(الصفحة101)
الشرط الأوّل إنّما هو من قبيل شرط النتيجة لا شرط الفعل .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ المفروض في كلام المحقّق في الصورتين إنّما هو ما إذا كانت الإجارة واحدة . غاية الأمر اشتمالها على شرطين ، وكون الشرط الثاني متفرّعاً على الشرط الأوّل وتابعاً له .
وقد انقدح من بيان الخصوصيات المفروضة في كلامه (قدس سره) أنّه يمكن هنا تصوير صور اُخرى كثيرة فاقدة لشيء من تلك الخصوصيات ، أو لأكثرها ، أو لجميعها ، مثل ما إذا كان الزمان المعيّن مأخوذاً على نحو التقييد ، أو كون المشروط بالشرط الثاني الإسقاط الذي هو فعل ، أو عدم الثبوت من رأس دون السقوط الذي هو فرع الثبوت ، أو كون الإجارة متعدّدة بنحو الترتيب أوالتخيير أوغيرها من الفروض المتصوّرة الاُخرى.
وكيف كان ، فلابدّ فعلاً من البحث في الفرعين اللّذين تعرّض لهما المحقّق وسائر الأصحاب ، تبعاً للرواية الواردة في هذا المقام، التي سيأتي التعرّض لها ، فنقول :
أمّا الفرع الأوّل : فالمشهور(1) فيه على الصحّة والجواز ، بل المحكي عن إيضاح النافع أنّه الذي عليه الفتوى(2) ، وخالفهم في ذلك ابن إدريس(3)والعلاّمة في المختلف(4) وولده في شرح الإرشاد(5) والمحقّق والشهيد
(1) النهاية : 448 ، المهذّب : 1 / 487 ، قواعد الأحكام : 2 / 284 ، التنقيح الرائع : 2 / 263ـ264 ، رياض المسائل : 6/24 ، وادّعى الشهرة في غاية المرام : 2 / 317 وجواهر الكلام : 27 / 229 .
(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 108 .
(3) السرائر : 2 / 469 .
(4) مختلف الشيعة : 6 / 118 مسألة 16 .
(5) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 7 / 110 .
(الصفحة102)
الثانيان(1) ، فحكموا بالبطلان ، وإن اختلفوا من جهة كون الموضوع لهذا الحكم هل هو الشرط فقط ، كما حكي عن الأوّل ، أو هو مع العقد ، كما حكي عن الباقين ؟ ولابدّ لنا أوّلاً من التكلّم فيما تقتضيه القاعدة ثمّ البحث في الرواية .
فنقول : بعد بيان أنّ محطّ النظر في بيان مقتضى القاعدة ليس خصوص هذا الفرع الذي عنونه الأصحاب في كتبهم ، بل مطلق موارد اشتراط نقص الاُجرة ، ولو لم يكن لأجل التخلّف عن الزمان المعيّن ، بل لأجل اُمور اُخر ، وبعد بيان أنّ محلّ النزاع هي الصورة التي كانت صحّة الإجارة ـ مع قطع النظر عن هذا الشرط ـ مفروغاً عنها ، وعليه فبعض صور أخذ الزمان بنحو التقييد ووحدة المطلوب الذي تكون الإجارة فيه باطلة ، خارج عمّا هو محلّ الكلام هنا ، بل يمكن أن يقال بخروج جميع صور أخذ الزمان كذلك ، أي بنحو القيدية ; لأنّ اشتراط النقص على فرض التخلّف مرجعه إلى عدم كون الزمان مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب ، وإلاّ فمع تعلّق الغرض بالعمل الخاصّ مكاناً وزماناً لا يبقى مجال لجعل اُجرة ولو ناقصة بإزاء العمل الواقع في غير ذلك الزمان ، فاشتراط النقص يساوق كون الزمان مأخوذاً بنحو الاشتراط لا التقييد .
نعم ، لا يختصّ محلّ النزاع بما إذا لم يكن للمشترط خيار في عقد الإجارة ، كما لايخفى .
وكيف كان ، فقد يقال في المقام : بأنّ مقتضى القاعدة هي البطلان وعدم الصحّة ، والذي قيل في وجهه أو يمكن أن يقال اُمور :
(1) جامع المقاصد : 7 / 107 ، مسالك الأفهام : 5 / 181 ، الروضة البهية : 4 / 335 ـ 336 .
(الصفحة103)
أحدها : الغرر الذي ينشأ من الجهالة ; لأنّه لم يعلم الوصول في ذلك الزمان المعيّن حتّى يستحقّ تمام الاُجرة ، أو في غيره حتّى لا يستحقّ إلاّ البعض ، وهذا غرر يوجب بطلان الإجارة أيضاً لسراية الجهالة إليها ، وفي الحقيقة تكون الاُجرة غير معلومة .
ويرد عليه : مضافاً إلى عدم الدليل على قدح الغرر في الإجارة كما عرفت(1) ، منع تحقّق الغرر فيها ; لأنّ المفروض عدم كون الصورتين مورداً للإجارة ، بل مورد الإجارة هو نفس العمل والاُجرة بإزائها . غاية الأمر أنّه اشترط فيها زمان معيّن ، ووقع في ضمنه اشتراط النقص على فرض التخلّف عنه ، فمورد الإجارة هي نفس العمل ، والاُجرة الواقعة بإزائها معلومة وهي الاُجرة الكاملة ، واشتراط النقص لايرجع إلى عدم الثبوت ، بل هو متفرّع عليه وملحوظ بعد تحقّقه ، فلا جهالة فيها أصلاً . ومن هنا ظهر أنّ تنظير المقام بمسألة البيع بثمنين نقداً ونسيئة في غير محلّه ; لعدم كون صورة عدم الإيصال مورداً للإجارة ، بل صورة الإيصال أيضاً ; لأنّ موردها هو نفس العمل المعلوم ، الذي وقع بإزائه اُجرة معلومة كما لايخفى .
