(الصفحة641)
[مسائل أربع تعرّض لها المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني متفرّقةً، ونحن نذكرها مجتمعةً]:
الاُولى: قال المحقّق في الشرائع : ويجوز استئجار الأرض لتعمل مسجداً(1)، وعن قواعد العلاّمة : يجوز استئجار الدار لتعمل مسجداً يصلّى فيه(2). وقد ادّعي نفي الخلاف فيه(3) منّا في قبال أبي حنيفة(4) المانع عن ذلك، نظراً إلى أنّ الصلاة لا تستحقّ بالإجارة فلا تجوز الإجارة لذلك، وذكر المحقّق الرشتي (رحمه الله) أنّ هذا مبنيّ على أصلهم من بطلان الاستئجار للنيابة في الصلاة ولو من الأموات(5). وأورد عليه المحقّق الإصفهاني (رحمه الله)بعدم الابتناء على ذلك، نظراً إلى أنّ المستأجر هناك يملك النيابة عنه في الصلاة، وهنا يستحقّ فعل صلاة الناس لأنفسهم التي أمرها بيدهم، فلا يقاس أحدهما بالآخر(6).
وكيف كان، ففي المسألة فروض ثلاثة : أحدها : استئجار الأرض لأن يصلّي الناس فيها من دون غرض ونظر إلى المسجدية. ثانيها : استئجارها لتعمل مسجداً، ثالثها : استئجارها لتعمل مسجداً يصلّي الناس فيه.
(1) شرائع الإسلام: 2 / 185.
(2) قواعد الاحكام: 2 / 302.
(3) جواهر الكلام: 27 / 301، كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 264.
(4) الخلاف: 3 / 508 مسألة 36، المغني لابن قدامة: 6 / 132.
(5) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 264.
(6) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 190.
(الصفحة642)
أمّا الفرض الأوّل: فالإشكال في صحّته تارةً من الوجه الذي استند إليه أبو حنيفة، واُخرى من حيث السفهيّة. وثالثة من جهة الإشكال الجاري في مثل استئجار الدرهم والدينار، واستئجار التفّاح للشمّ والطعام لتزيين المجلس والشمع كذلك، وهو عدم كون مثل ذلك معدوداً من المنافع، أو عدم ثبوت المالية له على تقدير كونه منها.
أمّا الإشكال من الجهة الاُولى: فقد ذكر المحقّق الإصفهاني (رحمه الله) في مقام الجواب عنه ما ملخّصه : أنّه بناءً على ما اخترناه في حقيقة المنفعة من أنّها حيثيّة للعين موجودة بوجودها على حدّ وجود المقبول بوجود القابل مندفع من أصله; لأنّ حيثيّة الدار مسكنيّتها وقبولها لهذا المبدأ; وهي المملوكة، دون السكنى الذي هو عرض من أعراض الساكن، وأمّا على مسلك المشهور من جعل المنفعة نفس السكنى فاندفاع الإشكال إنّما هو بأنّ السكنى وإن كان عرضاً للساكن ولا يملكه بما هو مالك الدار، لكن إيجاده فيها ليس تحت اختياره بل بيد صاحب الدار، وبالإجارة يصير الساكن مالكاً لإيجاد السكنى فيها، وفي المقام يكون أمر فعل صلاة الناس بيدهم، إلاّ أنّ إيجادها في الدار بيد المستأجر فعلاً، كالمؤجر قبلاً(1).
وأمّا من الجهة الثانية: فواضح المنع; لأنّه يكفي في الخروج عن دائرة السفاهة عود نفع أُخرويّ من هذه الجهة إلى المستأجر، وإن لم ينتفع بنفس العين المستأجرة إلاّ من يصلّي فيها من الناس.
وأمّا من الجهة الثالثة: فالظاهر أنّه أيضاً ممنوع، خصوصاً في مثل المقام; لأنّ كون الأرض مصلّى للناس منفعة عقلائية لها، ولا مانع عند العقلاء من بذل المال في قبالها، وهذا يكشف عن ثبوت المالية لهذه
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 190 ـ 191.
(الصفحة643)
المنفعة، ودعوى أنّ المنفعة القابلة لبذل المال بإزائها لابدّ وأن تكون منفعة غالبيّة للشيء، والمنفعة الغالبية للأرض ليست هي الصلاة فيها، مدفوعة بأنّ عدم كون المنفعة غالبيّة إنّما يقدح مع عدم تعلّق القصد بها وكونها غير مقصودة، وأمّا مع التصريح بذلك وبذل المال بإزائها فلا دليل على عدم الكفاية مع شمول العمومات والإطلاقات، كما هو غير خفيّ.
وبهذا يظهر الجواب عن الإشكال في الاستئجار في الأمثلة المذكورة، فإنّ الظاهر هو الجواز، وأنّ دعوى عدم كون مثل ذلك من المنافع، أو عدم كونه ممّا يبذل بإزائه المال ولو كان معدوداً من المنافع، مدفوعة جدّاً، فالظاهر في جميع ما يشابه المقام هو الحكم بالجواز، فتدبّر.
وأمّا الفرض الثاني: الذي لا يرد فيه اعتراض أبي حنيفة فالإشكال فيه إنّما هو من جهة أنّه هل يعتبر في تحقّق عنوان المسجد أن تكون الأرض موقوفة مؤبّدة لذلك، والمنفعة لا يمكن أن تكون موقوفة كما استظهر من كلماتهم في الصلاة الاتّفاق على اعتبار التأبيد، وعليه فالأرض المستأجرة بما هي كذلك لا تكون لها هذه المنفعة، فلا مجال لاستئجار الأرض لتعمل مسجداً إلاّ أن يكون راجعاً إلى الفرض الأوّل; وهو صيرورتها مصلاّة للناس من غير تحقّق عنوان المسجد، أو أنّه لا يعتبر ذلك، بل هو أعمّ من الموقوف مؤبّداً وغيره، كما هو المحكيّ عن الأردبيلي (قدس سره)(1)؟ وعليه فلا مانع من جواز استئجارها لذلك، خصوصاً إذا كانت المدّة طويلة كمائة سنة، ويؤيّد هذا الوجه بل يدلّ عليه ثبوت المساجد في الأراضي المفتوحة عنوة مع أنّها ملك لجميع المسلمين، ولا تكون صالحة للوقفية أصلاً، مضافاً إلى أنّه لم يقم دليل على اعتبار ذلك
(1) مجمع الفائدة والبرهان: 10 / 21 ـ 22.
(الصفحة644)
في تحقّق هذا العنوان، وإن كان ربّما يستبعد المتشرّعة خروج المسجد عن عنوان المسجدية بانقضاء وقته المؤقّت، ويشتدّ استبعادهم إذا كانت المدّة قليلة كسنة أو أقلّ.
ثمّ إنّه على تقدير جواز استئجار الأرض لتعمل مسجداً هل يترتّب عليه بعد أن عملت مسجداً الأحكام والآثار الثابتة للمساجد ; من حرمة التلويث ودخول الجنب والحائض والفضيلة المترتّبة على الصلاة في المسجد أم لا؟
حكي الأوّل عن الأردبيلي(1) نظراً إلى أنّه بعد عدم اعتبار الوقفيّة في صيرورة الأرض مسجداً لا مانع من ثبوت أحكامه في مثل المقام، ولكن صاحب العروة بعد اختياره جواز أصل الاستئجار قوّى عدم ثبوت آثار المسجد، ثمّ قال : نعم إذا كان قصده عنوان المسجدية لا مجرّد الصلاة فيه وكانت المدّة طويلة كمائة سنة أو أزيد لايبعد ذلك; لصدق المسجد عليه حينئذ(2).
