(الصفحة41)
ما مرّ من اختلافهم في بيانها إطلاقاً وتقييداً، ضرورة أنّه لو كانت قاعدة شرعيّة لم يكن مجال لتقييدها من دون دليل عليه كما هو واضح، ولعلّ هذا هو السرّ في عدم تعرّض المحقّق الإصفهاني لهذه القاعدة أصلاً. [انتهى كلامه دام ظلّه من كتاب الإجارة الثاني].
***
المقام الثاني : فيما يعتبر في المنفعة، وهي اُمور متعدّدة أيضاً :
الأوّل : كونها مباحة ، فلا تصحّ إجارة الدكّان لإحراز المسكرات أو بيعها ولاالدابّة والسفينة لحملها ، ولا الجارية المغنّية للتغنّي ونحو ذلك .
وقد صرّح المحقّق (قدس سره) في الشرائع(1) بأنّه مع عدم وجود هذا الشرط لاتنعقد الإجارة ، وعليه فهو من الشرائط المعتبرة في أصل الصحّة والانعقاد ، فما في شرح المحقّق الرشتي (قدس سره) عليه من تعليل عدم الانعقاد : بأنّ المحرّم غير مملوك للمؤجر ، ومن شرائط الإجارة ملكيّة المنفعة ووجودها ، وأنّه كان على المصنّف ذكرهما أوّلاً(2) ، يمكن الإيراد عليه بأنّ اعتبار كون المؤجر مالكاً للمنفعة إنّما هو في لزوم العقد لا في أصل الصحّة والانعقاد ; لعدم كون المعاملات الفضولية باطلة عنده من رأس ، بل موقوفة على الإجازة ، وعليه فاعتبار الإباحة يغاير اعتبار ملكيّة المؤجر ، إلاّ أن يقال إنّ مراده من ذلك عدم كون المنفعة المحرّمة مملوكة أصلاً ، لا للمؤجر ولا لغيره ، وذكر المؤجر ليس لأجل تخصيص عدم المملوكية به ، ضرورة أنّه إذا لم تكن المنفعة المحرمة مملوكة لمالك العين فكيف يمكن أن تكون مملوكة لغيره ، ومن المعلوم أنّ اعتبار أصل ملكيّة المنفعة إنّما هو في الانعقاد
(1) شرائع الإسلام : 2 / 186 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 290 .
(الصفحة42)
والصحّة دون اللزوم .
وكيف كان ، فالظاهر اتّفاق أصحابنا الإماميّة ـ رضوان الله عليهم(1) ـ على اعتبار هذا الشرط في صحّة الإجارة ، وأنّه لا تنعقد مع حرمة المنفعة . نعم ، عن الشهيد (رحمه الله)(2) : أنّه نسب إلى ابن المتوج القول بالتحريم وانعقاد الإجارة ، كما عن أبي حنيفة والشافعي من العامّة(3) .
والكلام في هذا البحث قد يقع فيما هو مقتضى القواعد ، وقد يقع فيما يستفاد من الروايات الواردة في الباب :
أمّا الأوّل : فقد استدلّ على اعتبار هذا الشرط بلحاظه بوجوه :
منها : أنّ المنفعة المحرّمة لا تكون مملوكة بوجه ، ولا يتعلّق بها ملك المؤجر حتّى يملكها غيره .
ويرد عليه : أنّه لم يقم دليل على تقابل الحرمة والملكيّة وتنافيهما وعدم إمكان اجتماعهما ، وما ذكره المستدل مجرّد ادّعاء من دون بيّنة وبرهان ، مع أنّه في مثل الدار والدكّان تكون المنفعة من شؤون العين القائمة بها ، والمعروض للحرمة هو عمل المكلّف القائم به ، فلا تكون المنفعة معروضة للحرمة حتّى تنافي مع الاتّصاف بالملكية ، وفي مثل الأجير والعمل المستأجر عليه يمكن أن يقال : بأنّ الحرمة تلائم الملكيّة وتؤيّدها ، لا أنّها تنافيها وتضادّها ، نظراً إلى أنّ مرجع ملكيّة العمل إلى كونه عملاً له ، وله إضافة إليه يمكنه إيجاده ويعدّ من شؤونه ومن الاُمور القائمة به ، وهذه الجهات لها دخل في الاتصاف بالحرمة ، فإنّه لو لم يكن عملاً له ومضافاً إليه
(1) راجع الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، وغنية النزوع : 285 ، ونهج الحقّ وكشف الصدق : 508 .
(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 135 .
(3) الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، المبسوط للسرخسي 16 / 38 .
(الصفحة43)
لما كان وجه لتوجّه التحريم إليه واتّصافه بكونه فاعلاً للحرام ، فالملكية لاتنافي الحرمة بوجه ، بل هي دخيلة في ترتّبها وثبوتها .
ومنها : أنّ المنفعة المحرّمة لا ماليّة لها أصلاً ، فلا تكون قابلة للمعاوضة عليها .
ويرد عليه : ما عرفت من عدم قيام الدليل على تقابل الحرمة والمالية ، والنهي عن إيجادها في مثل العمل المستأجر عليه لا يرجع إلى سلب المالية ونفي كونها متّصفة بها ، بل مرجعه إلى النهي عن إيجاد ماهو مال لأجل الملاك المقتضي للنهي ، كما هو ظاهر .
ومنها : أنّ حرمة المنفعة تسلب القدرة شرعاً ، والممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، وقد مرّ أنّ القدرة على التسليم من شرائط صحّة المعاوضة ونفوذها .
وفيه : ما عرفت في مبحث اعتبار القدرة على التسليم من أنّه لا منافاة بين ماهو المعتبر من القدرة بلحاظ دليل الغرر ، وبين اتصاف المنفعه بكونها محرّمة .
