(الصفحة461)
ثانيها : تعيّن الرجوع إلى الغير المتبرّع له ; لأنّه المستوفي للمنفعة المملوكة للمستأجر ، والاستيفاء من أسباب الضمان .
ويرد عليه منع كون مجرّد الاستيفاء موجباً للضمان بل إذا كان مسبوقاً بالأمر، والتحقيق في محلّه .
ثالثها : التفصيل بين صورتي العلم والجهل وعدم جواز الرجوع إلى الغير مع جهله ; لأنّه لا يزيد على من عمل له العبد بدون إذن مولاه ومن دون إذنه واستدعائه ، وهذا هو الذي يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره)(1) .
رابعها : ما اختاره في العروة من عدم جواز الرجوع إلى الغير المتبرّع له بالعوض ، سواء كان جاهلاً أو عالماً بالحال . قال : لأنّ المؤجر هو الذي أتلف المنفعة عليه دون ذلك الغير ، وإن كان ذلك الغير آمراً له بالعمل ، إلاّ إذا فرض على وجه يتحقّق معه صدق الغرور ، وإلاّ فالمفروض أنّ المباشر للإتلاف هو المؤجر(2) .
واعترض عليه تارةً : بأنّه فيما إذا كان ذلك الغير آمراً له بالعمل لا يبعد الحكم بجواز رجوع المستأجر إليه ، لا لأنّه أتلف على المستأجر منافعه حتّى يجاب بأنّ المباشر هو الأجير ، بل لأنّه استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه ، فله أخذ العوض عنه ، وتبرّع الأجير به لا يفيد بعد كونه ملكاً لغيره .
واُخرى : بأنّ فرض صدق الغرور غير ظاهر ، وإن أُجيب عن هذا الاعتراض بأنّه يمكن فرضه فيما إذا ادّعى الغير الوكالة من قبل المستأجر والاستئذان عنه في
(1) جواهر الكلام : 27 / 266 .
(2) العروة الوثقى : 5 / 83 مسألة 4 .
(الصفحة462)
استيفاء منفعة الأجير ، وكان الأجير معتقداً بصدقه ثمّ انكشف الخلاف بعد الاستيفاء .
وثالثة : بأنّ صدق الغرور على تقدير تسليمه إنّما يصحّح رجوع الأجير المغرور إلى الغارّ الذي هو الغير ، ولا يصحّح رجوع المستأجر إليه الذي هو المدّعى ، إلاّ أن تحمل العبارة على كون المراد فرض صدق الغرور من قبل الغير بالنسبة إلى المستأجر ، وهو مع كون فرضه غير ظاهر خلاف ظاهر العبارة جدّاً ، كما هو ظاهر .
والحقّ أن يقال : إنّه لا مجال للحكم بضمان الغير هنا إلاّ من ناحية الاستيفاء فقط ; لعدم وجود شيء من أسباب الضمان غيره ، والتحقيق في أنّ مجرّد الاستيفاء بنفسه يوجب الضمان أو يتوقّف على الأمر موكول إلى محلّه .
الصورة الرابعة : ما إذا عمل للغير بعنوان الإجارة أو الجعالة .
فإن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الأوّل ; وهو أن يكون جميع منافعه للمستأجر في مدّة معينة بحيث كان الاختيار في تعيين العمل بيده ، فالمذكور هنا وفي العروة أنّ المستأجر حينئذ يتخيّر بين الاُمور الثلاثة : إجازة ما صدر من الأجير من الإجارة أو الجعالة ; لأنّه المالك للعمل الواقع مورداً لهما ، فالإجازة حقّ ثابت له ، وعليه فتكون الاُجرة المسمّـاة في تلك الإجارة أو الجعالة له ، وفسخ عقد نفسه والرجوع إلى الاُجرة المسمّـاة فيه ، وإبقاؤه ومطالبة عوض المقدار الذي فات(1) .
وذكر سيّدنا العلاّمة الأستاذ (قدس سره) في الحاشية أنّه مخيّر بينها وبين رابع ; وهو إبقاء إجارة نفسه وردّ الإجارة الثانية والرجوع إلى مستأجرها باُجرة العمل ; لأنّه
(1) العروة الوثقى : 5 / 84 مسألة 4 .
(الصفحة463)
استوفى عمل الأجير الذي هو ملك المستأجر بدون تبرّع من مالكه(1) .
وإن كان أجيراً خاصّاً بالمعنى الثاني ; وهو كون منفعته الخاصّة للمستأجر في مدّة معيّنة فالمذكور في العروة أنّه فيما إذا لم يكن العمل للغير من نوع العمل المستأجر عليه; كأن تكون الإجارة واقعة على منفعة الخياطة فآجر نفسه للغير للكتابة مثلاً ليس للمستأجر إجازة ذلك ; لأنّ المفروض أنّه مالك لمنفعة خاصّة ، فليس له إجازة العقد الواقع على منفعة اُخرى ، فيكون مخيّراً بين الأمرين الآخرين من تلك الاُمور الثلاثة(2) .
وإن كان أجيراً خاصّاً على الوجه الثالث ; بأن استأجره لعمل مباشرة في مدّة معيّنة لا تتّسع لغيره، فالمذكور في العروة أنّ حكمه حكم الوجه الثاني ، مع الفرق في أنّه لا يتفاوت هنا في عدم صحّة الإجازة بين ما إذا كانت الإجارة أو الجعالة واقعة على نوع العمل المستأجر عليه أو على غيره ، إذ ليست منفعة الخياطة مثلاً مملوكة للمستأجر حتّى يمكنه إجازة العقد الواقع عليها ، بل يملك عمل الخياطة في ذمة المؤجر .
