تفصيل الشريعة
في
شرح تحرير الوسيلة
القضاء والشهادات
تأليف : الفقيه الأصولي
آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(دام ظلّه)
تحقيق و نشر : مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
(الصفحة7)
كتاب
القــضـاء
(الصفحة9)
[حول القاضي والقضاوة]
القضاء وهو الحكم بين الناس لرفع التنازع بينهم بالشرائط الآتية .
11 ـ القضاء بالمد والقصر ، وإن كان المدّ في أمثال هذه الموارد موجباً للدلالة على شدّة المرتبة كالبكاء ، ولا يعمل مثلها في القضاء . قد ذكر لها ـ بحسب اللغة ـ معان متعدّدة ربّما انهيت إلى عشرة ، كما في كلام صاحب الجواهر(1) . وقد استعملت فيها في ظاهر الكتاب العزيز كالحكم أو المقول في قوله تعالى : {وَاللهُ يَقضِي بِالحَقِّ}(2)والحكم كما في قوله تعالى في قصّة سليمان : {فَلَمَّا قَضَينا عَلَيهِ المَوتَ}(3) وكالاعلام كما في قوله تعالى : {إلاّ حَاجَةً فِي نَفسِ يَعقُوبَ قَضَاها}(4) والأمر كما في قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ}(5) وكالخلق كما في قوله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبَعَ
(1) جواهر الكلام : 40 / 7 .
(2) سورة غافر 40: 20.
(3) سورة سبأ 34 : 14 .
(4) سورة يوسف 12 : 68 .
(5) سورة الإسراء 17 : 23 .
(الصفحة10)
سَمَوات}(1) وكالفعل كما في قصّة السّحرة خطاباً إلى فرعون : {فَاقضِ مَا أَنْتَ قَاض}(2) وكالإتمام والفراغ كما في قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام) : {أَيَّما الأَجَلَينِ قَضَيتُ فَلاَ عُدوَانَ عَلَيَّ}(3) وكما في قوله تعالى : {فَلَمّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ}(4) وفي قوله تعالى : {فَإذَا قَضَيْتُم مَنَاسِكَكُم}(5) .
إلاّ أنّه نفى البعد الشيخ الأنصاري في رسالته في القضاء عن إرجاع الكلّ إلى معنى واحد قال : وهو إتمام الشيء والفراغ عنه(6) ، كما اعترف به الأزهري على ما حكي عنه ـ أي في كتاب تاج العروس في الشرح على القاموس للفيروزآبادي(7) ـ أو فصل الأمر قولا أو فعلا كما في كشف اللثام(8) .
أقول : الظاهر أنّ الإرجاع إلى المعنى الأوّل لا يتم ، ولا يكاد يستقيم مع مثل قوله تعالى : {وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ} ، فتدبّر .
وامّا المعنى الثّاني فهو يتمّ بناءً على كون المراد من فصل الأمر غير منحصر بمورد الترافع والمخاصمة والتنازع والتقابل ، كما لا يبعد .
ويؤيّد الإرجاع إلى المعنى الواحد أنّ المرتكز في الأذهان العرفيّة : أنّه لا يكون القضاء من الكلمات التي لها معان متعدّدة كالعين التي تكون كذلك ، وكالقرء الذي هو مردّد بين معنيين متضادّين من الحيض والطهر . هذا كلّه بحسب الّلغة والعرف .
(1) سورة فصّلت 41 : 12 .
(2) سورة طه 20 : 72 .
(3 ، 4) سورة القصص 28 : 28 و 29 .
(5) سورة البقرة 2 : 200 .
(6) القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 25 .
(7) تاج العروس : 10 / 297 .
(8) كشف اللّثام : 2 / 320 (ط ق) .
