(الصفحة121)
القول في الجواب بالإنكار
مسألة 1 : لو أجاب المدّعى عليه بالإنكار ، فأنكر ما ادّعى المدّعي ، فإن لم يعلم أنّ عليه البيّنة أو علم وظنّ أن لا تجوز إقامتها إلاّ مع مطالبة الحاكم وجب على الحاكم أن يعرّفه ذلك بأن يقول : ألكَ بيّنة؟ فإن لم تكن له بيّنة ، ولم يعلم أنّ له حقّ إحلاف المنكر ، يجب على الحاكم إعلامه بذلك1.
مسألة 2 : ليس للحاكم إحلاف المنكر إلاّ بالتماس المدّعي ، وليس للمنكر التبرّع بالحلف قبل التماسه ، فلو تبرّع هو أو الحاكم لم يعتدّ بتلك اليمين ، ولابدّ من الإعادة بعد السؤال ، وكذا ليس للمدّعي إحلافه بدون إذن الحاكم ، فلو أحلفه لم يعتدّ به2.
1 و 2 ـ أقول : قد وردت عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في هذا المجال روايتان صحيحتان :
إحداهما تدلّ على قوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(1) . والثانية على
(1) الكافي : 7 / 414 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح552 ، الوسائل : 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
(الصفحة122)
قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه(1) .
أمّا القول الأوّل : فلا دلالة له على أزيد من أنّ البيّنات والأيمان موازين للقضاء الإسلامي ، وإن كان شيء منهما لا يفيد العلم للقاضي ، وأمّا أنّ اللاّزم هل هو المجموع أو أحدهما ، وأنّ البيّنات بالإضافة إلى المدّعين ، والأيمان بالاضافة إلى المنكرين ، فلا دلالة له على ذلك أصلا .
وأمّا القول الثاني : فله دلالتان : دلالة على الاكتفاء بأحدهما; لأنّ التفصيل قاطع للشركة ، ودلالة على أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر .
نعم ، قد ورد دليل خاصّ على لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة ، كما في الدعوى على الميّت على ما سيأتي(2) ، كما أنّه يأتي البحث عن ملاك بيّنة المنكر ، هل تقوم مقام يمينه مع عموميّة دليل حجّية البيّنة واطلاقه بالإضافة إلى الموضوعات الخارجيّة ، أو لا تقوم بلحاظ كونها بيّنة النفي وبيّنة المدّعي بيّنة الإثبات ؟
وكيف كان فإن لم يعلم المدّعي أنّ عليه البيّنة ، أو علم أو ظنّ أنّه لا تجوز إقامتها إلاّ مع مطالبة الحاكم ، وجب على الحاكم أن يعرّفه ذلك بمثل قوله : ألك بيّنة؟ وكلمة «على» في قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على المدّعي(3) لا دلالة لها على التكليف النفسي ، كما في قوله تعالى : {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلا}(4) بحيث كان اللاّزم شرعاً على المدّعي إقامة البيّنة ، بل المراد هو اللّزوم إذا أراد الحكم
(1) الكافي : 7 / 415 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح553 ، الوسائل : 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح1 وأحاديث اُخر .
(2) يأتي في المسألة 28 من هذه المسائل .
(3) الكافي : 7 / 361 ح4 ، الفقيه : 3 / 20 ح52 ، الوسائل : 27 / 236 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 ح2 و5 .
(4) سورة آل عمران 3 : 97 .
(الصفحة123)
بنفعه ، وهكذا في ناحية المدّعى عليه . نعم لا دلالة لهذا القول على الترتيب ، وأنّ البيّنة مقدّمة على الحلف كما في النصوص والفتاوى .
ثمّ إنّ المذكور في المتن أنّه إن لم تكن للمدّعي بيّنة ، فله حقّ إحلاف المنكر ، وقد وقع التعبير بالحقّ تبعاً لمثل المحقّق في الشرائع حيث قال : ولا يحلف المدّعى عليه إلاّ بعد سؤال المدّعي; لأنّه حقّ له فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة»(1) ، مع أنّ أقلّ آثار الحقّ هو السقوط بالإسقاط ، فالأولى التعليل لذلك ـ مضافاً إلى الإجماع المدّعى في الجواهر ـ بالروايات الواردة :
مثل : صحيحة ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه ، فحلف أن لا حقّ له قبله ، ذهبت اليمين بحق المدّعي ، فلا دعوى له ، قلت له : وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال : نعم ، وإن أقام بعدما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه(2) . وغير ذلك من الروايات التي وقع فيها التعبير بالاستحلاف ، الظاهر في توقّف الحلف على رضاه والتماسه ، ولا يكون حضوره عند الحاكم وطرح الدعوى وسماعها ، وعدم إقامة البيّنة قرينة على الرّضا بالحلف ، كما لايخفى .