هذا ما أُفيد في هذه الصورة ، ويظهر ماهو المختار ممّا قدّمناه من مباحث الأجير الخاصّ وأحكام الصور المتقدّمة ولا نطيل بالإعادة ، فتدبّر .
(1) العروة الوثقى : 5 / 84 ، التعليقة 2 وص83 ، التعليقة 1 .
(2، 3) العروة الوثقى : 5 / 84 ـ 85 ، مسألة 4.
(الصفحة464)
مسألة : لو آجر نفسه لعمل مخصوص بالمباشرة في وقت معيّن لامانع من أن يعمل لنفسه أو غيره في ذلك الوقت ما لا ينافيه ، كما إذا آجر نفسه يوماً للخياطة أو الكتابة ثمّ آجر نفسه في ذلك اليوم للصوم عن الغير إذا لم يؤدِّ إلى ضعفه في العمل،وليس له أن يعمل في ذلك الوقت من نوع ذلك العمل ومن غيره ممّا ينافيه لنفسه ولا لغيره ، فلو فعل فإن كان من نوع ذلك العمل ـ كما إذا آجر نفسه للخياطة في يوم فاشتغل فيه بالخياطة لنفسه أو لغيره تبرّعاً أو بالإجارة ـ كان حكمه حكم الصورة السابقة; من تخيير المستأجر بين أمرين لو عمل لنفسه أو لغيره تبرّعاً، وبين اُمور ثلاثة لو عمل بالجعالة أو الإجارة، وإن كان من غير نوع ذلك العمل ـ كما إذا آجر نفسه للخياطة فاشتغل بالكتابة ـ فللمستأجر التخيير بين أمرين مطلقاً ; من فسخ الإجارة واسترجاع الاُجرة، ومن مطالبة عوض المنفعة الفائتة1 .
1 ـ قد تقدّم البحث في هذه المسألة في المسألة المتقدّمة تفصيلاً ، فراجع .
(الصفحة465)
[الأجير العامّ]
مسألة : لو آجر نفسه لعمل من غير اعتبار المباشرة ولو في وقت معيّن، أو من غير تعيين الوقت ولو مع اعتبار المباشرة، جاز له أن يؤجر نفسه للغير على نوع ذلك العمل أو مايضادّه قبل الإتيان بالعمل المستأجر عليه1 .
1 ـ أقول : هذا هو الأجير العامّ أو المشترك أو المطلق ، والكلام فيه تارةً في بيان المراد منه، واُخرى في حكمه :
أمّا الأوّل : فقد عرفت في تعريف الأجير الخاصّ(1) أنّه ليس لنا طريق لاستكشاف المراد من هذين العنوانين إلاّ الأحكام المترتّبة عليهما ; لأنّه كلمة مركّبة ولا سبيل إلى الرجوع إلى اللغة لاستفادة المراد منه ، بل مورد الاستعمال هو الفقه ، ويظهر من الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ أنّه كان هذان العنوانان مورداً لاستعمالهم من سالف الزمان ; يعني زمن السيّد(2) والشيخ (قدس سرهما)(3) لتصدّيهم لبيان المراد منه من ذلك الزمان ، بل وقع في بعض الروايات تفسيره كما في رواية عمرو ابن خالد، عن زيد بن علي ، عن آبائه (عليهم السلام) أنّه اُتي بحمّال كانت عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمّنها إيّاه ، وكان يقول : كلّ عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن ، فسألته ما المشترك ؟ فقال : الذي يعمل لي ولك ولذا(4) .
وقد وقع التعبير به من دون تفسيره في رواية مسمع بن عبد الملك ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : الأجير المشارك هو ضامن إلاّ من سبع
(1) في ص427 ـ 428.
(2) الانتصار : 466 .
(3) المبسوط : 3 / 242 .
(4) التهذيب : 7 / 222 ح976 ، وسائل الشيعة : 19 / 152 ، كتاب الإجارة ب30 ح13 .
(الصفحة466)
أو من غرق أو حرق أو لصّ مكابر(1) .
ولكن هذه الرواية ضعيفة بخلاف الرواية الاُولى .
وكيف كان ، فالظاهر بملاحظة ما ذكرنا في تعريف الأجير الخاصّ أنّ الأجير العامّ ما كان فاقداً لبعض ما يعتبر فيه أو لجميعه ، فإذا لم يكن جميع منافعه في المدّة المعيّنة أو بعضها فيها للمستأجر ، بل أستؤجر على عمل في المدّة المعيّنة الزائدة عن العمل من دون قيد المباشرة أو معه ، أو استؤجر عليه بقيد المباشرة من دون تعيين المدّة المضيّقة أولا بقيدها مع تعيينها ، أو كان قيد المباشرة على وجه الشرطية دون التقييد فهو الأجير العامّ ، وإن لم يفرّق في العروة وحواشيها(2) في نحوي اعتبار قيد المباشرة ، بل حكم فيها بأنّه معه ومع تعيين المدّة يدخل في الأجير الخاصّ كما هو ظاهر المتن هنا ، ولكنّك عرفت في تعريف الأجير الخاصّ(3) أنّه يعتبر فيه أن يكون اعتبار المباشرة بنحو التقييد دون الاشتراط ، كما وقع التصريح به في الجواهر(4) ; لأنّ تخلّف الشرط يوجب الخيار ، ولا يجدي في ترتّب الأحكام المذكورة للأجير الخاصّ .
