(الصفحة361)
أو لا تتجاوز عن حد الكراهة ؟ والنهي إنّما يبيّن حدّ تلك المفسدة وأنّها مفسدة ملزمة يجب الاجتناب عنها ، ومنه يظهر أنّ مفهوم رواية إسحاق بن عمّار الدالّة على نفي البأس إذا أصلح فيها شيئاً لا ينافي دليل الحرمة ; لأنّ ثبوت البأس ليس ظاهراً في الكراهة حتّى يكون مقتضياً لعدم الحرمة ، بل هو غير مقتض لشيء من الكراهة والحرمة ، ولا ينافي ثبوت واحد منهما . وبذلك يظهر أنّ مقتضى الجمع بين الروايات الواردة في الدار هو الحكم بالحرمة مع عدم الإحداث ، وبالجواز من دون كراهة معه .
ودعوى أنّه كيف يمكن الفتوى بالحرمة مستنداً إلى رواية واحدة مع بعدها عن الأذهان وكون غيرها مغروساً فيها ، وبعبارة اُخرى : كيف يمكن رفع اليد عن السيرة العقلائية بمجرّد رواية واحدة ، خصوصاً مع اشتمالها على النهي الذي يكون استعماله في الكراهة كثيراً جدّاً ، مدفوعة بعدم جواز رفع اليد عن الرواية التامّة من حيث السند والدلالة بمجرّد كون مفادها بعيداً عن أذهان العقلاء ، خصوصاً مع كون السؤال فيها وفي مثلها دليلاً على أنّ أذهان السائلين كانت غير بعيدة عن الحكم بالحرمة ، وبالجملة لا محيص بناءً على ما ذكرنا من الحكم بالحرمة . هذا كلّه بناءً على اختلاف الدار والبيت .
وأمّا بناءً على اتّحادهما وكونهما بمعنى المسكن كما يظهر من بعض كتب اللغة(1) ، ويستفاد من المحقّق في الشرائع(2) ، حيث أورد لفظ المسكن مع عدم وروده في شيء من الروايات ; نظراً إلى أنّه معنى الدار والبيت الواردين فيها ، فيصير الحكم
(1) لسان العرب : 1 / 275 .
(2) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(الصفحة362)
بالحرمة أوضح . غاية الأمر أنّه لابدّ حينئذ من تقييد ما ورد في البيت ممّا يدلّ على أنّ فضله حرام ، الذي عرفت أنّ المتفاهم عند العرف منه كون المعاملة المشتملة على الفضل محرّمة بما إذا لم يحدث فيه شيئاً ، نظراً إلى نفي البأس في رواية إسحاق ، والاستثناء من قوله : «لا يصلح» ومن النهي في روايتي الحلبي .
ثمّ إنّه بناءً على الاتّحاد لا مجال إلاّ للحكم بالحرمة التكليفية . ودعوى احتمال ثبوت الحرمة الوضعية أيضاً لظهور رواية الدار فيها ، مدفوعة بوضوح عدم ثبوت الحرمتين في المقام كما في الربا ، كما أنّ دعوى احتمال ثبوت خصوص الحرمة الوضعية للرواية الواردة في الدار ، مدفوعة بأقوائية ظهور كلمة «الحرام» في الحرمة التكليفيّة من ظهور النهي في الإرشاد إلى الفساد كما لايخفى ، وأمّا بناءً على الاختلاف فيمكن أن يقال : بأنّ النهي الوارد في رواية الدار إرشاد إلى فساد المعاملة وعدم ترتّب الأثر عليها ، فيقع الاختلاف بين الدار والبيت من هذه الجهة أيضاً بمقتضى ظاهر دليلهما ، فتدبّر .
ثمّ إنّ الظاهر أنّ رواية قرب الإسناد المتقدّمة الواردة في البيت أجنبيّة عن المقام ; لعدم دلالتها على وقوع معاملة ثانوية بين مستأجر البيت والخيّاط أو غيره ، بل ظاهره تشريك الخيّاط مع نفسه في الإجارة الأوّلية . غاية الأمر حصول إضافة على أجر البيت الذي كان بينهما لأجل الربح ، وهذا غير ماهو المفروض في المقام .
نعم ، لو فرض كون المراد وقوع معاملة ثانويّة بينهما بنحو الإجارة لكانت الرواية مرتبطة بما نحن فيه ، وعليه فيحتمل أن يكون المراد من قوله : «وما ربحت فلي ولك» أن تكون الاُجرة التي بينهما مدفوعة من الربح الحاصل ، ويحتمل ـ كما هو ظاهر ـ أن يكون المراد منه البناء على تقسيط الربح ، مضافاً إلى البناء على كون
(الصفحة363)
الأجر بينهما، ففي الحقيقة تكون الإجارة الثانية واقعة على طبق الإجارة الاُولى على فرض التقسيط . غاية الأمر أنّه اشترط فيها كون الربح الذي يحصل للخيّاط منقسماً بينهما ، فعلى الاحتمال الأوّل لا دلالة للرواية إلاّ على جواز كون اُجرة البعض زائدة على ما وقع بإزائه من الاُجرة في الإجارة الاُولى على فرض التقسيط ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون الزائد أكثر من أجر المجموع ، وبين كونه مساوياً أو أقلّ . ولا يخفى أنّه بناءً على هذا الاحتمال يقع الإشكال في صحّة الإجارة الثانية للجهالة التي تنشأ من الجهل بمقدار الربح حين الإجارة .