ومنها : قوله تعالى : {وَلاَ تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ . . .}(1) حيث إنّه يدلّ على النهي عن أكل المال بالباطل ، وظاهره الحكم الوضعي بمعنى كونه إرشاداً إلى الفساد والبطلان . وضعف الاستدلال به على المقام ظاهر .
وأمّا الثاني : فقد ورد في المنفعة المحرّمة روايتان :
إحداهما : رواية ابن اُذينة قال : كتبت إلى أبي عبدالله (عليه السلام) : أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير ؟ فقال : لا بأس(2) .
ثانيتهما : ما عن صابر أو جابر ، قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر
(1) سورة البقرة 2 : 188 .
(2) الكافي : 5 / 227 ح6 ، التهذيب : 6 / 372 ح1078 ، الاستبصار : 3 / 55 ح180 ، وسائل الشيعة : 17/174 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب39 ح2 .
(الصفحة44)
بيته فيباع فيه الخمر ؟ قال : حرام اُجرته (أجره ـ خ ل)(1) .
وقد جمع المشهور بين الروايتين بحمل الاُولى على ظاهرها ; وهي الإجارة للحمل ممّن يفعل ذلك لا الإجارة لحمل الخمر والخنزير ، والثانية على الإجارة لهذا الغرض(2) وإن كان هذا الحمل مخالفاً لظاهرها ، إلاّ أنّ الجمع بينهما يعينه كما صنعوا نظيره في باب البيع ، حيث حملوا الأخبار الدالّة على صحة بيع العنب ممّن يجعله خمراً على ما إذا لم يكن البيع مقيّداً بهذه الغاية ، والأخبار الناهية على ما إذا كان لهذه الغاية(3) .
وأمّا ما ورد في العمل فهي رواية تحف العقول المعروفة ، المشتملة على قوله (عليه السلام) : وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له . . .
وقد ورد قبل هذه الفقرة قوله (عليه السلام) : فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة ; نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه ، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء . . .(4) ، ومع صراحة هذه الرواية في حرمة الاستئجار للعمل المحرّم لا يبقى مجال لما عن مفتاح الكرامة من قوله : ولا أجد ذلك ـ يعني الاستئجار للعمل المحرّم ـ في أخبارنا . نعم ، يستفاد ذلك من خبر جابر(5) . ولعلّه لم يعتمد على رواية
(1) الكافي : 5 / 227 ح8 ، التهذيب : 6 / 371 ح1077 و ج7 / 134 ح593 ، الاستبصار : 3 / 55 ح179 ، وسائل الشيعة : 17 / 174 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب39 ح1 .
(2) راجع التهذيب : 6 / 372 ، والاستبصار : 3 / 56 ، ومجمع الفائدة والبرهان : 8 / 46 ـ 47 ، ورياض المسائل : 5/15 .
(3) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 1 / 123ـ 125 و129 .
(4) تحف العقول : 334 ، وسائل الشيعة : 19 / 101 ، كتاب الإجارة ب1 ح1 .
(5) مفتاح الكرامة : 7 / 135 ـ 136 .
(الصفحة45)
تحف العقول، وإلاّ فمن البعيد أن لا يكون مطّلعاً عليها .
ثمّ إنّه أورد على الجمع المشهور في باب البيع بوجهين :
أحدهما : ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظله ـ فيما صنّفه في المكاسب المحرّمة : من أنّ الروايات الدالّة على جواز بيع العنب ممّن يجعله خمراً مخالفة للكتاب(1) الدالّ على النهي عن التعاون على الإثم ، وللسنّة المستفيضة الحاكية للعن رسول الله (صلى الله عليه وآله)الخمر وغارسها(2) . . .ولحكم العقل ، ولروايات النهي عن المنكر ، بل مخالفة لاُصول المذهب ، ولقداسة مقام المعصوم (عليه السلام) ، حيث إنّ الظاهر منها أنّ الأئمّة (عليهم السلام)كانوا يبيعون تمرهم ممّن يجعله خمراً وشراباً خبيثاً ، وهو ممّا لايرضى به الشيعة الإمامية ، كيف! ولو صدر هذا العمل من أواسط الناس كان يعاب عليه ، فالمسلم بما هو مسلم والشيعي بما هو كذلك يرى هذا العمل قبيحاً مخالفاً لرضى الشارع ، فكيف يمكن صدوره من المعصوم (عليه السلام)(3) ، وعلى تقدير رفع اليد عمّا ذكر نقول : إنّها معارضة مع ما يدلّ على المنع عن بيع الخشب ممّن يصنعه صليباً أو صنماً(4) .
ومع رواية صابر المتقدّمة ، الواردة في الإجارة ، والترجيح لهذه الروايات بالوجوه المذكورة .
وعليه فلا محيص من الالتزام بالحرمة مطلقاً ، ولكنّها لا تقتضي فساد
(1) سورة المائدة 5 : 2 .
(2) الكافي : 6 / 398 ح10 و429 ح4 ، الفقيه : 4 / 4 ح1 ، وسائل الشيعة : 17 / 224 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب55 ح3 و4 و5 .
(3) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني : 1 / 146 ـ 147 .
(4) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 .
(الصفحة46)
المعاملة ، سواء وقعت معاطاة أو بالصيغة ، وإن كان بينهما فرق من بعض الوجوه .
ثانيهما : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كتاب الإجارة ، وحاصله : أنّ الأعيان على قسمين :
منها : ما تتمحّض جهة الانتفاع به في الحرام كالخمر والخنزير ، فإنّ المنفعة المترقّبة من الاُولى الشرب ومن الثاني الأكل وهما محرّمان .
