(الصفحة421)
[الأجير الخاصّ]
مسألة : الأجير إذا آجر نفسه على وجه يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معيّنة لا يجوز له في تلك المدّة العمل لنفسه أو لغيره ، لا تبرّعاً ولا بالجعالة أو الإجارة . نعم ، لا بأس ببعض الأعمال التي انصرفت عنها الإجارة ولم تشملها ولم تكن منافية لما شملته . كما أنّه لو كان مورد الإجارة أو منصرفها الاشتغال بالنهار فلا مانع من الاشتغال ببعض الأعمال في الليل له أو لغيره ، إلاّ إذا أدّى إلى ما ينافي الاشتغال بالنهار ولو قليلاً . فإذا عمل في تلك المدّة عملاً ممّا ليس خارجاً عن مورد الإجارة ، فإن كان العمل لنفسه تخيّر المستأجر بين فسخ الإجارة واسترجاع تمام الاُجرة إذا لم يعمل له شيئاً، أو بعضها إذا عمل شيئاً ، وبين أن يُبقيها ويطالبه اُجرة مثل العمل الذي عمله لنفسه ، وكذا لو عمل للغير تبرّعاً ، ولو عمل للغير بعنوان الجعالة أو الإجارة فله مضافاً إلى ذلك إمضاء الجعالة أو الإجارة وأخذ الاُجرة المسمّـاة1 .
1 ـ الأجير المفروض في هذه المسألة من أقسام الأجير الخاصّ وقبل الخوض في تعريفه وبيان أقسامه وأحكامه ، ينبغي التنبيه على اُمور :
منها : أنّه ربما يمكن أن يناقش في أصل الإجارة على الأعمال ويورد الشبهة عليه بتقريب أنّه لابدّ في تحقّق الإجارة وثبوت حقيقتها وماهيّتها من أن يكون في البين اُمور ثلاثة : المؤجر ، والمستأجر ، والعين المستأجرة . وقد مرّ سابقاً(1) في تعريف الإجارة أنّها بمعناها الإسمى عبارة عن إضافة خاصّة يعتبرها العقلاء في العين المستأجرة بالنسبة إلى المستأجر . . . ، وعليه فالعين المستأجرة من أركان الإجارة
(1) في ص10 .
(الصفحة422)
وبها قوامها ، وهذا المعنى متحقّق في إجارة الأعيان بلا إشكال ، وإن اختلفت الأعيان باختلاف الموارد من جهة كونه جماداً أو نباتاً أو حيواناً غير ناطق ، أو ناطقاً إذا كان عبداً ، وأمّا في الإجارة على الأعمال فليس إلاّ الأمران الأوّلان : المؤجر والمستأجر ، وليس هنا عين مستأجرة ، وعليه فلابدّ من أن يقال بخروجها عن حقيقة الإجارة ; لما عرفت من تقوّمها بالعين المستأجرة ، ومجرّد إطلاق لفظ الإجارة عليها لا يوجب كونها من مصاديق تلك الحقيقة ، فإنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة .
ويمكن دفع هذه الشبهة بأنّ العين المستأجرة متحقّقة في الإجارة على الأعمال أيضاً . غاية الأمر اتّحادها مع المؤجر الذي يعبّر عنه هنا بالأجير ، ولم يقم دليل على لزوم التعدّد وثبوت المغايرة بينهما خارجاً ، بل يكفي التغاير الاعتباري ، فاعتبار كونه إنساناً متّصفاً بالقدرة والاختيار ـ ويمكن إيقاع العقد معه ووقوعه طرف المعاملة ـ يتّصف بكونه أجيراً ، وباعتبار كون العمل الذي هو الغرض من الإجارة قائماً به بالقيام الصدوري ، وأنّه عمله يتّصف بأنّه هي العين المستأجرة ، ويدلّ على ثبوتها في هذا القسم من الإجارة أيضاً أنّه يقال في صيغتها : «آجرتك نفسي» كما يقال في صيغة الإجارة السابقة : «آجرتك داري» مثلاً ، فجعل النفس هنا مكان الدار هناك دليل على أنّ العين المستأجرة هنا هي النفس .
إن قلت : إذا كانت العين المستأجرة في الإجارة على الأعمال هي نفس الأجير كالدار في إجارة الأعيان ، فاللاّزم عدم جواز التسبيب للأجير ، بل عليه العمل بالمباشرة ; لأنّه كما أنّ المملوك هنا هي منفعة الدار التي تعلّقت الإجارة بها لا منفعة دار اُخرى ، كذلك المملوك هنا هو العمل القائم بالعين المستأجرة التي هي نفس الأجير ، فالعمل الصادر من الغير يغاير المنفعة التي هي الغرض من الإجارة ، مع أنّ
(الصفحة423)
ظاهر الأصحاب عدم لزوم المباشرة في هذا النحو من الإجارة إلاّ مع التصريح بها من طريق الاشتراط ونحوه .
قلت : كما أنّه يمكن أن تكون العين المستأجرة في إجارة الأعيان أمراً كليّاً موصوفاً بأوصاف مقصودة ، كالدار الكذائية كذلك يمكن أن تكون النفس المأخوذة هنا عيناً ملحوظة بعنوان أعم من كون الفعل صادراً عنها ، ومن كونها السبب في صدوره من الغير .