ثانيها : الإبهام وعدم التعيين ; نظراً إلى أنّ الاُجرة مردّدة بين التامّة والناقصة ، فيكون كبيع الدار مثلاً بأحد هذين العبدين .
والجواب عنه يظهر ممّا تقدّم من أنّ الاُجرة لا تكون مردّدة بينهما أصلاً ، بل هي الاُجرة التامّة الواقعة بإزاء نفس العمل ، غاية الأمر أنّه اشترط نقصها بمقدار معيّن في فرض التخلّف عن الزمان المعيّن
(1) في ص23 .
(الصفحة104)
المشروط ، وهذا لا يوجب الترديد في أصل الاُجرة ، فالتنظير بمثال البيع المذكور في غير محلّه أيضاً .
ثالثها : التعليق نظراً إلى أنّ النقص المشترط إنّما هو معلّق على عدم الوصول ، وهو أمر غير معلوم الحصول ، والتعليق في مثله باطل .
ويرد عليه : أنّ التعليق القادح على تقدير تسليمه إنّما هو فيما إذا كان إنشاء المعاملة وإيقاعها معلّقاً على أمر موصوف بالوصف المذكور ، وهنا الإنشاء لا يكون معلّقاً بوجه ، والتعليق في الشرط لم يقم دليل على كونه مبطلاً له فضلاً عن كونه موجباً لبطلان الإجارة أيضاً ، بل ظاهرهم أنّ الحكم بالصحّة في مسألة اشتراط الخيار معلّقاً بردّ الثمن إنّما هو على وفق القاعدة(1) .
رابعها : كون هذا الشرط مخالفاً لمقتضى العقد ، نظراً إلى أنّ العقد يقتضي الاُجرة التامّة ، والشرط يخالفه في ذلك .
ويرد عليه : ما عرفت من أنّ محلّ البحث إنّما هو اشتراط السقوط ، الذي هو فرع الثبوت ، فهذا الشرط مضافاً إلى أنّه لا يكون مخالفاً لما يقتضيه العقد ربما يكون مؤكّداً له ، كما لا يخفى .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه لم يثبت اقتضاء القاعدة للبطلان ، بل مقتضى عموم دليل الشرط(2) صحّة هذا الاشتراط في المقام ، بناءً على كون العموم مسوقاً لإفادة الصحّة واللزوم معاً ، وأمّا بناءً على إفادته لمجرّد اللزوم في الشرط الذي كانت صحّته مفروغاً عنها بدليل آخر ، فلابدّ من
(1) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 125 ـ 131 .
(2) وسائل الشيعة : 18 / 16 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب6 ، مستدرك الوسائل : 13 / 300 ، كتاب التجارة، أبواب الخيار ب5 .
(الصفحة105)
إقامة الدليل على صحّة هذا الاشتراط في المقام ، وحينئذ نحتاج إلى التمسّك بالرواية لأجل ذلك ، فتأمّل جيّداً .
نعم ، ربما يقال مع قطع النظر عن الرواية بأنّه لا مجال للتمسّك بعموم دليل الشرط لإثبات المشروعية في المقام ، ولو قيل بكون الدليل مسوقاً لإفادة المشروعية واللزوم معاً ، وذلك لأجل الاستثناء الواقع فيه ; وهو استثناء الشرط المخالف لكتاب الله ، نظراً إلى أنّه لم يحرز عدم كون هذا الشرط مخالفاً لكتاب الله ; لأنّه وإن لم يكن المراد بالمستثنى هي المكتوبات في اللّوح المحفوظ ، وإن لم تكن مبيّنة في الكتاب والسنّة ، إلاّ أنّه ليس المراد به أيضاً خصوص ما صار مبيّناً ووصل إلينا ، بل الظاهر أنّ المراد به الوسط بين الأمرين; يعني ما وقع مبيّناً ، سواء كان واصلاً إلينا ، أو غير واصل لأجل الموانع الطارئة ، وعليه فيحتمل أن يكون الشرط في المقام مخالفاً لكتاب الله المبيّن غير الواصل إلينا ، إلاّ أن يتشبّث لإحراز عدم المخالفة بالاستصحاب ، الذي قد تقدّم البحث عنه مفصّلاً .
وبالجملة : مع قطع النظر عن الرواية لا سبيل إلى إحراز كون الشرط في المقام واجداً للشرط وهو عدم المخالفة ، بل يمكن أن يقال بأنّه مخالف لكتاب الله ; نظراً إلى أنّ مقتضى كتاب الله ـ الدالّ على لزوم الوفاء بمقتضى الإجارة ـ وجوب أداء الاُجرة الكاملة وتسليمها إلى الأجير ، واشتراط النقص ينافي ذلك ; لأنّ مقتضاه عدم وجوب تسليم تلك الاُجرة وكفاية أداء الناقصة ، إلاّ أن يكون مرجع اشتراط سقوط بعض الاُجرة إلى اشتراط عدم ثبوته من الأوّل ، الراجع إلى قصور المقتضي فإنّه حينئذ لا يكون مخالفاً للكتاب ; لأنّ وجوب تسليم الاُجرة التامّة إنّما يتفرّع على
(الصفحة106)
تماميّة المقتضي ، والمفروض أنّ الشرط صار مانعاً عن اقتضائه . هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام .
ويرد على الأمر الأوّل : أنّ الظاهر كما عرفت سابقاً أنّ المراد بكتاب الله هو كتاب الله الواصل ، ولو بقرينة فهم الأصحاب ; لأنّه بدونه لا يبقى مجال للتمسّك بعموم دليل الشرط في الموارد المشكوكة ، كما هو غير خفيّ .
وعلى الأمر الثاني: منع كون اشتراط النقص مخالفاً لكتاب الله; لأنّ وجوب تسليم الاُجرة الكاملة في صورة اشتراط النقص ممنوع .
ودعوى أنّ المراد بكتاب الله هو ما كان مكتوباً له تعالى مع قطع النظر عن الاشتراط ـ ومن الواضح أنّ الحكم في المقام مع قطع النظر عنه هو وجوب تسليم الاُجرة الكاملة ، فالشرط مخالف لكتاب الله ـ مدفوعة بأنّه يعتبر أن يكون الحكم شاملاً لصورة الاشتراط أيضاً ، ولو بالإطلاق ، وإلاّ فمع عدم الدليل على ثبوت الحكم ولو بالإطلاق في صورة الاشتراط لا مجال لدعوى كون الشرط مخالفاً للكتاب .
ثمّ لو سلّم ذلك ، فدعوى الفرق بين هذه الصورة ، وبين ما إذا كان الشرط راجعاً إلى عدم الثبوت ، وقصور المقتضي بالقول بأنّ الأوّل مخالف للكتاب دون الثاني ، غير مسموعة ; إذ كما أنّ اشتراط نقص الاُجرة يخالف مع ما يدلّ على وجوب تسليم الاُجرة الكاملة ، كذلك اشتراط قصور المقتضي وعدم الثبوت ينافي مع ما يدلّ على أنّ عقد الإجارة يقتضي النقل والانتقال في تمام العوضين ولو بنحو العموم ، إذ لا فرق بين الصورتين من هذه الجهة أصلاً ، والتحقيق ما عرفت من عدم كون شيء منهما مخالفاً للكتاب بوجه ، هذا كلّه فيما يتعلّق بمقتضى القاعدة .
(الصفحة107)
وأمّا الرواية، فهي ما رواه المشائخ الثلاثة عن منصور بن يونس ، عن محمّد الحلبي قال : كنت قاعداً إلى قاض وعنده أبو جعفر (عليه السلام) جالس ، فجاءه رجلان ، فقال أحدهما : إنّي تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن ، فاشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا ; لأنّها سوق أخاف أن يفوتني ، فإن احتبست عن ذلك حططت من الكراء لكلّ يوم احتبسته كذا وكذا ، وأنّه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوماً ، فقال القاضي : هذا شرط فاسد وفّه كراه ، فلمّا قام الرجل أقبل إليَّ أبو جعفر (عليه السلام)فقال : شرطه هذا جائز ما لم يحطّ بجميع كراه(1) .
والكلام في هذه الرواية تارةً من حيث السند واُخرى من جهة المتن ، أمّا من حيث السند ، فقد وقع الإشكال والخلاف في منصور بن يونس ، الذي يقال له بُزُرج ، ومنشأ الإشكال ما قاله النجاشي(2) في حقّه : من أنّه ثقة ، وما رواه الكشي عن حمدويه قال : حدّثنا الحسن بن موسى قال : حدّثني محمّد بن الأصبغ ، عن إبراهيم ، عن عثمان بن القاسم قال : قال لي منصور بزرج : قال لي أبو الحسن (عليه السلام)ودخلت عليه يوماً : يا منصور أما علمت ما أحدثت في يومي هذا ؟ قال : قلت : لا ، قال : قد صيّرت عليّاً ابني وصيّي ، والخلف من بعدي ، فادخل عليه فهنّئه بذلك وأعلمه أنّي أمرتك بهذا ، قال : فدخلت عليه فهنّأته بذلك وأعلمته أنّ أباه أمرني بذلك ، قال الحسن بن موسى : ثمّ جحد منصور هذا بعد ذلك لأموال كانت في يده
(1) الكافي : 5 / 290 ح5 ، الفقيه : 3 / 22 ح58 ، التهذيب : 7 / 214 ح940 ، وسائل الشيعة : 19/116 ، كتاب الإجارة ب13 ح2 .
(2) رجال النجاشي : 413 رقم 1100 .
(الصفحة108)
فكسرها ، وكان منصور أدرك أبا عبدالله (عليه السلام)(1) ، انتهى .
وقال في الخلاصة : الوجه عندي التوقّف فيما يرويه والردّ لقوله ; لوصف الشيخ (رحمه الله)(2) له بالوقف(3) ، ثمّ ذكر ما رواه الكشّي مع اشتباه في نقل الرواية .