وعلى الاحتمال الثاني تدلّ الرواية على جواز كون اُجرة البعض بضميمة الاشتراط زائدة على اُجرة المجموع ، نظراً إلى قوله : «فربح أكثر من أجر البيت» ، وحينئذ لابدّ إمّا من الالتزام بكون الزيادة إذا حصلت من طريق الاشتراط فهي غير مضرّة ، فلا منافاة بين هذه الرواية وبين ما ورد من أنّ فضل البيت حرام ; لظهوره في الفضل مع قطع النظر عن الاشتراط ، وإمّا من الالتزام بكون ما يدلّ على أنّ فضل البيت حرام وارداً فيما إذا آجر البيت الذي استأجره بتمامه ، وأمّا هذه الرواية فموردها ما إذا آجر بعض البيت ، ولا منافاة بين كون الفضل في المجموع حراماً ، وبين عدم كونه في البعض كذلك وان كان زائداً على أجر المجموع . والظاهر أنّ شيئاً من الالتزامين ـ خصوصاً الثاني ـ ممّا لا يقبله الذوق السليم والطبع المستقيم ، والذي يسهل الخطب ما عرفت من كون الرواية أجنبيّة عن المقام .
وأمّا الحانوت: الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بالخان(1) نظراً إلى أنّه بمعناه
(1) شرائع الإسلام : 2 / 181 .
(الصفحة364)
فقد وردت فيه رواية واحدة ; وهي رواية أبي المغرا المتقدّمة(1) الدالّة على نفي المماثلة بين الأرض ، وبين الحانوت والأجير وأنّ فضلهما حرام ، وعليه فلا ينبغي الإشكال في حرمة الفضل فيه ; لعدم ثبوت المعارض للرواية الدالّة على الحرمة .
وأمّا الرحى: فقد وردت فيها روايتان :
إحداهما : ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : إنّي لأكره أن أستاجر الرحى وحدها ثمّ أُؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها إلاّ أن أحدث فيها حدثاً أو أغرم فيها غرماً(2) .
ثانيتهما : رواية أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إنّي لأكره أن استأجر رحى وحدها ثمّ أُؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها به إلاّ أن يحدث فيها حدثاً أو يغرم فيها غرامة(3) .
ولا يخفى أنّ الكراهة في لسان الأخبار وإن لم يكن لها ظهور في الكراهة المصطلحة المقابلة للحرمة ، إلاّ أنّه لا دلالة لها على خصوص الحرمة بلا ريب ، بل القدر المتيقّن مطلق المرجوحيّة غير الدالّ على خصوص أحد الفردين ، ولأجله لا تجوز الفتوى به . نعم ، لا مانع من الارتكاب عملاً لعدم ثبوت الحرمة .
وأمّا السفينة: فقد وردت فيها روايتان أيضاً :
إحداهما : رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة ، عن جعفر ، عن أبيه (عليهما السلام) أنّ أباه كان يقول : لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا
(1) في ص352.
(2) الفقيه : 3 / 149 ح653 ، وسائل الشيعة : 19 / 124 ، كتاب الإجارة ب20 ح1 .
(3) الكافي : 5 / 273 ح9 ، وسائل الشيعة : 19 / 130 ، كتاب الإجارة ب22 ح5 .
(الصفحة365)
استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً(1) .
ثانيتهما : الزيادة التي رواها عليّ بن جعفر في محكي كتابه ـ بعد روايته المتقدّمة المروية في قرب الإسناد(2) ـ وهي قوله : وسألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم ونصف وسكن هو فيما بقي ، أيصلح ذلك ؟ قال : لا بأس(3) .
والرواية الاُولى تدلّ بمفهومها على ثبوت البأس في الثلاثة إذا لم يصلح فيها شيئاً ، والظاهر أنّ ثبوت البأس بمجرّده لا ظهور له في الحرمة ، خصوصاً مع عدم ثبوت الحرمة في الأرض كما عرفت ، وثبوتها في الدار لا ينافي ذلك ; لأنّ اشتراكهما في مطلق المرجوحية يكفي في ذكر السفينة معطوفة عليهما سيّما مع كون المنطوق وهو نفي البأس إذا أصلح ، ثابتاً في الجميع على نسق واحد ، فتدبّر .
والرواية الثانية وإن لم تكن متعرّضة لما هو مورد البحث في المقام إلاّ أنّه يمكن أن يقال : بأنّ السؤال فيها يكشف عن أنّ المرتكز في ذهن السائل ـ وهو علي بن جعفر (عليه السلام) ـ هو عدم جواز الإجارة بالأكثر ; لأنّه مع عدم هذا الارتكاز لا يبقى للسؤال المذكور مجال ، وعليه فيرفع الإبهام عن الرواية الاُولى أيضاً ، ويكشف عن أنّ المراد من البأس هو الحرمة ، كما لا يخفى .
وينبغي التنبيه على اُمور :
الأوّل : إنّك قد عرفت أنّ العناوين المأخوذة في الروايات المحكومة بأحد الحكمين بل الأحكام : الجواز والكراهة والحرمة لا تتجاوز عن سبعة ، وقد تقدّم
(1، 2) تقدّمتا في ص359.
(3) تقدّمت في ص356.
