(الصفحة301)
بعد احتماله الوجهين المتقدّمين في صورة إتلاف المستأجر احتمل هنا وجوهاً أربعة : البطلان ، والانفساخ الذي يترتّب عليه رجوع الاُجرة المسمّـاة إلى المستأجر ، والتخيير بين ضمانه والفسخ ، وتعيّن اُجرة المثل عليه .
والوجه في البطلان ما عرفت في التلف الجاري في جميع صور الإتلاف أيضاً ، وفي الانفساخ ما ذكرنا من الوجهين في المسألة السابقة ، ويقرّب الوجه الأوّل هنا ـ مضافاً إلى بعد دعوى انصراف دليل التلف عن صورة إتلاف البائع هناك والمؤجر هنا ـ وجود القائل بالانفساخ في هذه الصورة في البيع ; وهو الشيخ في محكي المبسوط(1) والفاضلان في محكي الشرائع(2) والتحرير(3) .
وأمّا الوجه الثالث، الذي مرجعه إلى تخيير المستأجر بين مطالبة المؤجر بالاُجرة المسمّـاة ، وبين مطالبته باُجرة المثل فمنشؤه على ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في باب أحكام القبض من البيع ، إمّا لتحقّق سبب الانفساخ وسبب الضمان فيتخيّر المالك في العمل بأحدهما ، وإمّا لأنّ التلف على هذا الوجه إذا خرج عن منصرف دليل الانفساخ لحقه حكم تعذّر تسليم المبيع ، فيثبت الخيار للمشتري لجريان دليل تعذّر التسليم هنا(4) .
ويرد على الوجه الأوّل ـ مضافاً إلى أنّ لازمه تحقّق الانفساخ بمجرّد اختيار دليله من دون حاجة إلى الفسخ ، مع أنّ الظاهر الحاجة إليه ـ أنّ الدليلين ليسا في عرض واحد ; لأنّ دليل الانفساخ ينفي كونه مال الغير ، ودليل الضمان موضوعه
(1) المبسوط : 2 / 117 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 53 .
(3) تحرير الأحكام : 2 / 335 .
(4) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 6 / 276 .
(الصفحة302)
مال الغير ، وعليه فدليل التلف حاكم على دليل الإتلاف ، ولا معنى لجعلهما في عرض واحد ، كما أنّه يرد على الوجه الثاني ابتناؤه على الخروج عن منصرف دليل التلف ، مع أنّك عرفت استبعاده في صورة اتلاف البائع والمؤجر ، وأمّا وجه تعيّن اُجرة المثل فقاعدة «من أتلف» بعد انصراف دليل التلف عن هذه الصورة ، ويرد عليه ما عرفت من منع الانصراف .
وأمّا إتلاف الأجنبي للعين المستأجرة فالمذكور في العروة أنّه موجب لضمانه(1)أي ضمان الأجنبي للمستأجر ، وأورد عليه بعض الشارحين بأنّ الموجب للفسخ في إتلاف المؤجر وهو تخلّف المقصود ـ الذي هو الانتفاع الخاصّ بالعين ـ موجود هنا أيضاً ، فالفرق بينهما في ذلك غير ظاهر(2) ، وقوّى البطلان فيه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره)في التعليقة على العروة(3) . هذا ، ويحتمل الحكم بالانفساخ أيضاً ; لما ذكرنا في وجهه في المسألتين السابقتين .
الثالث : تلف بعض العين المستأجرة ، ونقول : تارةً يكون تلف البعض موجباً لانعدام المنفعة ـ التي هي غرض للمستأجرـ وزوالها رأساً ، بحيث يكون قوام المنفعة بوجوده فقط أو مع وجود البعض الباقي ، كما إذا استأجر بقرتين مقدّمة لحرث الأرض مع فرض تقوّم الغرض بهما معاً كما في بعض البلاد والأمكنة ، فتلف واحد منهما ، واُخرى يكون تلف البعض موجباً لنقصان المنفعة المطلوبة .
ففي الصورة الاُولى يجري حكم تلف الجميع ; لأنّ التلف الموجب للانفساخ أو البطلان في باب الإجارة هو تلف المنفعة المتحقّق بتلف العين أو ما يجري مجراه ،
(1) العروة الوثقى: 5 / 51 مسألة 13.
(2) مستمسك العروة : 12 / 59 .
(3) العروة الوثقى : 5 / 51 ، التعليقة 4 .
(الصفحة303)
والمفروض تحقّقه في المقام .
وفي الصورة الثانية يجري حكم التلف بالنسبة إلى البعض التالف ، فتبطل الإجارة بالإضافة إليه ، أو تنفسخ على القولين في باب تلف الجميع ، وأمّا بالنسبة إلى البعض الباقي فلا مجال لاحتمال الانفساخ أو البطلان ، بل غاية الأمر ثبوت خيار التبعّض .
ودعوى أنّ الإجارة إن انحلّت إلى إجارات متعدّدة حسب تعدّد الأبعاض فلاوجه لثبوت الخيار بالإضافة إلى البعض الباقي ، بل لابدّ من الالتزام بصحّة الإجارة المتعلقة إليه من دون خيار ، وإن لم تنحل إليها فلا مجال للحكم بالانفساخ أو البطلان بالنسبة إلى البعض وبالصحّة بالنسبة إلى البعض الآخر .