وبعبارة اُخرى : كانت النفس ملحوظة باعتبار كونها العلّة في تحقّق الفعل في الخارج أعمّ من أن يكون قائماً به بالقيام الصدوري أو بالغير ، اللّهم إلاّ أن يقال : إنّ لحاظها كذلك وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه إلاّ أنّه خلاف ظاهر قوله : «آجرتك نفسي» مع أنّ ظاهر الأصحاب أنّ لزوم المباشرة يفتقر إلى مؤنة زائدة ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : انّه لا إشكال في أنّه كما أنّ العبد يكون مملوكاً بالذات كذلك منافعه مملوكة لمالكه بالتبع ، وباعتبار ملكيّتها يصحّ للمالك إجارته من الغير بجميع المنافع أو ببعضها ، وأمّا الحرّ الذي هو العمدة في محلّ الكلام في المقام ، فحيث لا يكون بعينه مملوك كذلك لا تكون منافعها مملوكة ولو بالتبع ، ولأجل ذلك ربما يقع الإشكال في إجارة الحرّ نفسه ; من جهة عدم اتّصافه بكونه مالكاً لمنافعه ، فكيف يملّكها الغير بالإجارة .
وقد وقع دفع هذه الشبهة في كلام المحقّق الإصفهاني (قدس سره) المتقدّم(1) في اعتبار مملوكية المنفعة ، وملخّصه : إنّ معنى كون الإجارة معاوضة ليس لزوم قيام كلّ من
(1) في ص62.
(الصفحة424)
العوضين مقام الآخر فيما له من إضافة الملكيّة حتّى يلزم كون كلّ منهما مملوكاً قبلاً ، بل معناها صيرورة كلّ من العوضين ملكاً للآخر بإزاء صيرورته ملكاً له ، وعليه فالحرّ لمكان سلطنته على نفسه له أن يتعهّد بعمل في ذمّته ويملّكه الغير ، وإن كان غير مملوك له قبل التعهّد(1) ، وقد عرفت سابقاً(2) عدم اعتبار الملكيّة في المنفعة ، بل اللاّزم هو أن تكون مرتبطة بالمؤجر بحيث تكون خارجة عن حدّ التساوي وعدم وجود المرجّح ، كما في المباحات الأصلية التي ليس لها ارتباط بالمؤجر أصلاً .
ومنها : أنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في هذا المقام مقدّمة وصفها بأنّها مهمّة ، ولا بأس بإيرادها على نحو التلخيص ، وهي : إنّ المنفعة على ما تقدّم هي حيثيّة العين وشأنها القائمة بها بالقوّة ، ونحو وجودها وجود المقبول بوجود القابل ، وحيث إنّها بالقوّة ولها قبول تعيّنات كثيرة ، فهي لا متعيّنة في نفسها ، فملك جميع تلك الموجودات بالقوّة وإن لم يكن له مانع ، لما مرّ من أنّ التماثل والتضادّ من عوارض الوجودات الخارجيّة ، إلاّ أنّ تعلّق الملك باللامتعيّن لا لمحذور التماثل والتضادّ بل لخروج تلك التعيّنات عن حدود الموجودات بالقوّة .
نعم ، في كلّ منفعة جهة وحدة لوحدة القوّة مع قبولها للتعدّد ، إلاّ أنّ مجموعها لايندرج تحت قوّة اُخرى بحيث تكون قوّة القوى ، فلابدّ في فرض ملك جميع المنافع عند من يرى التضادّ فيها من فرض جامع انتزاعي من تلك الموجودات بوجود القوى ، ويكفي في خارجيّته خارجية مناشئ انتزاعه .
وأمّا نحن ففي سعة من ذلك ، لعدم التماثل والتضادّ عندنا كما عرفت ، هذا على ما
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 106 ـ 107.
(2) في ص60 ـ 63.
(الصفحة425)
نراه في حقيقة المنافع ، وأمّا عند من يرى المنافع عبارة عن الخياطة الفعلية التي تكون قبل وجودها معدومة ، ولذا قيل بعدم قبولها للملكية ، فلابدّ من أن تجعل المنافع مقدرة الوجود عرفاً ، وأنّها المملوكة ، وحيث يرون التضادّ بين تلك الأفراد فلذا يقولون بأنّ المملوك هو القدر المشترك بينها ، وحينئذ نقول : إنّ الكلّي بما هو حيث إنّه غير قابل للملك إلاّ باعتباره في الذمة أو بملاحظته في الخارج فلابدّ من فرض وجود ذلك القدر المشترك في الخارج ، ومن البيّن أنّ الكلّي لا يكون خارجياً إلاّ بخارجية فرده ، وإذا تكثّرت الأفراد تكثّرت وجودات الكلّي ، وكما أنّ الأفراد متضادّة غير قابلة للملك ، فكذا الوجودات من الكلّي المتّحد مع فرده ، ولا يعقل ملكيّة أحد وجوداته بنحو الترديد ; لأنّ المردّد لا ثبوت له ، ولا بنحو التعيين فإنّه خلف في المقام ، فلا محيص عن فرض الكلّي في المعيّن ، إذ كما يتصوّر هذا المعنى في الأفرادالمحقّقة الوجود، كالصاع المضاف إلى مجموع الصيعان، كذلك يتصوّر بالإضافة إلى الأفراد المقدّرة الوجود ، فيكون قابلاً للانطباق على كلّ واحد منها ، وسيتّضح الفرق بين مسلكنا وهذا المسلك بعد إرجاعه إلى الكلّي في المعيّن تصحيحاً له(1) .
أقول : إنّ المنافع التي لا يكاد يمكن اجتماعها في الخارج لثبوت التعاند والتنافي بينها ، تارةً يشكل في اتّصافها بالمملوكية لنفس المالك ، واُخرى في إمكان تمليكها من الغير بسبب الإجارة ونحوها ، وإن كان أصل الملكيّة محفوظاً للمالك .
أمّا الأوّل : فتقريب الشبهة أنّ اعتبار الملكيّة عند العقلاء إنّما هو بلحاظ الآثار المترتّبة عليها ، إذ بدون ترتّب تلك الآثار يصير الاعتبار لغواً عندهم ، وفي المنافع المتنافرة غير المتعانقة في الوجود ، حيث لا يمكن للمالك الانتفاع بها واستيفاؤها
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 129 ـ 130 .