وبالجملة : فالظاهر أنّ التفسير الواقع في الرواية المتقدّمة يغاير تفسير الفقهاء ـ رضوان الله عليهم ـ لأنّه ليس المراد بقوله (عليه السلام) : «يعمل لي ولك ولذا» أنّه يعمل خارجاً في آن واحد لأزيد من واحد ، مثل الخياطة لشخصين في زمان واحد كيف وهو مستحيل ، كما أنّه ليس المراد منه هو من يجوز له العمل في آن واحد لهذا ولغيره
(1) الكافي : 5 / 244 ح7 ، وسائل الشيعة : 19 / 149 ، كتاب الإجارة ب30 ح4 .
(2) العروة الوثقى : 5 / 86 مسألة 5 .
(3) في ص428.
(4) جواهر الكلام : 27 / 263 .
(الصفحة467)
كما لا يخفى ، بل المراد به ظاهراً من كان شغله أن يصير أجيراً من دون فرق بين المستأجرين وأفرادهم ; لأنّه عمله في قبال من لا يعمل إلاّ لمستأجر خاص كالخادم وشبهه ، وهذا المعنى لا ينطبق على تعريف القوم ، إذ يمكن أن يكون الأجير العامّ بهذا المعنى أجيراً خاصاً على تفسير القوم . نعم ، يرد على الرواية أنّ تخصيص الحكم بالضمان في صورة الإفساد بالأجير والعامل المشترك لم يعلم له وجه ; لعدم الفرق ظاهراً بين قسمي الأجير في الحكم بالضمان مع التعدّي والتفريط وبعدمه مع عدمهما ، والتحقيق في موارد ثبوت الضمان على الأجير موكول إلى محلّه .
وأمّا الثاني : فقد ذكروا(1) أنّه يجوز للأجير العامّ العمل لغير المستأجر من نفسه أو غيره إجارة أو تبرّعاً مع أنّ هذا بإطلاقه ممّا لايتمّ ، فإنّه فيما إذا كان الاستئجار لعمل مجرّد عن المدّة المضيّقة دون المباشرة ، ولم يأتِ الأجير بالعمل المستأجر عليه حتّى ضاق الوقت لا يجوز له في هذه الصورة العمل لغير المستأجر مع كونه أجيراً عامّاً ، إلاّ أنّه لا يخفى أنّ مرجع عدم الجواز هنا إلى وجوب الوفاء بعقد الإجارة ، وإلاّ فليس هنا تكليف إلزامي تحريمي زائداً على التكليف الوجوبي المتعلّق بالوفاء على ماهو المحقّق في محلّه .
وكيف كان ، فلابدّ في هذا المقام من بيان صور المسألة حتّى يتّضح ما يترتّب عليها من الأحكام ، وقبل الأخذ فيها نقول : إنّ ما ينبغي أن يكون محلاًّ للكلام في الأجير العام هو ما إذا كان العمل لغير المستأجر منافياً للعمل المستأجر عليه ، وهذا فيما إذا كان العمل للغير بعنوان الإجارة تارةً يتحقّق فيما إذا آجر نفسه له أجيراً خاصّاً ، وقد يتحقّق فيما إذا آجر نفسه له أجيراً عامّاً .
(1) الانتصار : 466 ، المبسوط : 3 / 242 ، مسالك الأفهام : 5 / 191 ، جواهر الكلام : 27 / 268 ، العروة الوثقى : 5/86 مسألة 5 .
(الصفحة468)
أمّا الأوّل : فكما إذا ضاق وقت الإجارة الاُولى بحيث لم يسع إلاّ للعمل المستأجر عليه فيها ، فآجر نفسه للثاني بالإجارة الخاصّة في ذلك الوقت .
وأمّا الثاني : ففي هذه الصورة التي ضاق وقت الإجارة الاُولى مع قيد المباشرة إذا آجر نفسه بالإجارة الخالية عن قيد المباشرة مع التقييد بذلك الوقت المضيّق ، ولكنّه لم يقدر على إيكال العمل إلى الغير استنابة ، بل وجب عليه التصدّي له بالمباشرة وإن كان قيدها غير مأخوذ في الإجارة ، فإنّه حينئذ يتحقّق التنافي بين العملين كما هو غير خفي .
إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إنّ من صور المسألة ما إذا آجر نفسه للغير بالإجارة الخاصّة المنافية ، وقد استدلّ على بطلان الإجارة الثانية في مثله بوجوه :
منها : أنّ الأمر بإيجاد العمل المستأجر عليه أوّلاً يقتضي النهي عن ضدّه وهو يقتضي الفساد .
والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّه قد حقّق في محلّه أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه مطلقاً ، وعلى تقديره فلا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ بوجه ـ إنّه على تقدير تسليم ذلك نقول : إنّ الضدّ الخاصّ هنا هو الوفاء بعقد الإجارة الثانية ، وإيجاد العمل المستأجر عليه فيها لا نفس الإجارة الثانية ، وإنشاء المعاملة الكذائية فإنّ إنشاءها لا ينافي الوفاء بعقد الإجارة الاُولى حتّى يتعلّق النهي به ، إلاّ أن يكون العمل المستأجر عليه في الإجارة الاُولى من سنخ القراءة والأقوال ، بحيث يكون التلفّظ بعقد الإجارة الثانية منافياً لتحقّقه .
ثمّ إنّه على هذا التقدير لا يكون النهي المتعلّق به الناشئ من الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الاُولى مقتضياً للفساد بوجه ; لأنّ النهي المتعلّق بالمعاملة ، الذي وقع البحث في إقتضائه للفساد وعدمه ما كان متعلّقاً بالعقد المعاملي بما أنّه معاملة لا بما
(الصفحة469)
أنّه من سنخ الألفاظ ومن مقولة القول كما هو ظاهر، فالتمسك لبطلان الإجارة الثانية بهذا الوجه غير صحيح جزماً .