مدفوعة بأنّ الانحلال وإن كان ممّا لايكون للارتياب فيه مجال ، إلاّ أنّه لا ينفي ثبوت الخيار كما في جميع موارده ، فإنّ الملاك فيه تعدّد المطلوب مع التوصل إليه بعقد واحد . نعم ، لو كان الجمع بين المطلوبين في عقد واحد من باب الجمع في التعبير من دون أن يكون بينهما ارتباط أصلاً ، كما إذا استأجر دارين مثلاً بعقد واحد مع عدم تعلّق الغرض بمجموعهما ، فالبطلان في البعض لا يوجب الخيار بالإضافة إلى الآخر .
وبالجملة : فالظاهر في المقام ثبوت الخيار بالنسبة إلى البعض الباقي .
ثمّ إنّه ذكر العلاّمة (قدس سره) في القواعد في فروع التلف : لو أمكن الانتفاع بالعين فيما اكتراها له على نقص تخيّر المستأجر أيضاً في الفسخ والإمضاء بالجميع(1) .
وظاهره بعد وضوح كون المراد بالنقص هو نقصان المنفعة بسبب عروض تلف
(1) قواعد الأحكام : 2 / 289 .
(الصفحة304)
البعض كما في جامع المقاصد(1) ، لا الأعمّ منه ومن تلف الوصف كما استظهره صاحب المفتاح(2) ، عدم ثبوت التقسيط في هذه الصورة ، بل يتخيّر المستأجر بين الفسخ والإمضاء بالجميع ، ولكنّه ذكر جامع المقاصد في شرح عبارة اُخرى من القواعد واردة في حكم العيب أنّه مع ذهاب بعض العين الموجب لنقصان المنفعة يجب التقسيط قطعاً مع الخيار(3) .
وهنا احتمال ثالث ; وهو انفساخ الإجارة بالإضافة إلى جميع الدار ، نظراً إلى عدم ثبوت المنفعة الكاملة بحسب الواقع ولو في شطر من الزمان ، فليست المنفعة الملحوظة في الإجارة ثابتة في ذلك الجزء ، فتبطل الإجارة بالنسبة إلى الجميع ، فتدبّر .
الرابع : لو آجره عيناً كليّة كالدابّة الكليّة ـ بناءً على عدم اعتبار كون متعلّق الإجارة عيناً شخصية كما هو الظاهر والمعروف ـ فتلف الفرد الذي عيّن الكلّي فيه قبل قبضه أو بعده فهل يجري فيه حكم تلف العين الشخصية أم لا ؟ وتحقيق القول في ذلك يقتضي التكلّم في اُمور :
الأوّل : إنّ تعلّق الإجارة بالأمر الكلّي يتصوّر على أنحاء مختلفة حسب اختلاف أنحاء الكلّي ، ضرورة أنّ الكلّي الذي يتعلّق به الإجارة تارةً يكون كليّاً مطلقاً قابلاً للانطباق على الأفراد المحقّقة الموجودة فعلاً في الخارج ، وعلى الأفراد المقدّرة التي يمكن أن توجد بعد ذلك ، كما إذا كان المتعلّق دابّة كليّة موصوفة بأوصاف رافعة للغرر والجهالة . واُخرى يكون كليّاً في المعيّن
(1) جامع المقاصد : 7 / 142 .
(2) مفتاح الكرامة : 7 / 155 .
(3) جامع المقاصد : 7 / 92 .
(الصفحة305)
نظير الصاع من الصبرة المعيّنة الموجودة في الخارج ، والملاك فيه هو الانطباق على خصوص الأفراد الموجودة في الخارج فعلاً . وثالثة يكون كلياً ليس له إلاّ فرد واحد ، نظير مفهوم واجب الوجود الذي ينحصر مصداقه بذات البارئ جلّ شأنه .
وهنا فرض رابع ; وهو ما إذا كان المتعلّق نظير الدار المأخوذة شخصية من حيث العرصة وكليّة من حيث البناء ، بحيث لا تكون إعادتها بعد الانهدام قادحة في بقاء المتعلّق، كما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ في حكم فروض الانهدام(1) .
وفرض خامس ; وهو ما إذا كان المتعلّق عيناً شخصيّة ولكنّها أُخذت في الإجارة كليّة من حيث الزمان ، كما لو آجره دابّة معيّنة شهراً من السنة المتّصلة بالعقد بناءً على صحّة هذا النحو من الإجارة، كما نفينا عنها البعد سابقاً(2) على تقدير عدم اختلاف الشهور من جهة المالية وتساوي المجموع من هذه الحيثيّة .
الثاني : لا ينبغي الارتياب في جريان حكم التلف في الفرض الأخير فيما إذا تلفت الدابّة المعيّنة قبل قبضها أو بعده في الأثناء ، وكذا في جريانه في الفرض الرابع مع امتناع اعادة البناء قبل القبض أو في الأثناء ، وكذا في جريانه في الفرض الثالث مع تلف الفرد المنحصر قبل القبض أو بعده ، وكذا في جريانه في الفرض الثاني مع تلف جميع الأفراد قبل قبض واحد منها أو بعده .
وأمّا الفرض الأوّل: فربما يقال: بأنّ تلف الأفراد الموجودة إلى انقضاء مدّة
(1) في ص312 وما بعدها .
(2) في ص128 ـ 130 .
(الصفحة306)
الإجارة يقتضي جريان حكم التلف من البطلان أو الانفساخ ، ولكنّه محلّ نظر بل منع ; لأنّ انتفاء جميع الأفراد بعد الإجارة يوجب خيار تعذّر التسليم ، لا البطلان أو الانفساخ .
الثالث : ذكر في الجواهر : أنّه إذا كانت ـ يعني العين الواقعة مورد الإجارة ـ كليّة وقد دفع المؤجر فرداً فتلف عند المستأجر فالظاهر عدم انفساخ الإجارة ، بل ينفسخ الوفاء المزبور ويستحقّ عليه فرداً آخر ، ودعوى تشخيص الحقّ فيه ممنوعة كما عرفته سابقاً في نظائره(1) .
وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) ـ بعد فرض المسألة فيما إذا وقع عقد الإجارة على عين كليّة ، وتعيّنت بتعيين المؤجر وقبول المستأجر في فرد ـ بأنّه لامعنى للانفساخ لا في العقد ولا في الوفاء ، نظراً إلى أنّه كما لا يكون التالف مملوكاً من الأوّل كذلك لا يكون الفرد التالف أيضاً كذلك ، وحيث لم يكن مملوكاً من الأوّل لم يعقل انطباق الكلّي المملوك بعقد الإجارة على المنفعة التي لا يعقل وجودها في ظرف استيفائها(2) .
أقول : ربما يحتمل تشخّص الحقّ الكلّي في خصوص الفرد الذي عيّنه المؤجر وقبله المستأجر ، خصوصاً إذا تحقّق القبض في الخارج أيضاً ، نظراً إلى أنّ لازم عدم التشخّص كون الاختيار بيد المؤجر إذا لم يشترط ثبوت الاختيار للمستأجر ، وعليه فيلزم أن يكون للمؤجر في كل آن وزمان أخذ الفرد المعيّن من يد المستأجر ، وإعطاء فرد آخر إليه ، ومن المعلوم عدم مساعدة العرف والعقلاء على ذلك في جميع
(1) جواهر الكلام : 27 / 279 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 176 ـ 177 .
(الصفحة307)
الموارد ، خصوصاً إذا كانت العين المستأجرة من قبيل الدار ونحوه . ولكن لايخفى عدم مساعدتهم على أصل الاحتمال ، بحيث يكون تلف الفرد عندهم موجباً لانعدام الإجارة بانعدام ماهو الركن فيها ، فتدبّر جيّداً .
الخامس (1): إذا تلفت العين التي هي محلّ العمل الذي استؤجر الشخص عليه ، كتلف الثوب الذي استؤجر الخيّاط لخياطته ، فالذي صرّح به في العروة أنّ تلفها أو إتلاف المؤجر أو الأجنبي إيّاها قبل العمل أو في الأثناء ، بل وكذا إتلاف المستأجر المالك لها يوجب بطلان الإجارة ورجوع الاُجرة كلاًّ أو بعضاً إلى المستأجر(2) ، ولكنّه (قدس سره) عطف قبل ذلك تلف محلّ العمل بتلف العين المستأجرة ، وظاهره جريان حكم إتلافها في إتلافه ، فيجري فيه التفصيل المتقدّم في الإتلاف . ولذا أورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) في الحاشية بالمخالفة بين المقامين ، واستقرب هو البطلان في كلتا الصورتين(3) .
وكيف كان ، فالظاهر أنّ حكم التلف في المقام يعلم ممّا ذكرنا في حكمه في العين المستأجرة ، فإنّه إذا استؤجر الخيّاط لخياطة ثوب معيّن يكون غرض المستأجر متعلّقاً بخياطته بالخصوص لا يبقى مجال لبقاء الإجارة مع تلفه أو إتلافه مطلقاً ; لانعدام ماهو الركن في الإجارة ، بخلاف ما إذا استؤجر لخياطة ثوب لا يتعلّق الغرض به بالخصوص ، فإنّ انعدامه لا يوجب الخلل فيما هو الركن ، كما أنّه إذا كان الأجير أجيراً خاصّاً يكون جميع منافعه أو خصوص منفعة الخياطة مثلاً للمستأجر لا يكون تلف الثوب أو إتلافه موجباً للخلل في الإجارة بوجه ، كما
(1) أي الفرع الخامس.
(2) العروة الوثقى : 5 / 63 ـ 64 مسألة 1 .
(3) العروة الوثقى : 5 / 50 ، التعليقة 4 وص63 ، التعليقة 2 .
(الصفحة308)
صرّح به في العروة ، حيث قال : نعم ، لو كانت الإجارة واقعة على منفعة المؤجر ; بأن يملك منفعته الخياطي في يوم كذا يكون إتلافه لمتعلّق العمل بمنزلة استيفائه ; لأنّه بإتلافه إيّاه فوّت على نفسه المنفعة(1) .
وأورد عليه المحقّق الشارح بما حاصله : عدم الفرق بين الصورتين ، إذ في هذه الصورة يقال أيضاً : إنّ تعذّر العين يوجب تعذّر المنفعة الخاصّة ، بل يمكن أن يكون البطلان فيها أظهر ; لعدم قيام غيره مقامه فيها بخلاف الاُولى ، لكنّه فرق لا يوجب إلاّ الأولوية ـ إلى أن قال :ـ وأمّا دعوى المصنّف (قدس سره) أنّ إتلافه بمنزلة الاستيفاء فغير ظاهرة ، وإلاّ كان تلفه بمنزلة حصولها ولا يظنّ التزامه بذلك ، ومثله دعوى كون تسليم المؤجر نفسه للعمل موجباً لاستقرار الاُجرة ، فإنّه يسلّم إذا كانت المنفعة مقدورة والإجارة باقية على صحّتها ، وقد عرفت خلافه(2) .