ومنها : ما لا يكون كذلك ، كالأعيان المباحة التي يمكن الانتفاع بها على جهة الحلال والحرام كالعنب ، فيؤكل تارةً ويعمل خمراً اُخرى ، وكالخشب يجعل سريراً تارةً وصليباً اُخرى ، وقد استفيد من رواية تحف العقول أنّ ما تمحّض في الجهة المحرّمة لا يجوز إيقاع أيّ عقد عليه ، فيفهم منه أنّ تمحّضه في الانتفاع المحرّم يوجب سقوطه عن المالية شرعاً ; لتقوّمها بالمنفعة الخاصّة به ، والمفروض أنّ الشارع أسقط هذه المنفعة عن درجة الاعتبار ، وأنّ ما لم يتمحّض في الجهة المحرّمة باق على ماليّته ، وإن انتفع به المشتري مثلاً في جهة الحرام ، ومن البيّن أنّ قصد الغاية المحرّمة لا يضيّق دائرة العين ، كليّة كانت أو شخصيّة ، كما أنّ المفروض عدم انحصار جهة الانتفاع به في الحرام .
ومجرّد قصد الغاية المحرّمة لا يوجب إلاّ تحقّق عنوان الإعانة على الإثم ، والبيع مع هذا العنوان وإن كان حراماً إلاّ أنّ مثل هذه الحرمة لايوجب فساد البيع ، وليس في أخبار باب بيع العنب رواية تدلّ على حرمة بيع العنب ليعمل خمراً ، بل الموجود حرمة بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً(1) ، مع دلالة الروايات المستفيضة
(1) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 .
(الصفحة47)
على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً(1) ، بل على جواز بيع الخشب ممّن يعمله برابط(2) ، فحمل المشهور على التفصيل بين قصد الغاية المحرّمة وعدمه بلا وجه(3) . هذا ما أفاده في مورد البيع .
ويرد عليه : أنّ عدم تمحض جهة الانتفاع بالعين في المنفعة المحرّمة وإن كان يوجب عدم سقوطه عن المالية شرعاً ، وكذا قصد الغاية المحرّمة وإن كان لا يؤثّر في تضيق دائرة العين ، كليّة كانت أو شخصية ، إلاّ أنّ ذلك لايمنع من تعلّق النهي ببيعه مطلقاً ، أو مع الاقتران بقصد الغاية المحرّمة ، فإنّ ملاك النهي وتعلّق التحريم لايدور مدار المالية وجوداً وعدماً ، كما أنّه لا ينحصر بعنوان الإعانة على الإثم وحينئذ فيبقى عليه هذا السؤال ; وهو أنّ ما يدلّ على النهي عن بيع الخشب ممّن يعمل صنماً أو صليباً على ماذا يحمل ؟ وكيف يجمع بينه وبين ما يدلّ على جواز بيع العنب ممّن يعمل خمراً ؟ فهل يجمع بينهما باختلاف المورد، كما أفاده الشيخ الأعظم (قدس سره)(4) ، وجعله قولاً فصلاً لو لم يكن قولاً بالفصل ؟ أو بوجه آخر غير مذكور في كلامه . نعم، إيراده على المشهور بأنّ الجمع بنحو التفصيل بلا وجه حقّ; لعدم الشاهد عليه .
مع أنّه في صحيحة عمر بن اُذينة جمع بين الحكم بالجواز في البرابط والنهي في الصلبان ، حيث قال : كتبت إلى أبي عبدالله (عليه السلام) : أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ برابط ؟ فقال : لابأس به ، وعن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذ
(1) وسائل الشيعة : 17 / 229 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب59 .
(2) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 ح1 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 248 ـ 249 .
(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 1 / 131 ـ 132 .
(الصفحة48)
صلباناً ؟ قال : لا(1) .
ومن المعلوم أنّ الفارق بحسب هذه الصحيحة ليس وجود القصد وعدمه ، بل كونه متّخذاً برابط أو صلباناً ، فكيف يجمع بين الروايات بالنحو المشهور ؟!
كما أنّه بهذه الصحيحة يقع الإشكال فيما أفاده سيّدنا الأستاذ أيضاً ، فإنّ إلغاء روايات الجواز نظراً إلى الوجوه التي أفادها لا يلائم مع الجمع بينه وبين النهي في رواية واحدة كما في الصحيحة ، إلاّ أن يلتزم بإلغاء صدرها أيضاً ، ولكنّه لايناسب مع ما هو المستفاد منها من كون الفارق اختلاف المحرّمات ، ووقوع بعضها في مرتبة من الاهتمام دون البعض الآخر . وبعبارة اُخرى الصحيحة ناظرة إلى التفصيل وحاكمة بالفرق بين الصورتين ، ومعه لايبقى مجال للإلغاء كما لا يخفى .
وبالجملة: هذه الصحيحة شاهدة على ما أفاده الشيخ الأعظم ممّاعرفت، واستبعاد التفصيل بين الصليب والخمرمدفوع بما أفاده المستبعد في آخر كلامه من أنّ الصليب وإن كان عبارة عمّا يصنع شبيه ما صلب به المسيح ـ على زعمهم وتخيّلهم ـ إلاّ أنّ صيرورته شعاراً لهم أوجبت الاهتمام به ، وتحريم التسبّب إليه زائداً على غيره(2) .
وما أبعد بين ما أفاده سيّدنا الأُستاذ في مقام الجمع بين الروايات ، وبين ما أفاده بعض الأعلام من أنّه على فرض تماميّة عدم الفصل بين موارد الروايات المجوّزة والمانعة يكون المقام من قبيل تعارض الدليلين ، فيؤخذ بالطائفة المجوّزة ; لموافقتها لعمومات الكتاب ، كقوله تعالى : {أَوفُوا بِالعُقُودِ}(3) و{أَحَلَّ اللهُ البَيعَ}(4) و{تِجَارَةً
(1) الكافي : 5 / 226 ح2 ، التهذيب : 6 / 373 ح1082 وج7 : 134 ح590 ، وسائل الشيعة : 17 /176 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب41 ح1 .