ومنها : أنّه يجب الوفاء بعقد الإجارة الاُولى فوراً ، ومعه لا يعقل إمضاء عقد الإجارة الثانية بالأمر بالوفاء به فوراً ; لعدم القدرة على الوفاء به كذلك .
وهذا الوجه وإن لم يستدلّ به في الصورة المفروضة ، بل مورد الاستدلال به ما إذا آجر الأجير نفسه بالإجارة العامّة أيضاً . غاية الأمر أنّ دعوى بطلان الثانية متفرّعة على اقتضاء الإطلاق للتعجيل كما حكي عن الشهيد (قدس سره)(1) ، أو على اقتضاء الأمر بالوفاء للفورية كما نسب إليه أيضاً ، إلاّ أنّه يمكن تقريبه في مفروض المقام بأن يقال : إنّ إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الاُولى بعد فرض ضيق الوقت الموجب لصيرورة الوجوب فورياً لا يجتمع مع إيجاب الوفاء بعقد الإجارة الثانية ، الذي هو فوري أيضاً ; لفرض كونه أجيراً خاصّاً يكون جميع منافعه في المدّة المعيّنة أو بعضها للمستأجر الثاني ، فمع ثبوت الأوّل لا يعقل أمضاء الثانية بالأمر بالوفاء نظراً إلى عدم القدرة ، كما هو ظاهر .
وقد أجاب المحقّق الإصفهاني (قدس سره) عن أصل الوجه بما حاصله : إنّ الصحّة إذا كانت مسبّبة عن الأمر بالوفاء أمكن أن تكون إستحالته كاشفة عن عدمها ، وأمّا إذا لم تكن مسبّبة عنه ، بل كانت الصحّة ثبوتاً تابعة لاستجماع شرائط الصحّة وإثباتاً لوجود دليل دالّ على نفوذ الإجارة كما هو كذلك فلا أثر حينئذ ، لعدم شمول الأمر بالوفاء بالعقد للإجارة الثانية . نعم ، عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعييناً ، وحينئذ إن كان مرجّح للاُولى أو الثانية كان هو
(1) مسالك الأفهام : 5 / 192 .
(الصفحة470)
المقدّم في الوفاء ، وإلاّ كان مخيّراً عقلاً في صرف القدرة في امتثال ما شاء من الأمرين ، وربما يتخيّل أنّ سبق الخطاب في الإجارة الاُولى يجلب القدرة إلى نفسه ، ويكون معجزاً عن الوفاء بالثانية إلاّ أنّه ليس على إطلاقه ، بل فيما إذا كان سبق لأحد الواجبين على الآخر كالقيام في الركعة الاُولى بالنسبة إليه في الثانية ، فإنّ صرف القدرة في الأوّل لا مزاحم له في عرضه بخلاف المقام ، فإنّ المفروض وحدة زمان العمل ، واقتضاء كلّ من الأمرين لإيجاد العمل في أوّل الأزمنة، ومجرّد سبق الخطاب لا أثر له ، بل لو فرض فعلية أحد الخطابين لفعليّة موضوعه وعدم المزاحم له حال فعليّة الخطاب فصار موضوع الآخر فعلياً قبل امتثال الأوّل لكان الأمر كذلك ، فإنّ فعليّة الخطاب مشروطة بالقدرة حدوثاً وبقاءً معاً ، كما إذا غرق إنسان فأمر بإنقاذه وقبل الإنقاذ غرق شخص آخر ، فإنّه لا شبهة في سقوط الأمر عن التعينيّة الفعلية مع عدم الأهمّية(1) .
ويمكن الإيراد عليه بأنّ الصحّة وإن لم تكن مسبّبة عن الأمر بالوفاء ، بل هو غير معقول ; لأنّ الأمر بالوفاء إنّما هو فيما إذا كان العقد متّصفاً بالصحّة ، فكيف تكون مسبّبة عنه ، إلاّ أنّ دعوى أنّه لا أثر لعدم شمول الأمر بالوفاء بالعقد للإجارة الثانية لا تجدي بعد كون الغرض إثبات اللزوم أيضاً زائداً على الصحّة لا مجرّدها ، وإن لم تكن لازمة .
ويمكن الجواب عن أصل الوجه بأنّ الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الثانية في مفروض المقام ـ وهو ما إذا كانت الإجارة الثانية إجارة خاصّة يكون جميع المنافع في المدّة المعينة أو بعضها المماثل للعمل المستأجر عليه في الإجارة الاُولى
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 153 ـ 154 .
(الصفحة471)
للمستأجرـ لا ينافي بمجرّده للأمر بالوفاء بالإجارة الاُولى ، فإنّ الوفاء بالثانية لا يستلزم ايجاد العمل للمستأجر بل مقتضاه تهيّؤه ; لرجوعه إليه بما يريد من المنافع أو بالمنفعة المعيّنة المذكورة في العقد ، ومن الواضح أنّ مجرّد التهيّؤ لا ينافي الوفاء بعقد الإجارة الاُولى .