(الصفحة426)
لفرض التعاند ، فلا يعقل اتّصاف كلّ واحدة منها بالملكيّة ، ويصير اعتبارها بالإضافة إليها لغواً ، لا يترتّب عليه أثر .
والجواب : إنّه يكفي في ترتّب الأثر المصحّح لاعتبار الملكيّة عند العقلاء إمكان الاستيفاء والسلطنة على الانتفاع بكلّ واحدة منها ، ومجرّد عدم إمكان الاجتماع في الخارج لا يوجب الخلوّ عن الأثر ، فإنّ استحالة الاجتماع لا أثر لها إلاّ في قطع يد المالك عن الانتفاع في تلك الحالة فقط ، وهذا لايكون دخيلاً في اعتبار الملكيّة ، بل المصحّح له مجرّد إمكان الاستيفاء والانتفاع ولو مشروطاً بحال الانفراد وعدم ثبوت المعاند .
وأمّا الثاني : فتقريبه على ما حكي عن سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) في مسألة إجارة العين بجميع منافعها، أنّ المؤجر لا يكون قادراً على التسليم لفرض عدم إمكان الاجتماع ، وإن كان هذا الفرض لا يقدح في اعتبار أصل الملكيّة ; لأنّه لا يعتبر فيها القدرة والسلطنة ، ألا ترى أنّ وقوع المال في البحر وخروجه عن حيطة سلطنة المالك لا يوجب خروجه عن الاتّصاف بالملكية ، إلاّ أنّه يقدح في التمليك من الغير لاعتبار القدرة على التسليم فيه ، والمفروض في المقام عدمها لعدم قابليّة المحلّ .
واُورد على هذا التقريب بأنّ التسليم الذي تكون القدرة عليه شرطاً في التمليك هو تسليم العين التي تعلّق بها الإجارة لغرض المنافع ، وهو مقدور عليه في المقام ; لأنّ منشأ تخيّل سلب القدرة عدم إمكان اجتماع المنافع في الوجود ، وهذا لا ارتباط له بتسليم العين المستأجرة، الذي تكون القدرة عليه شرطاً في صحّة الإجارة ، وعليه فما هو الشرط يكون مقدوراً عليه ، وماهو خارج عن القدرة ليس بشرط .
أقول : هذا الإيراد بالنسبة إلى ما هو المفروض في كلام سيّدنا الاستاذ (قدس سره)من
(الصفحة427)
إجارة العين بجميع المنافع متوجّه ; لأنّ التسليم المعتبر هناك هو تسليم العين ، وأمّا في المقام وهي الإجارة على الأعمال فربما يشكل توجّهه ; لأنّ التسليم فيها هو تسليم العمل لاتسليم الأجير نفسه وإن لم يعمل ، ولذا ذكرنا سابقاً(1) أنّ استحقاق الاُجرة في الإجارة على الأعمال يتوقّف على الفراغ عن العمل ، وحينئذ فلابدّ من أن يقال في مقام دفع الشبهة : بأنّه لايعتبر في صحّة التمليك من الغير أزيد ممّا يعتبر في أصل الملكيّة ، فكما أنّ مجرّد إمكان الانتفاع يكفي في اعتبار الملكيّة وتصحيحها ، كذلك يكفي في صحّة التمليك والنقل إلى الغير ، لعدم الدليل على اعتبار أزيد منه .
وقد ظهر من الاُمور التي قدّمناها أنّ الشبهة في أصل الإجارة على الأعمال مطلقاً ، وكذا في خصوص إجارة الحرّ نفسه ، وكذا في تمليك المنافع غير القابلة للاجتماع كلّها ، مندفعة لامجال لشيء منها .
إذا عرفت ذلك يقع الكلام في الأجير الخاصّ الذي ربما يعبّر عنه بالمنفرد أو بالمقيّد ، وفي مقابله العامّ ، أو المشترك ، أو المطلق . وقد عرّف في كلامهم بأنّه الذي يستأجر مدّة معيّنة . نعم ، حكي عن التذكرة(2) وجامع المقاصد(3) زيادة : ليعمل بنفسه ، ولكن ذكر في المفتاح أنّه لابدّ من إرادة ذلك في عبارة الجميع لما ستعرف ، على أنّه يعلم من قولهم في المشترك هو الذي يستأجر لعمل مجرّد عن المباشرة(4) .
وكيف كان ، فالظاهر بملاحظة ما ذكروه في تعريف الأجير المشترك ، وبملاحظة ما رتّبوه على الأجير الخاصّ من الأحكام التي من جملتها عدم جواز العمل لغير
(1) في ص256 ـ 257.
(2) تذكرة الفقهاء : 2 / 301 .
(3) جامع المقاصد : 7 / 157 .
(4) مفتاح الكرامة : 7 / 172 .
(الصفحة428)
المستأجر في المدّة المعيّنة أنّه يعتبر في الأجير الخاصّ أمران :
أحدهما : كونه أجيراً في جميع المدّة المعيّنة على وجه الاستغراق ، وهذا مع تعيين تلك المدّة أوّلاً وآخراً لا خفاء فيه ، وأمّا مع تعيين الأوّل فقط بحيث لا يتوانى فيه بعده فقد صرّح الشهيد الثاني (قدس سره) في محكي الروضة(1) بأنّه في حكم تعيين المدّة ومن مصاديق الأجير الخاصّ ، وأمّا مع تعيين الآخر فقط ، كأن استأجره لخياطة ثوب معيّن في مدّة شهر من حين الإجارة ، فالظاهر عدم كونه من أفراد الأجير الخاصّ ، وإن تضيّق الوقت في أواخر الشهر بحيث لم يتّسع لأزيد من خياطة ذلك الثوب .