(الصفحة366)
البحث في كلّ واحد منها مستقلاًّ . نعم ، بقي البحث في الأجير الذي نتكلّم فيه عند تعرّض الماتن ـ دام ظلّه ـ له ، فاعلم أنّه حكي عن غير واحد من الأصحاب ، بل نسب إلى السيّدين(1) والشيخين(2) والصدوق(3) وبعض آخر(4) القول بالتعدّي وعدم اختصاص الحكم بالعناوين المأخوذة في الروايات ، والقول بالتعدّي وإن كان غير تامّ ـ لوجوه عمدتها كون الحكم في الروايات على خلاف القاعدة المقتضية للجواز ، ولابدّ في مثله من الاقتصار على القدر المتيقن ، ويدلّ عليه بعض الاُمور الآتية ; مثل عدم الإمكان في رواية الأرض الدالّة على نفي المماثلة بينها وبين البيت والأجير ـ إلاّ أنّه لا مانع من ملاحظة مقتضى الجمع بين الأخبار المختلفة المتقدّمة على فرض التعدّي وإلغاء الخصوصية فنقول :
قال المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في هذا المقام ـ بعد بيان مقتضى الروايات على ماسلكه من ملاحظة خصوص العناوين المأخوذةـ : وأمّا على ما سلكه غير واحد من استفادة الكليّة من الأخبار بجعل العناوين المتقدّمة من باب المثال ، وأنّ الحكم للعين المستأجرة بما هي ، ولذا عبّر غير واحد في عنوان المسألة بإجارة العين المستأجرة بأكثر ممّا استأجرها به ، فالصحيح هو الحكم بالكراهة في الكلّ بتفاوت بين الأعيان المستأجرة شدّةً وضعفاً ، إذ بعد إلغاء الخصوصيات تكون نصوص الجواز ونصوص المنع من باب النصّ والظاهر ، ولا يمكن إبقاء الحرمة على حالها في خصوص البيت والحانوت والأجير ، بتوهّم أنّ الدليل المتكفِّل للحرمة مخصّص
(1) الانتصار : 475 ، غنية النزوع : 286 ـ 287 .
(2) النهاية : 445 ، المبسوط : 3 / 226 ، المقنعة : 640 .
(3) المقنع : 391 ـ 392 .
(4) المراسم : 199 ، الوسيلة : 268 ، الكافي في الفقه : 346 .
(الصفحة367)
للكليّة المستفادة من نصوص الجواز ; وذلك لأنّه مناف لإلغاء الخصوصيات الموجب لورود المنع والجواز على العين المستأجرة بما هي عين ، لا بما هي أرض أو بيت أو حانوت ، إلاّ أنّ إلغاء الخصوصيات دونه خرط القتاد(1) .
أقول : يرد على ما أفاده ـ من أنّ الصحيح بناءً على إلغاء الخصوصيّة هو الحكم بالكراهة في الكلّ ـ أنّ الحكم بالكراهة إنّما هو لأجل الجمع بين أخبار المنع وأخبار الجواز كما اعترف (قدس سره) به ، مع أنّ أخبار الجواز بين ما يدلّ على الجواز مطلقاً ، من دون فرق بين ما إذا أحدث وما إذا لم يحدث ، وبين ما يدلّ عليه في خصوص ما إذا أحدثوأصلح، أمّاالطائفة الاُولى فهي الأخبار الواردة في الأرض فقط ، وقد عرفت أنّ هذه الطائفة أجنبيّة عن المقام واردة في باب المزارعة ، وعلى تقدير ورودها في باب الإجارة لا معنى لإلغاء الخصوصية عنها بالنسبة إلى الأرض ، ضرورة أنّ ما يدلّ على نفي المماثلة بين الأرض وبين البيت والحانوت والأجير لا يعقل فيه دعوى التعدّي ; لأنّ مرجعه إلى دلالته على الجواز في الجميع ، والحرمة كذلك .
أمّا الأوّل: فلأنّه مقتضى إلغاءالخصوصية عن الأرض التي حكم فيها بعدم البأس.
وأمّا الثاني: فلأنّه مقتضى التعدّي عن العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة ، فاللاّزم دلالة دليل واحد على الجواز في الجميع ، والحرمة كذلك . ومن الواضح أنّه لايتفوّه به أحد ، فاللاّزم أن يقال : إنّ القائل بالتعدّي وإلغاء الخصوصية إنّما يحكم بذلك في غير الأرض ، وعليه فليس مقتضى الجمع هو الحمل على الكراهة ; لأنّ الروايات حينئذ بين ما يدلّ على المنع مطلقاً ، وبين ما يدلّ على نفي البأس فيما إذا أحدث شيئاً ، ومقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد هو القول بالحرمة مع عدم الإحداث .
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 63.
(الصفحة368)
ثمّ إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا يرد عليه أيضاً أنّه على فرض الإطلاق في كلتا الطائفتين : المانعة والمجوِّزة ، نقول : إنّ الروايات المانعة ليس المنع فيها بطريق النهي فقط حتّى يقال : إنّ حمل النهي على الكراهة لأجل دليل الجواز جمع مقبول لدى العرف والعقلاء ، بل بعضها قد استعمل فيها لفظ الحرمة ، كالروايات الواردة في تلك العناوين الثلاثة ، وهو إن كان أيضاً ظاهراً في الحرمة المصطلحة وليس نصّاً فيها ، إلاّ أنّ العرف يرى التعارض بين ما يدلّ على حرمة شيء ، وبين ما يدلّ على نفي البأس عنه ، والعمدة في باب المتعارضين والمتبع فيه هو نظر العرف ، فلا مجال للحمل على الكراهة ، بل لابدّ من إعمال قواعد التعارض وأحكام المتعارضين .
ثمّ إنّه ربما يورد عليه أيضاً بأنّ ما أفاده من أنّه على تقدير إلغاء الخصوصية لا وجه لإبقاء الحرمة في بعض العناوين لمنافاته لإلغائها غير تامّ ; لأنّه يمكن الجمع بين الأمرين; نظراً إلى أنّ كثرة نصوص الجواز تمنع عن الحكم باختصاصه بالعناوين المأخوذة فيها ، خصوصاً مع كونه مقتضى القاعدة على ما عرفت في أوّل البحث ، وحينئذ فلا مانع من استفادة عموم الجواز من أدلّته ، وأمّا دليل الحرمة فيمكن أن يقال باختصاصه بخصوص العناوين المأخوذة فيه ; لاشتراكها في قدر جامع لايتجاوزها ، وهذا لايكون منافياً لإلغاء الخصوصية كما لا يخفى . والذي يسهل الخطب أنّ ذلك كلّه مبنيّ على دعوى إلغاء الخصوصية ، وهي كما اعترف به (قدس سره)دونها خرط القتاد .