نعم ، قد تتحقّق المنافاة كما إذا أراد منه المستأجر منفعة من الخياطة والكتابة ونحوهما ، وحينئذ يجب على الأجير امتثاله وإطاعته ، فتتحقّق المنافاة بين الوجوبين لعدم القدرة على امتثالهما معاً ، فلابدّ حينئذ في الحكم بالتعيين من التماس مرجّح ، وقد ذكر المرجّح للإجارة الاُولى في كلام المحقّق المتقدّم مع جوابه ، وسيأتي التحقيق فيه وللإجارة الثانية في مفروض المقام في كلام المحقّق الرشتي (قدس سره)(1) بما يرجع إلى أنّ الأجير فوّت العمل على المستأجر الأوّل بالإجارة الثانية ، حيث ملّك جميع منافعه أو المنفعة الخاصّة المماثلة للثاني ، فهو كما لو باع المديون ما يملكه من غير الدائن ، فإنّ حقّ المشتري حينئذ مقدّم على حقّ الدائن المتعلّق بالعين ، فلو عمل للأوّل والحال هذه كان فضولياً محتاجاً إلى إجازة الثاني .
نعم ، للأوّل الرجوع إلى الأجير بالمسمّى أو اُجرة المثل ، كما في سائر صور التفويت والإتلاف انتهى . ومن المعلوم أنّ حرمة التفويت على تقديرها لاتنافي صحّة المعاملة الواقعة ، كما هو ظاهر .
والتحقيق في المقام أنّه لا منافاة بين الوجوبين وإن لم يكن سوى قدرة واحدة في البين ، وذلك لما حقّقناه في الاُصول في مبحث الترتّب تبعاً لسيّدنا العلاّمة الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ من الفرق بين الخطابات الكليّة العامّة ، وبين الخطابات
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 222 .
(الصفحة472)
الشخصية المتوجهة إلى آحاد المكلّفين ، وأنّه لا يعتبر في إمكان توجّه الاُولى إلى الآحاد ملاحظة أحوال كلّ من المخاطبين من حيث القدرة والعجز ونحوهما من الحالات المختلفة . غاية الأمر أنّ غير القادر معذور في مخالفة التكليف لا أنّه غير مكلّف أصلاً ، والدليل على عدم كون التكليف مشروطاً بالقدرة ، بل كون عدمها عذراً حكمهم بوجوب الاحتياط في صورة الشكّ في القدرة ، مع أنّها لو كانت شرطاً لكان مقتضى القاعدة جريان أصالة البراءة للشكّ في شرط التكليف .
وبالجملة : الخطابات العامّة متوجّهة إلى جميع المكلّفين من دون فرق بين القادرين والعاجزين . غاية الأمر كون الطائفة الثانية معذورين في المخالفة لأجل حكم العقل بذلك ، وحينئذ نقول : إنّ الأمر بالوفاء بعقد الإجارة الاُولى وكذا الأمر بالوفاء بالثانية كلاهما ثابتان فعليان ، وإن لم يكن المكلّف قادراً على امتثالهما ; لأنّ العجز لا ينافي الفعلية كما مرّ ، فما زعمه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في كلامه المتقدّم من أنّ عدم القدرة على الوفاء بالعقدين يمنع عن فعلية الأمر بهما تعييناً ، لا يتم بناءً على ما ذكرنا من أنّ القدرة الواحدة لا تنافي فعلية الخطابين إذا كانا بنحو الكليّة والعموم .
إلاّ أن يقال في مثل المقام بعدم كون المكلّف معذوراً في المخالفة ; لأنّه مع العلم بعدم القدرة على امتثال أزيد من تكليف واحد أوجد سبب التكليف الثاني ; وهو العقد الموجب لثبوت التكليف بالوفاء به ، فعدم القدرة مستند إلى سوء اختياره ، ضرورة أنّه لو لم يقدم على المعاملة الثانية اختياراً لما كانت مخالفة التكليف متحقّقة بوجه ، فهو مع العلم بذلك أوجد السبب للتكليف الثاني بسوء اختياره ، فهو كما لو كان قادراً على أمتثال التكليفين ابتداءً ، ففعل ما أوجب سلب القدرة على امتثال واحد غير معيّن منهما ، فإنّه لا يكون في هذه الصورة معذوراً في المخالفة ، اللّهمَّ إلاّ أن يقال بالفرق بين الصورتين فتدبّر . هذا ما يقتضيه التحقيق بالنسبة إلى الحكم
(الصفحة473)
التكليفي وهو وجوب الوفاء بالعقدين .
وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي فالظاهر أنّه لا مانع من الحكم بصحّتهما معاً ، سواء قلنا : بأنّ الصحّة مسبّبة عن الأمر بالوفاء كما عرفت أنّه غير معقول(1) ، أم لم نقل بذلك ، أمّا الحكم بصحّة الإجارة الثانية فلأنّه لا موجب لبطلانها إلاّ الوجه الذي عرفت بطلانه ، وأمّا صحّة الإجارة الاُولى فلأنّه وإن ملّك جميع منافعه أو بعضها المماثل للمستأجر الثاني إلاّ أنّه لا يوجب خللاً في الإجارة الاُولى بعد كون متعلّقها العمل الثابت في ذمّة الأجير ، وكون المملوك في الإجارة الثانية المنافع أو البعض لا نفس العمل ، كما عرفت .
ودعوى أنّ الإجارة الثانية تسلب القدرة عن الوفاء بالإجارة الاُولى ، مدفوعة بإمكان الوفاء بها معها أيضاً ، كيف ويمكن الاستئذان من المستأجر الثاني لأن يعمل للأوّل ، أو المعاوضة معه بالنسبة إليه، أو الإقالة معه بالإضافة إلى عقده ، ومع عدم إمكان شيء من هذه الاُمور لا وجه أيضاً للحكم بالبطلان . غاية الأمر أنّ الأجير فوّت العمل على المستأجر الأوّل والتفويت لا يلازم البطلان ، بل غاية الأمر جواز المعاملة من طرف المستأجر لا البطلان .