ثانيهما : صدور العمل منه بالمباشرة بنحو التقييد في الإجارة دون الاشتراط كما صرّح به في الجواهر(2) ; لأنّ تخلّف الشرط لايوجب إلاّ الخيار ، ولا يجدي في ترتّب الأحكام المذكورة للأجير الخاصّ . ومع انتفاء واحد من هذين الأمرين ينتفي هذا العنوان ويدخل في العنوان الآخر ، وإن كان البحث في مفاد نفس العنوانين ليس بمهمّ ; لأن استكشاف مفادهما إنّما هو من طريق الأحكام المرتّبة عليهما ، فكلّ من لا يجوز له العمل لغير المستأجر في مدّة الإجارة يسمّى أجيراً خاصّاً ، وكلّ من يجوز له ذلك يسمّى أجيراً مشتركاً ، وليس لنا طريق للاستكشاف غير هذا . نعم ، وردت رواية في تفسير المشترك سيجيء نقلها في محلّها(3) .
ثمّ إنّه لا فرق في الأجير الخاصّ بين أن يكون مستأجراً بجميع منافعه أو ببعضها المعيّن ; لأنّ الملاك في اتّصافه بهذا العنوان هما الأمران المتقدّمان . نعم ، هنا قسم
(1) الروضة البهية : 4 / 343 ـ 344 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 263 .
(3) في ص465.
(الصفحة429)
ثالث ; وهي صورة تعهّده لعمل في الذمّة مباشرة في مدّة خاصّة ، والفرق بينه وبينهما لايكاد يخفى .
إذا ظهر لك ذلك نقول : إنّهم ذكروا في حكم الأجير الخاصّ أنّه لا يجوز له العمل لغير المستأجر في المدّة المعيّنة في الإجارة إلاّ بإذنه ، وقد حكي نفي الخلاف في ذلك عن بعض(1) ، والإجماع عن آخر(2) . ولابدّ أوّلاً من ملاحظة أنّ الجواز المنفي في عباراتهم هل هو الجواز التكليفي ، من دون أن يكون غرضهم إفادة الحكم الوضعي الثابت للعمل لغير المستأجر ، أو أنّ الجواز المنفي هو الجواز الوضعي الذي مرجعه إلى ثبوت التأثير له ؟
وجهان : من أنّ الظاهر هنا هو الحكم التكليفي بملاحظة كون الموضوع هو مجرّد العمل لغير المستأجر أعمّ ممّا إذا كان العمل له بعنوان الإجارة والجعالة وأشباههما ، أو بعنوان التبرّع والمجّانية، أو كان العمل لنفسه ، كما إذا خاط ثوب نفسه مثلاً مع كونه مستأجراً للخياطة مدّة معيّنة ، ومن الواضح أنّ العمل لغير المستأجر بإطلاقه الشامل لجميع هذه الموارد لايكاد يمكن أن يقع موضوعاً للحكم الوضعي ، فاللاّزم حينئذ أن يقال بكون الجواز المنفي هو الجواز التكليفي .
نعم ، يمكن الإيراد عليه بأنّ عدم الجواز كذلك لم يدلّ عليه دليل ، بل مقتضى الدليل وجوب الوفاء بعقد الإجارة لكونه من أفراد العقود التي يجب الوفاء بها على ماهو مدلول الآية الشريفة .
ولكن يمكن دفع هذا الإيراد بأنّه ليس مرادهم من ذلك إفادة ثبوت حكم
(1) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 14 ، رياض المسائل : 6 / 43 ـ 44 .
(2) الانتصار: 466، غنية النزوع : 288 ـ 289 .
(الصفحة430)
تكليفي تحريمي زائداً على وجوب الوفاء بالعقد ، بل الغرض أنّ موافقة التكليف الوجوبي لا تتحقّق إلاّ بالعمل للمستأجر وترك العمل لغيره ، فالعمل له إنّما يتصف بعدم الجواز لكونه تركاً للواجب لا أنّه حرام في نفسه .
ومن أنّ الظاهر من التعبير بعدم الجواز خصوصاً في مثل المقام من أبواب المعاملات هو عدم الجواز الوضعي ، ويؤيّده استثناء صورة الإذن الظاهر في أنّ عدم الجواز إنّما هو لتعلّق حقّ المستأجر ، وكون العمل لغيره تصرّفاً في حقّه ، فيناسب اعتبار كون نفوذه منوطاً بإذنه ، فتدبّر .
نعم ، اللاّزم على هذا الوجه إقامة الدليل على عدم الجواز بمعنى النفوذ ، إلاّ أن يكون التسالم عليه المستكشف من إلقائهم لذلك إلقاء المسلّمات كافياً في مقام الاستدلال ، بحيث لم يكن يحتج إلى شيء آخر .
والظاهر من الوجهين هو الوجه الأوّل لما عرفت في وجهه ، واستثناء صورة الإذن لا ينافيه كما هو غير خفيّ .
ويدلّ عليه استثناؤها في الرواية(1) المعروفة عن عدم جواز التصرّف في مال الغير . نعم ، استثناء صورة الإجازة يؤيّد الحكم الوضعي ; لعدم كون الإجازة اللاّحقة مؤثِّرة في رفع الحكم التكليفي ، بل هي مرتبطة بالوضع كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه يقع الكلام بعد ذلك فيما لو آجر الأجير الخاصّ نفسه لغير المستأجر في تلك المدّة المعيّنة ، وليعلم أوّلاً أنّ الإجارة الثانية المتحقّقة في الإجارة على الأعمال تارةً ينشأ صدورها من المستأجر ; بأن يؤجر المستأجر أجيره من الغير ،
(1) كمال الدين : 520 ح49 ، الاحتجاج : 2 / 299 ، وسائل الشيعة : 9 / 540 ، كتاب الخمس، أبواب الأنفال ب3 ح7 .
