسكوني
(الصفحة220)
ا لـمتقدّمـة من الـغلوة و الـغلوتين، و بعضهم بدّل الـغلوتين بغلوة سهمين، و طائفـة منهم كا لـشيخ في بعض كتبه و الـمفيد و أبي ا لـصلاح و جمع آخر قدّر الـمقدار برميـة سهم أو سهمين.
و الـظاهر أنّ هذا الـتفسير اجتهاد منهم و إلاّ فا للفظ الـواقع في الـروايـة هو الـمذكور، و قد عرفت أنّ معنى الـغلوة ليس مطلق الـرميـة ولو حمل كلام هذه الـجماعـة على الـتعريف الإجما لـي غير الـمنافي للقيد الـمذكور، لكنّه يوجد فيهم من لايكون كلامه قابلاً للحمل الـمذكور، لتصريحه بخلافه، ككاشف الـغطاء (قدس سره) قال: «ا لـغلوة الـرميـة با لـسهم الـمتوسّط في الـقوس الـمتوسّط من الـرامي الـمتوسّط مع الـحا لـة الـمتوسّطـة في الـهواء الـمتوسّط و الـوضع الـمتوسّط و الـجذب و الـدفع الـمتوسّطين»، و الـشهيد (قدس سره) في «ا لـمسا لـك» قال: «ا لـغلوة مقدار الـرميـة من الـرامي الـمعتدل بالآلـة الـمعتدلـة»، و غيرهما من بعض مقاربي عصرنا.
ولكنّه لادليل على هذا الـمعنى مع كونه مخا لـفاً لللغـة، بل الـعرف، فا لـمعتبر في الـرمي هو الـرمي إلى أقصى الـغايـة و أبعد ما يقدر عليه الـرامي، نعم يعتبر في الـرامي و الآلـة و سائر الـجهات الـمتوسّط; لأنّه الـمتعارف، فلا ينبغي الإشكال فيما ذكر.
إنّما الإشكال في الـمقام في عدم إمكان تعيين هذا الـمقدار خارجاً في هذه الأزمنـة; لعدم تداول الـرمي با لـسهم فيها، و عدم وجود الـرامي الـماهر الـمتدرّب في فنّ الـرمي، و من الـمعلوم أنّ الـمعتبر هو رمي مثله، فا لـلازم في موارد الـشكّ الاحتياط، و الأخذ با لـمقدار الـمحتمل الـعقلائي; لما عرفت من دلالـة الآيـة، و اقتضاء حكم الـعقل وجوب الـطلب إلى حدّ الـيأس. و أنّ روايـة الـسكوني لا دلالـة لها على أصل إيجابه، بل هي مبنيـة لمقداره، فمع الـشكّ في تحقّقه يجب الـرجوع إلى
|