نعم ذكر في الجواهر : أنّ في مجمع البرهان النسبة إلى الأصحاب أنّه لا يستقلّ الغريم باليمين من دون إذن الحاكم ، وإن كان حقّاً لغيره; لأنّه وظيفته وإن كان إقامة الدليل عليه ـ إن لم يكن إجماع ـ في غاية الصعوبة(3) ، ولكنّه ذكر السيّد في ملحقات
(1) شرائع الإسلام : 4 / 873 .
(2) الكافي : 7 / 417 ح1 ، التهذيب : 6 / 231 ح565 ، الوسائل : 27 / 244 ، أبواب كيفيّة الحكم ب9 ح1 .
(3) جواهر الكلام : 40 / 171 .
(الصفحة124)
مسألة 3 : لو لم يكن للمدّعي بيّنة واستحلف المنكر فحلف ، سقطت دعوى المدّعي في ظاهر الشرع ، فليس له بعد الحلف مطالبة حقّه ولا مقاصّته ، ولا رفع الدعوى إلى الحاكم ، ولا تسمع دعواه ، نعم لا تبرأ ذمّة المدّعى عليه ، ولا تصير العين الخارجيّة بالحلف خارجاً عن ملك مالكها ، فيجب عليه ردّها وإفراغ ذمّته ، وإن لم يجز للمالك أخذها ولا التقاصّ منه ، ولا يجوز بيعها وهبتها وسائر التصرّفات فيها ، نعم يجوز إبراء المديون من دينه على تأمّل فيه ، فلو أقام المدّعي البيّنة بعد حلف المنكر لم تسمع ، ولو غفل الحاكم أو رفع الأمر إلى حاكم آخر فحكم ببيّنة المدّعي لم يعتدّ بحكمه1.
العروة : أنّ الدليل هي أصالة عدم ترتّب الأثر ، ولأنّه المعهود المنصرف إليه الأخبار ، وللأخبار المشتملة على قوله : «واضفهم إلى اسمي» كخبر محمد بن قيس : إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه كيف أقضي في اُمور لم أخبر ببيانها؟ قال : فقال له : ردّهم إليّ ، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به(1) ، ونحوه مرسلة ابان وصحيحة سليمان بن خالد(2) ،(3) .
هذا ، مع أنّه من البعيد التفكيك بين البيّنة واليمين من هذه الجهة ، فتدبّر .
1 ـ لو لم يكن للمدّعي بيّنة واستحلف المنكر ، فهو أي المنكر إمّا أن يحلف وإمّا أن يردّ وإمّا أن ينكل ، فإن حلف على بطلان دعوى المدّعي سقطت دعواه في ظاهر
(1) الكافي : 7 / 414 ح2 ، الوسائل : 27 / 230 ، أبواب كيفيّة الحكم ب1 ح3 .
(2) الكافي : 7 / 414 ـ 415 ح3 و 4 ، التهذيب : 6 / 228 ح551 و 550 ، الوسائل : 27 / 229 ، أبواب كيفيّة الحكم ب1 ح2 و1 .
(3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 60 مسألة 2 .
(الصفحة125)
الشرع . نعم يأتي في المسألة الخامسة إن شاء الله أنّ الحلف هل هو بمجرّده موجب لسقوط الحق مطلقاً ، أو بعد إذن الحاكم ، أو إذا تعقّبه حكم الحاكم ، أو أنّ حكمه موجب للسقوط إذا كان مستنداً إلى الحلف ، وليس للمدّعي بعد ذلك مطالبة حقّه ولا مقاصّته ، ولا رفع الدعوى إلى هذا الحاكم أو حاكم آخر ، ولا تسمع دعواه؟ وهذا من دون فرق بين أن تكون الدعوى متعلّقة بالعين الخارجيّة أو بالدّين أو بغيرهما ، كالعقود والإيقاعات غير المتعلّقة بالمال ، التي لا يكون الغرض من النزاع فيها المال ، وإن استشكل في الأخيرة السيّد في الملحقات ، بل استظهر من الأخبار ـ التي يأتي التعرّض لبعضها ـ الدعاوى المتعلّقة بالمال(1) .