(2) المكاسب المحرّمة للإمام الخميني : 1 / 148 .
(3) سورة المائدة 5 : 1 .
(4) سورة البقرة 2 : 275 .
(الصفحة49)
عَن تَرَاض}(1)(2) وتمام الكلام في باب البيع موكول إلى محلّه .
وأمّا الإجارة التي هي محلّ البحث هنا وردت في خصوصها روايات فالظاهر اختلاف حكمها مع البيع وعدم جواز قياس أحدهما بالآخر ; لأنّ الأعمال ليست كالأعيان بحيث لاتكون قابلة للتقييد والتضييق ، بل هي قابلة لأن تصير حصّة خاصّة كالكتابة المقيّدة بنسخ كتب الضلال ، والحمل المقيّد بكونه حراماً كحمل الخمر والخنزير مثلاً ، وكذا المنافع ، فإنّها أيضاً قابلة للتوسعة والتضييق ، فمع التقييد بالجهة المحرّمة تكون هذه الحصّة كالخمر والخنزير في سقوطها عن المالية شرعاً . نعم ، لابدّ من الجمع بين الروايات الواردة في خصوص الإجارة ، وقد عرفت أنّ الجمع بالكيفية المشهورة ممّا لاشاهد له أصلاً .
والتحقيق أن يقال : أمّا رواية تحف العقول الواردة في الإجارة على الأعمال(3)فلامعارض لها فيه ، فلا محيص عن الالتزام بالحرمة في باب الأعمال ; لأنّها متلقّاة بالقبول عندهم .
وأمّا الروايتان المتقدّمتان(4) الواردتان في المنافع فيمكن الجمع بينهما بحمل الاُولى على الحكم التكليفي ، والثانية على الحكم الوضعي ; لأنّ الحكم بحرمة الأُجرة في الثانية صريح في البطلان وعدم الانعقاد ، وأمّا نفي البأس الواقع في الرواية الاُولى وإن كان ظاهره أيضاً الصحّة والنفوذ ، إلاّ أنّ الظهور لا يقاوم الأظهر والنص ، فيحمل بقرينة المقابل على خلاف الظاهر ، ويحكم بكون المراد هو نفي
(1) سورة النساء 4 : 29 .
(2) مصباح الفقاهة : 1 / 175 .
(3) تقدّمت في ص44.
(4) في ص 43 ـ 44 .
(الصفحة50)
البأس بالنظر إلى التكليف ، ولا ينافي البطلان وعدم النفوذ .
وعلى تقدير دعوى كون هذا الجمع تبرّعياً ولا شاهد عليه ولا يكون مقبولاً عند العقلاء نقول : لابدّ من ترجيح الرواية الثانية ; لكونها موافقة للمشهور(1) بل المجمع عليه(2) ، وقد ثبت في محلّه أنّ الشهرة الفتوائية أوّل المرجّحات ، وعلى كلا التقديرين يثبت المطلوب ; وهو فساد الإجارة مع حرمة المنفعة وعدم حلّيتها .
ثمّ إنّه بناءً على لزوم الأخذ بمقتضى الرواية الدالّة على الفساد لابدّ من الالتزام بفساد الإجارة ، ولو مع عدم تحقّق التضييق والتقييد بالجهة المحرّمة ، فإذا آجر بيته ممّن يبيع فيه الخمر تكون الإجارة فاسدة والأُجرة محرّمة ، ولو مع عدم التقييد ببيع الخمر فيه ، وعدم تحقّق القصد والتوصّل بالإجارة إلى وقوع الأمر المحرّم ، بل هذه الصورة هي مورد الرواية ، فإنّه لايكاد يتّفق من المسلم مثل هذا التقييد ، خصوصاً المسلم الذي يكون متقيّداً بالأحكام الشرعية ، بل لايبعد أن يقال بشمول الرواية لما إذا استفاد المستأجر المنفعة المحرّمة ولو لم يكن المؤجر عالماً به ، بل ولا محتملاً له أصلاً ; لأنّ إجارة البيت ـ الواقعة في الرواية ـ مطلقة ، ومبايعة الخمر فيه أمر متفرّع عليه خارجاً ، وهو يصدق مع عدم العلم ، بل ومع عدم الاحتمال أيضاً ، فتدبّر . هذا تمام الكلام في اعتبار إباحة المنفعة .
الثاني : من الاُمور المعتبرة في المنفعة أن تكون متموّلة يبذل بإزائها المال عند العقلاء ، والوجه فيه أنّ الإجارة من المعاوضات المالية عندهم ، وقد مرّ أنّ الشارع لم يتصرّف في حقيقة الإجارة،بل غاية الأمرأنّه اعتبر بعض الخصوصيّات غير المرعيّة
(1) راجع رياض المسائل : 6 / 33 ـ 34 ، والحدائق الناضرة : 21 / 552 .
(2) راجع الخلاف : 3 / 508 مسألة 37 ، وغنية النزوع : 285 .
(الصفحة51)
لدى العقلاء(1) ، فلابدّ أن تكون المنفعة متموّلة لئلاّ يكون بذل المال بإزائها سفهاً.