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه بناءً على اختصاص الحكم بالعناوين المأخوذة في الروايات يكون الحكم في غير تلك العناوين كالثوب والدابّة وغيرهما على وفق القاعدة المقتضية للجواز ، كما هو ظاهر .
الأمر الثاني : قد استثني في العبارات من التحريم أو الكراهة أمران :
(الصفحة369)
أحدهما : ما إذا أحدث شيئاً ، وقد وقع التصريح باستثنائه وبعدم البأس معه في النصوص الواردة في الدار والسفينة والرحى ، وأمّا الروايات الواردة في الأرض فقد عرفت أنّ جُلّها أجنبيّ عن المقام ، وبعض ماورد منها في باب الإجارة قد صرّح فيها بعدم البأس فيما إذا أصلح فيها شيئاً كما تقدّم ، فلم يبق إلاّ الروايات الواردة في البيت والحانوت ، وهذه الروايات الدالّة على حرمة فضل هذين العنوانين كالأجير خالية عن استثناء صورة الإحداث ، مع أنّ الظاهر من العبارات استثناء هذه الصورة في جميع العناوين .
وربما يقال في وجهه : تارةً بأنّ هذه الروايات وإن لم يقع فيها التعرّض للاستثناء ، إلاّ أنّه لا إطلاق لها حتّى يكون مقتضاها الحرمة مطلقاً ; لأنّها مسوقة لبيان جواز إجارة الأرض وأنّها ليست مماثلة لهذه العناوين في الحرمة ، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الحرمة وشمولها لصورة الإحداث .
واُخرى بأنّ هذه العناوين الثلاثة عبارة عن الأجير الذي لا موقع للاستثناء فيه، والبيت الذي هو متّحد مع الدار الذي نصّ على الاستثناء فيه في دليله ، والحانوت الذي لم يرد فيه نصّ ، والمظنون قويّاً كونه كرديفه : الدار في رفع الحرمة بإحداث الحدث .
وثالثة بأنّ مقتضى التعدّي عن العناوين المأخوذة في الروايات وإلغاء الخصوصية عنها إسراء حكم المستثنى أيضاً إلى جميع الموارد ، وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال بإلغاء الخصوصية من الاستثناء فيه ، والحكم بعدم اختصاصه بخصوص ما وقع فيه التصريح به ، بل يعم مثل البيت والحانوت أيضاً .
وأنت خبير بعدم تماميّة شيء من هذه الوجوه :
أمّا الوجه الأوّل : فلأن الظاهر من تلك الروايات إفادة كون الموضوع للحرمة
(الصفحة370)
هو مجرّد الفضل في العناوين الثلاثة ، وليس الغرض مجرّد إفادة نفي المماثلة بين الأرض وبينها ، وإلاّ لكان اللاّزم الاقتصار على الحكم بنفي البأس في الأرض وأنّها ليست مثلها ، فيصير قوله (عليه السلام) : «إنّ فضل البيت حرام»(1) ، بعد ذلك بمنزلة التكرار الذي هو خلاف الظاهر ، فالظاهر كونه مسوقاً لبيان الحكم وأنّ تمام الموضوع هو مجرّد الفضل ، فلا مجال لإنكار الإطلاق .
وأمّا الوجه الثاني : فعدم كون الأجير موقعاً للاستثناء ممنوع ; لأنّه يمكن فيه أيضاً تصوّر الإحداث ، بأن يجهزه للعمل مثلاً زائداً على تجهيزاته ونحو ذلك ، والبيت لم يعلم اتّحاده مع الدار كما عرفت .
وأمّا الوجه الثالث : فدعوى إلغاء الخصوصية مطلقاً من المستثنى منه والمستثنى معاً قد عرفت أنّ دون إثباتها خرط القتاد ، ودعوى إلغاء الخصوصية من خصوص المستثنى وإن كان يمكن توجيهها ; بأنّ الظاهر أنّ استثناء صورة الإحداث إنّما هو للخروج بذلك عن الربا التي هي الحكمة في أصل الحكم ، إلاّ أنّ رفع اليد عن الإطلاقات بمجرّدهذه الدعوى مع عدم ثبوتها بالبيّنة أو البرهان في غاية الإشكال .
فظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لا وجه للاستثناء في العناوين الثلاثة المحكومة بالحرمة لعدم الدليل عليه ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ الموضوع للحرمة في هذه الروايات هو عنوان الفضل ، وتحقّق هذا العنوان في صورة الإحداث غير معلوم ، وهذا بخلاف سائر الروايات الدالّة على النهي عن الإيجار بأكثر ممّا استأجر العين به ، فإنّ عنوان الأكثرية متحقّق في كلتا الصورتين كما هو ظاهر ، وعليه فلا موقع في المقام للاستثناء ، بل يصير على تقديره كالاستثناء المنقطع .
(1) تقدّم في ص352 .
(الصفحة371)
ثمّ إنّه قد وقع في الروايتين المتقدّمتين الواردتين في الرحى استثناء صورة الغرامة أيضاً ، وليس له في كلام الأصحاب ذكر ، والظاهر أنّ المراد بها ما غرّمه بإزاء عمل في الرحى في مقابل الإحداث الظاهر في عمله فيه بنفسه ، فتدبّر .
ثمّ إنّ إحداث الحدث في العين المستأجرة هل يشمل مثل الكنس والتنظيف ونظائرهما أم لا ؟ وجهان ، والظاهر هو الوجه الثاني .