وكيف كان فإن كان حلف المنكر مطابقاً لاعتقاده ، بأن اعتقد أنّ العين الخارجيّة لا تكون للمدّعي ، وأنّ ذمّته غير مشغولة بدينه ، وإن كان حلفه غير مطابق لاعتقاده بحيث يرى نفسه كاذباً بينه وبين الله ، فذمّته لا تبرأ عن دين المدّعي . وإن كان حكم الحاكم بنفعه ، بل ولو أبرأه الداين من دينه على تأمّل ينشأ من أنّ الإبراء لابدّ وأن يتعلّق بالدين المسلّم أو المشكوك كالإبراء في موارد الشكّ في الدّين ، وفي المقام لا يكون دين بحسب حكم الحاكم على طبق حلفه ، فتعلّق الإبراء محلّ تأمّل .
وأمّا بالإضافة إلى العين الخارجيّة فلا تصير بالحلف كاذباً خارجة عن ملك مالكها فيجب عليه ردّها ، وإن لم يجز للمالك أخذها ولا التقاصّ منه ، ولا يجوز بيعها ولا هبتها وسائر التصرّفات فيها ، بل لابدّ من أن ينتظر المدّعي الى أن يتحقّق الإقرار من المدّعى عليه في الآتية ، أو يتبيّن للحاكم كذب المدّعى عليه في حلفه ، فينتقض حكمه جوازاً أو وجوباً ، كما سيأتي في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى ،
(1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 61 ـ 62 .
(الصفحة126)
ويمكن أن يتحقّق مثل الهبة من المدّعى عليه باعتبار أنّه مالك شرعاً ، فيتحقّق الانتقال منه إلى المدّعي في ظاهر الحال ، وإن كان المدّعي يرى نفسه مالكاً قبل الهبة .
ثمّ إنّه لا فرق في سقوط دعوى المدّعي بالحلف من المدّعى عليه بين ما لو أقام المدّعي البيّنة بعد الحلف وبين صورة عدم الإقامة ، وقيل كما عن المفيد(1) وابن حمزة(2) والقاضي(3) : يعمل بالبيّنة ما لم يشترط المنكر سقوط الحقّ باليمين ، وقيل كما عن موضع من المبسوط وابن إدريس : إن نسي بيّنته أو لم يعلم بها سمعت وإن أحلف(4) . وعن المختلف أنّه قوّاه(5) ، وعن موضع آخر من المبسوط أنّها تسمع مطلقاً(6) .
ولكن مقتضى صراحة بعض الروايات وإطلاق البعض الآخر خلاف جميع ذلك .
ففي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه ، فحلف أن لا حقّ له قبله ، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي ، فلا دعوى له ، قلت له : وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال : نعم . وإن أقام بعدما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له ، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه
(1) المقنعة : 733 .
(2) الوسيلة : 213 .
(3) نقل في المختلف عن الكامل للقاضي ابن البرّاج .
(4) المبسوط : 8 / 210 ، السرائر : 2 / 159 .
(5) مختلف الشيعة : 8 / 414 مسألة 15 .
(6) المبسوط : 8 / 158 .
(الصفحة127)
قبله ممّا قد استحلفه عليه .
وفي رواية الصدوق زيادة : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من حلف لكم على حقّ فصدّقوه ، ومن سألكم بالله فاعطوه ، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي ، ولا دعوى له(1) .
ويستفاد من هذه الرواية الصحيحة بالصراحة نفي قول من يدّعي سماع البيّنة بعد الحلف بنحو الاطلاق ، وكذا يستفاد منها بنحو الاطلاق أنّه لا فرق بين صورة عدم اشتراط المنكر سقوط الحقّ باليمين وبين صورة الاشتراط ، وكذا صورة الجهل بالبيّنة أو نسيانها أو العلم بها والتذكّر والالتفات ، ويؤيّده بعض الروايات الاُخر مثل :
رواية خضر النخعي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً ، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه(2) .