وأورد عليه بعض المحقّقين من المحشّين بقوله : لا قوّة فيه بعد فرض أنّها عملت مسجداً(3).
وأورد عليه أيضاً بعض الشارحين بقوله : إنّه إذا اعتبر الدوام في المسجدية فلا مجال للإجارة المذكورة، وإن لم يعتبر لا حاجة إلى اعتبار أن تكون المدّة طويلة(4).
وكيف كان، فالظاهر أنّ ترتّب الأحكام والآثار يدور مدار الإسم، فإن
(1) مجمع الفائدة والبرهان: 10 / 21 ـ 22.
(2) العروة الوثقى: 5 / 99 مسألة 2.
(3) العروة الوثقى: 5 / 99، التعليقة 2.
(4) مستمسك العروة الوثقى: 12 / 119 ـ 120.
(الصفحة645)
قيل باعتبار الوقفيّة في تحقّقه لا مجال لدعوى ترتّب الآثار على مثل الأرض المستأجرة لذلك، إذ على تقدير الشكّ فيه يكون المرجع أصالة عدم ترتّب تلك الآثار، لكن الذي يبعّد ذلك عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لمثل المسجد، فاعتبار الوقفيّة والدوام على ذلك ليس في تحقّق المسمّى وصدق الإسم، بل هو أمر خارج عن الحقيقة، كاعتبار بعض الاُمور الزائدة على الحقيقة في مثل الصلاة بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعية له أيضاً، إلاّ أن يقال : إنّ مثل الوقفيّة والدوام وإن لم يكن معتبراً في صدق الإسم وتحقّق المسمّى، إلاّ أنّ اعتباره في ترتّب الأحكام والآثار ممّا لا مجال لإنكاره، وإلاّ تلزم اللغوية كما لا يخفى. وعليه فلا يتحقّق الشكّ أصلاً حتّى يرجع إلى أصالة عدم ترتّب الأثر، فتدبّر.
وكيف كان، فالمسألة محتاجة إلى مزيد التتبّع والتأمّل.
وأمّا الفرض الثالث: فإن كان الغرض عبارة عن مجرّد الصلاة في الأرض المستأجرة من غير نظر إلى صيرورتها مسجداً بعملها لذلك ، فهو يرجع إلى الفرض الأوّل الذي مرّ الكلام فيه، وإن كان الغرض عبارة عن عملها مسجداً وذكر الصلاة فيها إنّما هو لأجل كونه غاية للمنفعة التي استؤجرت الأرض لها ، فهو يرجع إلى الفرض الثاني كما هو واضح.
الثانية: قال في الشرائع : يجب على المستأجر سقي الدابّة وعلفها، ولو أهمل ضمن(1).
ينبغي التكلّم في هذه المسألة في مقامين :
المقام الأوّل : في وجوب سقي الدابّة وعلفها على المستأجر، والذي
(1) شرائع الإسلام: 2 / 187.
(الصفحة646)
يكون محلّ البحث والكلام في هذا المقام هو وجوبهما على المستأجر بما أنّه مستأجر، لا بعنوان وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك الذي لا يختصّ بالمستأجر بوجه على تقدير ثبوت هذا الحكم في الحيوانات أيضاً، وإلاّ فربّما يقال كما قيل: بأنّ احترام نفس الحيوان لا يقتضي أزيد من حرمة الإيذاء قتلاً أو ضرباً، وأمّا وجوب المحافظة والمعالجة لدفع الأمراض المهلكة والعوارض المردية على حدّ وجوب حفظ الآدمي فغير ثابت حتّى على المالك فضلاً عن غيره. نعم، على المالك الإنفاق، فإنّه من الحقوق الواجبة من الله عليه، وهذا غير وجوب حفظ النفس.
وبالجملة: ليس الكلام في المقام في الوجوب من هذه الحيثيّة، وكذا ليس الكلام في الوجوب بعنوان كون الدابّة أمانة مالكيّة بيد المستأجر حتّى يجب عليه ما يجب على كلّ أمين من وجوب حفظ الأمانة مطلقاً، سواء كانت من ذوات الأنفس المحترمة أم لا، بل الكلام في الوجوب من جهة خصوصية كونه مستأجراً.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المحكي عن الأكثر(1) عدم الوجوب، خلافاً للمحكيّ عن جماعة(2)، حيث قالوا بوجوب السقي والعلف على المستأجر مجّاناً تنزيلاً لهما منزلة نفقة الأجير المنفذ في حوائج المستأجر، كما يأتي.
هذا، والظاهر أنّه لا دليل على الوجوب من ناحية اقتضاء نفس عقد الإجارة، فإنّ مفاده مجرّد تمليك المنفعة أو انتقال حقّ الانتفاع بالعين، ولم
(1) كصاحب جامع المقاصد: 7 / 95 ومسالك الأفهام: 5 / 223 ومجمع الفائدة والبرهان: 10 / 71 وغيرهم، والحاكي هو صاحب مفتاح الكرامة: 7 / 95 وجواهر الكلام: 27 / 321.
(2) النهاية: 446، السرائر: 2 / 465، إرشاد الأذهان: 1 / 425.
(الصفحة647)
ينهض دليل على وجوب السقي والعلف على من ملك منفعة الدابّة أو كان له حقّ الانتفاع بها. نعم، لو كانت الإجارة عبارة عن تمليك نفس العين في مدّة خاصّة وجهة معيّنة بحيث كان مرجعها إلى صيرورة المستأجر مالكاً لنفس العين بهذه الكيفية، يمكن أن يقال بوجوب الإنفاق عليه من جهة كونه مالكاً لو لم نقل بانصراف دليل وجوب الإنفاق على المالك عن مثل هذا المالك، الذي تكون ملكيّته من أوّل الأمر موقّتة محدودة وفي جهة خاصّة، كما لا يخفى.
وبالجملة: لم يقم دليل على ثبوت وجوب السقي والعلف بالإضافة إلى المستأجر. نعم، فيما إذا كانت الدابّة بيد المستأجر ولم يكن المالك مصاحباً لها ـ كما إذا استأجر الدابّة لأن يسافر بها بنفسه من دون مصاحبة المالك أو من هو بمنزلته ـ لا يبعد أن يقال باقتضاء الشرط الضمني في عقد الإجارة للسقي والعلف، كاقتضاء الشرط الضمني من ناحية المستأجر كون الدابّة صحيحة غير معيوبة.
بقي في هذا المقام جهتان :
الجهة الاُولى : أنّه على تقدير القول بوجوب السقي والعلف على المستأجر إمّا مطلقاً، أو في خصوص الصورة المذكورة هل يستحقّ الاُجرة على نفس هذين العملين مع عدم قصد التبرّع والمجّانية أم لا؟ الظاهر هو الأوّل; لأنّ مجرّد الوجوب لا ينفي استحقاق الاُجرة مع احترام العمل وعدم قصد التبرّع كما هو المفروض. نعم، تختصّ الوديعة التي حقيقتها الاستنابة في الحفظ بعدم ثبوت الاُجرة على الحفظ فيها لكون طبعها آبياً عن ذلك، بل ربّما احتمل ثبوت الاُجرة فيها أيضاً لقاعدة الاحترام لو لم يكن مخالفاً للإجماع.