(الصفحة11)
معنى القضاء اصطلاحاً
وامّا بحسب الاصطلاح الذي لا يراد به إلاّ الاصطلاح الفقهيّ ، لا الحقيقة الشرعيّة ، بل ولا المتشرعية; لأنّ مورد بحثهما هو ألفاظ العبادات مثل الصلاة والصيام والحجّ ، دون المعاملات بالمعنى الأعم أو الأخص مثل البيع ونحوه ، فإنّه لا يراد منها إلاّ المعاني العقلائيّة العرفيّة المتداولة ، غاية الأمر اعتبار الشارع فيها بعض الاُمور نفياً وإثباتاً كالنهي عن بيع الغرر ، وإلاّ فالمراد من مثل قوله تعالى : {وَأَحَلَّ اللهُ البَيعَ}(1) هو البيع العرفي العقلائي ، وإلاّ يلزم أن يكون مثل الضرورية بشرط المحمول; لأنّ الحكم بأنّه أنفذ الله البيع الشرعي يرجع إلى ذلك .
وكيف كان ، فقد عرّفه في محكي المسالك(2) والرياض(3) والكشف(4) والتنقيح(5)ومثلها بأنّه عبارة عن ولاية الحكم شرعاً لمن له أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنين من البريّة بإثبات الحقوق واستيفائها للمستحق . وعرّفه في محكي الدروس(6) بأنّه ولاية شرعيّة على الحكم وعلى المصالح العامّة من قبل الإمام (عليه السلام) .
والتعريفان مشتركان في جعل القضاء بمعنى الولاية ، لا نفس الحكم كما في المتن ونحوه . وذكر الشيخ الأنصاري (قدس سره) في رسالة القضاء : أنّ إدراج الولاية مبني على
(1) سورة البقرة 2 : 275 .
(2) مسالك الأفهام : 13 / 325 .
(3) رياض المسائل : 9 / 233 .
(4) كشف اللّثام : 2 / 320 (ط ق) .
(5) التنقيح الرائع: 4 / 230.
(6) الدروس الشرعيّة : 2 / 65 .
(الصفحة12)
جعل القضاء من المصادر المستعملة في شأنية المبدأ ومنصبه ، كما في لفظ الحكومة والإمارة والوزارة ونحوها لا في نفس المبدأ ، فالمنصب في هذه المبادئ نظير الملكة في الكتابة ونحوها . وهذا الاستعمال وإن كان شائعاً في كثير من المصادر ، وملحوظاً في لفظ القاضي إلاّ أنّه قليل في خصوص لفظ القضاء ، بل ربّما يعبّر عنه عرفاً بالقضاوة ، وإن لم يسمع هذا الوزن في كلام أهل اللغة(1) .
وذكر المحقّق العراقي في رسالته في القضاء ـ بعد استظهار كون القضاء عبارة عن الولاية; لظهور تعلّق الجعل به في كونه من الاُمور الجعليّة ، مضافاً إلى كفاية هذا المقدار في صدق القاضي ولو لم يتلبّس بعد بالقضاء أصلا ـ ما ملخّصه : أنّه يمكن أن يقال : بأنّ مجرّد صدق القاضي بمجرّد الجعل لا يقتضي كون المبدأ فيه بمعنى الولاية المزبورة ، إذ ربما تكون الهيئة الاشتقاقيّة مقتضية لتوسعة النسبة ، وغير مانعة من بقاء المبدأ على معناه من الحكم الفعليّ الحقيقي ، كلفظي الحكم والحاكم .
ومن هذا الباب الفرق بين عنوان التجارة والتاجر ، فيكشف ذلك عن أنّه من جهة توسعة في مدلول الهيئة ، لا أنّه خلاف في مفهوم المادّة ، ومرجع ما ذكرنا في الحقيقة إلى الالتزام بتوسعة في دائرة التلبّس الفعلي ، لا الالتزام بتوسعة في المفهوم الصادق حتى على المتلبّس سابقاً; كي يكون خلاف التحقيق(2) .
وكيف كان ، فتعريف القضاء بنفس الحكم الظاهر في الحكم الحقيقي الفعلي كما في المتن ليس على ماينبغي، بل الظاهر ماذكره المشهور والدروس من التعريف بالولاية المتحقّقة بنفس الجعل ، وإن لم يتحقّق التلبّس فضلا عن المنقضى عنه ، كما لايخفى .