ورواية عبدالله بن وضاح قال : كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف ، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده ، وأحلف عليها ، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام)فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف ، وقد وقع له عندي مال ، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم
(1) الكافي 7 : 417 ح1 ، التهذيب : 6 / 231 ح565 ، الفقيه : 3 / 37 ح126 ، الوسائل : 27/ 245 ، أبواب كيفيّة الحكم ب9 ح1 و2 .
(2) الكافي : 7 / 418 ح2 ، التهذيب : 6 / 231 ح566 ، الفقيه : 3 / 113 ح481 ، الوسائل : 27 / 246 ، أبواب كيفيّة الحكم ب10 ح1 .
(الصفحة128)
مسألة 4 : لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً يجوز بل يجب عليه نقض حكمه ، فحينئذ يجوز للمدّعي المطالبة والمقاصّة ، وسائر ما هو آثار كونه محقّاً ، ولو أقرّ المدّعى عليه بأنّ المال للمدّعي ، جاز له التصرّف والمقاصّة ونحوهما ، سواء تاب وأقرّ أم لا1.
التي حلف عليها فعلت . فكتب : لا تأخذ منه شيئاً ، إن كان ظلمك فلا تظلمه ، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنّك رضيت بيمينه وقد ذهبت اليمين بما فيها ، فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)(1) .
هذا ، والروايات واردة في الدين ، وإن كان العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّة بالإضافة إلى العين ، وإن كان الحكم بذلك في غيرهما محلّ إشكال . ثم إنّ الرواية الأخيرة محلّ إشكال من حيث الدلالة من جهة اُخرى ، وهي ظهورها في كون الحلف عند الوالي لا الحاكم .
1 ـ وقع التعرّض في هذه المسألة لأمرين :
الأمر الأوّل : إذا تبيّن للحاكم بعد حكمه بنفع المدّعى عليه لأجل حلفه كونه كذباً مخالفاً للواقع ، يجوز بل يجب نقض حكمه لثبوت بطلان مستند الحكم . والظاهر أنّ المراد من التبيّن هو حصول العلم له ، أو ما يلحقه من الاطمئنان الذي يعامل معه معاملة العلم عند العرف والعقلاء .
وأمّا مثل شهادة البيّنة ، فلا يوجب حصول التبيّن بعد عدم قدحها في الحكم بنفع المدّعى عليه بعد حلفه وقبل حكم الحاكم ، وبعد النقض يصير الحكم كالعدم ،
(1) الكافي : 7 / 430 ح14 ، التهذيب : 6 / 289 ح802 ، الوسائل : 27 / 246 ، أبواب كيفيّة الحكم ب10 ح2 .
(الصفحة129)
مسألة 5 : هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعي مطلقاً ، أو بعد إذن الحاكم ، أو إذا تعقّبه حكم الحاكم ، أو حكمه موجب له إذا استند إلى الحلف؟الظاهر أنّ الحلف بنفسه لا يوجبه ، ولو كان بإذن الحاكم ، بل بعد حكم الحاكم يسقط الحقّ ، بمعنى أنّ الحلف بشرط حصول الحكم موجب للسقوط
فيجوز للمدّعي ما يجوز قبل الحكم وطرح الدعوى من المطالبة والمقاصّة وسائر آثار ما هو كونه محقّاً ، كما لا يخفى .
الأمر الثاني: مالوأقرّالمدّعى عليه الذي حكم بنفعه لأجل حلفه بأنّ المال للمدّعي، وفي الحقيقة أكذب نفسه بالإقرار ، سواء كان الإقرار في حضور الحاكم بناءً على اختصاص الجواز بهذه الصورة كما ربّما يقال ، أو كان في غير حضوره بناءً على عدم الاختصاص ، وقد حققنا ذلك في كتابنا في القواعد الفقهيّة المشتملة على قاعدة الإقرار(1) ، فقد ذكر في المتن أنّه يجوز للمدّعي التصرّف والمقاصّة ونحوهما سواء تاب وأقرّ أم لا ، لكنّا ذكرنا في بحث جواب المدّعى عليه بالإقرار : إنّ قاعدة الإقرار لا دلالة لها على كون المقرّ له مالكاً ، بل الحيثية الثابتة بها إنّما هي حيثيّة سلبيّة راجعة إلى عدم كون المال للمقرّ، وإن كان ذلك مدلولا التزاميّاً لمقتضى إقراره.