الجهة الثانية : أنّه هل يستحقّ المستأجر عوض ما بذله في مقام حفظه
(الصفحة648)
من العلف والماء لو بذل في مقابله مالاً أم لا؟ الظاهر هو الاستحقاق; لأنّه مضافاً إلى أنّه لم ينهض دليل على المجّانية يدلّ عليه الصحيحة المتقدّمة(1) المشتملة على قوله : فقلت: جعلت فداك فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ فقال (عليه السلام) : لا، لأنّك غاصب، فإنّ المستفاد من هذا التعليل أنّ غير الغاصب يجوز له الرجوع بما أنفق على الدابّة، وأنّ التعدّي والعدوان يمنع عن ثبوت حقّ الرجوع.
المقام الثاني : في ثبوت الضمان على المستأجر لو أهمل وترك السقي والعلف مع وجوبهما عليه وعدمه، والظاهر عدم ثبوت الضمان من الجهة التي قد عرفت أنّها محلّ البحث; وهو الوجوب على المستأجر بما هو مستأجر، فإنّ مجرّد مخالفة حكم تكليفي ثابت عليه لا يوجب ثبوت حكم وضعي عليه، كما أنّ وجوب حفظ النفس المحترمة أو مال المسلم المحترم لا يقتضي ثبوت الضمان مع المخالفة وعصيان التكليف، من دون فرق في المستأجر بين أن يكون الوجوب مستفاداً من ناحية نفس عقد الإجارة أو الشرط الضمني الواقع فيه، فإنّ مخالفة الحكم التكليفي المدلول عليه بنفس العقد أو بالشرط الضمني فيه لا تلازم ثبوت حكم وضعي.
نعم، لو كان الوجوب في المقام من جهة وجوب حفظ الأمانة الثابت في جميع الأمانات لكانت مخالفته موجبة للضمان; لأنّه بها يثبت عنوان الخيانة ويرتفع موضوع الأمانة الرافعة للضمان، فتدبّر جيّداً.
الثالثة: قال في الشرائع : من استأجر أجيراً لينفذه في حوائجه كانت
(1) في ص611.
(الصفحة649)
نفقته على المستأجر إلاّ أن يشترط على الأجير(1).
والكلام في هذه المسألة أيضاً تارةً من جهة ما تقتضيه القاعدة، واُخرى من جهة النصّ الذي استدلّ به عليها.
أمّا من الجهة الاُولى: فالظاهر أنّه لا يكون في البين قاعدة مقتضية لثبوت النفقة على المستأجر في مفروض المسألة، فإنّ عقد الإجارة من حيث هو لا اقتضاء له من جهة الاستحقاق، فإنّ مقتضاه ثبوت مال الإجارة على المستأجر إذا كان كلّياً، وأمّا نفقة مدّة الاستئجار فهي خارجة عمّا هو مفاده. نعم، لو كان هناك عادة مستمرّة مستقرّة على كون نفقة الأجير المفروض على عهدة المستأجر، فإنّه مع ثبوت هذه العادة تصير بمنزلة الالتزام الضمني بالنفقة، وعليه ففي أيّ زمان أو مكان ثبتت هذه العادة يكون مقتضى الالتزام الضمني الناشئ من ثبوتها ما ذكر، وبدونها لا وجه لثبوتها على المستأجر.
وربّما يدّعى ثبوت الالتزام الضمني من طريق آخر غير العادة لا في جميع صور المسألة، بل في خصوص ما إذا لم تكن الاُجرة وافية بمؤنة الأجير واستغراق أوقاته للعمل المنفذ فيه وعدم التمكّن من النفقة ولو من طريق الاستدانة، فإنّ اجتماع هذه الخصوصيات يصير قرينة محقّقة للالتزام الضمني.
هذا، ولكن الدّعوى ممنوعة والقرينية غير محقّقة، فإنّه يمكن أن يكون رضاه بمثل هذا العقد لأجل أنّه يصير سبباً لتحصيل بعض النفقة في مقابل العدم المحض، فيرضى به لأجل هذه الجهة، والمستأجر ربّما لا يكون راضياً بغير هذا النحو.
(1) شرائع الإسلام: 2 / 188.
(الصفحة650)
نعم، ربّما يقال كما قاله المحقّق الإصفهاني (قدس سره) : بأنّ اللاّزم في مثل الفرض أن لا يؤجر نفسه مطلقة بل مشروطة بالنفقة، بحيث يشكل صحّة الإجارة المطلقة منه لا من حيث وجوب التكسّب لوجوب تحصيل النفقة فتحرم الإجارة المطلقة; لابتنائه أوّلاً على مسألة الضدّ ولا نقول بها، وثانياً على اقتضاء حرمة الإجارة لبطلانها، ولا نقول باقتضاء مجرّد الحرمة المولوية المتعلّقة بنفس الإجارة لبطلانها مع استجماعها لشرائط النفوذ حتّى ملك التصرّف، إذ لا تزول بالحرمة إلاّ السلطنة التكليفية; وهي إباحة الإجارة دون السلطنة الوضعية التي لا تزول إلاّ بفقد شرط من شروط الصحّة، بل من حيث إنّه لا يتمكّن في خصوص المقام من تسليم العمل في تمام المدّة خارجاً حيث لا قوّة على العمل، بل لا حياة للعامل إلاّ بما يتقوّت به، والمفروض عدم ما يتقوّت به من جميع الوجوه(1)، انتهى ملخّصاً.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لم يكن المفروض عدم وفاء الاُجرة بالنفقة التي يتوقّف عليها حياته، وكذا لم يكن المفروض ما إذا لم يتمكّن من النفقة ولو بالسّرقة والغصب وأمثالهما من الوجوه والطرق غير الشرعيّة، بل المفروض عدم وفاء الاُجرة بالنفقة العادية وعدم التمكّن من النفقة بوجه شرعي كالاستدانة ونحوها، وفي هذه الصورة لا يتحقّق خلل في شرائط صحّة الإجارة بوجه ـ أنّ عدم القدرة على تسليم تمام العمل خارجاً لم يثبت كونه قادحاً في صحّة الإجارة، بل يحتمل التبعيض باختيار الصحّة في المقدور. غاية الأمر ثبوت الخيار للمستأجر مع الجهل.
مع أنّه يمكن فرض تحقّق القدرة على تسليم تمام العمل من ناحية
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 288.
(الصفحة651)
وجوب حفظ النفس المحترمة من الهلاك، وعليه فيجب على المستأجر عيناً الاُجرة بمقتضى عقد الإجارة وكفاية تكميل النفقة من جهة وجوب حفظ النفس المحترمة، والكلام إنّما هو في وجوب النفقة زائدة على الاُجرة من جهة نفس الاستئجار لا عنوان آخر غيره، فلم يقم دليل على بطلان الإجارة المطلقة في مفروض المسألة، ولا على وجوب النفقة على المستأجر من جهة كونه مستأجراً.
وأمّا من الجهة الثانية: فالنصّ الوارد في المقام هي رواية سليمان بن سالم قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استأجر رجلاً بنفقة ودراهم مسمّـاة على أن يبعثه إلى أرض، فلمّا أن قدم أقبل رجل من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه فكافأه به الذي يدعوه، فمن مال مَنْ تلك المكافأة؟ أ من مال الأجير أو من مال المستأجر؟ قال : إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله وإلاّ فهو على الأجير. وعن رجل استأجر رجلاً بنفقة مسمّـاة ولم يفسّر (يعيّن ـ يب) شيئاً على أن يبعثه إلى أرض اُخرى، فما كان من مؤنة الأجير من غسل الثياب والحمّام فعلى مَنْ؟ قال : على المستأجر(1).