(1) رسالة القضاء (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 25 ـ 26 .
(2) رسالة القضاء للمحقّق العراقي : 3 / 4 .
(الصفحة13)
نعم ذكر صاحب الجواهر(1) وبعض تلامذة الشيخ الأنصاري : أنّ تعريف الدروس أرجح; لشموله لحكم الحاكم بثبوت الهلال; لأنّه من المصالح العامّة ، مع أنّ الظاهر أنّ مجرّد الشمول لا يقتضي الترجيح إلاّ بعد ثبوت كونه من مصاديق القضاء . ومن الظاهر عدمه لو لم نقل بعدم كونه منها أصلا ، كما لايخفى .
بقي الكلام في أمرين
أحدهما : أنّ الحكم سواء كان القضاء عبارة عن نفسه ، أو الولاية عليه عبارة عن وجوده الإنشائي الذي يحصل تارة بمثل قوله : «حكمت» ، واُخرى بالقول أو الفعل الدالّ عليه سواء كان هو الكتابة أو غيرها ، مثل الاُمور الاعتبارية الحاصلة بمثل ذلك كالبيع ، الذي يحصل بإنشاء التمليك بقول : «بعت» وشبهه ، ويحصل بالمعاطاة ونحوها ، فإنّ الّتمليك الحاصل بالبيع أمر اعتباريّ عقلائيّ وشرعيّ ، وموضوع الأحكام كثيرة وآثار غير عديدة ، وكذا النكاح ونحوه ، إلاّ فيما قام دليل خاصّ على عدم جريان مثل المعاطاة فيه ، وكذا المقام ، فإنّ الحكم يحصل تارة بمثل قول : «حكمت» في مقام فصل الخصومة ورفع التنازع ، واُخرى بقول آخر أو فعل آخر ، كالرأي الثابت في زماننا الحاصل بالكتابة من دون أن يكون القاضي متلفّظاً أصلا .
ثانيهما : الفرق بين القضاء والفتوى عبارة عن أنّ الفتوى هي بيان الأحكام الكلّية والكبريات العامّة من دون نظر إلى التطبيق على الموارد وبيان المصاديق ، ففي قوله : «الخمر حرام» تكون الفتوى عبارة عن الحكم بالحرمة الثابتة للخمر ،
(1) جواهر الكلام : 40 / 9 .
(الصفحة14)
وأمّا أنّ أيّ مايع خمر خارجاً أو لا يكون خمراً ، فهو لا يرتبط بالمجتهد ومن إليه رجع في التقليد ، فإذا قال المجتهد : «هذا المايع خمر» ، فلا يكون قوله حجّة من جهة الاجتهاد والمرجعيّة ، بل يكون من مصاديق شهادة العادل الواحد في الموضوعات الخارجيّة ، والحجّية وعدمها محلّ خلاف . وقد أثبتنا في قواعدنا الفقهيّة عدم الحجّية; وأنّ جعل حجّية البيّنة ناف لحجّيّته بعد كون الأمرين من سنخ واحد ، والفارق التعدّد وعدمه ، بخلاف جعل الحجّيّة للاستصحاب مثلا في مقابل البيّنة فراجع(1) .
وكيف كان فقول المجتهد وشهادته لا يكون حجّة إلاّ من هذا الباب .
وأمّا القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصيّة التي هي مورد التشاجر والترافع ، كحكم القاضي بأنّ المال الفلاني لزيد ، أو أنّ المرأة الفلانيّة زوجة عمرو وهكذا . وبعبارة اُخرى أنّ القضاء الذي هو عبارة عن الحكم ، أو الولاية عليه عبارة عن الأمر الإنشائي الاعتباري وقد مرّ ، والفتوى عبارة عن الإخبار عن النظر والرأي الحاصل بالاستنباط عن المنابع الّلازمة والأدلّة الواردة .