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
استئجار الدرهم والدينار
قد تعرّض في الشرائع(2) بعد اعتبار إباحة المنفعة في صحّة الإجارة لحكم استئجار الحائط المزوّق للتنزّه بالنظر إليه ، وتردّد في الحكم بالجواز والعدم بعدما حكى الأوّل ونسبه إلى قائل غير معلوم ، وهذا يشعر بل يدلّ على كون هذا من فروع اعتبار إباحة المنفعة ، مع أنّه ليس الأمر كذلك ، فإنّ التنزّه الحاصل بمجرّد النظر لا يكون فيه شبهة الحرمة ; لأنّه من قبيل الاستظلال بالحائط بدون إذن مالكه ، بل الشبهة على تقديرها إنّما هي مع عدم الإذن ، والمفروض الاستئجار الملازم لثبوت الإذن ، والحقّ أنّ هذه المسألة نظير استئجار الدينار والدرهم للتزيين وأشباهها ، وكان ينبغي على صاحب الشرائع ذكرها في طيّ نظيرها .
وكيف كان ، فقد ذهب المشهور إلى جواز استئجار الدينار والدرهم(3)، وحكيت المخالفة لهم صريحاً عن ابن إدريس(4) ، وعن جماعة آخرين التردّد في الجواز وعدمه(5) ، وما يستفاد من الكلمات في وجه المنع أمران :
(1) مرّ في ص11 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 186 .
(3) الخلاف : 3 / 510 مسألة 41 ، المبسوط : 3 / 250 ، شرائع الإسلام : 2 / 185 ، تذكرة الفقهاء : 2/294 ، إرشاد الأذهان : 1 / 423 ، جامع المقاصد : 7 / 127 ، مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 22 .
(4) السرائر : 2 / 479 .
(5) كالعلاّمة في قواعد الأحكام : 2 / 287 ، ونسب في الحدائق الناضرة : 21 / 609 الترديد إلى الشرائع والمختلف : 6 / 127 مسألة 27 .
(الصفحة52)
أحدهما : عدم ثبوت أصل المنفعة ، ولأجله لا يصحّ وقفهما .
ثانيهما : عدم كون منفعتهما متموّلة ، ولأجله لا تضمن بغصبهما .
أمّا الأمر الأوّل: فقد أجاب عنه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بما ملخّصه : إنّ المنافع على قسمين : مقصودة وغير مقصودة ، والمراد بالاُولى هي المنافع المترقّبة من الأعيان كلّ عين بحسبها ، وهي المصحّحة لماليّة الأعيان ، بحيث لولاها لم تكن العين ذات مالية ، وبالثانية هي المنافع الجزئية التي لا تناط مالية العين بوجودها ، كالشمّ في التفّاح مع كون منفعته المقصودة هي الأكل ، وحينئذ فمراد المانع من عدم ثبوت المنفعة إن كان عدم المنفعة رأساً فهو خلاف الواقع وخلاف المفروض ، إذ الكلام فيما لو استأجر لمنفعة من المنافع كالتزيين وإن كان عدم المنفعة المقصودة فهو حقّ ، إلاّ أنّه لا دليل على اعتبار المنفعة المقصودة في باب الإجارة ، وإن كانت معتبرة في باب البيع الذي هو مبادلة مال بمال ; لأنّ الإجارة عبارة عن تمليك المنفعة ، وهي مطلقة غير مقيّدة بما تكون مصحّحة لماليّة العين ، فإنّه ربّما تكون المنفعة مع عدم كونها مقصودة للعقلاء يتعلّق بها غرض عقلائي يخرج المعاملة عن السفاهة .
ولذا ورد أنّ الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ كانوا أحياناً يستقرضون إظهاراً للغنى(1)، بل ربما يبعثون به إلى عمّال الصدقات إظهاراً لكونه زكاة أموالهم(2) .
وأمّا عدم صحّة الوقف بلحاظ هذه المنافع غير المقصودة فغير مسلّم ، بل السيرة العملية من صدر الإسلام إلى يومنا هذا على وقف بعض الأعيان لمجرّد التزيين ، فهذا ثوب الكعبة فإنّه لمجرّد التزيين لا أنّه وقاية
(1 ، 2) راجع وسائل الشيعة : 5 / 9 ، كتاب الصلاة ، أبواب أحكام الملابس ب3 .
(الصفحة53)
لها عن الحرّ والبرد ، وهذه القناديل المصوغة من الذهب والفضّة المعلّقة في المشاهد المشرّفة ليست إلاّ للتزيين، مع أنّ منافعها المترقّبة منها هي الإسراج والإضاءة ، وأمّا ما يقال بالنقض بإجارة الحرّ واُمّ الولد مع أنّه لا يصحّ وقفهما فلا ملازمة بين الوقف والإجارة ، فهي غفلة عن وجه الاستدلال، فإنّ الملازمة باعتبار وجود المنفعة وعدمها ، لا دعوى الملازمة الكلّية حتّى ينتقض بهما ، ويؤيّد ما ذكرناه من كفاية مطلق المنفعة في الإجارة كفايتها في العارية بلا خلاف ظاهراً ، وقد ادّعي أنّ كلّ ما تصحّ إعارته تصحّ إجارته(1) ، انتهى ملخّصاً .
وأمّا الأمر الثاني: فقد أجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره) بعد منع الملازمة بين عدم الضمان وعدم كونها متموّلة مستشهداً له بمنافع الحرّ ، حيث إنّها لا تضمن بالفوات تحت يد الغاصب مع جواز استئجاره بمنع عدم كونها متموّلة ; نظراً إلى أنّه لا يكون معنى لمالية الشيء إلاّ كونه بحيث يبذل في مقابله المال ، وأمّا كون ذلك متعارفاً بين الناس قبل البذل فلا ، قال : وإن شئت قلت : إنّ المالية على قسمين: مالية جعلية تتحقّق باقتراح من يبذل في مقابله مالاً لحاجة عقلائية ، ومالية منجعلة متحقّقة متعارفة بين الناس قبل اقتراح المقترح ، وصحّة المعاملة بيعاً أو إجارةً أو نحوهما إنّما تتوقّف على أحدهما من غير فرق . نعم ، فرق بينهما في الضمان ، فإنّ الأوّل لا يضمن بخلاف الثاني(2) انتهى .