وأمّا الحيثيّة الإيجابيّة الراجعة إلى ثبوت المال للمقرّ فلا دلالة لها على إثباتها ، وإن كان ذلك مدلولا مطابقيّاً لمقتضى إقراره; لعدم ثبوت الملكيّة للغير بمجرّد الإقرار من واحد ، خصوصاً إذا لم يكن المقرّ عادلا ، لفرض عدم كون إقراره ناشئاً عن توبته على فرض العدالة . وقد ذكرنا سابقاً أنّه يمكن أن يكون المالك شخصاً ثالثاً غير المدّعي والمدّعى عليه ، وقد وقع بينهما التباني على ذلك ، فتدبّر .
(1) القواعد الفقهية : 1 / 81 .
(الصفحة130)
بنحو الشرط المقارن1.
1 ـ قد ذكر أنّ في الحلف الذي يكون مستنداً إلى استحلاف المدّعي ورضاه ، وتعقّبه حكم الحاكم مستنداً إليه وجوهاً واحتمالات أربعة :
أحدها : أن يكون الحلف بمجرّده موجباً لسقوط حقّ المدّعي عيناً أو ديناً مطلقاً ، ولو لم يكن هناك إذن الحاكم أصلا .
ثانيها : الاحتمال الأوّل ، لكن بشرط أن يكون الحلف بعد إذن الحاكم ، كما يكون عقيب استحلاف المدّعي ورضاه .
ثالثها : أن يكون الحلف موجباً للسقوط مشروطاً بما إذا تعقّبه حكم الحاكم ، نظير ما أفاده البعض في البيع الفضولي(1) : من أنّ الشرط لا يكون نفس الإجازة بل تعقّبها وتأخّرها ، فإذا تحقّقت الإجازة يؤثِّر البيع من حين وقوعه ، لا من حين تحقّق الإجازة .
رابعها : أن يكون المؤثِّر في السقوط هو حكم الحاكم المستند إلى الحلف ، فلو مات الحاكم قبل الحكم وبعد الحلف لا يترتّب على الحلف أثر أصلا ، فالحلف وإن كان موجباً للسقوط ، لكنّه مشروط بالحكم بنحو الشرط المقارن ، الذي لا يحصل المشروط ولا يؤثّر قبل تحقّق الشرط أصلا ، كما لايخفى .
أقول : ظاهر الكلمات والفتاوى هو الوجه الأخير الذي استظهره الماتن (قدس سره) ، ولذا قال في الجواهر : ثمّ إنّه قد يتوهّم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى بمجرّد حصول اليمين من المنكر ، من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك ، لكنّ التحقيق خلافه ، ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها تعليم ما
(1) مصباح الفقاهة : 4 / 153 ـ 154 .
(الصفحة131)
مسألة 6 : للمنكر أن يردّ اليمين على المدّعي ، فإن حلف ثبت دعواه وإلاّ سقطت ، والكلام في السقوط بمجرّد عدم الحلف والنكول أو بحكم الحاكم كالمسألة السابقة ، وبعد سقوط دعواه ليس له طرح الدعوى ولو في مجلس آخر ، كانت له بيّنة أو لا . ولو ادّعى بعد الردّ عليه بأنّ لي بيّنة يسمع منه الحاكم ، وكذا لو استمهل في الحلف لم يسقط حقّه ، وليس للمدّعي بعد الردّ عليه أن يردّ على المنكر ، بل عليه إمّا الحلف أو النكول ، وللمنكر أن يرجع عن ردّه قبل أن يحلف المدّعي ، وكذا للمدّعي أن يرجع عنه لو طلبه من المنكر قبل حلفه1.
يحكم به الحاكم ، وإلاّ فلابدّ من القضاء والفصل بعد ذلك ، كما أومأ إليه بقوله (صلى الله عليه وآله) : إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(1) . بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتجّ إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقاً ، ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدّعي وثبوت الحقّ بالبيّنة ونحوها(2) ، انتهى .
أقول : ويؤيّده أنّه بناءً على ما هو ظاهر الروايات تلزم لغويّة الحكم بمعنى إنشائه ، ويلزم أن يكون شأن القاضي هو استماع البيّنة مع شرائطها ، والإذن في الحلف وأمثالها ، وهو كما ترى بعيد عمّا هو المرتكز في أذهان المتشرّعة من القاضي والحاكم كما لايخفى ، فالإنصاف أنّ الظاهر هو الوجه الأخير كما هو المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» ، فتدبّر .