وبالجملة : إذا كان الأجير أجيراً خاصّاً بأحد الوجهين المذكورين ، فتارةً يكون الثوب المأخوذ في الإجارة ثوباً معيناً كما هو المفروض في العروة ظاهراً ، بناء على صحّة هذا النحو من الاستئجار ، واُخرى لا يكون الثوب المأخوذ فيها كذلك، ففي الصورة الثانية لا مجال لتوهّم البطلان مع التلف أو الإتلاف ، وأمّا الصورة الاُولى فهل الحكم فيها عدم البطلان بسبب إتلاف المستأجر ; لما أفاده في العروة من أنّ إتلافه بمنزلة استيفائه ; لأنّه بإتلافه إيّاه فوّت على نفسه المنفعة بخلاف ما إذا كان العمل في ذمته ، أو البطلان فيها وفي الصورة الاُولى أيضاً لما تقدّم من الشارح ، أو عدم البطلان في شيء منهما كما في تعليقة بعض من المحشين؟ (3) وجوه وأقوال
(1) العروة الوثقى : 5 / 64 مسألة 1 .
(2) مستمسك العروة : 12 / 75 ـ 76 .
(3) العروة الوثقى : 5 / 64، التعليقة 1 .
(الصفحة309)
والظاهر أنّ القول الأوّل أوفق بالقواعد ، لأنّ إتلاف المستأجر للثوب في هذه الصورة بمنزلة إتلاف العين المستأجرة من المستأجر . ودعوى أنّ ماهو بمنزلة العين هو شخص الأجير فإتلافه بمنزلة إتلافها ، وأمّا إتلاف الثوب الذي هو مورد الإجارة فلا ، مدفوعة بعدم الفرق من هذه الحيثية بين الأمرين ، فإنّه كما أنّ إتلاف الأجير لايوجب خللاً في الإجارة فكذلك إتلاف الثوب المعيّن المذكور في هذا النحو من الإجارة ، فتدبّر .
السادس : ما إذا تجدّد الفسخ في الأثناء ، وقد حكم فيه المحقّق (قدس سره)بالصحّة فيما مضى والبطلان فيما بقي(1) ، كصورة التلف في الأثناء .
وربما احتمل في هذه الصورة بل صورة التلف جواز الرجوع إلى تمام الاُجرة المسمّـاة ، ورجوع المؤجر إلى اُجرة المثل للمقدار من المنفعة الذي استوفاه ; نظراً إلى أنّ مقتضى الفسخ عود كلّ من العوضين إلى مالكه بتمامه .
وقبل الخوض في ذلك لابدّ من الجواب عمّا ربما يمكن أن يتوهم في المقام من الشبهة العقلية في كلا الطرفين من المسألة المفروضة ، فنقول :
أمّا الشبهة على تقدير أن يكون الفسخ مؤثّراً من حينه لا من حين العقد ، فهي أنّ العقد أمر واحد مؤثّر في مقتضاه الذي هو أيضاً كذلك ولا يعقل التفكيك فيه ، بل لابدّ إمّا من بقائه بتمامه ، وإمّا من انحلاله كذلك .
والجواب : إنّ العقد أمر اعتباري قابل للتفكيك فيه باعتبار متعلّقه ، وإن شئت قلت : إنّه متعدّد لبّاً ، ولا بأس بأن يفسخ العقد بالنسبة إلى المدّة الباقية ، فقط فالشبهة على هذا التقدير مندفعة .
(1) شرائع الإسلام: 2 / 183.
(الصفحة310)
وأمّا الشبهة على تقدير كون الفسخ مؤثّراً من حين العقد ، فهي أنّ الأمر المتأخّر كيف يعقل أن يؤثِّر في الأمر المتقدّم ، ضرورة أنّ المنافع التي استوفاها بعنوان الملكيّة قد انقضت ، وكيف يمكن أن تصير ملكاً للمؤجر موجباً لثبوت اُجرة المثل .
وتندفع أيضاً بأنّ الاُمور الاعتبارية خارجة عن حريم التأثير والتأثّر الحقيقي الموجود في الاُمور الحقيقية ، وعليه فلا مانع من اعتبار العقد بعد تحقّق الفسخ في الأثناء كأن لم يتحقّق أصلاً ، فالمسألة خالية عن الشبهة العقليّة .
ثمّ إنّه لابدّ من ملاحظة أنّ ترتّب الانفساخ من حين الفسخ أو من حين العقد على الفسخ هل هو أمر قهري شرعي ; بمعنى أنّه ليس للفاسخ إلاّ حقّ الفسخ ، وأمّا كون الانفساخ من الحين أو من الأصل فهو أمر خارج عن حدود اختياره وإرادته ، أو أنّه أيضاً بيد الفاسخ فيمكن له الفسخ من الحين ويمكن له الفسخ من الأصل ، أو أنّه لابدّ من التفصيل بين أنحاء الخيارات ؟ وجوه واحتمالات ، والذي يظهر منهم هو الاحتمال الأوّل ، ولكن مقتضى التحقيق هو الأخير كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) :
فإن كان سبب الفسخ هو اشتراط الخيار في متن العقد فالظاهر أنّه تابع لكيفيّة الاشتراط ، فإن كان الشرط هو الفسخ المؤثّر من حينه فليس له إلاّ ذلك ، كما أنّه لو كان الشرط هو الفسخ من الأصل يؤثّر فسخه في ذلك من غير إشكال ، ولا يبعد أن تكون الإقالة من هذه الحيثيّة بيد الطرفين أيضاً ، بناءً على جريانها في الإجارة
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 174 .
(الصفحة311)
كما عرفت الكلام فيها في أوّل الكتاب(1) .