والبحث في الرواية تارةً من حيث السند، واُخرى من جهة الدلالة.
أمّا من حيث السند، فهي غير قابلة للاعتماد عليها; لجهالة الراوي وهو سليمان بن سالم وعدم كونه مذكوراً في كتب الرجال، وليس في البين ما يكون جابراً.
وأمّا من جهة الدلالة، فربما يقال بدلالة صدرها وذيلها على وجوب
(1) الكافي: 5 / 287 ح2، وسائل الشيعة: 19 / 112، كتاب الإجارة ب10 ح1.
(الصفحة652)
النفقة في مفروض المسألة; أمّا الصدر فقوله (عليه السلام) في الجواب : «إن كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله وإلاّ فهو على الأجير» ظاهر في أنّه إن كان البقاء عند الرجل الذي دعاه في مصلحة المستأجر، ولغرض الاشتغال بالعمل الذي فيه صلاحه فهو مستحقّ للنفقة، ويجوز له أن يحسب ما دفعه بعنوان عوض ما ينفق عليه على المستأجر، فالمكافأة من ماله، وإن لم يكن البقاء عنده في مصلحة المستأجر بل لغرض آخر لا يرجع إليه فالمكافأة من ماله، ولا يجوز له الحساب على المستأجر بوجه.
ويرد على هذا الاستدلال أمران :
الأوّل : أنّ الظاهر من مورد السؤال كون النفقة ثابتة على المستأجر إمّا بعنوان الجزئية للاُجرة، كما يدلّ عليه جعلها في عرض الدراهم المسمّـاة وإدخال باء العوض عليها، وإمّا بعنوان الشرطية كما هو المتداول في التعبير عن الشرط، وعلى أيّ فمورد السؤال صورة التعرّض للنفقة والتصريح بها، ومحلّ البحث إنّما هو ما إذا لم يكن مذكوراً في العقد لا شطراً ولا شرطاً، فالرواية أجنبيّة عن المقام.
الثاني : أنّ التفصيل بهذه الكيفية المذكورة في الجواب بناءً على المعنى الذي ذكره المستدلّ مخالف لمورد السؤال، فإنّه لا ينبغي الارتياب في أنّ المفروض في السؤال أنّ بقاء الأجير عند رجل من أصحابه شهراً أو أكثر لم يكن إلاّ لغرض الاشتغال بالعمل الذي فيه صلاح المستأجر ولغاية قضاء حاجته والإتيان بالعمل المستأجر عليه، ويدلّ عليه قول السائل : «فيصيب عنده ما يغنيه من نفقة المستأجر». فإنّ ظاهره أنّه مع عدم وجود الرجل الذي دعاه لم يكن بدّ من نفقة المستأجر، وكذا قوله : «فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر». وعليه فلا معنى للتفصيل بأنّه إن كان البقاء عنده لمصلحة المستأجر فكذا وإلاّ فكذا.
(الصفحة653)
ومن هنا استقرب المحقّق الإصفهاني (قدس سره) أن يرجع الضمير المستتر في «كان» إلى المكافأة، فيصير حاصل المعنى أنّ هذه المكافأة بعد فرض عدم استحقاق النفقة في مفروض المسألة إن كانت مصلحة للمستأجر كانت من المال المصروف في مصالح المستأجر فيحتسب عليه، وإلاّ كان إحساناً محضاً من الأجير بلا ارتباط بالمستأجر. قال : ولعلّه أقرب إلى المفهوم من العبارة من السابق، فلا يرتبط بمسألة النفقة أصلاً(1).
وأنت خبير بأنّ حمل الجواب على هذا المعنى أيضاً بعيد لو لم يكن أبعد من السابق، ضرورة أنّه بعد فرض كون عدم استحقاق النفقة مسلّماً عند السائل لإصابته عند الرجل ما يغنيه عن نفقة المستأجر لا يبقى مجال لكون المكافأة مصلحة للمستأجر، فإنّ حساب النفقة عليه مع عدم ثبوتها عليه لا يرجع إلى صلاحه بما هو مستأجر وبالإضافة إلى هذه الإجارة كما هو المفروض، ضرورة أنّ المراد بناءً عليه صلاحه من جهة كونه مستأجراً وبالنسبة إلى شخص هذه الإجارة.
هذا، ويحتمل أن يكون المراد بالجواب والتفصيل الذي يشتمل هو عليه أنّ قبول الدعوة من الرجل الذي هو من أصحابه ، والقدوم إلى منزله والورود عليه إن كان فيه مصلحة المستأجر وله دخل في تحقّق غرضه وقضاء حاجته، فالمكافأة من ماله ، وإلاّ فهو من مال الأجير لا يرتبط بالمستأجر بوجه، والذي يسهّل الخطب ما عرفت من عدم صلاحية الرواية للاستناد أوّلاً، وكون النفقة دخيلة في الإجارة فيها شطراً أو شرطاً ثانياً.
فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ صدر الرواية لا يكون صالحاً للاستدلال به
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 289 ـ 290.
(الصفحة654)
على ما هو خلاف القاعدة من عدم ثبوت النفقة على المستأجر، وأمّا ذيلها فربّما يقال: بأنّ الحكم في الجواب بثبوت نفقة غسل الثياب والحمّام على المستأجر يدلّ بطريق أولى على ثبوت نفقة المآكل والملابس عليه; لأنّه إذا كان مثل اُجرة الحمّام الذي قد يقع الابتلاء به ثابتاً على المستأجر فمثل المآكل مع تحقّق الابتلاء به دائماً داخل قطعاً وثابت عليه كذلك.
هذا، ولكن حيث إنّ دخالة النفقة مفروضة في مورد السؤال وإن لم تكن مفسّرة، فذيل الرواية أيضاً لا يرتبط بالمقام، والسؤال فيه إنّما هو عن أنّ النفقة التي التزم بها المستأجر هل تشمل نفقة غسل الثياب والحمّام أيضاً أم لا؟
مسألة : قال في الشرائع : إذا تسلّم أجيراً ليعمل له صنعة فهلك لم يضمنه، صغيراً كان أو كبيراً، حرّاً كان أو عبداً(1).
أقول : غير خفيّ أنّ المراد بالهلاكة هو الهلاكة غير المرتبطة إلى المستأجر مباشرةً أو تسبيباً، بل ارتباطها إليه إنّما هو بمقدار كونه أجيراً له قد تسلّمه ليعمل له العمل، كما أنّ المراد بالضمان المنفيّ هو الضمان الغرامي الثابت في موارد الإتلاف وبعض موارد التلف، وحينئذ يقع الكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في الحرّ صغيراً كان أو كبيراً، والوجه في عدم ثبوت الضمان فيه عدم دليل يدلّ على الضمان فيه; لأنّ دليل الضمان في باب التلف هو قوله (صلى الله عليه وآله) : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي(2)، وهو لا يشمل الحرّ أصلاً، لا لعدم تعلّق الأخذ به وعدم تحقّق الاستيلاء بالنسبة إليه; لأنّ
(1) شرائع الإسلام: 2 / 188.
(2) تقدّم في ص337 ـ338.