1 ـ يقع الكلام في هذه المسألة في اُمور :
(1) الكافي : 7 / 414 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح552 ، معاني الأخبار : 279 ، الوسائل : 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
(2) جواهر الكلام : 40 / 175 .
(الصفحة132)
الأوّل : جواز ردّ اليمين من المنكر إلى المدّعي ، وإن كان الحلف متوجّهاً إليه ابتداءً كما هو مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه(1) ، لكن الظاهر ـ بقرينة الروايات الواردة الدالّة على جواز الردّ ـ أنّ ثبوت اليمين على المنكر إنّما هو بملاحظة المرحلة الاُولى ، وإلاّ فيجوز له الردّ أيضاً ، وهذه الروايات مثل :
صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أحدهما (عليهما السلام) ، في الرّجل يدّعي ولا بيّنة له ، قال : يستحلفه ، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له(2) .
وصحيحة عبيد بن زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : يستحلف ، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له(3) .
وصحيحة هشام ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : تردّ اليمين على المدّعي(4) .
ومرسلة يونس ومضمرته قال : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي ، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقّه ، فإن أبى أن يحلف فلا شيء له(5) .
ورواية أبي العبّاس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه ،
(1) الوسائل : 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب3 .
(2) الكافي : 7 / 416 ح1 ، التهذيب : 6 / 230 ح557 ، الوسائل : 27 / 241 ، أبواب كيفيّة الحكم ب7 ح1 .
(3) الكافي : 7 / 416 ح2 ، التهذيب : 6 / 230 ح556 ، الوسائل : 27 / 241 ، أبواب كيفيّة الحكم ب7 ح2 .
(4) الكافي : 7 / 417 ح5 ، التهذيب : 6 / 230 ح560 ، الوسائل : 27 / 241 ، أبواب كيفيّة الحكم ب7 ح3 .
(5) الكافي : 7 / 416 ح3 ، التهذيب : 6 / 231 ح562 ، الوسائل : 27 / 241 ، أبواب كيفيّة الحكم ب7 ح4 .
(الصفحة133)
فليس عليه يمين ، فإن لم يقم البيّنة ، فردّ الذي ادّعي عليه اليمين ، فإن أبى أن يحلف ، فلا حقّ له(1) .
ومنها غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال ، الدالّة على أنّ للمدّعى عليه إذا لم يرد الحلف ردّ اليمين إلى المدّعي ، فلا شبهة في هذه الجهة أصلا .
الثاني : لا يجوز للمدّعي الذي ردّ المدّعى عليه اليمين عليه ردّها ثانياً إلى المنكر ، بل هو إمّا أن يحلف وإمّا أن لا يحلف ، ففي الأوّل تثبت دعواه ، وفي الثاني تسقط; لعدم دلالة شيء من الروايات عليه ، مع لزوم التسلسل في بعض الموارد ، كما لايخفى .
الثالث : يترتّب على سقوط دعوى المدّعي بمجرّد عدم الحلف والحكم عليه أنّه لا يجوز له طرح هذه الدعوى ولو في مجلس آخر ، أو عند حاكم آخر من دون فرق بين أن تكون له بيّنة عادلة أم لا; لارتفاع المخاصمة بعد حكم الحاكم بالإضافة إلى هذه الدعوى ، فلا يجوز له طرحها ثانياً .
الرابع : قد عرفت أنّ ظاهر الروايات وإن كان ترتّب الأثر على حلف المنكر ، أو عدم حلف المدّعي بعد الردّ عليه ، إلاّ أنّ الظاهر ثبوت الأثر بعد إنشاء الحكم من الحاكم لا قبله .
الخامس : لو ادّعى المدّعي ـ بعد ردّ المنكر الحلف عليه ، وقبل حكم الحاكم ـ أنّ له بيّنة على مدّعاه ، يسمع منه الحاكم; لعدم صدور الحكم من قبله وعدم تحقّق الحلف من المنكر ، فالأمر يدور بين حلف المدّعي والحكم بنفعه ، وعدم حلفه وسقوط دعواه ، بل يمكن أن يقال : بتقديم بيّنته على حلفه خصوصاً مع ملاحظة
(1) التهذيب : 6 / 231 ح563 ، الكافي : 7 / 417 ح2 ، الوسائل : 27 / 243 ، أبواب كيفيّة الحكم ب8 ح2 .