وإن كان سبب الفسخ هو الخيار الذي كان المدرك له قاعدة نفي الضرر ـ بناءً على دلالتها على الخيار المصطلح على خلاف ما قلناه مراراً ـ فاللاّزم ملاحظة أنّ الضرر هل يندفع بانحلال المعاملة من حين الفسخ أولا يندفع إلاّ بانحلاله من رأس؟
وإن كان السبب هو الخيار الذي دلّ على ثبوته الأدلّة الخاصّة كخيار العيب مثلاً ، فاللاّزم ملاحظة تلك الأدلّة الخاصّة ، وأنّ مفادها هل هو الفسخ في المجموع كما اختاره المشهور(2) ، حيث قالوا بعدم استحقاق إعمال الخيار في ردّ بعض المعيب ، أو المعيب الذي اشتراه مع الصحيح ، أو أنّ مفادها ثبوت حقّ الفسخ ولو في الابعاض ؟ والبحث في ذلك موكول إلى محلّه .
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّ ما نسب إلى المشهور(3) في المقام من أنّ الفسخ مطلقاً بأيّ سبب كان لا يؤثِّر إلاّ من الحين ، ولازمه تقسيط الاُجرة المسمّـاة ليس إطلاقه في محلّه ، وقد ذكر بعض المتتبعين : أنّ هذه النسبة غير ثابتة(4) ، والأمر سهل بعدما عرفت .
ثمّ إنّه بملاحظة ما ذكرنا من حكم صورة تجدّد الفسخ في الأثناء بعد القبض يعلم حكم سائر صور الفسخ بضميمة ما ذكرنا في التلف من حكم جميع الأقسام والصور ، فلا نطيل بالتعرّض لها تفصيلاً .
(1) في ص132 ـ 136.
(2) مسالك الأفهام: 3 / 286 ، رياض المسائل : 5 / 179 ـ 180 ، مفتاح الكرامة : 4 / 629ـ 630 ، جواهر الكلام: 23/ 247 ـ 248 ، كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 5 / 310 ، بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 174 .
(3) العروة الوثقى : 5 / 41 مسألة 5 .
(4) العروة الوثقى : 5 / 41 ، التعليقة 4 .
(الصفحة312)
مسألة : لو آجر داراً فانهدمت بطلت الإجارة إن خرجت عن الانتفاع الذي هو مورد الإجارة بالمرّة ، فإن كان قبل القبض أو بعده بلا فصل قبل أن يسكن فيها رجعت الاُجرة بتمامها ، وإلاّ فبالنسبة كما مرّ . وإن أمكن الانتفاع بها من سنخ مورد الإجارة بوجه يعتدّ به عرفاً، كان للمستأجر الخيار بين الإبقاء والفسخ ، ولو فسخ كان حكم الاُجرة على حذو ما سبق . وإن انهدم بعض بيوتها ، فإن بادر المؤجر إلى تعميرها بحيث لم يفت الانتفاع أصلاً ليس فسخ ولا انفساخ على الأقوى ، وإلاّ بطلت الإجارة بالنسبة إلى ما انهدمت وبقيت بالنسبة إلى البقيّة بما يقابلها من الاُجرة ، وكان للمستأجر خيار تبعّض الصفقة1 .
1 ـ هذه المسألة من المسائل التي وقع التعرّض لها من زمن القدماء إلى زماننا هذا ، وفي مفتاح الكرامة : قد نطقت عبارات الأصحاب من المقنعة(1) إلى الكتاب ـ يعني القواعد(2)ـ بأمرين : الأوّل : أنّه إذا انهدم المسكن ثبت له الخيار إلاّ أن يعيده المالك ، أو نحو ذلك ، الثاني : إذا انهدم المسكن سقطت الاُجرة إلاّ أن يعيده ، وقد علمت أنّ الظاهر أنّ معنى سقوط الاُجرة ثبوت الخيار ، فالجميع بمعنى واحد ، وقد ذكر قبل ذلك أنّ الأمر الثاني واقع في عبارات المقنعة والنهاية(3)والمراسم(4) والوسيلة(5) .
وقد زيد عليها ـ أي على إحدى العبارتين ـ بعض القيود من بعض الفقهاء ،
(1) المقنعة : 640 .
(2) قواعد الأحكام : 2 / 289 .
(3) النهاية : 444 .
(4) المراسم العلويّة: 199.
(5) الوسيلة : 267 ـ 268 .
(الصفحة313)
كالتقييد بما إذا أمكن إزالة المانع(1) ، أو بما إذا بقي أصل الانتفاع(2) ، أو بما إذا لم يكن الإنهدام من ناحية المستأجر(3) ، ولكنّ الظاهر استفادة كلّ ذلك من العبارة بحيث لا يحتاج إلى التنبيه عليه(4) ، فتدبّر .
وكيف كان ، فاعلم أنّه إذا انهدم المسكن وخرج عن الانتفاع بالمرّة ، أو عن الانتفاع الذي استأجره له بنحو التقييد ووحدة المطلوب ، ولم يمكن الإعادة في المدّة المأخوذة في الإجارة، فالظاهر كما صرّح به جماعة(5) هو بطلان الإجارة فيما إذا كان قبل القبض ، أو بعده قبل مجيء زمان السكنى .
وأمّا الانهدام مع إمكان الإعادة فمع عدم الإعادة من المالك يكون ظاهر العبارات ثبوت خيار الفسخ للمستأجر ، ومع الإعادة بحيث لا يفوت شيء من المنافع محلّ خلاف بين الأعلام ، وقبل الخوض في ذلك لابدّ من التعرّض لدفع شبهة عقلية يمكن إيرادها في المقام ; وهي أنّه بالانهدام تنعدم العين الشخصية التي هي مورد الإجارة ، والإعادة لا توجب بقاء الإجارة ; لأنّها تستلزم ثبوت عين اُخرى مغايرة لما هو مورد الإجارة ، فلا مجال للبحث عن ثبوت الخيار وعدمه ، بل اللاّزم الحكم بالبطلان بمجرّد الانهدام ، سواء كانت الإعادة ممكنة أم لا ، وسواء أعادها أم لم يعدها .