وبالجملة : فقد وقع الخلاف والإشكال في هذا الرجل لما ذكر ، والظاهر أنّ مستند الشيخ (رحمه الله) في الرمي بالوقف هو ما رواه الكشّي ، وعليه فالتعارض في الحقيقة واقع بين قول النجاشي بأنّه ثقة ، وقول الحسن بن موسى بأنّه جحد النصّ على الرضا (عليه السلام) ; لأجل الأموال التي كانت في يده ، الدالّ على كونه واقفاً فاسقاً ; لأنّ هذا الذيل لا يكون جزءاً للرواية بل هو قول الحسن ، والظاهر أنّ قول الحسن لا يبلغ بمرتبة صالحة لأن يعارض قول النجاشي ، الذي ضبطه وسعة اطلاعه في هذا الفنّ غير قابل للإنكار ، خصوصاً مع كثرة رواية ابن أبي عمير عنه ، وكونه من مشايخ محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، ومع وصف العلاّمة في محكي التذكرة هذه الرواية بالصحّة(4) ، ومع وصف الصدوق له بكونه مصاحباً للصادق (عليه السلام)(5) .
نعم ، يقع الإشكال بعد ذلك في أنّ مجرّد ما ذكرنا هل يوجب حصول الاطمئنان بوثاقة الرجل أم لا ؟ والظاهر حصوله كما لا يخفى .
وأمّا من حيث الدلالة فالظاهر أنّ موردها ما إذا استأجر الإبل لحمل
(1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشي» : 468 ـ 469 رقم 893 .
(2) رجال الطوسي : 343 رقم 5119 .
(3) خلاصة الأقوال في معرفة الرجال : 408 رقم 1650 .
(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 294 .
(5) كمال الدين وتمام النعمة : 2 / 516 ح45 .
(الصفحة109)
متاعه إلى الموضع المعيّن وشرط عليه الزمان المعيّن ، وذكر في ضمن هذا الاشتراط أنّه لو احتبس عن ذلك حطّ من الكراء لكلّ يوم كذا وكذا ، والظاهر من اشتراط الحطّ وإن كان هو شرط الفعل الذي هو عبارة عن التنقيص إلاّ أنّ الظاهر كون المراد به هو الحطّ الناشئ عن استحقاق ، ومرجعه إلى سقوط بعض الاُجرة بالتخلّف عن الزمان المعيّن ، وليس المراد به اشتراط عدم الثبوت من الأوّل الراجع إلى قصور المقتضي وعدم تأثير العقد في تمليك تمام الاُجرة كما لا يخفى ، وعليه فالرواية تدلّ على جواز هذا الشرط ما لم يكن محيطاً بجميع الكراء .
نعم ، هنا رواية اُخرى مروية في محكي الدعائم عن الصادق (عليه السلام) ، أنّه سُئل عن الرجل يكتري الدابّة أو السفينة على أن يوصله إلى مكان كذا يوم كذا ، فإن لم يوصله يوم ذلك كان الكراء دون ما عقده ، قال : الكراء على هذا فاسد ، وعلى المكتري أجر مثل حمله(1) .
وحكم في الجواهر(2) بعدم المنافاة بينها وبين الرواية السابقة ، نظراً إلى ظهور هذه في جهالة المسمّى على تقدير عدم الإيصال ، فيتّجه البطلان الموجب لاُجرة المثل . وقد أورد عليه بالمنع ; لأنّه ليس المراد بقوله : «دون ما عنده» أمراً مجهولاً ، بل المراد به هو النقص بالمقدار الذي يحكم به العرف والعقلاء ، وجهالة هذه لا توجب جهالة المسمّى الموجبة للبطلان ، والذي يسهّل الخطب عدم تماميّة سند الرواية ، فلا تصل النوبة إلى الدلالة .
(1) دعائم الإسلام : 2 / 78 ح230 ، مستدرك الوسائل : 14 / 32 ، كتاب الإجارة ب7 ح1 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 232 .
(الصفحة110)
ثمّ إنّ الظاهر عدم اختصاص الحكم المذكور في رواية الحلبي بخصوص موردها ; وهو ما إذا استأجر الدابّة للحمل وشرط عليه كذا وكذا ، بل يعمّ سائر الموارد المشابهة ; وهو مثل ما إذا استأجر شخصاً للحمل ، أي حمل المتاع أو حمل نفسه ، ومثل ما إذا اشترط عليه الحطّ والتنقيص على تقدير أمر آخر غير التخلّف عن الزمان المشترط ، وغير ذلك من الموارد . هذا تمام الكلام في الفرع الأوّل .
وأمّا الفرع الثاني : وهو اشتراط سقوط الاُجرة إن لم يوصله في الزمان المعيّن المشروط ، فيقع الكلام فيه تارةً في جواز هذا النحو من الاشتراط وعدمه ، واُخرى في أنّه على تقدير العدم وبطلان العقد لأجل هذا الشرط هل تثبت اُجرة المثل أم لا ؟ فنقول :
أمّا الكلام في الجواز وعدمه ، فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو الجواز فيما هو محلّ النزاع بحسب ظاهر الكلمات ; وهو ما إذا كان أخذ الزمان المعيّن بنحو الاشتراط وتعدّد المطلوب لا بنحو التقييد ، وإن كان اشتراط سقوط الاُجرة رأساً على تقدير التخلّف عن ذلك الزمان ربّما يكون ملائماً لكون الزمان مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب ، كما لا يخفى .
وكيف كان ، فمحلّ الكلام هو خصوص صورة الاشتراط ، كما أنّ محلّه ما إذا شرط سقوط الاُجرة ، والظاهر من عبارة السقوط أمران : أحدهما : كونه متفرّعاً على الثبوت ، والآخر : كونه من قبيل النتائج دون الأفعال ، وعليه فاشتراط عدم الثبوت من رأس الذي كان مرجعه إلى قصور المقتضي ، وعدم تأثير العقد بالنسبة إلى الاُجرة خارج عمّا هو محلّ الكلام هنا ، كما أنّ اشتراط الإسقاط الذي هو من الأفعال أيضاً كذلك وإن كان الظاهر جواز اشتراط الإسقاط ; لعدم مانع عن صحّته .