نعم ذكر بعض الأعلام (قدس سره) أنّه قد يكون منشأ التّرافع الاختلاف في الفتوى ، كما إذا تنازعت الورثة في الأراضي ، وادّعت الزوجة ذات الولد الارث منها ، وادعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي ، فإنّ حكمه يكون نافذاً عليهما ، وإن كان مخالفاً لفتوى من يرجع إليه المحكوم عليه(2) .
أقول : ومنه يظهر أنّ كتاب القضاء ومسألة فصل الخصومة ليس من شعب الأمر
(1) القواعد الفقهيّة : 1 / 476 ـ 479 .
(2) مباني تكملة المنهاج : 1 / 3 ـ 4 .
(الصفحة15)
ومنصب القضاء من المناصب الجليلة الثابتة من قبل الله تعالى للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ومن قبلهم للفقيه الجامع للشرائط الآتية . ولا يخفى أنّ خطره عظيم . وقد ورد «أنّ القاضي على شفير جهنم» ، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه قال : «ياشريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» (1) ، وعن أبي عبدالله (عليه السلام) : «اتقوا الحكومة ، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء ، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» (2) ، وفي رواية «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عزّوجلّ فقد كفر» (3) ، وفي «لسان اُخرى القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا
بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما نسب إلى صاحب الجواهر (قدس سره) وبعض آخر(4) . فإنّ المدّعي والمنكر في مثل المثال المذكور ليسا تاركين للمعروف والعاملين بالمنكر ، بل في كمال التعهّد والايمان والعمل بأحكام الإسلام ، غاية الأمر أنّ منشأ ترافعها وتخاصمهما هو اختلاف المجتهدين المقلّدين ، وقد يتّفق الترافع والتنازع في صورة الاشتباه والنسيان ، فيدّعي كلّ من زيد وعمرو ملكيّة الدار التي هي في يد زيد مثلا مع عدم كون عمرو من المريدين لأكل مال الغير والتصرّف فيه بوجه ، بل يعتقد ملكيّته إرثاً مثلا وزيد كذلك ، فيقع الاشتباه وعقيبه التخاصم والتشاجر ، مع أنّ مثل المورد لا يكون داخلا في ذلك الباب أصلا ، نعم قد يقع الادّعاء أو الإنكار مع العلم وعدم الاشتباه ، لكنّه لا يكون تمام مورد القضاء ، كما لايخفى .
(1) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح2 .
(2) الوسائل : 27 / 17 ، أبواب صفات القاضي ب3 ح3 .
(3) الوسائل : 27 / 34 ، أبواب صفات القاضي ب5 ح13 .
(4) جواهر الكلام : 40 / 38 ـ 39 .
(الصفحة16)
إلى النّار» (1) وعن أبي عبدالله (عليه السلام)قال : «القضاة أربعة : ثلاثة في النار وواحد في الجنّة : رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار . ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» (2) ولو كان موقوفاً على الفتوى يلحقه خطر الفتوى أيضاً ، ففي الصحيح قال أبو جعفر (عليه السلام) : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه» (3) .1
1 ـ أقول : أمّا كون القضاء من المناصب الجليلة ، فلا ينبغي الارتياب فيه ، وكذا في كون الأصل ثابتاً لله تبارك وتعالى ، ومن قبله للنبيّ (صلى الله عليه وآله) على ما يقتضيه قوله تعالى في موارد كثيرة ، مثل قوله : {فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}(4) ، بناءً على أنّ من مصاديقه التنازع والتخاصم المفروض في مورد القضاء ، وقوله تعالى : {إنَّا أَنْزَلْنا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}(5) ، وقوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤمِن وَلاَ مُؤمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرَاً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم}(6) ، وقوله تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ
(1) الوسائل: 27 / 228، أبواب آداب القاضي ب12 ح2 .
(2) الوسائل : 27 / 22 ، أبواب صفات القاضي ب4 ح6 .
(3) الكافي : 7 / 409 ح2 ، المحاسن : 1 / 326 ح858 ، الوسائل : 27 / 20 ، أبواب صفات القاضي ب4 ح1 .