وأورد على هذا الجواب المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بما يرجع إلى أنّ الاعتبارات العقلائية لا معنى لإناطتها باعتبار شخص لمسيس حاجته إلى
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 192 ـ 194 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 266 .
(الصفحة54)
بذل المال بإزائه ، فلا معنى لتقسيمها إلى قسمين : جعلية ومنجعلة .
ثمّ أجاب نفسه عن الدليل تارةً بمنع الكبرى ، وأنّ حقيقة الإجارة لغةً وعرفاً وشرعاً تمليك المنفعة من دون تقيّد بكونها مقصودة ولا كونها متموّلة ، والإجارة تغاير البيع من هذه الجهة ، فإنّ الغرض في البيع ينحصر بإقامة مال مقام مال ، وفي الإجارة ربّما يكون المصحّح للبذل تحصيل غرض عقلائيّ بالانتفاع بالعين، كما أنّه لا ملازمة بين صحّة الإجارة لهذا الغرض وضمان المنفعة ، حتّى يستكشف من عدم الضمان عدم المالية ، فيحكم بعدم صحّة الإجارة ، فإنّ الضمان عند حصول موجبه ; من يد واستيفاء وإتلاف وإن كان منوطاً بمالية المضمون إلاّ أنّ دعوى أنّ ما لا ضمان له لعدم كونه مالاً لا تصحّ إجارة مثله دعوى بلا بيّنة من لغة أو عرف أو شرع ، والمراد من الملازمة بين الضمان والمالية وعدمه وعدمها هي الملازمة مع تحقّق موجبات الضمان ; من يد أو استيفاء أو إتلاف ، فالنقض بعمل الحرّ غير وارد ; لأنّ عدم ضمانه ليس من ناحية عدم المالية ، بل من ناحية عدم موجب الضمان .
واُخرى بأنّ المنافع المقصودة حيث إنّها من لوازم وجود العين نوعاً ، فهي مقدّرة الوجود دائماً بتبع وجود العين تحقيقاً ، فهي مصحّحة لمالية العين بقول مطلق ، وأمّا المنافع غير المقصودة فانّها مقدّرة الوجود أحياناً عند مسيس الحاجة إليه ، فهي مال في فرض خاصّ لا بقول مطلق ، والشاهد عليه أنّها مقوّمة عند العرف وبلحاظه يدخل فيها الغبن ، وهذه القيمة ليست بالاقتراح كما في بذل المال بإزاء الخلع ، فإنّه تابع لاقتراح الزوج ، من دون أن يكون له في ا لعرف والعادة ملاك وميزان(1) ، انتهى
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 194 ـ 195 .
(الصفحة55)
ملخّص موضع الحاجة من كلامه زِيدَ في علوِّ مقامه .
ثمّ إنّ هذا كلّه بناءً على مسلك المشهور في باب الإجارة(1) ، حيث إنّ حقيقتها عندهم عبارة عن تمليك المنفعة في إجارة الأعيان ، وأمّا بناءً على ما اخترناه سابقاً(2) من أنّ حقيقتها ترجع إلى نقل حقّ الانتفاع الثابت للمؤجر إلى المستأجر ، فعدم صحّة الأمرين اللذين استند إليهما المانع واضح لا ارتياب فيه أصلاً ، كما هو أوضح من أن يخفى . [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
الثالث(3) : أنّه إذا كانت للعين منافع متعدّدة ، فإن كان الغرض متعلّقاً بواحدة منها فلابدّ من تعيينها ، فلو استأجر الدابّة لمنفعة خاصة من الحمل أو الركوب ، أو إدارة الرحى ونحوها لابدّ من التعيين في العقد لاختلاف الأغراض والرغبات والمالية باختلاف المنفعة ; لئلاّ يتحقّق الغرر الناشئ عن الجهل ، وإن كان الغرض متعلّقاً بالجميع فلا يلزم التعيين . نعم ، في صحّة الإجارة في هذا الفرض مع ثبوت التضادّ بين المنافع كلام يأتي تفصيله في حكم الأجير الخاصّ إن شاء الله تعالى .
الرابع : أن تكون المنفعة معلومة ، إمّا بتقديرها بالزمان المعلوم كسكنى الدار شهراً ، أو الخياطة أو التعمير والبناء يوماً ، وإمّا بتقدير العمل كخياطة الثوب المعيّن خياطة كذائية فارسية أو رومية ، من غير تعرّض للزمان إن لم يكن دخيلاً في الرغبات ، وإلاّ فلابدّ من تعيين منتهاه .
والدليل على اعتبار المعلومية التي يكون المراد بها هو العلم المقابل للجهل نفي
(1 ، 2) تقدّم في ص 8 ـ 10 .
(3) أي من الاُمور المعتبرة في المنفعة.
(الصفحة56)
الخلاف ، بل الإجماع بقسميه كما في الجواهر(1) ، وحديث الغرر(2) ، وبعض الروايات الخاصّة ، مثل رواية أبي الربيع الشامي الواردة في الجواب عن سؤال الأرض ، يريد الرجل أن يتقبّلها فأيّ وجوه القبالة أحلّ ؟ حيث قال (عليه السلام) : يتقبل الأرض من أربابها بشيء معلوم إلى سنين مسمّـاة ، فيعمر ويؤدّي الخراج ، فإن كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالته فإنّ ذلك لايحلّ(3). مضافاً إلى بناء العقلاء الذين هم الأساس في باب المعاملات ، فإنّهم لايقدمون على بذل الأُجرة بإزاء منفعة مجهولة غير معلومة . وقد مرّ الكلام في هذه الوجوه عدا الرواية في بحث اعتبار معلومية العين المستأجرة .