(الصفحة111)
نعم ، في اشتراط عدم الثبوت كلام من جهة كون الشرط مخالفاً لمقتضى الإجارة ، حيث إنّ مرجعه إلى استحقاق العمل عليه بعقد الإجارة بلا اُجرة ، فيكون مثل قوله : «آجرتك بلا اُجرة» وإن كان ربما يمنع ذلك ; نظراً إلى أنّ اشتراط سقوط الاُجرة مخالف لمقتضى العقد فيما إذا كان منجّزاً ، وأمّا فيما إذا كان معلّقاً على تقدير يمكن أن يحصل ويمكن أن لا يحصل فلا يكون مخالفاً لمقتضاه مطلقاً بل ، على تقدير حصول ذلك الأمر ، وعليه فلابدّ من الحكم بكون العقد مراعى لا إبطاله من أوّل الأمر قبل تحقّق المعلّق عليه .
وكيف كان ، فمحلّ الكلام هو اشتراط السقوط المتفرّع على الثبوت ، كما أنّ محلّه ما إذا كان المشروط سقوط الاُجرة المسمّـاة ، وأمّا لو شرط سقوط مطلق الاُجرة حتّى اُجرة المثل فهو خارج عن محلّ البحث وإن كان فيه شبهة ; نظراً إلى أنّ اُجرة المثل إنّما تكون متفرّعة على بطلان العقد ، وفي مرتبة البطلان لا معنى لنفوذ الشرط ولزوم الالتزام به ، ولكنّه يدفعها ـ مضافاً إلى أنّ مورد هذه الشبهة ما إذا كان الزمان مأخوذاً بنحو التقييد دون الاشتراط ; لأنّه على التقدير الثاني لا مجال لفرض البطلان ; لأنّ تخلّف الشرط لا يوجب بطلان العقد ـ ما عرفت سابقاً في مسألة اشتراط ضمان العين المستأجرة من كفاية حدوث العقد صحيحاً في لزوم الوفاء بالشرط المذكور في ضمنه(1) .
إذا تقرّر لك محلّ النزاع يظهر أنّ مقتضى القاعدة فيه الجواز والصحّة ، وأنّه لا يكون مخالفاً لمقتضى العقد ; لأنّ غاية مقتضاه هو ثبوت الاُجرة ،
(1) في ص94 ـ 96 .
(الصفحة112)
والشرط لا ينافي ذلك بل متفرّع عليه ، وهذا هو الوجه في الجواز لا ما أفاده الشهيد (رحمه الله) في اللمعة بعد الحكم بعدم الصحّة ، بقوله : وفي ذلك نظر ; لأنّ قضية كلّ إجارة المنع من نقيضها ، فيكون قد شرط قضية العقد ، فلم تبطل في مسألة النقل أو في غيرها . غاية ما في الباب أنّه إذا أخلَّ بالمشروط يكون البطلان منسوباً إلى الأجير ، ولا يكون حاصلاً من جهة العقد(1) ، انتهى . وذلك لأنّ الظاهر أنّ المفروض في كلامه ما إذا كان أخذ الزمان بنحو التقييد لا بنحو الاشتراط ، وإلاّ لما كان الفعل في غير ذلك الزمان نقيضاً للعقد حتّى يكون مقتضاه المنع عنه ، كما لا يخفى .
نعم ، يرد عليه أنّه على تقدير التقييد أيضاً لا وجه للحكم ببطلان الإجارة مع الإخلال بالقيد ; لأنّ عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة وعدم تسليم العمل الخاصّ لا يوجب البطلان .
وكيف كان ، فالقاعدة في مثل المقام تقتضي الجواز والنفوذ . نعم ، يبقى الكلام في أنّه على تقدير البطلان هل يكون مقتضاه فساد العقد أيضاً أم لا ؟
قال صاحب الجواهر (رحمه الله) بعد الحكم بعدم جواز هذا الشرط ، نظراً إلى كونه منافياً لمقتضى العقد : وبفساده يفسد العقد كما هو الأصحّ(2) . وقال المحقّق الرشتي (رحمه الله)بعد الإشارة إلى هذا الكلام : ولعلّه خلاف مختاره في مسألة فساد العقد بفساد الشرط ، ثمّ قال : وقد يوجّه بأنّ هذا الشرط مفسد للعقد إجماعاً ; لأنّه مناف لمقتضى العقد ، والشرط الذي لايفسد
(1) اللمعة الدمشقية : 94 ـ 95 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 233 .
(الصفحة113)
العقد على القول به ما يكون فساده من جهة اُخرى(1) ، انتهى .
أقول : إن كان المستند في ذلك هو الإجماع على أنّ الشرط المنافي لمقتضى العقد مفسد له فهو على تقدير تحقّقه لا محيص عنه ، وإن كان المستند فيه هو مجرّد المنافاة لمقتضى العقد كما يظهر من التعليل به، فنقول : إنّ مجرّد ذلك لا يقتضي بطلان العقد ، ولو كان مرجع الاشتراط إلى قصور المقتضي وعدم الثبوت من الأوّل ، فضلاً عمّا لو اشترط السقوط المتفرّع على الثبوت ; لأنّ المنافاة له لا تقتضي إلاّ الحكم بفساد المنافي ، ولا يوجب خللاً في العقد من جهة التأثير والاقتضاء أصلاً ، فتدبّر .