(الصفحة655)
الاستيلاء لا يفرق فيه بين العبد والحرّ، فكما أنّ العبد يقع تحت الاستيلاء فكذلك الحرّ، والإضافة الملكيّة لا دخل لها في هذا الباب أصلاً، ولا لأنّ اليد المضمنة بلحاظ غايتها لا تعمّ الاستيلاء على الحرّ فإنّه لا تأدية له، فالغاية تدلّ على اختصاص اليد بما كان مضافاً إلى غيره وكان أدائيّاً، كما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره)(1)، وذلك لأنّ اختصاص الغاية ببعض أفراد المغيّى لا يوجب ضيقاً في دائرة تلك الأفراد ولا تخصيصاً للحكم بخصوصها، مضافاً إلى أنّ تأدية كلّ شيء بحسبه، فتأدية المملوك إنّما هي بأدائه إلى مالكه، وتأدية الحرّ إنّما هي برفع اليد عنه وسلب الاستيلاء الثابت عليه.
بل لأنّ الظاهر من الموصول في دليل اليد والمنصرف إليه غير الحرّ الذي لا يتّصف بالمالية ولا بالملكية، ومن هذه الجهة نفصّل بين نفس الحرّ وبين منافعه التي لها مالية وقابلة للتمليك بالإجارة وغيرها. نعم، إتلاف الحرّ له دية مقرّرة شرعاً، ولكن الكلام في الضمان لا في الدية.
المقام الثاني : في العبد كذلك، أي صغيراً كان أو كبيراً، والوجه في عدم الضمان فيه أنّ حاله حال الدابّة المستأجرة، وقد عرفت أنّ تلفها لا يوجب الضمان; لكونها أمانة، مضافاً إلى الروايات الواردة في عدم ضمان الدابّة قبل التعدّي، منها رواية أبي ولاّد المفصّلة(2).
الرابعة: قال في الشرائع : كلّ ما يتوقّف عليه توفية المنفعة فعلى المؤجر، كالخيوط في الخياطة والمداد في الكتابة، ويدخل المفتاح في
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 300 ـ 301.
(2) الكافي 5: 290 ح6، التهذيب 7: 215 ح943، الاستبصار 3: 134 ح483، الوسائل 19 / 119، كتاب الإجارة ب17 ح1.
(الصفحة656)
إجارة الدار لأنّ الانتفاع لايتمّ إلاّ بها(1).
أقول : الإجارة من حيث هي لا تقتضي إلاّ ملك المنفعة واستحقاق العمل من دون أن يكون فيها اقتضاء لأمر آخر زائد على ما ذكر، ولكنّه حيث يكون الواجب تسليم المنفعة والعمل، وهو قد يكون متوقّفاً على بعض المقدّمات، فلذا يجب من باب وجوب مقدّمة الواجب ولزوم تحصيلها، فالكلام ليس في مفاد عقد الإجارة وما هو مقتضاها، كما أنّ الظاهر خروج ما إذا كان هناك عادة متّبعة على ثبوت المقدّمات على المؤجر أو المستأجر عن محلّ البحث والكلام، فإنّه إذا كان في البين عادة كذائية يكون مقتضى الالتزام الضمني لزوم رعايتها، فالبحث متمحّض فيما إذا لم يكن في البين عادة في مقدّمة التسليم الواجب في باب الإجارة، وحينئذ يقع الكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في مقدّمات تسليم العمل في باب الإجارة على الأعمال كالخياطة والكتابة، وأنّه هل يكون مقدّماتهما على المؤجر أو المستأجر، والمحكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) التفصيل بين ما إذا كانت بمنزلة الآلة للعامل كيده وبين غيره، فيجب الأوّل على المؤجر والثاني على المستأجر(2)، وقد حقّقه المحقّق الإصفهاني (قدس سره)بما حاصله : أنّ الخياطة والكتابة تنحلّ إلى هيئة ومادّة، فهيئة الخياطة هي الهيئة الاتّصالية بين بعض أجزاء الثوب وبعضها الآخر، ومادّتها هو الثوب والخيوط، ومن البيّن أنّ العمل المستأجر عليه نفس إيجاد الهيئة، ومقدّماته بما هو إيجاد الهيئة ما هو الدخيل في صدوره لا ما هو الدخيل في حلوله، فمثل الإبرة
(1) شرائع الإسلام: 2 / 188.
(2) حكى عنه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 352.
(الصفحة657)
ونحوها من مقدّمات الصدور، ومثل الخيط كالثوب من مقدّمات الحلول. قال : وما ذكرناه ليس تفصيلاً في مقدّمات الواجب المطلق، بل من باب نفي مقدّميّة الثوب والخيط لما هو الواجب على الأجير(1).
والظاهر يساعد هذا التفصيل وإن كان مخالفاً لما هو ظاهر عبارة الشرائع، خصوصاً مع التمثيل بالمداد في الكتابة، فتدبّر.
المقام الثاني : في مقدّمات تسليم المنفعة في باب إجارة الأعيان المقتضية لتمليك المنفعة، والظاهر أنّه كما يجب تسليم المنفعة بتسليم العين وإبقائها في يد المستأجر إلى انقضاء مدّة الإجارة، كذلك يجب تسليم ما يتوقّف عليه الانتفاع بالعين المستأجرة على النحو الذي قصد من استئجاره، ففي مثل الدار كما يجب على المؤجر تسليمها كذلك يجب عليه تسليم مفتاح الباب ـ كما في عبارة الشرائع ـ لتوقّف الانتفاع بها عليه، وكذلك يجب عليه سائر ما يتوقّف عليه السكنى بحسب العادة، كبيت الخلاء والبالوعة، فيجب عليه إحداثهما على فرض العدم، وتنقيتهما على فرض الوجود وعدم إمكان الاستفادة منهما، ومنه يظهر لزوم التنقية على المؤجر في أثناء الإجارة; لعدم الفرق فيما ذكر بين الحدوث والبقاء، كما أنّه يظهر أنّ تخلية السقف من الثلج وكذا تعمير السطح إنّما يكون على عهدة المؤجر، وأمّا تخلية الدار من الكثافات والرماد الحاصلة بعمل المستأجر فهي على المستأجر، وهكذا.
(1) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 303.
(الصفحة658)
[فروع في التنازع ذكرها المؤلّف دام ظلّه في كتاب الإجارة الثاني ]
الأوّل : إذا تنازعا في أصل وقوع الإجارة، ففي الشرائع أنّ القول قول المالك مع يمينه(1)، والتحقيق أنّه إن كان الاختلاف قبل استيفاء المنفعة أو شيء منها فالقول قول منكر الإجارة، سواء كان هو المالك أو الطرف الآخر لأصالة عدم تحقّق الإجارة، وإن كان بعد الاستيفاء المقتضي للاُجرة المسمّـاة على تقدير الإجارة واُجرة المثل على تقدير عدمها، فالظاهر في مثل ذلك أنّه إن كانت الاُجرة المسمّـاة زائدة على اُجرة المثل يكون المدّعي للإجارة هو المالك طلباً للزيادة، وإن كانت الاُجرة ناقصة عن اُجرة المثل يكون المدّعي للإجارة هو الطرف المستوفي للمنفعة، ومقتضى القاعدة في كلتا الصورتين تقديم قول المنكر مع يمينه أيضاً، سواء كان هو المالك أو المستوفي; لما ذكر من أصالة عدم تحقّق الإجارة.