(4) سورة النساء 4 : 59 .
(5) سورة النساء 4 : 105 .
(6) سورة الأحزاب 33 : 36 .
(الصفحة17)
وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً}(1) ، وغير ذلك من الموارد .
وقد تقرّر في محلّه أنّ أحد المناصب الثّلاثة التي كانت ثابتة للرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنوّرة هو القضاء كالرسالة والحكومة . وحكومته فيها هو المبدأ والمنبع للحكومة الإسلاميّة المتحقّقة في مملكة ايران بعد فلاح الثورة وتحقّق الانقلاب . وقد ذكر الماتن (قدس سره)في بحث قاعدة لا ضرر أنّها لا تكون مرتبطة بالفقه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ، بل النهي عن الضرر والاضرار حكم حكوميّ صادر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) .
وكيف كان فلا إشكال في ذلك ، كما أنّه لا إشكال في ثبوته للأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ثبوت الولاية العامّة لهم مسلّماً ـ الروايات الآتية بعضها الدالّة على جعلهم القضاة والحكّام ، ومن الواضح أنّ جعل القاضي والحاكم لا يتمّ مع عدم صلاحيّتهم للقضاء ، كما لا يخفى .
ثبوت منصب القضاء للفقيه
وأمّا الثبوت للفقيه الجامع للشرائط ، فيدلّ عليه أيضاً روايات دالّة على جعله كذلك ، مثل : مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال ، قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) : إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم ، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه(2) .
(1) سورة النساء 4 : 65 .
(2) الفقيه : 3 / 2 ح1 ، الكافي : 7 / 412 ح4 ، التهذيب : 6 / 219 ح516 ، الوسائل : 27 / 13 ، أبواب صفات القاضي ب1 ح5 .
(الصفحة18)
مسألة 1 : يحرم القضاء بين الناس ، ولو في الأشياء الحقيرة إذا لم يكن من أهله ، فلو لم ير نفسه مجتهداً عادلا جامعاً لشرائط الفتيا والحكم حرم عليه تصدّيه ، وإن اعتقد الناس أهليّته . ويجب كفاية على أهله ، وقد يتعيّن إذا لم يكن في البلد أو ما يقرب منه ممّا لا يتعسّر الرفع إليه من به الكفاية1.
مسألة 2 : لا يتعيّن القضاء على الفقيه إذا كان من به الكفاية ، ولو اختاره المترافعان أو النّاس2.
ومقبولة عمر بن حنظلة : اُنظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم الله قد استخفّ ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله(1) .
وامّا كون خطره عظيماً فيكفي فيه الروايات التي أشار إليها في المتن ، وكذا خطر الفتوى إذا كان القضاء موقوفاً عليها ، ولكنّها مختلفة من حيث المفاد من جهة كون المقصود التحاكم إلى الطاغوت وقضاة الجور ، ومن جهة كون المحكوم به غير حقّ ، ومن جهة جهل القاضي وعلمه بالحقّ ، ومن جهات اُخر ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد بوصيّ النبيّ الأعمّ منه ومن منصوبه الخاصّ أو العام . كما أن المراد بالكفر هي شدّة مرتبة العصيان لا الكفر الحقيقي المساوق للارتداد . فراجع الرّوايات في هذا الباب .
1 و 2 ـ يقع الكلام في هاتين المسألتين في اُمور :
الأمر الأوّل : الدليل على وجوب القضاء لمن كان من أهله ، وربّما يستدلّ عليه بوجوه :
(1) الكافي : 7 / 412 ح5 .