وأمّا الرواية ، فدلالتها على اعتبار المعلومية التي هي مراد المشهور(4) ممنوعة ; لأنّ غاية مفادها اعتبار العلم مقابل الجهل المطلق ، مع أنّ التعبير في السؤال بقوله : «أحلّ» ظاهر في عدم كون سائر الوجوه محرّمة إلاّ أن يكون بصيغة الماضي المبني للمفعول ، أو يقال بعدم كون المراد جهة الفضيلة ، كما في غير واحد من الموارد التي استعملت فيها صيغة أفعل التفضيل .
وبالجملة : رفع اليد عمّا هو الشائع بينهم فتوىً وعملاً مشكل جدّاً ، بل قيل : إنّ العامّة الذين اكتفوا بالمشاهدة في البيع وافقوا هنا على وجوب العلم بقدر المنفعة(5) ، وان كانت هذه المقايسة في غير محلّها ، ضرورة أنّ الغرض في باب البيع تعلّق بنفس
(1) جواهر الكلام : 27 / 260 .
(2) تقدّم في ص22 .
(3) التهذيب : 7 / 201 ح887 ، وسائل الشيعة : 19 / 60 ، كتاب المزارعة والمساقاة ب18 ح5 .
(4) غنية النزوع : 285 ، شرائع الإسلام : 2 / 182 ، قواعد الأحكام : 2 / 291 ، رياض المسائل : 6/27 .
(5) مفتاح الكرامة : 7 / 171 ، راجع المجموع للنووي : 15 / 333 ـ 334 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 5 و8 ، والبحر الرائق لابن نجيم : 7 / 507 ـ 508 ، وأسهل المدارك للكشناوي : 2 / 117 .
(الصفحة57)
العين ، فيمكن أن يكتفى فيها بالمشاهدة ، وهذا بخلاف المقام فإنّ متعلّق الغرض إنّما هي المنفعة التي ليست بموجودة في الخارج بتمامها ، بل توجد جزء فجزء ، فلا معنى للاكتفاء بالمشاهدة فيها . هذا بالنظر إلى الكبرى .
وأمّا بلحاظ الصغرى ، فلابدّ من التنبيه فيه على أمر ; وهو أنّ البحث في الموضوعات غير المستنبطة ليس من وظيفة الفقيه ، بل اللاّزم فيها الإرجاع إلى نظر العرف بنحو الإجمال ، بل ربما يكون نظر الفقيه مخالفاً لنظر العرف ، ويكون إظهاره موجباً للإغراء بالجهل ، وعليه فاللاّزم في المقام أن يقال : بأنّه تعتبر معلومية المنفعة من كلّ جهة له مدخلية في اختلاف القيمة والرغبة ، ومن المعلوم أنّ معلومية كلّ شيء بحسبه ، فربما تكون بتقدير المدّة ، واُخرى بتقدير العمل ، وثالثة بهما ، ورابعة بالمرّة والمرّات ، وخامسة بغيرها من الطرق الاُخر ، فإنّه لا ينحصر فيما ذكره الأصحاب ، كما أنّ ما يكون العلم فيه بتقدير المدّة مثلاً ، كسكنى الدار يكون هذا التقدير فيه رافعاً للجهالة من جهة .
وأمّا من الجهات الاُخر فلابدّ أيضاً من أن تكون معلومة من تلك الجهات بالوصف أو غيره ، فإنّه في مثل الدار التي تستأجر للسكنى ، كما أنّه لابدّ من أن تكون نفس الدار معلومة بالمشاهدة أو الوصف ، وأن تكون المدّة مقدّرة بالشهر والشهرين أو أزيد مثلاً ، كذلك لابدّ من معلومية عدد أفراد الساكنين قلّة وكثرة ، ومن معلومية كون الغرض هو سكنى نفسه ومن يتعلّق به ، أو كون الغرض إسكان الغير وجعل الدار فندقاً أو مدرسة مثلاً ، فإنّه يختلف الأغراض بذلك جدّاً ، وبسببها يتحقّق الاختلاف في القيمة اختلافاً فاحشاً .
ولأجل ذلك لامحيص عمّا ذكرنا من الإرجاع إلى العرف وعدم التعرّض لبيان الطرق الرافعة للجهالة وتعيين الموارد لها ، فإنّه كما عرفت ربما يكون موجباً للإغراء
(الصفحة58)
بالجهل ألا ترى أنّهم اكتفوا في مقام بيان معلومية المنفعة في مثل الدار المستأجرة للسكنى بتقدير المدّة فقط ، مع أنّك عرفت في المثال أنّه لايرتفع به إلاّ الجهالة من جهة واحدة فقط ، وحينئذ فربما يتخيّل أنّ تقدير المدّة فيه كاف في رفع الجهالة وانتفاء الغرر ، نظراً إلى عدم تعرّض الأصحاب لغيره ، مع أنّه من الواضح أنّه لايكون هذا المعنى مراداً لهم أصلاً ، فالأولى التجنّب عن ذلك والإحالة إلى أهله .
ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّ الأسوء من التعرّض لبيان الصغريات جعل الضابط لها في بعض المقامات كما في المقام ، حيث حكي عن بعضهم(1) أنّه ذكر في مقام بيان الضابط أنّ المنفعة إذا كانت غير العمل ، كالسكنى ونحوه يكون تقديره بتقدير الزمان خاصة ، وإذا كانت عملاً صحّ تقديره بالمحل أو بالزمان أو بهما معاً ، مضافاً إلى ما أورد عليه من النقض بالإرضاع نظراً إلى أنّه عمل ، ولا يمكن تقديره إلاّ بالزمان والنقض بضراب الفحل أيضاً ، فإنّه لايجوز تقديره بالزمان إلاّ في ضراب الماشية ، بل لابدّ من تقديره بالعدد(2) .