(الصفحة134)
مسألة 7 : لو نكل المنكر فلم يحلف ولم يردّ ، فهل يحكم عليه بمجرّد النكول ، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعي ، فإن حلف ثبتت دعواه وإلاّ سقطت؟ قولان ، والأشبه الثاني1.
قوله (صلى الله عليه وآله) : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» . وكذا لو استمهل في الحلف لا تسقط دعواه بمجرّد الاستمهال ، كما أنّه إذا استمهل المنكر في الحلف يجوز ، إذا لا يكون منافياً لحقّ المدّعي ، وفي صورة استمهال المدّعي لا يكون هذا القيد أيضاً موجوداً ، كما لايخفى .
السادس : لكلٍّ من المدّعى عليه والمدّعي أن يرجع عن استحلاف الآخر أو ردّ الحلف قبل تحقّق الحلف ، فللمدّعى عليه أن يرجع عن ردّه قبل حلف المدّعي ، وللمدّعي أن يرجع عن استحلاف المدّعى عليه قبل تحقّق الحلف . أمّا على تقدير كون ذلك حقّاً من الطرفين ، فلعدم الدليل على اللزوم بعد الإعمال وقبل تحقّق الحلف . وأمّا على تقدير عدم كونه حقّاً بل حكماً شرعيّاً; فلعدم الدليل على عدم الجواز أي جواز الرجوع بعد الردّ ، نعم بعد تحقّق الحلف لا مجال للعدم ، كما لايخفى .
1 ـ في المسألة قولان : ذهب إلى كلٍّ منهما جماعة من الفقهاء القدماء والمتأخّرين ، ونسب القول الثاني إلى الأكثر(1) ، بل ادّعي الإجماع عليه(2) ، واستظهر القول الأوّل المحقّق في الشرائع ، وقال : وهو المرويّ(3) ، لكنّ الماتن جعل
(1) المبسوط : 8 / 209 ، المهذّب : 2 / 585 ، السرائر : 2 / 165 و180 ، الوسيلة : 229 ، رياض المسائل : 9/311 ، ونقل عن الإسكافي في المختلف : 8 / 397 .
(2) الخلاف : 6 / 290 ـ 292 مسألة : 38 ، الغنية : 442 ـ 443 .
(3) شرائع الإسلام : 4 / 874 .
(الصفحة135)
الأشبه الثاني كصاحب ملحقات العروة(1) .
وقبل الخوض في المسألة لابدّ من التعرّض للروايات; لأنّه مع وجود الروايات فيها لاتصل النوبة إلى الأصول العمليّة مطلقاً، سواءكانت مخالفة لها أو موافقة; لعدم المجال لها معها ، كما حقّق في علم الاُصول مثل : أصالة عدم مشروعيّة ردّ اليمين من الحاكم،وأصالة عدم ثبوت الحلف على المدّعي،وأصالة براءة ذمّة الحاكم من التكليف بالردّ ، وأصالة براءة المدّعي من التكليف باليمين ، كما أنّه لابدّ من التّوجه إلى أنّه ليس ولو في رواية واحدة التصريح بردّ الحاكم اليمين إلى المدّعي في الجملة ، وإلى أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «اليمين على من ادّعي عليه» لا إطلاق له أصلا ، بل الغرض بيان الوظيفة الأوّلية; ولذا لا دلالة له على عدم جواز ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي ، كما ذكرناه سابقاً ، وإلى أنّ هنا بعض الروايات الصحيحة التي أعرض عنها المشهور ، مثل :
ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم الطويلة الواردة في كيفيّة حلف الأخرس الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) : كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربه فامتنع فألزمه الدين(2) . ولا مجال للاستدلال بها لأجل تفريع الإلزام بالدين على الامتناع من شرب الماء المغسول به اليمين ، بعد عدم العمل من المشهور بهذه الكيفيّة في حلف الأخرس إلاّ أن يقال : إنّ إعراض المشهور عن هذه الجهة من الرّواية لا يلزم الإعراض عن الجهة الاُخرى المرتبطة بالمقام ، كما هو ظاهر المحقّق العراقي (قدس سره)(3) . وكيف كان فلابدّ من ملاحظة سائر الروايات فنقول :
منها : صحيحة هشام المتقدّمة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «تردّ اليمين على
(1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 66 .