هذا كلّه مع قطع النظر عن رواية الحلبي المتقدّمة ، وأمّا مع ملاحظتها فذيلها يدلّ على جواز الشرط ما لم يكن محيطاً بجميع الكراء ، وقد عرفت أنّ الظاهر من موردها ما إذا اشترط السقوط المتفرّع على الثبوت لا عدم الثبوت ; نظراً إلى أنّ المراد من الكراء في قوله : «حططت من الكراء» هو الكراء الثابت لا الكراء المفروض ، والظاهر أنّ المراد من الجواب هو الإحاطة بجميع الكراء خارجاً بحسب تعدّد الأيّام التي احتبس عنها ، وصيرورة المجموع ممّا وقع بإزاء كلّ يوم بمقدار الكراء ، وأمّا لو كان محيطاً بجميع الكراء من الأوّل ; بأن شرط سقوط الاُجرة على تقدير التخلّف عن الزمان المعيّن ولو لحظة على نحو ناقض العدم لا الاستيعاب ـ كما في مورد الرواية ـ فهو خارج عنها . نعم ، يستفاد حكمه من الرواية كما لا يخفى .
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 104 .
(الصفحة114)
وكيف كان ، فقد وقع الاختلاف بينهم في أنّه هل اللاّزم حمل هذا الذيل على التعبّد ; نظراً إلى اقتضاء القاعدة للجواز في الفرعين كما هو الظاهر ، أو أنّ مقتضى القاعدة هو الفرق بينهما ، أو أنّه يحمل النصّ على اشتراط الجعالة في ضمن الإجارة ; لأنّ شرط سقوط البعض بحسب أيّام الحبس لا مانع عنه إلاّ الجهالة التي لا تقدح في الجعالة ، بخلاف شرط سقوط الكلّ ، فإنّ الجعالة بلا اُجرة غير مشروعة ، فتكون فاسدة ؟ فهذه وجوه ثلاثة اختار الأوّل المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)(1) . والثاني صاحب الجواهر (رحمه الله)(2) . والثالث المحقّق الرشتي (رحمه الله)(3) .
هذا ، ولكن الظاهر كما عرفت هو الوجه الأوّل ; لأنّ القاعدة لا تقتضي الفرق ، وحمل النصّ على الجعالة في كمال البُعد . وأمّا ما حكي عن الشيخ العلاّمة الأنصاري (رحمه الله)(4) من رجوع شرط سقوط الاُجرة إلى شرط الأرش بين الاُجرتين والأرش المستوعب غير معقول ، فلا معنى لاشتراطه . فيرد عليه أوّلاً منع الرجوع إليه ، وثانياً منع كونه موجباً لفساد العقد ، كما لايخفى .
ثمّ لا يذهب عليك أنّ الرواية تكون غاية مفادها مجرّد فساد الشرط مع الإحاطة بجميع الكراء ، وأمّا بطلان العقد فيبتني على القول بأنّ الشرط الفاسد مطلقاً ، أو في خصوص مثل المقام ; وهو الشرط المنافي لمقتضى العقد على تقدير تسليم ذلك ، مفسد أم لا ؟ فإن قلنا بعدم البطلان كما هو
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 75 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 234 .
(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 105 .
(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 398 ـ 399 .
(الصفحة115)
الظاهر فاللاّزم ثبوت الاُجرة المسمّـاة على تقدير عدم اختيار الفسخ في صورة التخلّف عن الزمان المشترط، وإن قلنا بالبطلان فاللاّزم ثبوت اُجرة المثل . هذا تمام الكلام في أصل الجواز .
وأمّا الكلام في ثبوت اُجرة المثل على تقدير فساد هذا الشرط وإفساده للعقد ، فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال فيها فيما هو محلّ النزاع من أخذ الزمان بنحو الاشتراط ; لأنّ الإتيان بالعمل في غير ذلك الزمان إنّما وقع بعنوان الوفاء بعقد الإجارة وباعتقاد كونه ملزماً به. غاية الأمر أنّ فساده صار مانعاً عن ثبوت الاُجرة المسمّـاة ، فاللاّزم بمقتضى احترام العمل وقوع اُجرة المثل بإزائه كما هو الظاهر .
وامّا لو كان الزمان مأخوذاً بنحو التقييد، فتارةً يقع الكلام في بطلان الإجارة على فرض التخلّف عن ذلك الزمان ، واُخرى في ثبوت اُجرة المثل.
أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّ ظاهر عبارة الشهيد في اللمعة أنّ الإخلال بالزمان المعيّن يوجب البطلان مع أنّه لا وجه له ; لأنّ عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة ، وعدم تسليم العمل الخاصّ لا يوجب الخلل في نفس العقد المقتضي لتمليك العمل وتملّك الاُجرة .
وأمّا الثاني : فالظاهر أنّه لا وجه لثبوت اُجرة المثل بعد عدم الإتيان بمتعلّق الإجارة ، وما أفاده المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)(1) من أنّ المنفيّ في هذه الصورة هي الاُجرة المعيّنة لا اُجرة المثل لقاعدة الاحترام ، فيه ما عرفت من عدم ثبوت احترام لعمله حينئذ، فلاوجه لثبوت اُجرة المثل فافهم. [انتهى الكلام من كتاب الإجارة الثاني].