(الصفحة19)
أحدها : مثل قوله تعالى : {يَا دَاوُدُ إنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاس بِالحقِّ وَلاَ تَتَّبِع الهَوَى}(1) نظراً إلى ظهور الأمر في الوجوب ، مع أنّه يمكن أن يكون في مقام توهّم الخطر ، وصيغة افعل وأمثالها في هذا المقام لا دلالة لها على الوجوب ، بل على الجواز كما قرّر في محلّه . مع أنّ إيجاب الحكم على تقديره متفرّع على جعله تعالى داود خليفة في الأرض ـ ومن الواضح أنّ هذه الخلافة التشريعيّة غير الخلافة التكوينيّة الثابتة للعموم ـ ومورداً لاعتراض الملائكة بقولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}(2) ، ومن الواضح أنّ الخلافة التشريعيّة لا تتجاوز عن الأنبياء والأوصياء ، مضافاً إلى أنّ التفريع إنّما هو بالإضافة إلى الحكم بالحق لا أصل الحكم ، فمثل هذه الآية لا دلالة لها على وجوب القضاء على الفقيه الجامع للشرائط ، وإن رأى نفسه كذلك واعتقده الناس .
ثانيها : اختلال النظام بدونه ، ويرد عليه :
أوّلا : أنّ اللازم بناءً على ذلك كون القضاء في رديف الواجبات النظاميّة ، مثل النّجارة والبناية وغيرهما . وعرف المتشرّعة يأباه .
وثانياً : أنّ الواجب في هذا الباب هو حفظ النظام ، والاُمور المقدّميّة لا تتلبّس بالوجوب ، بعد عدم ثبوت الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوبها ، كما قد قرّر في علم الاُصول . ومجرّد لزوم المقدّمة عقلا لايستلزم ثبوت الملازمة .
وثالثاً : أنّه يمكن إحقاق الحقوق بطريق آخر غير القضاء ، ولزوم تضييع الحقوق أزيد من القضاء ممنوع .
(1) سورة ص 38 : 26 .
(2) سورة البقرة 2 : 30 .
(الصفحة20)
ثالثها : مقدّميّة القضاء للنهي عن المنكر ، ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم ثبوت الملازمة في بحث المقدّمة ـ أنّك قد عرفت عدم ارتباط باب القضاء بمسألة النهي عن المنكر ، إذ ربّما يكون المتداعيان في كمال التعهّد والتديّن .
وبالجملة : لم يقم دليل على وجوب القضاء بالإضافة إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى ، وكونه مجعولا قاضياً أو حاكماً ـ كما في المقبولة والمشهورة ـ لا دلالة فيه إلاّ على الصلاحيّة والشأنيّة وثبوت المنصب له ، لا الوجوب في مقام العمل . فاللازم الاستدلال له بما هو المرتكز والمغروس في أذهان المتشرّعة من الوجوب .
الأمر الثاني : في الحرمة بالإضافة إلى من لم يرَ نفسه جامعاً للشرائط ، ولو في الأشياء الحقيرة اليسرة ، وليعلم الفرق بين المقام وبين باب صلاة الجماعة ، التي ربّما يقال فيها بجواز تصدّي الإمامة فيها لمن لم يرَ نفسه عادلا مثلا إذا كان المأموم معتقداً بعدالته ، وذلك لأنّ القضاء فعل القاضي وهو يتلبّس به ، والجماعة متقوّمة بالمأمومين المؤتمّين . فاعتقاد كلّ من القاضي في المقام والمأموم هناك هو الملاك والمعيار ، فلا يقاس القاضي هنا بالإمام هناك ، كما أنّه لابدّ من توضيح أنّ الكلام هنا في الحرمة التي هي حكم تكليفيّ زائدة على الفساد ، وعدم صحّة القضاء وعدم نفوذه بلحاظ عدم الجامعيّة للشرائط الآتية .
وبعبارة اُخرى محلّ البحث ثبوت الحرمة التكليفيّة المستتبعة لاستحقاق العقوبة ، مع التفاوت القاضي إلى عدم ترتّب حكم شرعيّ على فصل خصومة ورفع منازعة; لعدم ثبوت هذا المنصب الشرعيّ له بلحاظ عدم الجامعيّة . فهنا أمران : البطلان والفساد ، والحرمة الموجبة للإثم ، إذ ليس البحث في الفساد بعد أنّه
|