والجواب عنها : أنّ الغرض غالباً فيما لو كان مورد الإجارة هي العين الشخصية
(1 ، 2) جامع المقاصد : 7 / 141 ، مسالك الأفهام : 5 / 219 ، الروضة البهية : 4 / 353 .
(3) نسبه إلى الشهيد في مفتاح الكرامة : 7 / 154 ، واختاره في الحدائق الناضرة : 21/558 .
(4) مفتاح الكرامة : 7 / 153 ـ 154 .
(5) كالشيخ في المبسوط : 3 / 222 و224، وابن إدريس في السرائر : 2 / 258، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 5 / 219، والطباطبائي في رياض المسائل : 6/32.
(الصفحة314)
الخارجية إنّما تعلّق بها لأجل منافعها التي لا يتوقّف الوصول إليها على بقاء هذه الشخصية ، ألا ترى أنّ من استأجر داراً مخصوصة للسكنى يكون غرضه السكونة في مثل هذه الدار الواجدة للجهات المنظورة له ، ولا غرض له إلى نفس هذه الشخصية حتّى تكون إعادتها بالكيفيّة الأوّلية مخالفة لغرضه . نعم ، قد يتحقّق التخلّف مع الإعادة ولكنّه من الفروض النادرة ، فهذه الشبهة مخالفة لما عليه يبتني أساس باب المعاملات من ملاحظة الأغراض العرفية والأنظار العقلائية ، فدعوى البطلان مع إمكان الإعادة ساقطة بالمرّة .
ثمّ إنّه لايتوهّم أنّ مقتضى ما ذكرنا جواز الإبدال فيما لو آجره دابّة معيّنة لأجل الحمل أو الركوب مثلاً ثمّ هلكت الدابّة قبل ذلك ، نظراً إلى أنّ الغرض يتعلّق نوعاً بالركوب أو الحمل ، من دون نظر إلى خصوص الدابّة المعينة المستأجرة التي عرض لها التلف ، وعليه فيجوز لصاحب الدابّة إبدالها بدابّة اُخرى واجدة للجهات الملحوظة فيها ـ أي في الدابّة الاُولى ـ مع أنّ الظاهر بطلان الإجارة بسبب موت الدابّة المستأجرة المعيّنة .
وجه فساد التوهّم المزبور ثبوت الفرق بين المقام وبين الدابّة المفروضة ، فإنّ مغايرة الدابّة الثانية مع الاُولى لدى العرف أيضاً متحقّقة ، ومورد الإجارة إنّما هي الاُولى دون الثانية ، فلا وجه لبقاء الإجارة ، وأمّا المقام فالعين المعادة لا تتّصف بالمغايرة معها قبل الإعادة ، فالمقايسة فاسدة .
ثمّ إنّه يرجع إلى ما ذكرنا ـ من أنّ الحكم بالصحّة وعدمها يدور مدار أخذ الخصوصيّة بنحو يبقى مورد الإجارة بعد الانهدام والإعادة وعدمه ـ ما حكاه المحقّق الرشتي (قدس سره) عن شيخه العلاّمة بعد توصيفه بأنّه تحقيق رشيق وحاصله : أنّ الخصوصية إمّا أن تكون داخلة في متعلّق الإجارة دخول الجزء المقوّم في الكلّ ،
(الصفحة315)
وإمّا أن تكون خارجة وإن كانت مقصودة كالكتابة في العبد الكاتب ، وإمّا أن تكون داخلة باعتبار كونها إحدى الخصوصيات مخيّراً بينها أو مقدّماً بعضها على بعض، كما في صورة تعدّد المطلوب . فإن كان الأوّل تعيّن الانفساخ ، وإن كان الثاني تعيّن الخيار ، وإن كان الثالث تعين اللزوم على التسوية بين الخصوصيات والخيار على الترتيب .
هذا حكم الصور ، ولكن الواقع في الخارج المتعارف بين الناس في إجارات الدور والمساكن هو الثالث . ويمكن توجيه الخيار على الوجه الأوّل أيضاً بدعوى اتّحاد الخصوصية المعادة مع الاُولى في نظر العرف ، وإن كانتا متغايرتين بالدقّة ، فلا منافاة بين الأخذ بظاهر العقد القاضي بكون الخصوصية الاُولى داخلة في العقد ، وبين عدم البطلان والانفساخ مع إمكان الإعادة ، وإن ثبت الخيار من جهة تبدّل الخصوصية(1) .
وقد انقدح لك ممّا ذكرنا حكم الإجارة من حيث الصحّة وعدمها فيما لو أعاد المؤجر العين المستأجرة بسرعة بحيث لم يفت شيء من المنافع ، وأمّا لو أعادها بحيث فات مقدار معتدّ به من المنافع ، فالكلام فيه من الجهة الراجعة إلى البطلان وعدمه ، أنّه تارةً يكون زمن الانهدام الفاصل في البين مصادفاً لزمان يكون داخلاً في الإجارة بنحو التبع ، بحيث لم يتعلّق غرض المستأجر به إلاّ كذلك ، كالليل الداخل في إجارة الدكّان مثلاً ، فإنّ الغرض من استئجاره إنّما هو الاشتغال بالاكتساب فيه ، وهو لا يتحقّق نوعاً إلاّ في اليوم . غاية الأمر أنّه لم يعهد إجارته في خصوص الأيّام بحيث تكون في الليالي مرتبطة بالمؤجر . واُخرى يكون زمن
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 304 .