(الصفحة431)
واُخرى ينشأ من الأجير ; بأن يؤجر الأجير نفسه من غير المستأجر .
أمّا الصورة الاُولى : فالحكم فيها حكم الإجارة في الأعيان ، وأنّه لو استأجر داراً مثلاً ، هل يجوز له إجارتها من الغير أم لا ، وقد مرّ تفصيلاً(1) .
وأمّا الصورة الثانية : فهي المقصودة بالبحث هنا بالنسبة إلى الأجير الخاصّ ، فنقول : الأجير الخاصّ تارة يكون مستأجراً بجميع منافعه ، واُخرى ببعضها المعيّن منها ، وعلى التقدير الثاني تارةً يؤجر نفسه لما هو ضدّ ما عقد عليه أوّلاً ، واُخرى لما هو مثله ، وينبغي أن يعلم أنّ التشقيق باعتبار التضادّ والتماثل مع عدم ثوبتهما بمعناهما الحقيقي في المقام ; لأنّ التماثل والتضادّ إنّما يكون معروضهما الموجودات الحقيقية مع شرائط خاصّة كما قرّر في فنّه ، ومع اشتراكهما في عدم اجتماع ما عقد عليه ثانياً مع ما عقد عليه أوّلاً ـ ولا يكاد يمكن الجمع بينهما خارجاًـ إنّما هو باعتبار اختلافهما في بعض الوجوه والأدلّة التي اُقيمت على عدم الجواز ، كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
وكيف كان ، ففي صورة التضادّ قد استدلّ على بطلان الإجارة الثانية تارةً من طريق اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه بضميمة اشتراط إباحة المنفعة في صحّة الإجارة ، واُخرى من جهة منافاة التضادّ للملكية ، وثالثة من جهة عدم القدرة على التسليم بعد سبق التمليك لضدّه .
والجواب عن الأوّل واضح لما حقّق في الاُصول من عدم الاقتضاء بوجه ، ولكنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بعد منعه الاقتضاء لابتنائه على المقدّمية ـ وهو لايقول بها ـ : إنّا ولو قلنا بمقدمية ترك الضدّ لوجود الضدّ ، لكنّا لانقول بمقدّمية فعل
(1) في ص349 مسألة 25.
(الصفحة432)
الضدّ لترك الضدّ ; لأنّ المقدّمية بنحو الشرطية لا محالة ، والشرط إمّا مصحّح لفاعلية الفاعل أو متمِّم لقابلية القابل ، والعدم لا شيء ، فلا يحتاج إلى فاعل أو قابل حتّى يتصوّر فيه المصحّحية للفاعلية أو المتمّمية للقابلية . وذكر في الجواب عن الثاني : أنّه على فرض المقدّمية لا حرمة مولوية لترك الواجب ، والحرمة المانعة عن قابلية المنفعة للملكية هي الحرمة المولوية ; لعدم الدليل على المنع في غيرها(1) .
أقول : لم يظهر لنا الفرق بين القول بمقدّمية وجود الضدّ لترك الضد ، وبين القول بمقدمية الترك للوجود ، إذ كما أنّ الترك عدم ليس بشيء حتّى يحتاج إلى فاعل أو قابل ، كذلك هو ليس بشيء حتّى يكون مصحّحاً أو متمِّماً ; لأنّ هذين الوصفين وجوديان لا يعقل عروضهما للعدم ، وقد تقرّر في محلّه أنّ العدم مطلقاً لا حظَّ له من الوجود وإن كان مضافاً .
ثمّ إنّ التعبير بالحرمة المولوية في الجواب الثاني سهو من القلم لا محالة ; لأنّ التكليف المولوي في مقابل الإرشادي ، والغرض النفسية مقابل المقدّمية والغيرية كما هو واضح .
وأمّا الجواب عن الثاني: فقد ظهر ممّا مرّ من عدم منافاة التضادّ للملكية ولا للتمليك .
وأما الوجه الثالث : فقد حكم بصحّته المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(2) ، مع أنّه يمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ القدرة على التسليم إن كان المراد بها هي القدرة العرفية التكوينية فمن المعلوم تحقّقها في المقام ، وعدم اقتضاء الإجارة الاُولى لسلب مثل
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 130 ـ 131 .
(2) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 131 .
(الصفحة433)
هذه القدرة ، وإن كان المراد بها هي القدرة الشرعية فعدم تحقّقها في المقام أوّل الكلام ، فتدبّر .
نعم ، يمكن أن يقال : إنّه مع تمليك الأجير ; المستأجر منفعته الخاصّة في مدّة معيّنة لا يعتبر له إضافة الملكيّة في تلك المدّة بالنسبة إلى سائر المنافع المضادّة غير المتعانقة معها في الوجود ، فإنّ المنفعة حيث تكون أمراً تدريجياً يفتقر إلى مرور الزمانومضيّه، فإذا ملكها الأجير من المستأجر فكأنّه ملك ذلك الزمان منه ، وعليه فلا يكون مالكاً لمنفعة اُخرى في تلك المدّة حتّى يملكها من الآخر ، ومن الواضح أنّه لا منافاة بين هذا الذي احتملناه، وبين ما ذكرنا من عدم منافاة التضادّ لأصل الملكيّة ولا للتمليك ، فإنّ مورد ذلك ما إذا لم يتحقّق التمليك بالنسبة إلى منفعة خاصّة ، فإنّه حينئذ نقول بكون الأجير مالكاً للمتضادّين ، وبإمكان تمليكهما من المستأجر حتّى يستوفي ما يتعلّق غرضه به من الخياطة أو الكتابة ، ومورد هذا الكلام ما إذا تحقّق التمليك بالإضافة إلى منفعة خاصّة ، فإنّه حينئذ يمكن أن يقال : إنّ سبق التمليك لأحد الضدّين في مدّة خاصّة ينافي اعتبار بقاء الملكيّة للأجير بالنسبة إلى منفعة اُخرى مضادّة ، وإن كان قبل التمليك متّصفاً بأنّه مالك لكليهما ، وكان يصحّ منه التمليك بالنسبة إليهما معاً ، ولكنّه بعد تحقّق التمليك لأحدهما يصير اعتبار الملكيّة للآخر مسلوباً ، فلا يقبل التمليك . هذا كلّه بالإضافة إلى المنافع المتضادّة .