ومنها : أنّ الإجارة الاُولى أحدثت حقّاً للمستأجر الأوّل على الأجير ، ومقتضاه عدم تأثير الأسباب في تعلّق حق آخر يوجب بطلان الأوّل ، كما لو نذر أن يتصدّق بعين من أعيان ماله ، فإنّه يمنع عن تأثير سائر الأسباب فيه كالبيع ونحوه .
والجواب ما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره) من أنّه لا امتناع في اجتماع الحقوق
(1) في ص470.
(الصفحة474)
لأشخاص في ذمّة شخص واحد ، بل هو سائغ ، سواء وقع في الأداء بينهما مزاحمة أم لا ، وإنّما الممتنع اجتماعهما في عين مشخّص كما في مثال النذر المذكور ، بل قد يجتمع في العين الخارجي أيضاً إذا كان تعلّقها عليه، لا من حيث عنوان مشترك قابل للصدق عليها وعلى غيرها كحال المفلس ، فإنّه متعلّق لحقّ الديّان ، لكن له اشتغال ذمّته أيضاً قبل الحجر ، وما ذاك إلاّ لأنّ ماله إنّما تعلّق به حقوقهم من حيث عنوان المالية القابلة للصدق عليه وعلى غيره ، وله أيضاً البيع ، ولا ينافيه تعلّق حقوقهم به(1) انتهى . مضافاً إلى أنّ الحكم بالصحّة في مثال النذر ، ممّا وقع التصريح به من جماعة(2) ، وليس بمسلّم عند الجميع كما يظهر بالمراجعة .
وقد أجاب عن هذا الوجه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بما حاصله : أنّه حيث لا تضادّ بين العملين لأنّه لا توقيت في البين فلا منافاة بين التمليكين ، وليس هنا حقّ آخر في البين(3) .
ويمكن الإيراد عليه بالنسبة إلى مفروض المقام بأنّ الكلام فيما كانت هناك منافاة لا لأجل التوقيت ، بل لأجل تضيّق وقت الإجارة الاُولى وكون الثانية إجارة خاصّة ، فالتنافي متحقّق فلا محيص عن الجواب بالنحو الأوّل .
ومنها : أنّ العمل لغير المستأجر الأوّل خصوصاً مع المطالبة حرام ، فتكون الإجارة الثانية باطلة ; لأنّ شرط صحّة الإجارة أن تكون المنفعة محلّلة .
وأجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره) بما حاصله : أنّ هذا الوجه من ثمرات مسألة
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 223 .
(2) كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 4 / 30 ـ 31 ، مقابس الأنوار : 190 ، مناهج المتّقين : 218 .
(3) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 154 .
(الصفحة475)
اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ الخاصّ وهو ممنوع ، بل الاقتضاء إنّما هو بالنسبة إلى الضد العامّ ، مع أنّ النهي الغيري لا يقتضي فساد المعاملة فافهم . نعم ، لا مضايقة في حرمة السبب أي الإجارة الثانية لتفويتها حقّ المستأجر الأوّل ، وأمّا حرمة العمل فلا(1) .
وقد حقّقنا في الاُصول أنّ الاقتضاء ممنوع مطلقاً حتّى بالنسبة إلى الضدّ العامّ، ويمكن أن يقال في المقام : إنّ الأمر أيضاً غيريّ ; لأنّ المنافاة إنّما هو بين العملين في الخارج ، ومتعلّق الأمر إنّما هو المفهوم الكلّي الذي يكون الموجود في الخارج مصداقاً له ، وعليه فالعمل للمستأجر الأوّل في الخارج لا يكون مأموراً به إلاّ لكونه محقّقاً لما هو المأمور به ; وهو الوفاء بعقد الإجارة، فالأمر المتعلّق به غيريّ فضلاً عن النهي الذي هو مقتضاه على تقدير القول بالاقتضاء . هذا ، ولا يخفى أنّ مقتضى هذا الكلام عدم تحقّق الصغرى لهذه المسألة الاُصولية أصلاً ; لأنّ الأوامر كلّها متعلّقة بالطبائع والمفاهيم ، والمضادّة بنحو العموم إنّما هي بين الأمرين الوجوديّين ، فما هو ظرف تعلّق الأمر لا يكون محلاًّ لثبوت التضادّ وبالعكس .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الفرق بين النهي الغيري والنفسي من حيث اقتضاء الفساد ممّا لم يعلم له وجه ، مع أنّه لم يكن الكلام في اقتضاء النهي للفساد ، بل في كون الحرمة منافية لتحقّق ماهو الشرط في الصحّة الإجارة من كون المنفعة مباحة ، فالحقّ في الجواب على تقدير تسليم صحّة هذا الشرط في الإجارة منع الاقتضاء فتدبّر ، مع أنّ ماهو المضادّ للعمل للمستأجر الأوّل ليس إلاّ العمل للمستأجر الثاني ، والمنفعة المملوكة في الإجارة الثانية ليست هي العمل ، بل منفعة الأجير أو
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 223 .
(الصفحة476)
جميع منافعه ، وهو لا يكون مضادّاً للأوّل ; لإمكان عدم مراجعة المستأجر الثاني إليه للعمل أصلاً ; لأنّ المفروض كونه أجيراً خاصّاً ، فالتضادّ غير متحقّق كما لايخفى .
ومنها : أنّه غير متمكّن من العمل الثاني شرعاً ، والقدرة على التسليم شرط لصحّة الإجارة مطلقاً .