(الصفحة316)
الانهدام مصادفاً لزمان يكون ملحوظاً للمستأجر مقصوداً له بالذات ، سواء كان الانهدام متحقّقاً في حال استيفاء المستأجر للمنفعة ، أو إرادته ، أو في حال عدم الاستيفاء وإرادته للسفر ونحوه .
والبحث عن هاتين الصورتين تارةً يقع من حيث حكم الإجارة صحّة وبطلاناً في خصوص زمان الانهدام ، واُخرى من حيث حكمها كذلك في الزمان السابق على الانهدام لو كان واقعاً في أثناء مدّة الإجارة ، وثالثة من جهة حكم ما بعد الانهدام والإعادة والتعمير .
أمّا حكم زمن الانهدام في الصورة الاُولى ; كما إذا انهدم الدكّان مثلاً في الليل فأعاده المؤجر قبل دخول النهار ، بحيث كانت الخصوصيّة المعادة متّحدة بنظر العرف مع الخصوصية الاُولى ، التي وقعت متعلّقة للإجارة ، فمقتضى القاعدة وإن كان بطلان الإجارة في هذا المقدار من الزمان ، لعدم ثبوت العين المستأجرة وعدم ترتّب المنفعة عليها بهذا المقدار ، إلاّ أنّه حيث يكون الليل داخلاً في مدّة الإجارة تبعاً بحيث لم يتعلّق الغرض الأصلي إلاّ بالاشتغال فيه بالاكتساب في خصوص الأيّام ، فالظاهر أنّ فوات المنفعة بهذا المقدار بمنزلة عدم فوات المنفعة أصلاً ، فلامجال للبطلان بحسب نظر العرف ، وإذا لم تكن الإجارة في زمان انهدام العين باطلة ، ففي زمان عدم تحقّق الانهدام ، وكذا زمان الإعادة والتعمير أي بعدهما لا تتّصف بالبطلان بطريق أولى ، إلاّ أن لا تكون الخصوصيّة المعادة متّحدة مع الاُولى ، وهو خروج عن الفرض .
وأمّا حكم زمان الانهدام في الصورة الثانية ، كما إذا انهدمت الدار في مدّة الإجارة وكانت الإعادة متوقّفة على مضيّ أيّام مثلاً ، فالظاهر بطلان الإجارة في هذا المقدار ، لعدم ثبوت المنفعة فيه بحسب الواقع ونفس الأمر ، فهو بحكم التلف .
(الصفحة317)
غاية الأمر أنّه حيث تكون العين ممكنة الإعادة لا يجري في هذه الصورة حكم التلف الحقيقي ، وأمّا من هذه الجهة فيشترك المقامان كما هو غير خفيّ ، ولا فرق في هذه الصورة بين ما إذا كان المستأجر في حال الاستيفاء أو مريداً له ، وبين ما إذا كان غائباً غير مريد للاستيفاء لأجل السفر ونحوه ، وذلك لأنّ مجرّد عدم إرادة الاستيفاء لا يوجب أن لا يكون الغرض متعلّقاً بسبب الإجارة بتملّك المنفعة في جميع مدّة الإجارة ، واللاّزم رعاية الغرض المعاملي كما هو غير خفيّ . وبالجملة فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال في بطلان الإجارة في خصوص زمان الانهدام في هذه الصورة بكلا الفرضين .
نعم ، يقع الكلام في حكم الزمان السابق على الانهدام واللاحق على الإعادة والتعمير ، أمّا الزمان السابق فلا وجه لدعوى بطلان الإجارة فيه إلاّ مع فرض كون مجموع الزمان المذكور في الإجارة مأخوذاً بنحو وحدة المطلوب ، كما هو الفرض غير الغالب ، وأمّا في الفروض الشائعة الغالبة التي يكون الغرض فيها متعلّقاً بأجزاء الزمان على نحو الاستقلال لا بالمجموع من حيث هو مجموع ، فلا مجال لاحتمال البطلان في الزمان السابق ، الذي كانت العين فيه معدّة للاستيفاء ، سواء استوفى منها أم لا ، وأمّا الزمان اللاحق على الإعادة والتعمير فالظاهر أنّه أيضاً كذلك .
ودعوى أنّه كيف تعود الإجارة صحيحة مع الحكم ببطلانها زمن الانهدام مدفوعة بما عرفت(1) من تعدّد المطلوب بحسب تعدّد أجزاء الزمان ، وهو يوجب انحلال الإجارة إلى إجارات متعدّدة حسب ذلك التعدّد ، فعروض البطلان لبعضها
(1) في ص289.
(الصفحة318)
بسبب فوات المنفعة لا يوجب خروج البقيّة عن الحكم بالصحّة ، فتدبّر جيّداً ، هذا كلّه حكم الإجارة مع الانهدام من جهة الصحّة والبطلان .
وأمّا من حيث ثبوت الخيار فربما يقال بأنّه لا مجال للبحث عن هذه الجهة بعد البحث عن الصحّة والبطلان ; لأنّه مع فرض الصحّة في جميع أجزاء الزمان كما إذا لم يفت شيء من المنفعة أصلاً ، أو لم يفت شيء من المنفعة التي تعلّق بها الغرض الأصلي ، تكون الإجارة صحيحة لازمة ، ولا موقع لدعوى ثبوت الخيار فيها أصلاً ، ومع فرض البطلان كما إذا فاتت المنفعة في بعض أجزاء الزمان لا وجه لدعوى الخيار في الإجارة الباطلة ; لأنّ العقد الذي يمكن جريان الخيار فيه هو ما كان متّصفاً بالصحّة كما هو واضح ، وعليه فالبحث في الخيار وعدمه لا مجال له بعد وضوح حكم الإجارة صحّة وبطلاناً .