وأمّا في صورة التماثل مثل ما إذا كان أجيراً للخياطة في مدّة معيّنة فآجر نفسه للخياطة أيضاً في تلك المدّة فقد ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) أنّه يتصوّر على وجهين(1) ، ولكنّه ينبغي قبل ذكر الوجهين اللذين أفادهما بيان أنّ فرض التماثل في
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 132 .
(الصفحة434)
المثال مع صحّة الإجارتين في نفسهما كما هو المفروض ، إمّا بأن يقال : إنّه يكفي في صحّة الإجارة للخياطة مجرّد تعيين كون المنفعة هي الخياطة ، من دون تعرّض لموردها والخصوصيّات التي يشتمل هو عليها من الرقة والغلظة ونحوهما ممّا يختلف باختلافها الأغراض بحسب الغالب . وإمّا بأن يقال : لابدّ من فرض الكلام فيما إذا اتّحد المورد بالإضافة إلى كلتا الإجارتين ; نظراً إلى اعتبار التعرّض للمحلّ وخصوصيّاته كما هو ظاهر الأصحاب ، وإلاّ فمع عدم اتّحاد المورد والمحلّ واعتبار التعرّض لخصوصيّاته لايكاد يتحقّق فرض التماثل ، ضرورة أنّه لو آجره المستأجر الأوّل لخياطة ثوب معيّن ، فآجر نفسه من آخر لخياطة ثوب معيّن آخر لم يتحقّق هنا هذا الفرض ; لعدم الفرق بينه وبين ما إذا آجر نفسه من آخر للكتابة مثلاً ، بداهة أنّ الخياطتين في هذه الصورة من المتضادّين باعتبار اختلاف المحلّ وعدم إمكان الاجتماع ، فلابدّ إمّا من القول بعدم اعتبار التعرّض للمحلّ وكفاية الاستئجار لمجرّد الخياطة ، أو القول بأنّ المفروض صورة اتّحاد المورد ; كما إذا كان المورد غير متعلّق بالمستأجر الأوّل بخصوصه ، بل كان متعلّقاً بالعموم أو بطائفة مثلاً .
وكيف كان، فأوّل الوجهين المتصوّرين في هذا الفرض على ما أفاده المحقّق المزبور ما إذا ملك المنفعة المملوكة للمستأجر الأوّل ، وثانيهما ما إذا ملك الخياطة من دون تقييد بمملوكيتها للمستأجر الأوّل ، وذكر في الوجه الأوّل أنّه لا شبهة في كونها فضولية تتوقّف صحّتها على الإجازة ، وفي الوجه الثاني أنّه على ما قلنا من أنّ المنفعة هي تلك الحيثيّة الواحدة اللامتعيّنة تصيرتلك الحيثيّة ملكاًللأوّل، وليست هنا حيثيّة اُخرى حتّى تملك ثانياً ، فتكون الإجارة فضولية قهراً لعينيّة مورد الثانية مع مورد الاُولى ، وأمّا على المسلك الآخر الراجع إلى الكلّي في المعيّن فهو أي الكلّي في
(الصفحة435)
المعيّن قابل للتعدّد . غاية الأمر أنّه بعد تمليك الكلّي الخارجي لا يملك كليّاً آخر ، لا أنّه لا كلّي آخر ، وإذا لم ترد الإجارة الثانية على مورد الاُولى ; لعدم القصد على الفرض وعدم العينيّة القهرية لتعدّد الكلّي الخارجي، فلا تقبل الإجازة من المستأجر الأوّل إلاّ أن تكون متضمِّنة للإقالة ، فيندرج المورد تحت عنوان من آجر ثمّ ملك كمن باع ثمّ ملك ، انتهى . هذا كلّه في الأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه .
وأمّا من استؤجر بجميع المنافع فلا خفاء في أنّه لا يجوز له إجارة نفسه من الغير في تلك المدّة ، لعدم كونه مالكاً لشيء من منافعه بعد تمليكها بأجمعها إلى المستأجر الأوّل ، وعليه فالإجارة الثانية الواقعة من الأجير فضولية قطعاً تتوقّف على إذن المستأجر أو إجازته ، هذا كلّه بحسب القواعد .
وهنا رواية واحدة واردة في الأجير الخاصّ ، رواها الكليني ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يستأجر الرجل بأجر معلوم فيبعثه في ضيعته، فيعطيه رجل آخر دراهم ويقول : اشتر بهذا كذا وكذا ، وما ربحت بيني وبينك ، فقال : إذا أذن له الذي استأجره فليس به بأس(1) .
والكلام في هذه الرواية تارة يقع في سندها ، واُخرى في مفادها ومدلولها :
أمّا الأوّل : فقد وصفت الرواية في المفتاح(2) وبعض آخر من الكتب الفقهية(3)بالصحّة ، وهو يدلّ على كون رواتها بأجمعهم عدولاً إماميّين ، مع أنّه وقع الإشكال
(1) الكافي : 5 / 287 ح1 ، وسائل الشيعة : 19 / 112 ، كتاب الإجارة ب9 ح1 .