ثانيهما : ما إذا كانت الاُجرة مغايرة لجنس الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وقد حكي عن الإيضاح أنّه قال : وقال الشيخان(1) والمرتضى(2) وسلاّر(3) والصدوق في المقنع(4) وأبو الصلاح وابن البراج في المهذّب(5) بالمنع مع اتّحاد الجنس(6) ، وهو أيضاً ظاهر المتأخّرين(7) بل صريحهم ، ولكن الروايات المتقدّمة ليس في شيء منها الإشعار بهذا الاستثناء ، وغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المتبادر من لفظ «الأكثر» لزوم التماثل واتّحاد الجنس ; لأنّه لا يقال في المختلفين : إنّ هذا أكثر من الآخر ، ولكنّه اُجيب عنه بالمنع طرداً وعكساً ; إذ يصحّ أن يقال : هذه الحنطة أكثر من هذا الزبيب مع اختلافهما ، ولا يصحّ أن يقال : هذا الحمار أكثر من هذا الحمار .
ويمكن التوجيه بوجه آخر يستفاد من كلام المحقّق الرشتي (قدس سره) ، حيث قال : إنّ الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى ذكر التميّز في الاستعمالات ، وإلاّ
(1) النهاية : 439 ، المقنعة : 636 ، لكنّه قائل بالكراهة دون التحريم.
(2) الانتصار : 475 .
(3) المراسم : 198 ، لكنّه قال بالكراهة.
(4) اُنظر المقنع : 391 ـ 392 .
(5) المهذّب : 1 / 474 و 486.
(6) إيضاح الفوائد : 2 / 250 .
(7) كصاحب جامع المقاصد : 7 / 119 ، ومسالك الأفهام : 5 / 180 ، وجواهر الكلام : 27 / 222 .
(الصفحة372)
كان مجملاً خارجاً عن حدّ الإفادة لا أن تكون حرمة الكثرة بقرينة المقام معلومة ، فيصحّ استعمالها بدون ذكر التميّز ، وحيث لم يذكر الراوي تميّزاً فلابدّ أن يُحمل كلامه على صورة تكون حرمة الكثرة فيها معلومة ، وليست إلاّ بعض أقسام متّحد الجنس(1) ، وحاصله الأخذ بالقدر المتيقّن بعد الإجمال وعدم وضوح المراد منها .
ولكنّه يرد عليه : أنّ الظاهر كون الأكثر في المعاملات ملحوظاً بالنظر إلى القيمة ، فتعمّ الروايات للاُجرتين المختلفتين إذا كانت الثانية أكثر من الاُولى من حيث الماليّة .
وربما يتوهّم في توجيه الاستثناء أنّ الوجه فيه صدق الربا في المتجانسين دون المختلفين .
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يعلم كون المراد بالجنس في هذا المقام في كلام المشهور هو الجنس في باب الربا ، بحيث كانت الحنطة والشعير مثلاً من جنس واحد ، بل الظاهر أنّهما في هذا المقام متغايران ، وإلى أنّ الربا إنّما تجري في خصوص مثل المكيل والموزون ، وظاهرهم هنا المغايرة مطلقاً كما لا يخفى ـ : أنّ تحقّق الربا في المقام ولو على القول بصدقه على مطلق الزيادة ممنوع جدّاً بعد تعدّد المعاملة وعدم الارتباط بينهما ، فالإنصاف أنّه لا يمكن توجيه الاستثناء الواقع في كلام المشهور بوجه خال عن المناقشة .
والتحقيق أنّ المراد بالأكثرية في الروايات هو الأكثرية في المالية ; وهي غير منوطة بالتماثل ، لا فيما كانت الاُجرة متمحّضة في المالية كالنقود ، فإنّ اتّصاف عشرة دنانير بكونها أكثر من عشرة دراهم واضح ، ولا في غير هذه الصورة كغير
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة373)
النقود ، فإنّ مقام الثمنية والاُجرة كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1) مقام النقدين في التمحّض في المالية ; لأنّه لم يلاحظ في مقام عوضية شيء إلاّ انحفاظ مالية المعوّض به ، والرغبات النوعية متوجّهة نحو المعوّض من حيث كونه حنطة أو شعيراً ، أو منفعة الدار الكذائية والعمل الكذائي . نعم ، لو كان الغرض في بعض الموارد متعلّقاً بالعوض بعنوانه لا من حيث المالية ـ كما في الأماكن التي تتعارف فيها المعاملة بين الأجناس بعضها ببعض ، لا بينها وبين النقود ـ لا يبعد أن يقال : بأنّ الأكثرية حينئذ تلاحظ في كلّ جنس بحسبه ، ففي الاُمور التي يلاحظ مقدارها تعتبر من حيث المقدار ، وفي المعدودات من حيث العدد وهكذا .
هذا ، ولكنّ الظاهر ندرة هذا الأمر ، والحكم في الروايات إنّما هو بلحاظ النوع الذي يكون العوض عندهم ملحوظاً من حيث المالية فقط ، فإذا زادت قيمة منّ من الحنطة الواقعة اُجرة في الإجارة الثانية على قيمة منّين منها الواقعة اُجرة في الإجارة الاُولى تصدق الأكثرية ، وإن كانت أقلّ من حيث المقدار . هذا كلّه فيما يتعلّق بكلمة «الأكثر» الواقعة في كثير من الروايات .