الثاني : لو اختلفا في قدر المستأجر مثل الدار ونحوها من المركّبات الخارجية; بأن قال المالك : «آجرتك نصفها» مثلاً، وقال المستأجر : «آجرتني جميعها». ففي الشرائع : أنّ القول قول المالك مع يمينه أيضاً(2)، والمحكي عن المحقّق الثاني في حاشية الشرائع(3) وفي جامع المقاصد القول بالتحالف(4)، ولعلّه مبنيّ على مقايسة الاختلاف في المقدار على الاختلاف في متعلّق الإجارة، كما إذا قال المالك : «آجرتك الدار» وقال
(1 ، 2) شرائع الإسلام: 2 / 189.
(3) حكاه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 355.
(4) جامع المقاصد: 7 / 296 ـ 297.
(الصفحة659)
المستأجر : «آجرتني الدابّة» مثلاً، فكما أنّه يثبت التحالف هناك لوجود التداعي فكذا هنا، لكن المقايسة في غير محلّها، ضرورة عدم وجود القدر المتيقّن هناك بخلاف المقام، فإنّ كون النصف متعلّقاً للإجارة لا بشرط مسلّم بين المتخاصمين، والنزاع في النصف الآخر، والحقّ مع المنكر الذي هو المالك، ودعوى مغايرة النصف مع المجموع كمغايرة الدار مع الدابّة واضحة الفساد، ضرورة أنّ المغايرة تبتني على كون النصف مأخوذاً بشرط لا، وأمّا إذا كان مأخوذاً لا بشرط كما في المقام ظاهراً فلا يكون هناك مغايرة أصلاً، كما لا يخفى.
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو كان الاختلاف في قدر الاُجرة يكون القول قول المستأجر بيمينه.
الثالث : لو اختلفا في ردّ العين المستأجرة فالحقّ كما في الشرائع(1)مع المالك الذي ينكر ردّها; لأصالة عدم تحقّق الردّ الذي هو من الحوادث، وهو المعروف في نظائر المسألة، كردّ العين المرهونة، وردّ العارية، وردّ مال المضاربة، وردّ ما بيد الوكيل من مال الموكّل. نعم، في خصوص الوديعة يقبل قول المستودع في دعوى الردّ، وقياس مثل المقام على باب الوديعة مع أنّه قياس يكون مع الفارق أيضاً; لأنّ تمام المصلحة في باب الوديعة يرجع إلى المالك، والمستودع محسن محض، بخلاف مثل المقام الذي يكون قبض العين من المالك لمصلحة ترجع إلى القابض، كما هو واضح.
ثمّ إنّه قد استشكل في تقديم قول المالك في عدم الردّ ـ بناءً على كون العين المستأجرة بعد انقضاء مدّة الإجارة أمانة بيد المستأجر غير
(1) شرائع الإسلام: 2 / 189.
(الصفحة660)
مضمونة عليه، كما في مدّة الإجارة ـ بأنّ دعوى التلف مسموعة منه فكيف لا تسمع منه دعوى الردّ، ولايرى فرق بين التلف والردّ، فكما أنّ مقتضى الائتمان سماع دعوى التلف منه، وإلاّ يتحقّق عنوان الاتّهام المنهي عنه في المؤتمن، فكذلك مقتضاه سماع دعوى الردّ منه، وكذا في نظائر الإجارة، فإذا كان قول المستعير مقدّماً في باب التلف ومقبولاً فكيف لا يقبل قوله في دعوى ردّ العارية، إلاّ أن يقال : إنّ أثر الأمانة عدم الضمان مع التلف عند الأمين، وأمّا سماع دعواه في التلف ونحوه فليس لأجل الأمانة ومتفرّعاً عليها، ويؤيّد ذلك أنّ قول الولي في الإنفاق على المولّى عليه مقبول، وأمّا قوله في دعوى القرض والبيع فغير مقبول على الأشهر، مع أنّه على تقدير كون مستند القبول هي الأمانة لا فرق بين الفرضين.
الرابع : قال في الشرائع : إذا ادّعى الصانع أو الملاّح أو المكاري هلاك المتاع وأنكر المالك كلّفوا البيّنة ، ومع فقدها يلزمهم الضمان، وقيل: القول قولهم مع اليمين; لأنّهم اُمناء وهو أشهر الروايتين، وكذا لو ادّعى المالك التفريط فأنكروا(1).
قد مرّ(2) البحث في ضمان هؤلاء مع هلاك المتاع عندهم واقعاً لا بسببهم، وعرفت أنّ مقتضى القاعدة والتأمّل في الروايات الواردة في خصوص هذه الجهة عدم الضمان مع إحراز التلف ، عندهم كذلك، والبحث هنا يتمحّض في صورة الشكّ الناشئ عن تخاصم الطرفين، وثبوت المدّعي والمنكر في البين، وأنّه هل القول قولهم في دعوى التلف أو قول
(1) شرائع الإسلام: 2 / 189.
(2) في ص621 ـ 629.
(الصفحة661)
المالك في إنكارها؟ والمحكي عن المفيد في المقنعة(1) والسيّد(2) بل المنسوب إلى المشهور(3) بين القدماءهوالتكليف بالبيّنة، وجلّ المتأخّرين(4)بل كلّهم، بل المحصّلون من القدماء أيضاً ذهبوا إلى ترجيح قول هؤلاء(5)، ومنشأ الاختلاف اختلاف الروايات الواردة في المسألة، ولابدّ من نقلها أوّلاً ثمّ بيان وجه الجمع بينها أو الترجيح لو لم يمكن الجمع، فنقول :
أمّا الروايات الدالّة على ترجيح قول المالك:
فمنها : صحيحة الحلبي أو حسنته، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال في الغسّال والصبّاغ: ما سرق منهم من شيء فلم يخرج منه على أمر بيّن أنّه قد سرق وكلّ قليل له أو كثير فإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يقم البيّنة وزعم أنّه قد ذهب الذي ادّعى عليه فقد ضمنه إن لم يكن له بيّنة على قوله(6). وفي التهذيب بعد قوله : أو كثير قوله : فهو ضامن، وهو الظاهر، ودلالة الرواية على الضمان والحاجة إلى البيّنة لا تقبل الخدشة بوجه.
ومنها : رواية أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن قصّار دفعت إليه ثوباً فزعم أنّه سرق من بين متاعه؟ قال : فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سُرق من بين متاعه وليس عليه شيء، فإن سُرق متاعه كلّه فليس عليه شيء(7).
ومنها : صحيحة اُخرى للحلبي أو حسنة له، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال :
(1) المقنعة: 643.
(2) الانتصار: 466.
(3) مسالك الأفهام: 5 / 233.
(4) كصاحب جامع المقاصد: 7 / 298 ومسالك الأفهام: 5 / 233 وجواهر الكلام: 27/342.
(5) السرائر 2 / 470.
(6) الكافي: 5 / 242 ح2، التهذيب: 7 / 218 ح952، وسائل الشيعة: 19 / 141، كتاب الإجارة ب29 ح2.
(7) الكافي: 5 / 242 ح4، وسائل الشيعة: 19 / 142، كتاب الإجارة ب29 ح5.
(الصفحة662)
سُئل عن رجل جمّال استكرى منه إبلاً، وبعث معه بزيت إلى أرض فزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فإهراق ما فيه؟ فقال : إن شاء أخذ الزيت، وقال : إنّه انخرق ولكنّه لا يصدَّق إلاّ ببيّنة عادلة(1).