وأجاب عنه المحقّق الرشتي (قدس سره) بأنّ هذا أيضاً مبنيّ على مسألة الضدّ وقد ظهر جوابه(1) . وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (قدس سره) بأنّه لا يبتني على تلك المسألة قال : لأنّه مع فساده من وجوه أشرنا إليها خلاف ما فرضه في الجواهر(2) من عدم ابتنائه على مسألة الضدّ ، بل بناه على فوريّة الأمر بالوفاء ، ثمّ قال في تقريبه ما حاصله : إنّ العمل بالإجارة الثانية بعد فرض فوريّة الوفاء بالإجارة الاُولى غير مقدور عليه فعلا شرعاً ، ولا يقاس بما تقدّم من استواء نسبة القدرة إلى الوفاء بالعقدين المستلزم للتخيير ، وذلك لأنّ المفروض هناك صحّة الإجارتين ، فلم يكن إلاّ عدم القدرة على الوفاء بالعقدين ، وأمّا هنا فالمفروض عدم الفراغ عن صحّة الإجارة الثانية وأنّ القدرة شرط صحّتها ، فكيف تتساوى نسبة القدرة إليهما ، بل الإجارة الاُولى حيث كانت حال وقوعها بلا مزاحم فهي واجدة للقدرة الجالبة لها دون الثانية ، لا يقال : كما أنّ القدرة شرط في الاُولى حدوثاً فكذا بقاءً والإجارة الثانية تزاحمها حينئذ ، لأنّا نقول : زوال القدرة بقاءً متوقّف على صحّة الإجارة ووجوب الوفاء بها ، والمفروض توقّف الصحّة على وجود القدرة ، فكيف تزول القدرة بقاءً
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي : 223 .
(2) جواهر الكلام : 27 / 270 .
(الصفحة477)
بما يتوقّف على ثبوت القدرة التي لا ثبوت لها إلاّ مع فرض زوال القدرة بقاءً(1) .
أقول : لم يعلم الفرق بين المقام وبين ما تقدّم ، فإنّ الغرض في المقامين الحكم ببطلان الإجارة الثانية ، إمّا من طريق الأمر بالوفاء بالعقد الثاني فوراً ; لعدم اجتماعه مع الأمر بالوفاء بالعقد الأوّل كذلك كما هناك ، وإمّا من طريق عدم القدرة على التسليم شرعاً كما هنا . وكما اُجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من اجتماع الأمرين . ـ غاية الأمر ثبوت التخيير ـ يمكن الجواب هنا بعدم المانع من ثبوت كون الأمرين على الفوريّة والحكم بأنّ المكلّف مخيّر في الامتثال ، ضرورة أنّ مجرّد وجوب الوفاء بالأوّل فوراً لا يسلب القدرة عن الثاني إلاّ مع فرض وجوب الوفاء به أيضاً كذلك ، وإلاّ فلا منافاة بينهما ، و حينئذ نقول : إنّ مجرّد وجوب الوفاء بالثاني فوراً أيضاً لا يمنع إلاّ بعد كونه على نحو التعيين وكون الأوّل أيضاً كذلك ، فلا مانع حينئذ من الجمع بنحو التخيير وإن كان كلاهما بنحو الفور ، ضرورة أنّ الجمع بين التكليفين كذلك ليس كالجمع بين الوضعيّين بنحو التخيير ، فإنّه لا يعقل الحكم بصحّة أحد العقدين على سبيل التخيير ، وأمّا الحكم بوجوب الوفاء بأحدهما تخييراً فلا مانع منه أصلاً ، وإن كان الوجوب فوريّاً فلا فرق بين المقامين .
ثمّ إنّ الجواب عن أصل الوجه بطلان المبنى ، سواء كان هي مسألة الضدّ أو فورية الأمر بالوفاء ، فإنّه مع كون الوقت موسّعاً لا دليل عى الفورية إلاّ أن يفرض ضيق الوقت ، كما هو إحدى صور المسألة . هذا ، مضافاً إلى أنّ ماهو الشرط في صحّة الإجارة هي القدرة الخارجية على ذات العمل الواقع متعلّقاً للعقد ، وهي حاصلة في المقام ، والأمر بالوفاء وإن كان فوريّاً لا يوجب سلب هذه القدرة أصلاً .
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 154 ـ 155 .
(الصفحة478)
ودعوى أنّ القدرة الشرعية على التسليم منتفية ، مدفوعة بأنّ المراد من القدرة الشرعية المنتفية في المقام إن كان هو حكم الشارع بثبوت القدرة ; بمعنى أنّ الشارع حكم في المقام بعدم ثبوت القدرة له في عالم التشريع ، فيرد عليه أنّ مجرّد إيجاب الوفاء فوراً إذا لم يكن دليلاً على ثبوت القدرة لا شتراط التكليف بها لا يكون دليلاً على عدم ثبوتها ، كما لا يخفى .
وإن كان المراد أنّ إيجاب الوفاء بالعقد فوراً ، حيث إنّه يمنع عن صرف القدرة فيما عداه فكأنّه مسلوب القدرة في عالم التشريع ، فيرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار القدرة بهذا المعنى في صحّة الإجارة ، إذ الدليل على اعتبار القدرة على التسليم هو حديث النهي عن الغرر(1) ، ومع ثبوت القدرة التكوينية لايلزم غرر أصلاً .
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّه لم ينهض شيء من الوجوه الخمسة لإثبات بطلان الإجارة الثانية إذا كانت خاصّة بالمعنى الأوّل أو الثاني ، فعدم نهوضها لإثبات البطلان فيما إذا كانت خاصّة بالمعنى الثالث أو الرابع إن كان ، أو كانت عامّة كالإجارة الاُولى بطريق أولى .