وأمّا كلمة «الفضل» الواقعة في روايات الأجير والبيت والحانوت فالظاهر أنّ المراد بها هو الفضل في المالية أيضاً ، وأمّا ما أفاده المحقّق الإصفهاني(2) تبعاً للمحقّق الرشتي(3) من الفرق بين عنوان الأكثرية وبين عنوان الفضل ، وأنّه يمكن استفادة لزوم التماثل من الأوّل دون الثاني ففيه : أنّه لم يعلم وجه للفرق بينهما من هذه الجهة أصلاً ; لأنّه كما تكون الأكثرية من الاُمور الإضافية المبهمة المحتاجة إلى التميّز ،
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 64 ـ 65 .
(3) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 98 .
(الصفحة374)
كذلك عنوان الفضل يحتاج إلى مميّز ، وأنّ الزيادة والفضيلة هل هي في المالية ، أو في الوزن ، أو في العدد ، أو في غيرها ممّا يصلح أن يكون تميّزاً لها ، فأيّ فرق بينهما من هذه الجهة ؟
نعم ، يمكن الفرق بينهما من جهة اُخرى ; وهي أنّ ظاهر الروايات المشتملة على عنوان الأكثرية كون المفضل عليه هي الاُجرة في الإجارة الاُولى ، والمفضل الاُجرة في الإجارة الثانية ، وأنّه لا تجوز أكثرية الثاني من الاُولى ، وأمّا الروايات المشتملة على عنوان الفضل قد اُضيف فيها هذا العنوان لا إلى الاُجرة ، بل إلى البيت والحانوت والأجير ، والظاهر تحقّق هذا العنوان فيما لو لم تكن الاُجرة الثانية زائدة على الاُجرة الاُولى ، بل كانت الزيادة والفضيلة لأجل إضافة شرط في الإجارة الثانية مفقود في الاُولى ، وهذا بخلاف عنوان الأكثرية بلحاظ الخصوصية المذكورة ، فتأمّل جيّداً .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض حجّة على التفصيل الذي ذهب إليه المشهور ; وهو الفرق بين اتّحاد الجنس وتغايره ، إلاّ أن يناقش فيما استظهرنا من عنوان الأكثر فيرجع إلى القواعد في صورة تغاير الجنسين ، ولكنّه يرد على المشهور أنّهم ماذا يلتزمون في المثال المذكور ; وهو مالو زادت قيمة مَنّ من الحنطة على قيمة منّين منها ، فإن قالوا فيها بعدم تحقّق عنوان الأكثرية فهو خلاف الظاهر جدّاً ، وإن قالوا بالتحقّق فلازمه الالتزام بكون المعيار هي الأكثرية في المالية ، كما لا يخفى .
الأمر الثالث : في إجارة بعض العين المستأجرة ، وكذا في إجارتها في بعض المدّة مع السكونة في البعض من العين أو المدّة ، فنقول : فيه صور ثلاث :
الاُولى : ما إذا آجر البعض غير المسكون بأزيد من الاُجرة في الإجارة الاُولى ،
(الصفحة375)
أو آجر العين في بعض المدّة كذلك ، ربما يقال : بأنّه لا ينبغي الإشكال في حرمته أو كراهته ; لفحوى ما دلّ على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أو كراهته .
ويرد عليه : أنّه إن كان المراد بالفحوى هي الأولوية القطعية ففيه : منعها في مثل هذه الأحكام التعبّدية ، وإن كان المراد الأولوية العرفية فلا دليل على حجّية مثلها ، اللّهمَّ إلاّ أن يكون المراد أنّ المتفاهم عند العرف من الأخبار الدالّة على حرمة إيجار الكلّ بالأكثر أوكراهته جريان الحكم في البعض، وأنّه ليس للكلّ بماهوكلّ خصوصيّة في ذلك ، خصوصاً لو كان الوجه هو التشابه بباب الربا المحرم ، كما لايخفى .
ويمكن الاستدلال عليه ـ مضافاً إلى ماذكر ـ بقوله (عليه السلام) في رواية الحلبي المتقدّمة : لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم فسكن ثلثيها ، وآجر ثلثها بعشرة دراهم لم يكن به بأس ، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلاّ أن يحدث فيها شيئاً(1) بناءً على أن يكون الضمير في قوله (عليه السلام) : «لايؤاجرها» راجعاً إلى الدار باعتبار الثلث لا إلى الدار نفسها ، ولو نوقش في ذلك باعتبار ظهور كون الضمير راجعاً إلى الدار بلحاظ التأنيث ، ولا يقاوم هذا الظهور الوضعي الظهور الناشئ من السياق ، خصوصاً مع كون الضميرين قبل هذا الضمير راجعين إلى الدار باعتبار كلّها كما هو واضح ، فيمكن التمسّك بمفهوم الصدر نظراً إلى أنّ الحكم بنفي البأس قد رتّب على ما إذا آجر البعض بالمساوي ، فيدلّ بالمفهوم على ثبوته في الزيادة .
هذا ، مضافاً إلى أنّ أدلّة حرمة الفضل الواردة في البيت والحانوت والأجير تشمل هذه الصورة .
الثانية : ما إذا آجره بأكثر ممّا وقع من الاُجرة بإزائه ، ولا ينبغي الإشكال هنا في
(1) تقدّمت في ص359.
(الصفحة376)
الجواز ; لأنّه مضافاً إلى عدم شمول الأدلّة المانعة لهذه الصورة يدلّ على الجواز بعض الروايات صريحاً ، كرواية محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) المتقدّمة ، قال : سألته عن الرجل يستكري الأرض بمائة دينار، فيكري نصفها بخمسة وتسعين ديناراً ويعمّر هو بقيّتها ؟ قال : لا بأس(1) . وهكذا ذيل رواية علي بن جعفر (عليه السلام)المتقدّمة أيضاً ، حيث قال : وسألته عن رجل استأجر أرضاً أو سفينة بدرهمين فآجر بعضها بدرهم ونصف ، وسكن هو فيما بقي أيصلح ذلك ؟ قال : لا بأس(2) . إلاّ أنّ دلالة هذه بالإطلاق وترك الاستفصال .