والجواب : أنّه يمكن البحث فيه على كلا التقديرين :
أمّا على تقدير صحّة الإجارة في جميع أجزاء الزمان فيمكن أن يكون الخيار لأجل تخلّف الوصف ، كما إذا كان غرض المستأجر متعلّقاً بالعين بوصف كون عماراتها وبنائها قديمة ، فمع الانهدام والإعادة وإن لم يتحقّق التغاير الموجب للبطلان بحسب نظر العرف إلاّ أنّه انعدم الوصف الذي كان ملحوظاً للمستأجر ، ومن الظاهر أنّ انعدام الوصف لا ينجبر إلاّ بالخيار .
وأمّا على تقدير البطلان فلأنّ البطلان إنّما هو في مقدار خاصّ من الزمان ، ويمكن ثبوت الخيار للمستأجر بالنسبة إلى غيره من الزمانين ، أو خصوص الزمان اللاحق على الإعادة والتعمير ، فللبحث عن ثبوت الخيار بعد البحث عن الصحّة والبطلان مجال واسع .
وكيف كان ، فهل الانهدام بمجرّده يوجب الخيار أم لا ؟ الظاهر أنّهم يحكمون
(الصفحة319)
بأنّ مجرّد الانهدام مورث له ، من غير فرق بين ما إذا أعاده المالك وما إذا لم يعده ، وكذا من دون فرق في صورة الإعادة بين ما إذا كانت بسرعة بحيث لا يفوت شيء من المنافع ، وما إذا لم تكن كذلك . قال في محكي الإيضاح : إعلم أنّه إمّا أن يفوت شيء من المنافع على المستأجر أو لا ، فإن كان الأوّل فله الفسخ قطعاً ، وإن لم يفت فهي المسألة ـ يعني المسألة المفروضة في القواعد بقوله : فإن بادر المالك إلى الإعادة فالأقرب بقاء الخيار(1) ـ لأنّ النصّ على أنّ الانهدام سبب للخيار ، والشارع إذا علّق حكماً بوصف لم يعتبر حصول الحكمة التي هي مظنتها بالفعل ، فمن ثمّ جاز الفسخ ، ومن حيث إنّه لم يفت شيء من المنافع التي وقع عليها العقد [فلا خيار] ، والأصحّ الأوّل(2) . ونسب إلى الرياض(3) وفاقاً للمحكي عن شرح العميدي(4) على القواعد عدم الخيار ولزوم العقد إذا لم يفت شيء من المنافع وبادر المالك إلى الإعادة .
والحقّ أنّ مستند ثبوت الخيار بنفس الانهدام إمّا أن يكون هو النصّ ، أو ما بحكمه كالذكر في مثل كتب المقنعة والنهاية والمراسم من الكتب المعدّة لإيراد فتاوى الأئمّة (عليهم السلام)بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، وإمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون حديث نفي الضرر(5) :
أمّا النصّ فنحن لم نتحقّقه ، وإن كان صريح الإيضاح في العبارة المتقدّمة وجود
(1) قواعد الأحكام : 2 / 289 .
(2) إيضاح الفوائد : 2 / 254 .
(3) رياض المسائل : 6 / 32 ـ 33 .
(4) كنز الفوائد: 2 / 14.
(5) وسائل الشيعة : 25 / 428 ـ 429 ، كتاب إحياء الموات ب12 ح3 ـ 5 .
(الصفحة320)
نصّ في هذا الباب ولكنّه لم يشر إليه غيره ، وقال في مفتاح الكرامة : إنّا لم نجده(1) ، وأمّا ما هو بحكم النص فالإشكال فيه من وجهين :
الأوّل : أنّ كونه بحكم النصّ محلّ نظر عند بعض الأعلام ، وإن كان سيّدنا العلاّمة الاُستاذ قدّس سرّه الشريف يعامل مع هذه الكتب معاملة كتب الأخبار والروايات اعتماداً على القرائن التي منها ادّعاء أصحاب تلك الكتب ذلك ، ولكنّه ربما قيل بمنع صحّة هذا الادّعاء ، والتحقيق في محلّه .
الثاني : أنّ دلالة عبارات تلك الكتب على ثبوت الخيار بمجرّد الانهدام مطلقاً ولو مع إعادة المالك بسرعة بحيث لايفوت شيء من المنافع ممنوعة ، كما يظهر بمراجعتها(2) .
وأمّا الإجماع ـ فمضافاً إلى مخالفة بعض الفقهاء ممّن تقدّم ومناقشة بعض آخر في الحكم كصاحب الجواهر(3) ـ فالظاهر عدم كونه دليلاً مستقلاًّ في قبال حديث نفي الضرر ومثله .
وأمّا الحديث ـ فمضافاً إلى احتمال أن تكون القاعدة صادرة في مقام أعمال الحكومة والسلطنة من دون أن يكون لها نظارة إلى الأحكام الأوّلية ، كما في قاعدة الحرج ومثلها ، وإلى ما ذكرناه مراراً من عدم إفادته للخيار الذي هو من الحقوق ويكون قابلاً للإسقاط ، بل غايته نفي اللزوم على نهج العقود الجائزة بالذات ـ نقول : إنّ دلالته على ثبوت الخيار بمجرّد الانهدام مطلقاً ممنوعة ، فإنّه مع الإعادة بسرعة بحيث لا يفوت شيء من المنافع لا يتحقّق هنا ضرر أصلاً ، ومع الفوات
(1) مفتاح الكرامة : 7 / 154 .
(2) المقنعة : 640 ، النهاية : 444 ، المراسم العلوية : 199 .
(3) جواهر الكلام : 27 / 310 .
|