ومنها : رواية ثالثة للحلبي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حمّال يحمل معه الزيت فيقول : قد ذهب أو اُهرق أو قطع عليه الطريق، فإن جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه أو ذهب فليس عليه شيء، وإلاّ ضمن(2).
ومنها : جملة من النصوص الدالّة على ضمان القصّار والصانع معلّلاً في بعضها بالاحتياط في أموال الناس، وقد مرّ أنّ موردها صورة الشكّ في تحقّق التلف عند المستأجر على ما يدلّ عليه التعليل، وذيل رواية السكوني الدالّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لا يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب(3).
وبالجملة: لا تنبغي الخدشة في دلالة مثل هذه الروايات على الضمان في فرض الشكّ، ولازمه إقامة البيّنة لإثبات التلف ورفع الضمان.
وأمّا الروايات الدالّة على تقديم قول المستأجر بيمينه، فمنها; وهو أصرح ما في الباب على ما قيل .
رواية بكر بن حبيب قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أعطيت جبّة إلى القصّار فذهبت بزعمه، قال: إن اتّهمته فاستحلفه، وإن لم تتّهمه فليس عليه شيء(4).
ومنها : خبره الآخر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يضمّن القصّار إلاّ ما
(1) الكافي: 5 / 243 ح1، التهذيب: 7 / 217 ح950، وسائل الشيعة: 19 / 148، كتاب الإجارة ب30 ح1.
(2) الفقيه: 3 / 161 ح707، وسائل الشيعة: 19 / 153، كتاب الإجارة ب30 ح16.
(3) الكافي: 5 / 242 ح5، التهذيب: 7 / 219 ح956، الاستبصار: 3 / 131 ح471، وسائل الشيعة: 19 / 142، كتاب الإجارة ب29 ح6.
(4) التهذيب: 7 / 221 ح966، وسائل الشيعة: 19 / 146، كتاب الإجارة ب29 ح16.
(الصفحة663)
جنت يداه، وإن اتّهمته أحلفته(1).
ومنها : مصحّحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال : ليس يضمنان(2).
هذا، والظاهر أنّ موردها صورة العلم بتحقّق التلف عندهما غير مستند إليهما، فلا ارتباط لها بالمقام.
ثمّ إنّ هنا رواية اُخرى استدلّ بها على كلّ من القولين; وهي رواية أبي بصير يعني المرادي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلاّ أن يكونوا متّهمين فيخوف (فيجيئون خ ل) بالبيّنة ويستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً، الحديث(3).
ووجه الاستدلال بها ما فيها من الجمع بين البيّنة والحلف، فإنّ البيّنة تدلّ على الضمان لولاها ، والحلف يدلّ على عدمه.
قال المحقّق الرشتي (قدس سره) بعد نقل الرواية : والحقّ أنّه بالإجمال والسقوط رأساً أجدر من الاستدلال به على شيء منهما، ثمّ قال : وإن كان دلالته على الضمان أقرب; لأنّ التخويف بالبيّنة، والحلف في فرض واحد لا معنى له، فلابدّ أن يكون الجمع بينهما بملاحظة فرضين من فروض المسألة، فإمّا أن يكون التخويف بالبيّنة في دعوى الإتلاف والاستحلاف في دعوى التلف أو العكس، والأوّل باطل بالإجماع فتعيّن الثاني وهو المدّعى، ثمّ قال : ويحتمل الحمل على التخويف الصوري، فلا يستفاد منه شيء من الميزان المعتبر الشرعي(4).
(1) التهذيب: 7 / 221 ح967، وسائل الشيعة: 19 / 146، كتاب الإجارة ب29 ح17.
(2) التهذيب:7/220 ح964، الاستبصار: 3/132 ح477، وسائل الشيعة: 19 / 145، كتاب الإجارة ب29ح14.
(3) التهذيب: 7 / 218 ح951، وسائل الشيعة: 19 / 144، كتاب الإجارة ب29 ح11.
(4) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 356.
(الصفحة664)
هذا، وأمّا وجه الجمع بين هذه الروايات فالمستفاد من كلمات الأعلام في هذا المقام اُمور لا بأس بذكرها والنظر فيها :
منها : حمل الروايات الدالّة على الضمان على دعوى الإتلاف والأخذ بقاعدة الأمانة المؤيّدة بالروايات الخاصّة، اختار هذا الوجه صاحب الجواهر(1) تأييداً للمتأخّرين، ولكنّك خبير بأنّ مورد جلّها خصوص النزاع في التلف كالسرقة ونحوها، فما أفاده لا يرجع إلى الجمع بل إلى الطرح والترجيح.
ومنها : ما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من الجمع بينهما بالتفصيل بين دعوى التلف ودعوى التفريط، فحمل ما يدلّ على الضمان على الثاني وما يدلّ على عدمه على الأوّل، وهذا منه مبنيّ على صراحة الأخبار المعلّلة بالاحتياط في خروج المقام عن قاعدة الأمانة، وبعد الخروج يرجع الأمر إلى قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر». فيحمل ما دلّ على الحلف على ما إذا كان الصانع منكراً كما في دعوى التفريط، وما دلّ على البيّنة على ما لو كان مدّعياً كما في دعوى التلف، قال : وهذا الجمع وإن كان مخالفاً لجملة من هذه الأخبار إلاّ أنّه أقرب ما قيل أو يقال في الجمع بين هذه الأخبار(2).
ومنها : ما أفاده المحقّق الرشتي (قدس سره) من أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من العمل بمقتضى قاعدة الأمانة; لأنّ الطائفة الاُولى يعني ما يدلّ على تقديم قول الأجير صريحة في ذلك وإن كانت واحدة; لكونها موافقة للقاعدة والشهرة، والثانية ليس شيء منها صريحاً في عدم الاقتصار على الحلف،
(1) جواهر الكلام: 27 / 342 ـ 344.
(2) حكى عنه المحقّق الرشتي في كتاب الإجارة: 357.
(الصفحة665)
بل في أنّه مع عدم البيّنة يضمن الصانع عند التهمة أي الشكّ، فيقيّد إطلاقه بما إذا لم يحلف(1).
ومنها : ما أفاده المحقّق الإصفهاني (قدس سره) من وجود خصوصية في المقام موجبة لجواز كلا الأمرين: البيّنة والاستحلاف; لأنّ الأصل الذي أسّسه أمير المؤمنين (عليه السلام)من باب الاحتياط على أمتعة الناس ليس من باب تضمين الأجير لما يتلف في يده على خلاف قاعدة الأمانة بالمعنى الأعمّ، بل تأسيس أصل في باب دعوى التلف، وأنّ المتّهم يضمن لولا أحد الأمرين من إقامة البيّنة كما هو مقتضى الأصل الأوّلي، ومقتضى جملة من أخبار الباب أو الحلف كما هو مقتضى الأصل الثانوي، ومقتضى جملة اُخرى من أخبار الباب، قال :
ويمكن أن يقال : إنّ مقتضى الاحتياط على أمتعة الناس لخفّة مؤنة دعوى التلف صحّة مطالبة البيّنة من مدّعي التلف، كما أنّه يجوز الاقتصار على التحليف كما في غيره من موارد الأمانة، وإلاّ فتعيّن الحلف ليس احتياطاً على أمتعة الناس، كما أنّ جواز الاقتصار على الحلف لا ينافي جواز مطالبة البيّنة، كما أنّ التفضّل على الأجير المأمون بعدم تحليفه فضلاً عن مطالبة البيّنة منه لا ينافي جواز كلّ منهما. ثمّ أيّد ما أفاده برواية أبي بصير المتقدّمة المشتملة على الجمع بين الأمرين(2).