وبالجملة : فالإشكال في هذه الصورة ممّا ليس له مجال .
ودعوى أنّ قوله (عليه السلام) في رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الاُولى : «ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به» يدلّ على المنع باعتبار كون الضميرين راجعين إلى الدار باعتبارالثلث، مدفوعة بلزوم كون الضميرالثاني راجعاًإلى مجموع الدار، وإلاّ تتحقّق المنافاة بينه وبين الصدر الدالّ على جواز إجارة الثلث بعشرة دراهم ، كما لايخفى .
الثالثة : ما إذا آجره بالمساوي ، وقد وقع فيه الاختلاف بين الأصحاب ، ولابدّ من ملاحظة الدليل ، فنقول : أمّا دليل الجواز فهي رواية الحلبي المتقدّمة في الصورة الاُولى الدالّة بالصراحة على نفي البأس فيما إذا آجر ثلث الدار المستأجرة بعشرة دراهم ، التي هي تمام الاُجرة في الإجارة الاُولى ، وكذا ذيل رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة ، بناءً على نقل الصدوق الواردة في مورد رواية الحلبي .
هذا، مضافاًإلى اقتضاءالقاعدة له بعد عدم شمول الأدلّة المانعة ، لعدم تحقّق عنوان
(1) تقدّمت في ص358.
(2) تقدّمت في ص356 و 365.
(الصفحة377)
الأكثرية كما هو واضح ولا عنوان الفضل ; لأنّ المراد به كما قيل هو فضل الاُجرة لا الفضل على الاُجرة . هذا ، مضافاً إلى أنّه لو نوقش في ذلك يكون الفضل هو الانتفاع ببعض العين المستأجرة ، وهذا لا ارتباط له بالإجارة التي هي محلّ الكلام .
وأمّا القول بعدم الجواز ، فتارة استند له بكونه رباً ، واُخرى بمضمرة سماعة الواردة في المرعى قال : سألته عن رجل اشترى مرعى يرعى فيه بخمسين درهماً أو أقلّ أو أكثر ، فأراد أن يدخل معه من يرعى فيه (معه خ ل) ويأخذ منهم الثمن ؟ قال: فليدخل معه من شاء ببعض ما أعطى ، وإن أدخل معه بتسعة وأربعين وكانت غنمه بدرهم فلا بأس ، وإن هو رعى فيه قبل أن يدخله بشهر أو شهرين أو أكثر من ذلك بعد أن يبيّن لهم فلا بأس ، وليس له أن يبيعه بخمسين درهماً ويرعى معهم ، ولا بأكثر من خمسين ولا يرعى معهم إلاّ أن يكون قد عمل في المرعى عملاً ، حفر بئراً أو شقَّ نهراً أوتعنّى فيه برضا أصحاب المرعى ، فلا بأس ببيعه بأكثر ممّا اشتراه; لأنّه قد عمل فيه عملاً فبذلك يصلح له(1) . بناءً على أن يكون المراد بالبيع والشراء هنا الإجارة كما فهمه الكليني (قدس سره) ، حيث أورد الرواية في باب إجارة الأرض والدار بالأكثر ، ويؤيّده تقييد العمل بما إذا صدر عن رضا أصحاب المرعى .
وكيف كان ، فالرواية تدلّ بالصراحة على أنّه ليس له الإيجار بالمساوي وهو يرعى معهم .
ويرد على الدليل الأوّل ما تقدّم منّا مراراً من عدم تحقّق الربا الاصطلاحي في المقام كما هو ظاهر ، وأمّا الدليل الثاني فربما يقال فيه بالحمل على الكراهة ; لأنّه مقتضى تقديم النصّ أو الأظهر على الظاهر ، خصوصاً بملاحظة أنّ مورد الجواز هو
(1) الكافي : 5 / 273 ح9 ، وسائل الشيعة : 19 / 130 ، كتاب الإجارة ب22 ح6 .
(الصفحة378)
الدار التي تختصّ بحرمة الإجارة بالأكثر ، ولا معارض فيها بالخصوص ، ورواية المنع موردها إجارة الأرض التي حكمها الكراهة، وكراهة إجارة البعض بالمساوي في الأرض لا تقتضي حرمة إجارة البعض من الدار بالمساوي ولا كراهتها .
هذا ، والظاهر أنّه لا مجال لهذا الحمل لورود هذه الرواية في المرعى ، وقيام الدليل على جواز إجارة الدار بالمساوي لا يستلزم الجواز في المرعى ، بل هو عنوان مستقلّ لابدّ من لحاظه مستقلاًّ . وما أفاده من أنّ رواية المنع موردها إجارة الأرض التي حكمها الكراهة ، فيه : أنّ الأرض مغايرة للمرعى موضوعاً ، فلا وجه لجريان حكم الأرض في المرعى ، ولذا كان ينبغي البحث عن هذا العنوان أيضاً في ضمن البحث عن العناوين الستّة أو السبعة المتقدّمة ، ولعلّ الوجه في عدم التعرّض له في الكلمات عدم كون الرواية معمولاً بها عندهم ، إمّا لظهورها في البيع والشراء دون الإجارة ، ولا قائل بعدم الجواز في البيع ، وإمّا لأجل أنّها على تقدير كون موردها الإجارة تدلّ على التفصيل بين ما إذا استفاد من المرعى شهراً أو شهرين ثمّ آجره بالمساوي بعد أن بيّن لهم ذلك ، وبين ما إذا آجره كذلك وهو يرعى معهم بعد الإجارة ، فحكم بنفي البأس في الأوّل ، وبأنّه ليس له ذلك في الثاني ، ولم يعلم وجود قائل بهذا التفصيل .