***
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 67 ـ 69 .
(الصفحة116)
مسألة : لو كان وقت زيارة عرفة واستأجر دابّة للزيارة فلم يصل وفاتت منه صحّت الإجارة ، ويستحقّ المؤجر تمام الأُجرة بلا خيار ما لم يشترط عليه في عقد الإجارة إيصاله يوم عرفة ، ولم يكن انصراف موجب للتقييد1 .
1 ـ لو كان وقت زيارة عرفة واستأجر دابّة للزيارة ، فإمّا أن يكون هناك انصراف موجب للتقييد بالإيصال يوم عرفة ، أو يكون هناك اشتراط في نفس العقد ، وإمّا أن لايكون شيء من الانصراف والاشتراط ، ولا ذكر لعنوان «عرفة» كما هو المفروض ، ولم يتحقّق الإيصال في شيء من الصور ، ففي الصورة الاُولى ربما تكون الإجارة باطلة ، لما عرفت في المسألة المتقدّمة من التفصيل في صورة التقييد .
وفي الصورة الثانية تكون الإجارة صحيحة ، لكن استحقاق المؤجر تمام الأُجرة يتوقّف على عدم فسخ المستأجر ; لأجل خيار تخلّف الشرط الثابت له ، وفي الصورة الثالثة تكون الإجارة صحيحة بلا خيار ، ويستحقّ المؤجر تمام الأُجرة ووجهه واضح .
(الصفحة117)
[اعتبار ذكر المدّة في الإجارة وأنّه هل يشترط اتّصالها بالعقد أم لا؟]
مسألة : لايشترط اتّصال مدّة الإجارة بالعقد ، فلو آجر داره في شهر مستقبل معيّن صحّ ، سواء كانت مستأجرة في سابقه أم لا ، ولو أطلق تنصرف إلى الاتّصال بالعقد لو لم تكن مستأجرة ، فلو قال : «آجرتك داري شهراً» اقتضى الإطلاق اتّصاله بزمان العقد ، ولو آجرها شهراً وفهم الإطلاق ـ أعني الكلّي الصادق على المتّصل والمنفصل ـ فالأقوى البطلان1 .
1 ـ لابدّ في هذه المسألة من التكلّم في مقامات :
المقام الأوّل : أنّه هل يشترط في صحة الإجارة ذكر المدّة مطلقاً ، أو لا يشترط كذلك ، أو يفصّل بين إجارة الأعيان وبين الإجارة على الأعمال مطلقاً ، بالاشتراط في الأوّل دون الثاني ، أو يفصّل في الثاني أيضاً بين ما لو كان الغرض متعلّقاً بوقوع العمل في زمان خاصّ فيشترط، وبين ما إذا لم يتعلّق الغرض إلاّ بذات العمل فلا؟ وجوه.
والظاهر أنّه لا مجال للخدشة في لزوم ذكر المدّة في إجارة الأعيان ; لأنّ تقدير المنفعة لايتحقّق إلاّ بذكر مدّة خاصّة ، بل ربما يقال بعدم إمكان تحقّق المنفعة بدون المدّة ; بمعنى أنّه لا وجود لموضوعها بدونه، وكيف كان فلا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار ذكر المدّة المعيّنة في إجارة الأعيان ، وقد ذكرنا سابقاً(1) أنّه لاينبغي توهّم أنّ الاقتصار على مجرّد ذكر المدّة يكفي في رفع الغرر في هذا النحو من الإجارة ; لأنّ ارتفاع الجهالة والغرر لايتحقّق بمجرّد ذكر المدّة ، بل لابدّ من
(1) في ص57 ـ 58 .
(الصفحة118)
ارتفاعها من جميع الجهات التي بها تختلف الرغبات والأغراض ، ولها دخل في القيمة قلّة وكثرة ، وبالجملة ذكر المدّة في هذا القسم ممّا لا محيص عنه .
وأمّا الإجارة على الأعمال ، فيظهر من جملة من الكلمات أنّه لايلزم فيها ذكر المدّة ، بل المحكي عن التحرير(1) أنّه أفاد في مقام بيان الضابط أنّ ما كان له عمل يجوز تقديره بالزمان وبالعمل على نحو التخيير ، وماليس له عمل كالدار والأرض ونحوه يختصّ تقديره بالزمان . وعليه فلا يلزم ذكر الزمان والمدّة في الإجارة على الأعمال ، مع أنّ مقتضى دليل النهي عن الغرر(2) ، الذي هو المستند لهم في مثل هذه الموارد عدم الفرق بين القسمين ، فإنّ مجرّد التقدير بالعمل كخياطة هذا الثوب لايرتفع به الجهالة ، ولايسدّ به باب الغرر ، بل لابدّ من ذكر الزمان والمدّة ، وأنّ ظرف الخياطة لابدّ أن لايتأخّر عن الزمان الفلاني من شهر أو شهرين مثلاً أو نحوهما ، ضرورة اختلاف الأغراض بذلك اختلافاً فاحشاً ، وتفاوت الرغبات باختلافه تفاوتاً كاملاً .