(2) مفتاح الكرامة : 7 / 173 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان : 10 / 13.
(الصفحة436)
في إسحاق بن عمّار من جهة أنّه ليس المسمّى بهذا الاسم في الرواة إلاّ شخص واحد ، ولكنّه لم يعلم أنّه ابن عمّار الساباطي الفطحي، أو ابن عمّار بن حيّان الصيرفي الكوفي ، ويؤيّد الأوّل وصف الشيخ في الفهرست ـ على ما حكي عنه ـ له بالفطحية(1) ، وما ذكره العلاّمة في محكي الخلاصة من أنّ الأولى عندي التوقّف فيما يتفرّد به(2) ، ويؤيّد الثاني عنوانه في جمع من الكتب الرجالية بإسحاق بن عمّار الكوفي أو هو مع الصيرفي(3) ، وكذا ما ذكر في ترجمة إسماعيل بن عمّار الصيرفي الكوفي من أنّه أخو إسحاق(4) ، وفي ترجمة محمّد بن إسحاق من عنوانه هكذا : محمّد بن إسحاق بن عمّار الصيرفي الكوفي(5) .
هذا ، مضافاً إلى وجود رواية(6) تدلّ على كونه قائلاً بإمامة الكاظم (عليه السلام) . وكيف كان ، فلا شبهة في وثاقته واعتبار روايته ، وتوقّف العلاّمة فيما يتفرّد به لا يمنعنا عن الأخذ بروايته بعد عدم ثبوت ما يقدح في وثاقته ، كما لا يخفى .
وأمّا الثاني : فلا خفاء في أنّ موردها هو الأجير الخاصّ لا العامّ ، وذلك من جهة عدم ذكر المنفعة في السؤال ، والاقتصار على مجرّد استئجار الرجل بأجر معلوم . هذا ، مضافاً إلى أنّ الحكم بعدم البأس في الجواب في خصوص صورة الإذن من المستأجر ظاهر في الأجير الخاصّ ، لعدم الوجه لذلك في الأجير العامّ ،
(1) الفهرست : 54 رقم 52 .
(2) خلاصة الأقوال : 317 رقم 1244 .
(3) رجال النجاشي: 71 رقم 169، رجال الطوسي : 162 رقم 1831 ، منهج المقال : 52 .
(4) منهج المقال : 58 ، وراجع خلاصة الأقوال : 317 رقم 1243 ورجال الطوسي : 161 رقم 1821 .
(5) رجال الطوسي : 365 رقم 5410 ، منهج المقال : 282 .
(6) منهج المقال : 53 .
(الصفحة437)
وإلى أنّ نفس السؤال ربما يصير قرينة على ذلك ; لأنّ جواز إجارة الأجير العامّ لغير المستأجر الأوّل أو المضاربة معه لا يكاد يخفى على أحد ، خصوصاً على مثل إسحاق بن عمّار .
وبالجملة : فاختصاص الرواية بالأجير الخاصّ ممّا لا ينبغي الارتياب فيه . نعم ، الظاهر كون المراد به هو المستأجر بجميع المنافع ، لما عرفت من عدم ذكر منفعة خاصّة في السؤال ، والبعث إلى الضيعة مذكور بنحو التفريع لا الغرض والغاية المذكورة في الإجارة ، أو المقصودة منها وان لم تكن مذكورة ، وإن كان الغرض غير المذكور لا يجب الوفاء به في باب العقود ، كما قرّر في محلّه .
وكيف كان ، فالظاهر أنّ المراد بالأجير هو الأجير الخاصّ المستأجر بجميع المنافع ، وحينئذ فالجواب يدلّ على نفي البأس في خصوص صورة إذن المستأجر ، ومفهومه ثبوت البأس مع عدم الإذن ، وعليه : فإن كان المراد بالبأس هو الحكم التكليفي الإلزامي الذي يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة ، فغاية مفاد الرواية مجرّد عدم جواز المضاربة وترتّب استحقاق العقوبة عليها ، من دون تعرّض فيها للحكم الوضعي الراجع إلى بطلانها ، بل ربما يكون النهي دليلاً على الصحّة ، لاعتبار القدرة في متعلّقه كما قرّر في محلّه، وإن كان المراد به ماهو مساوق للحكم الوضعي أعني البطلان ، فالرواية تدلّ على البطلان مع عدم إذن المستأجر . نعم ، ربما يقال : بأنّه على فرض الدلالة على مجرّد الحكم التكليفي يمكن استفادة البطلان من الرواية بضميمة الرواية النبويّة المعروفة : إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه(1) .
(1) عوالي اللئالي : 2 / 110 ح301 ، مستدرك الوسائل : 13 / 73 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب6 ح8 .
(الصفحة438)
ولكنّ فساد هذا القول في غاية الوضوح ; لأنّ مورد النبوي ما إذا كان التحريم متعلّقاً بنفس الشيء الذي يقع مورداً للمعاملة لا بالمعاملة نفسها ، كما في المقام على ماهو المفروض .
ثمّ إنّه على تقدير دلالة الرواية على الحكم الوضعي أي البطلان ـ كما هو الظاهر ـ لا خفاء في أنّه ليس المراد به هو اعتبار الإذن السابق من المستأجر ، بحيث كان مرجع الرواية إلى أنّ عدم الإذن السابق يبطل المضاربة مطلقاً ، سواء لحقته الإجازة أم لا ، بل المراد به ظاهراً هو كون المضاربة مع الغير تصرّفاً فيما هو ملك للمستأجر الأوّل ; وهو مشروط برضاه ، سواء كان مقارناً ، أم لاحقاً مكشوفاً عنه بالإجازة ، وعليه فلا تكون الرواية مصادمة لأدلّة صحّة الفضولي في العقود إلاّ ما خرج . والظاهر أنّ المراد من الرواية هو الحكم الوضعي ، وعليه فلا تكون مخالفة للقواعد بوجه .