ثمّ إنّ المفروض في المتن وفي كلام الأصحاب ما إذا آجر بعض العين المستأجرة مع الانتفاع بالباقي ، أو تمامها في بعض المدّة مع الانتفاع بها في غيره ، فاعلم أنّ هنا فروضاً كثيرة لم يقع التعرّض لها في كلام الأصحاب ، مثل ما إذا آجر بعض العين المستأجرة من شخص ، والبعض الآخر من شخص آخر ، وكانت اُجرة المجموع زائدة على الاُجرة التي استأجر العين بها ، وما إذا استأجر العين اثنان فآجراها بالأكثر ، أو آجر كلّ واحد منهما نصيبه ، وكانت اُجرة المجموع زائدة على
(الصفحة379)
ما استأجراها بها ، وغير ذلك من الفروض المتصوّرة ، وينبغي البحث عن الفرضين الأوّلين لكونهما مهمين ، فنقول :
أمّا الفرض الأوّل : فالظاهر أنّه غير جائز ; لأنّه يصدق أنّه آجر الدار مثلاً بأكثر ممّا استأجرها به ، ودعوى أنّ الواقع في الخارج إجارتان ، ولا يكون شيء منهما متّصفاً بهذا الوصف ; وهي كونها إجارة بالأكثر على ماهو المفروض ، وإجارة البعض بأكثر ممّا يقع بإزائه من الاُجرة على فرض التقسيط قد مرّ أنّها جائزة ولا مانع منها ، فلا دليل على عدم الجواز في المقام ، مدفوعة ـ مضافاً إلى أنّ المستفاد من النصوص أنّ غرض الشارع تعلّق بأن لا تؤجر العين بالأكثر مع عدم إحداث شيء فيه ، ولا فرق في ذلك بين إجارة واحدة واجارتين ـ بأنّ كلّ واحدة من الإجارتين وإن لم تكن متّصفة بالوصف المذكور إذا لوحظت مستقلّة ـ ومع قطع النظر عن الاُخرى ـ إلاّ أنّ الإجارة الثانية مع لحاظ كونها مسبوقة بالإجارة الاُولى تتّصف بذلك لا محالة ; لأنّه يتحقّق بسببها عنوان الإجارة بالأكثر فلا يجوز .
ومن هنا يعلم أنّه لو وقعت الإجارتان متقارنتين تكون كلتاهما موضوعاً للحكم بعدم الجواز ، كما هو ظاهر .
وأمّا الفرض الثاني : فالظاهر فيه أيضاً عدم الجواز لشمول النصوص له ، ودعوى منع الشمول نظراً إلى أنّ كلاًّ منهما في نفسه لم يؤجر العين بالأكثر حتّى يصحّ توجيه الخطاب إليه بقوله : ولا تؤاجرها بأكثر ممّا استأجرتها به ، والمجموع ليس له وجود مستقل حتّى يكون هو المخاطب ، مدفوعة بأنّه لا مانع من توجّه الخطاب إليهما بما هما شريكان ، وتوضيحه أنّ المنهي عنه هي إجارة العين بالأكثر ، فكلّ من له ارتباط وإضافة بهذه الإجارة فالنهي يتوجّه إليه ويكون هو المخاطب ، ولا منافاة بين كون الإجارة واحدة والمخاطب للنهي متعدّداً ، بل الحكم بعدم الجواز
(الصفحة380)
في هذا الفرض أولى منه في الفرض الأوّل ، نظراً إلى أنّ الإجارة هنا واحدة وهي متصفة بالأكثرية دون الفرض المتقدّم ، وممّا ذكرنا من حكم الفرضين يعلم حكم باقي الفروض ، فتأمّل فيها وفي حكمها .
الأمر الرابع : لا إشكال في أنّه لو كان الحكم في أصل المسألة هي الكراهة لكان المراد بها هي الكراهة التكليفيّة التي مرجعها إلى رجحان الترك ، وأمّا لو كان الحكم هي الحرمة يقع الكلام في أنّ المراد بها هل هي الحرمة التكليفيّة أو الوضعيّة ، والمحكي عن تقريرات سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) أنّه قال ما ملخّصه : يحتمل في المسألة وجوه ثلاثة :
أحدها : الحرمة التكليفيّة .
ثانيها : الحرمة الوضعيّة بالنسبة إلى المجموع .
ثالثها : الحرمة الوضعيّة بالنسبة إلى الزيادة والفضل فقط ، والظاهر هو الاحتمال الثاني ; لظهور التعبير بكلمة «لا يجوز» في عبارات القوم في أنّ المراد به عدم الجواز وضعاً ، كما في سائر الموارد التي يعبّرون بهذه الكلمة لإفادة بيان الاشتراط ، أو بيان المانع خصوصاً في باب المعاملات . هذا ، مضافاً إلى أنّ مرجع الحرمة التكليفية إلى صحّة الإجارة الموجبة لانتقال الاُجرة إلى المؤجر . غاية الأمر أنّه لا يجوز له التصرّف فيها بوجه أكلاً وغيره لفرض الحرمة ، وهذا وإن لم يكن ممتنعاً بحسب مقام الثبوت إلاّ أنّه بعيد جدّاً ، بل ربما يعدّ الحكم بالصحّة الموجبة للانتقال ، وبالحرمة الموجبة لعدم جواز التصرّف بوجه من المتناقضين عند العقلاء ، وعليه فلا مجال للحرمة التكليفية .
وأمّا الاحتمال الثالث فالظاهر أنّه أيضاً لا مجال له ; لأنّ مرجعه إلى تصحيح المعاملة بالنسبة إلى ما يساوي الاُجرة مع أنّه غير مقصود للمؤجر ، والحكم
|