كما أنّ ما أفاده في «العروة»من لزوم تعيين الزمان أيضاً في مثل خياطة الثوب من الإجارة على الأعمال ، كأن يقول : إلى يوم الجمعة(3) ، لايكاد يساعد عليه الدليل بنحو الإطلاق ; لعدم مدخليّة الزمان غالباً فيما هو الغرض من الإجارة في مثل الخياطة ، مضافاً إلى أنّه لو كان التقدير بالزمان أيضاً شرطاً في صحّة هذا القسم من الإجارة كيف يمكن الحكم بالصحّة مع الإطلاق ، كما ذكره بعد ذلك بقوله : وإن أطلق اقتضى التعجيل على الوجه العرفي(4) ، فإنّ لازم ما أفاده أوّلاً
(1) راجع السرائر : 2/457، وتحرير الأحكام: 3/85، وجامع المقاصد: 7/157، والحدائق الناضرة : 21/550 .
(2) الحاكي هو المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 210.
(3) العروة الوثقى : 5 / 14 ـ 15 مسألة 5 .
(4) العروة الوثقى : 5 / 15 مسألة 5 .
(الصفحة59)
الحكم بالبطلان مع الإطلاق وعدم التقدير بالزمان كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه لو قدَّر العمل والمدّة في الإجارة على الأعمال ، فتارة يكون على نحو الظرفية ; بأن كان الغرض متعلّقاً بوقوع ذاك العمل في ذاك الزمان ، من دون ملاحظة التطبيق بينهما أوّلاً أو آخراً أو كليهما ، وأُخرى يكون على نعت التطبيق بنحو من أنحائه الثلاثة . وعلى كلا التقديرين ، تارة يكون الزمان مأخوذ بنحو التقييد واُخرى يؤخذ بنحو الاشتراط ، الذي هو التزام في التزام آخر . وعلى كلّ من التقادير إمّا أن يعلم بسعة الزمان للعمل ، أو إمكان التطبيق بينهما ، وإمّا أن يعلم الخلاف ، وإمّا أن يكون مجهولاً .
وقد أفاد صاحب الجواهر (قدس سره) أنّه لاريب في الصحّة مع العلم بسعة المدّة أو إمكان التطبيق ، كما لاريب في الفساد مع العلم بالقصور ، أو عدم الإمكان للعجز عن العمل المفروض ، قال : والأقوى الصحّة في صورة الشكّ ; لأنّ المسلّم خروجه من عموم الأدلّة معلوم العجز ، خصوصاً فيما كان من قبيل الشرط(1) .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ تعليل الفساد في صورة العلم بالقصور بالعجز عن العمل ليس على ماينبغي ; لأنّه مع العلم بالقصور لايكاد يتحقّق القصد من المتعاقدين ، ضرورة أنّه كيف يتمشّى قصد إنشاء الإجارة ممّن يعلم بعجزه عن الإتيان بمتعلّقها ، وهذا نظير بعث العاجز في باب التكاليف ، فإنّه كيف يمكن صدور البعث الحقيقي ممّن يعلم بأنّ المبعوث غير قادر على المبعوث إليه ، مع أنّ مجرّد العجز الواقعي حال الإجارة لم يقم دليل على اعتبار عدمه فيها ، فإنّه إذا تحقّق منه الإنشاء في حال الغفلة عن عجزه ، ثمّ زال العجز وتمكّن في ظرف العمل لم يدلّ دليل على بطلان هذه الإجارة ـ : أنّ التمسّك بعموم الأدلّة في صورة الشكّ من قبيل
(1) جواهر الكلام : 27 / 261 ـ 262 .
(الصفحة60)
التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، وهو غير جائز على ماهو التحقيق ، إلاّ أن يقال : إنّ عنوان العلم مأخوذ في المخصّص ، ولكنّه ليس كذلك ; لأنّ العنوان المأخوذ فيه هو العجز لامعلومه .
والتحقيق في هذا المقام ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) وإن كان مورد كلامه خصوص صورة التطبيق على المدّة ابتداءً وانتهاءً ، إلاّ أنّ الحكم لا يختصّ بهذه الصورة بل يجري في جميع الصور ، وملخّص ما أفاده أنّه مع تعلّق غرض عقلائيّ بالتطبيق لا إشكال في صحّته مع العلم بإمكانه ، وفي بطلانه مع العلم بعدمه ، وأمّا صورة الشكّ ، فإن كان التطبيق ملحوظاً قيداً للخياطة فالعمل الخاصّ لم يحرز إمكان حصوله فهو غرريّ ، وان كان بنحو الاشتراط فالشرط غرريّ ، وتبتني الصحّة والفساد على سراية الغرر من الشرط إلى المشروط وعدمها ، والمستفاد من نهي النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر(1) إن كان خصوص ما إذا كان البيع أو الإجارة غررياً فلا خفاء في أنّ غررية البيع والإجارة بما هما بيع وإجارة لاتكون إلاّ بملاحظة الخطر في أحد العوضين ، ومع عدم التقييد كما هو المفروض لا خطر فيهما ، فلا معنى للسراية وإن كان حرمة الإقدام المعاملي البيعي الغرري فلا تبعد دعوى السراية ، لأنّ الإقدام المعاملي مشتمل على الخطر(2) .
أقول : والظاهر أنّ المستفاد منه عرفاً هو الاحتمال الثاني ، وعليه فلا فرق بين صورتي التقييد والاشتراط من حيث الحكم بالبطلان .
***
[قال المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني]:
اعتبار مملوكية المنفعة; وهو الشرط الثاني من شروط العوضين
(1) تقدّم في ص22.
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 128 ـ 129 .
|