وينبغي التنبيه على أمرين :
الأوّل : لا ينبغي الإشكال في أنّه يجوز للأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه الخاصّة ـ كالخياطة مثلاً ـ الإتيان في مدّة الإجارة بما لا ينافي العمل المستأجر عليه، كالتعليم والتعلّم وإجراءعقد أوإيقاعوأشباهها في ضمن الخياطة التي استؤجر عليها في مدّة معيّنة ، فما حكي عن المسالك من احتمال المنع(1) ، وعن الروضة من أنّ فيه وجهين : من التصرّف في حقّ الغير ، ومن شهادة الحال(2) فهو في غير محلّه ، إن كان كلامه جارياً في هذا القسم من الأجير الخاصّ أيضاً ، كما هو ظاهر .
(1) مسالك الأفهام : 5 / 189 ـ 190 .
(2) الروضة البهية : 4 / 344 .
(الصفحة439)
كما أنّه يجوز لهذا القسم من الأجير الخاصّ العمل في غير مدّة الإجارة ، كما لو فرض خروج الليل عنها ، فيجوز للبنّاء العمل في الليل لغير المستأجر من نفسه أو غيره ، ولكن قد قيّدوا ذلك في كلامهم(1) بما إذا لم يؤدّ إلى ضعف في النهار ، ومفهومه أنّه مع أدائه إلى الضعف فيه لا يجوز له ذلك ، مع أنّه إن كان المراد بعدم الجواز هو الحكم الوضعي الراجع إلى البطلان فيما لو وقع عليه عقد معاوضة من إجارة أو جعالة ـ كما لو آجر نفسه من آخر في الليل ـ فلا وجه للحكم به بعد خروج الليل عن مدّة الإجارة الاُولى كما هو المفروض ، فيستحق الاُجرة أو الجعل ، ومجرّد اقتضاء العمل في الليل للضعف في النهار والفتور في العمل المستأجر عليه فيه لا يقتضي بطلان المعاوضة التي ظرفها الليل .
وإن كان المراد بعدم الجواز هو الحكم التكليفي التحريمي ، فدعوى ثبوته مبنيّة على كون القدرة على العمل المستأجر عليه ، المأخوذة في الحكم بوجوب الوفاء بمقتضى عقد الإجارة مأخوذة قيداً للمادة ، بحيث يجب تحصيلها مع فقدها ويحرم التعجيز مع وجودها ، ضرورة أنّه لو كانت قيداً للهيئة وكان الوجوب مشروطاً بوجودها فلا يجب إبقاؤها ولا إحداثها مع فقدها ، والظاهر هو الأوّل ، والتحقيق في محلّه ، هذا كلّه في الأجير الخاصّ الذي استؤجر ببعض منافعه .
وأمّا من كانت جميع منافعه مملوكة للمستأجر ، فتارةً يقع الكلام فيه من حيث اندراج مثل إجراء العقد أو الإيقاع في تلك المنافع المملوكة ، واُخرى في أنّه مع الاندراج وثبوت الحرمة هل العقد او الإيقاع الواقع من الأجير صحيح أم لا ؟
أمّا الأوّل : فربما يقال بالاندراج ; لأنّ الأجير الخاصّ بهذا الوجه كالعبد
(1) مسالك الأفهام : 5 / 189 ، رياض المسائل : 6 / 44 ، جواهر الكلام : 27 / 264 .
(الصفحة440)
المملوك جميع منافعه لمولاه ، ولكن الظاهر جريان العادة على خروج مثل ذلك ، كأفعاله العاديّة الخارجة قطعاً ; كالتنفّس وشرب الماء ونحوهما ، وقياس ذلك على العبد ممنوع ; لأنّه على تقدير تسليم ثبوت الحكم في المقيس عليه نقول بالفرق بين العبد وبين الأجير الخاصّ ; لأنّ العبد مملوك للمولى عيناً ومنفعة ، وموصوف في الكتاب العزيز بأنّه {لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء}(1) . ومرجعه إلى أنّ قدرته مضمحلة في جنب قدرة المولى ، بل ليس له القدرة أصلاً حتّى تكون مضمحلة ، وهذا بخلاف الأجير الخاصّ ، فإنّ غاية الأمر فيه أنّه ملّك منافعه من الغير ، والظاهر بمقتضى قضاء العادة خروج هذا النحو من المنافع عن دائرة التمليك ، فتدبّر .
وأمّا الثاني : فالظاهر كما صرّح به المحقّق الرشتي (قدس سره)(2) أنّه لا وجه للحكم بالفساد ; لأنّ الحرمة الثابتة من ناحية التصرّف في مال الغير لا تقتضي فساد ذلك التصرّف إذا كان من العقود . نعم ، يمكن أن يقال بفساد المعاوضة الواقعة على إجراء العقد ، كما لو آجر نفسه لإجراء عقد البيع ، فإنّه حيث يكون الإجراء محرّماً لأجل كونه تصرّفاً في مال الغير يمكن أن يقال ببطلان المعاوضة الواقعة عليه ، فلا يستحقّ الاُجرة الواقعة بإزائه ; لأنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه(3) ، لكنّ هذا لا يقدح في صحّة العقد الذي أجراها للغير ; لعدم مانع عن صحّته وعدم اقتضاء الحرمة له ، كما عرفت .
الأمر الثاني : الأجير الخاصّ الذي يخالف التكليف بوجوب الوفاء بعقد الإجارة على أقسام ; لأنّه تارةً تتحقّق مخالفته بترك العمل رأساً ; بأن لا يعمل
(1) سورة النحل 16 : 75 .
(2) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 213 .
(3) تقدّم في ص437.
|