ويمكن أن يقال : إنّه كما لا دليل على بطلان الإجارة الثانية كذلك لا دليل على صحّتها ، بناءً على عدم جواز التمسّك بعموم «أوفوا بالعقود»(2) لإثبات صحّة العقد المشكوك ، لا من حيث النوع بل من حيث الصنف أو مطلقاً كما أشرنا إليها مراراً ، وذلك لعدم ثبوت إطلاق أو عموم في خصوص باب الإجارة حتّى يتمسك به في المورد المشكوك ، وليس المورد من الموارد التي كان الابتلاء بها كثيراً عند العقلاء
(1) تقدّم في ص22 .
(2) سورة المائدة 5 : 1 .
(الصفحة479)
حتّى يكون عدم الردع كاشفاً عن الإمضاء ، فتدبّر .
ثمّ إنّه ذكر المحقّق الإصفهاني (قدس سره) في حكم ما إذا صار الأجير المشترك أجيراً خاصّاً في الإجارة الثانية أنّه إذا كان مورد الإجارة الاُولى كليّاً ذمّياً ، فلا مانع من صحّة الإجارة الثانية بنحو الأجير الخاصّ في تمام المدّة إلاّ من حيث كونها مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الاُولى ، حيث لا يعقل تطبيق الكلّي الذمّي على المنفعة المملوكة بالإجارة الثانية للغير ، وغايته حرمة الإجارة الثانية ، وحرمة المعاملة مولوياً لا توجب الفساد ، بل لو عمل للأوّل كان الأجير ضامناً للثاني ; لأنّه سلّم ماله إلى الغير ، والأوّل أيضاً ضامن للثاني لاستيفاء ماله ، وأمّا إذا كان مورد الإجارة الاُولى بنحو الكلّي في المعيّن فالإجارة الثانية لتضمّنها تمليك مال الغير غير صحيحة ، فإنّه نظير بيع تمام الصبرة بعد بيع صاع كلّي منها ، وعليه فإذا عمل للثاني في تمام المدّة كان من تسليم مال الغير المعدود إتلافاً ، ومن تسلّم الثاني لمال الغير المعدود استيفاءً منه ، فللأوّل الرجوع على من شاء من الأجير والمستأجر الثاني(1) .
أقول : ويمكن أن يورد عليه بوجوه :
أحدها : أنّ الإجارة الثانية في الفرض الأوّل لا تكون مفوّتة بنفسها للعمل على طبق الاُولى ، فإنّ مجرّد إيقاع العقد مع المستأجر الثاني بالنحو المفروض لا يوجب اتّصافه بوصف التفويت ، ضرورة أنّه يمكن الاستئذان منه للعمل على طبق الاُولى أو المعاوضة معه بالنسبة إلى هذا المقدار أو الإقالة ونظائرها ، فالإجارة الثانية لا تكون بنفسها مفوّتة ، والمفروض عدم ثبوت المنافاة بين الإجارتين ; لأنّ مورد
(1) بحوث في الفقه ، كتاب الإجارة : 157 .
(الصفحة480)
الاُولى الكلّي في الذمة ، ومورد الثانية المنافع الخارجية كلاًّ أو بعضاً ، فلا مساس لإحداهما بالاُخرى . هذا ، ولو سلّم كون الإجارة الثانية مفوّتة لكن المتعلّق للنهي التحريمي إنّما هو التفويت بعنوانه ، ولا تسري الحرمة إلى الإجارة حتّى يقال : إنّ الحرمة المولوية المتعلّقة بالمعاملة لا توجب الفساد .
ثانيها : أنّ الحكم بضمان المستأجر الأوّل لأجل الاستيفاء مبنيّ على كون مجرّد الاستيفاء كافياً في الحكم بالضمان وهو غير معلوم ، والتحقيق في محلّه .
ثالثها : أنّ الحكم ببطلان الإجارة الثانية في الفرض الثاني تنظيراً ببيع تمام الصبرة بعد بيع صاع كلّي منها لا يستقيم لا في المقيس ولا في المقيس عليه ، فإنّ غاية الأمر كون بعض المبيع أو مورد الإجارة ملكاً للغير ، فهو من قبيل بيع ما يملك وما لا يملك ولا يكون محكوماً بالبطلان ، بل صحيح بالإضافة إلى البعض المملوك ومتوقّف على الإجازة بالنسبة إلى البعض الآخر ، إلاّ أن يوجّه كلامه بأنّ مراده بالصحّة المنفية هي الصحّة بالإضافة إلى المجموع بنحو لاتكون متوقّفة على الإجازة . وكيف كان ، فالحكم في مثل ذلك هي الصحّة . غاية الأمر ثبوت الخيار لأجل تبعّض الصفقة .
ثمّ إنّه على تقدير الحكم بصحّة الإجارة الثانية في مفروض المسألة ، فإن عمل الأجير للمستأجر الثاني ، فالظاهر ضمانه للمستأجر الأوّل اُجرة المثل من جهة التفويت ، فكأنّه أتلف ماله بالعمل لغيره ، ويحتمل ضمان اُجرة المسمّى من حيث إنّ ترك العمل على طبق الإجارة الاُولى في المدّة المعيّنة بمنزلة خلوّ الاُجرة عن العوض رأساً فتبطل الإجارة ، واللاّزم حينئذ الرجوع إلى اُجرة المسمّى وإن عمل للمستأجر الأوّل ، فالظاهر أنّه يضمن للثاني اُجرة المثل من جهة صرف المنفعة المملوكة له في الغير ، ويمكن أن يقال بضمان الأوّل له أيضاً من جهة الاستيفاء ، بناءً
|