والأظهر عندي ما أفاده الشيخ الأنصاري (قدس سره). وفي بعض الروايات الدالّة على الضمان قرينة على كون موردها دعوى التفريط، كرواية السكوني المتقدّمة الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يضمّن من
(1) كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 357.
(2) بحوث في الفقه، كتاب الإجارة: 306.
(الصفحة666)
الغرق والحرق والشيء الغالب، فتدبّر جيّداً.
الخامس : قال في الشرائع : لو قطع الخيّاط ثوباً قباءً، فقال المالك : أمرتك بقطعه قميصاً، فالقول قول المالك مع يمينه، وقيل قول الخيّاط، والأوّل أشبه، ولو أراد الخيّاط فتقه لم يكن له ذلك إذا كانت الخيوط من الثوب أو من المالك، ولا اُجرة له لأنّه عمل لم يأذن فيه المالك(1)، انتهى.
والقول بتقديم قول الخيّاط محكيّ عن وكالة المبسوط(2) والخلاف(3)، والمحكي عن الشيخ (قدس سره)(4) في هذا الباب الموافقة للقول الأوّل الذي هو المشهور(5)، بل لم يعرف الخلاف فيه من أحد كما في الجواهر(6) إلاّ من الشيخ في الباب المزبور، وقد حكي عن الشافعي(7) وبعض أصحابنا كالمحقّق الأردبيلي(8) القول بالتحالف.
والتحقيق أنّه إن كان الاختلاف بينهما بعد تحقّق الإجارة والاستئجار وتملّك المنفعة، بأن كان استئجار الخيّاط مسلّماً بينه وبين المالك، ولكن الاختلاف في تعيين العمل المستأجر عليه، وأنّه هل هو القطع قميصاً وخياطته كذلك، أو قباءً وخياطته كذلك؟ فلا محيص عن التحالف; لتباين الأمرين وعدم وجود القدر المتيقّن في البين، والمخالفة للأصل لكلّ من القولين، فلا مجال لترجيح إحدى الدعويين. هذا، والظاهر عدم كون هذه
(1) شرائع الإسلام: 2 / 189.
(2) المبسوط: 2 / 383.
(3) الخلاف: 3 / 348 مسألة 11.
(4) الخلاف: 3 / 506 مسألة 34، المبسوط: 3 / 248.
(5) مفتاح الكرامة: 7 / 290.
(6) جواهر الكلام: 27 / 345.
(7) الخلاف: 3 / 506 مسألة 34، المجموع للنووي: 15 / 439.
(8) مجمع الفائدة والبرهان: 10 / 84.
(الصفحة667)
الصورة مفروضة في عبارة الشرائع.
وإن كان الاختلاف بينهما فيما أمر المالك به الخيّاط من دون أن يكون هناك تمليك وتملّك، بل دفع المالك الثوب إلى الخيّاط وأمره بشيء مردّد بين قطعه قميصاً كما يدّعيه المالك، أو قباءً كما يدّعيه الخيّاط كما هو ظاهر عبارة الشرائع، فالظاهر أنّه حينئذ لا وجه للتحالف بل القول قول المالك; لأنّ ما يترتّب عليه الأثر هو تحقّق العمل وإيجاده في الخارج بأمر المالك، فما يدّعي المالك الأمر به خارج عن دائرة النزاع; لعدم تحقّقه في الخارج ولم يكن هنا استحقاق وتملّك للمنفعة بوجه; لما عرفت من أنّ المفروض عدم وجود إجارة في البين، فالنزاع يتمحّض في العمل المتحقّق في الخارج، وأنّه هل كان مأموراً به من المالك أم لا؟ وحينئذ يكون قول المالك موافقاً للأصل; لأصالة عدم تحقّق أمر من المالك بهذا العمل الواقع في الخارج، ولا يعارضه أصالة عدم تحقّق الأمر بما يدّعيه بعد عدم ترتّب الأثر عليه إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّه في فرض التحالف لا يكون فرق بين ما إذا كان التخاصم والتنازع قبل القطع أو بعده; لأنّ النزاع في العمل المستأجر عليه والمنفعة المملوكة للمالك، فلا فرق بين تحقّق القطع وعدمه، وأمّا في هذا الفرض فالظاهر ثبوت الفرق; لأنّ مجرّد الأمر من المالك لا يوجب استحقاقاً للخيّاط بالإضافة إلى الاُجرة، بل لابدّ من تحقّق العمل المأمور به حتّى يثبت الاُجرة، فإذا كان النزاع قبل القطع لا يترتّب على شيء من الدعويين أثر، ولا على شيء من الأصلين فائدة، فالنزاع المؤثّر إنّما هو فيما إذا تحقّق العمل وتردّد بين أن يكون مأموراً به أم لا، ولهذه الجهة قد فرض في عبارة الشرائع تحقّق القطع من الخيّاط.
(الصفحة668)
وممّا ذكرنا ظهر أنّ ما يشعر به عبارة الجواهر(1) بل تدلّ عليه ـ من أنّ اتّجاه التحالف وانفساخ الإجارة فيما إذا كان نزاعهما في تعيين العمل المستأجر عليه ، إنّما هو إذا كان قبل قطع الثوب ـ ممّا لا وجه له، إلاّ أن يكون مراده عدم الاختصاص بما إذا تحقّق القطع، فيرجع إلى ما ذكرنا.
ثمّ إنّه في فرض يمين المالك إذا حلف يكون أثره عدم استحقاق الخيّاط لاُجرة القطع لعدم كونه مأموراً به، بل يثبت عليه أرش النقص والتفاوت بين كونه مقطوعاً قميصاً، وعدم كونه مقطوعاً لو كان تفاوت في البين وكان التفاوت من ناحية ما يدّعيه المالك، بمعنى ثبوت النقص بالإضافة إليه.
بقي الكلام فيما تعرّض له الشرائع في ذيل العبارة المتقدّمة من إرادة الخيّاط فتقه، وأنّه إذا كانت الخيوط من المالك أو من الثوب ليس له ذلك، والوجه فيه ـ مضافاً إلى عدم وجدان الخلاف فيه بين المتعرّضين كما في الجواهر(2) ـ أنّه تصرّف في مال الغير لا يجوز إلاّ بإذنه، ضرورة أنّ الفتق ليس عبارة عن العمل الذي أوجده الخيّاط من دون أمر، بل هو تصرّف جديد يحتاج إلى الإذن، فهو حينئذ كما لو نقل ملك الغير من موضع إلى آخر عدواناً وبدون الإذن، فإنّه حينئذ يحتاج جواز نقله إلى الموضع الأوّل إلى إذن المالك، لأنّه تصرّف جديد في مال الغير.
نعم، لو كانت الخيوط للخيّاط يجوز الفتق وأخذها لقاعدة السلطنة، وثبوت عدوانه بمقتضى حلف المالك لا يسلب احترام ماله ولا يمنع عن جريان القاعدة. نعم، لو استلزم الأخذ نقصاً في الثوب يجب عليه الأرش كما هو ظاهر.
(1 ، 2) جواهر الكلام: 27 / 345.
|