نعم ، يقع الكلام في أنّ لزوم ذكر المدّة هل هو في خصوص ما كان الغرض متعلّقاً به ، أم الأعمّ منه وممّا إذا لم يتعلّق غرض المستأجر إلاّ بنفس العمل ؟ والظاهر ابتناء هذه الجهة على أنّ الغرر المنهيّ عنه هل هو الغرر النوعي وإن لم يكن في شخص المقام غرر أصلاً ، أو الغرر الشخصي الذي ملاكه تحقّق الغرر في خصوص المعاملة الواقعة بينهما ؟ فعلى الأوّل لا يكفي مجرّد عدم تعلّق غرض مستأجر خاص بوقوع الفعل في الزمان الخاصّ ، بل يلزم ذكر المدّة مطلقاً ، وعلى الثاني يتوجه التفصيل بين
(1) تحرير الأحكام : 3 / 85 .
(2) تقدّم في ص22 .
(الصفحة119)
الصورتين . هذا ، والظاهر من كلماتهم في نظائر المقام هو الأوّل ، وإن كان الثاني غير بعيد ، فتدبّر جيّداً .
المقام الثاني : في أنّه على تقدير اعتبار ذكر المدّة هل يشترط اتصالها بالعقد أم لابل يجوز أن تكون منفصلة؟ وفيه قولان: حكي الأوّل عن الشيخ (قدس سره)(1) وأبي الصلاح التقي الحلبيّ(2) ، والثاني عن المشهور(3) ، بل في محكي التذكرة الإجماع عليه(4) .
قال الشيخ في المبسوط : ومن شرط صحّة العقد أن تكون المنفعة متّصلة بالعقد ، ويشترط أنّها من حين العقد ، فإذا قال : «آجرتك هذه الدار شهراً» ولم يقل من هذا الوقت ، ولكنّه أطلق الشهر فانّه لايجوز . وكذلك إن آجره الدار في شهر مستقبل بعدما دخل ، فإنّه لايجوز ، فعلى هذا ، إذا قال في رجب : «آجرتك هذه الدار شهر رمضان» لم تصح الإجارة ، وعند قوم تصح ، وهو قويّ .
وقال في الخلاف : إذا قال : آجرتك هذه الدار شهراً ، ولم يقل من هذا الوقت وأطلق ، فإنّه لايجوز ، وكذلك إذا آجره الدار في شهر مستقبل بعدما دخل ، فإنّه لايجوز وبه قال الشافعي(5) ، وقال أبو حنيفة : إذا أطلق الشهر جاز ويرجع الإطلاق إلى الشهر الذي يلي العقد ويتعقّبه ، وإذا آجره شهراً مستقبلاً جاز ذلك(6) . دليلنا : إنّ عقد الإجارة حكم شرعي ، ولا يثبت إلاّ بدلالة شرعية ، وليس على
(1) المبسوط : 3 / 230 ، الخلاف : 3 / 496 مسألة 13 .
(2) الكافي في الفقه : 349 .
(3) المهذّب : 1 / 476 ، السرائر : 2 / 458 و461 ، شرائع الإسلام : 2 / 183 ، إرشاد الأذهان : 1 / 422 ، مختلف الشيعة : 6/103 مسألة 2 ، وادّعى الشهرة في الحدائق الناضرة : 21 / 581 .
(4) تذكرة الفقهاء : 2 / 297 .
(5) راجع مغني المحتاج : 2 / 338 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 6 .
(6) راجع المبسوط للسرخسي : 15 / 131 ، والمغني لابن قدامة : 6 / 6 .
(الصفحة120)
ثبوت ما قاله دليل ، فوجب أن لايكون صحيحاً(1) .
والذي يظهر من هاتين العبارتين أنّ الشرط في صحّة الإجارة هو الاتّصال ، فيخرج صورتان :
إحداهما : ما إذا صرّح بالانفصال ، كما في المثال المذكور في العبارة الأُولى .
وثانيتهما : ما إذا أطلق ولم يصرّح بواحد من الاتّصال والانفصال ، فإنّ هذه الصورة أيضاً فاقدة للشرط الذي هو عبارة عن اتصال المدّة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الشرط عدم الانفصال ، بحيث كان مرجعه إلى مانعية الانفصال وقادحيته ، فإنّه على هذا التقدير لايكون فرض الإطلاق محكوماً بالبطلان .
ودعوى أنّ فرض الإطلاق محكوم بالبطلان لا من الجهة الراجعة إلى شرطية الاتصال ، بل من جهة لزوم الغرر ، أو من جهة عدم المعقولية ـ كما ربما يدعى ـ ممنوعة بأنّه لم يعرف وجه لعدم المعقولية ، فإنّه كما يمكن إجارة الدار شهراً متّصلاً بالعقد أو منفصلاً عنه ، كذلك يمكن إجارتها شهراً من سنة معيّنة بنحو الإطلاق ، أو شهراً من أشهر الشتاء أو الصيف مثلاً ، بحيث يكون المستأجر مخيّراً بين الشهور ، كما في جميع موارد ثبوت الإطلاق ، وأمّا الغرر فإنّما يلزم فيما إذا اختلفت الشهور من حيث المالية والغرض ، وأمّا مع عدم الاختلاف فلا يلزم غرر أصلاً ، وسيأتي البحث عنه إن شاء الله تعالى .
وكيف كان ، فالكلام في هذا المقام إنّما هو في اشتراط الاتصال في صحّة الإجارة وعدمه ، ونقول : ربما يقال : إنّه لايعقل اشتراط الاتصال لما في المختلف(2) من أنّ
(1) الخلاف: 3 / 496 مسألة 13.
(2) مختلف الشيعة: 6 / 104 مسألة 2، وكذا في مسالك الأفهام: 5 / 194 وجواهر الكلام: 27/ 273.
|