(2) التهذيب : 6/319 ح879 ، الفقيه : 3/65 ح218 ، وسائل الشيعة : 27/302 ، أبواب كيفيّة الحكم ب33 ح1 .
(3) كتاب القضاء للمحقّق العراقي : 85 .
(الصفحة136)
المدّعي» . وهي وإن لم تدلّ على أنّ رادّ اليمين هو المنكر فقط; لأنّ كلمة «تردّ» إنّما هي بصيغة البناء على المفعول ، ومع تاء التأنيث المجازي ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الرواية إنّما هي بصدد بيان أنّ وظيفة المدّعي لا تكون إقامة البيّنة دائماً ، بل قد تردّ اليمين التي هي وظيفة المنكر على المدّعي ، فلا مجال للتمسّك بالإطلاق كما لايخفى .
ومنها : صحيحة عبيد بن زرارة المتقدّمة أيضاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمدّعي ، قال : يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ ، فإن لم يفعل فلا حقّ له . والظاهر أنّ المراد من الجملة الأخيرة : أنّه إذا لم يحلف المدّعي بعد ردّ المدّعى عليه اليمين عليه فلا حقّ للمدّعي ، ولا دلالة لها على حكم المقام ، نعم في بعض النسخ «فلا حقّ عليه» ، ولكن في الوسائل المطبوعة أخيراً المصحّحة ما ذكرنا .
ومنها : ما رواه المشايخ الثلاثة عن عبدالرحمان بن أبي عبدالله قال : قلت للشيخ (عليه السلام) : خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ ، فلم تكن له بيّنة بماله ، قال : فيمين المدّعى عليه ، فإن حلف فلا حقّ له ، وإن ردّ اليمين على المدّعي فلم يحلف ، فلا حقّ له وإن لم يحلف فعليه ، وإن كان المطلوب بالحقّ قد مات ، فاُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين بالله الذي لا إله إلاّ هو ، لقد مات فلان ، وإنّ حقّه لعليه ، فإن حلف ، وإلاّ فلا حقّ له; لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها ، أو غيّر بيّنة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له ، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ(1) .
(1) الكافي : 7 / 415 ح1 ، التهذيب : 6 / 229 ح555 ، الفقيه : 3 / 38 ح128 ، الوسائل : 27 / 236 ، أبواب كيفيّة الحكم ب4 ح1 .
(الصفحة137)
وموضع التمسّك بهذه الرواية فقرتان :
إحداهما : قوله (عليه السلام) : «وإن لم يحلف فعليه» لأنّه ظاهر في أنّه إذا لم يتحقّق الحلف من المنكر ، ولم يرد اليمين على المدّعي ، يثبت عليه الحقّ ويحكم الحاكم بضرره .
ويرد عليه عدم ثبوت هذه الفقرة في رواية الصدوق في الفقيه ، فلا مجال للتمسّك بها .
ثانيتهما : قوله (عليه السلام) في الذيل : «ولو كان حيّاً لألزم اليمين ، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه» لظهوره في أنّ المنكر مع عدم حلفه ، ومع عدم ردّ اليمين على المدّعي ، يلزم بالحقّ بعد حكم الحاكم . وكلمة يردّ إنّما هي بصيغة المبني للفاعل وبصورة المذكر ، فلا إطلاق لها يشمل غير المنكر .
والتحقيق في المقام أن يقال بعد ملاحظة عدم دلالة شيء من الروايات على أنّ الحاكم يردّ اليمين إلى المدّعي ، بخلاف ردّ المنكر الذي فيه روايات متعدّدة ومتكثّرة كما عرفت ، وبعد ملاحظة أنّ ردّ الحاكم يفتقر إلى أن يقوم الدليل عليه ، ويحتاج إلى البيان خصوصاً بعد الالتفات إلى أنّه ربّما يترتّب على ردّه عدم حلف المدّعي ، وبه يثبت إنكار المدّعى عليه ، وتسقط دعواه في الواقعة بالمرّة ، وحينئذ يسئل عن الدليل على هذا السقوط ، ومجرّد كون الحاكم وليّ الممتنع لا يكفي في هذه الجهة بعد عدم ثبوت حقّ على المدّعى عليه ، خصوصاً بعد جواز الحكم عليه بمجرّد النكول ، مع أنّه لا يعلم مقدار سعة هذا الأمر وضيقه على فرض صحّة صدوره بترجيح القول الأوّل ، الذي استظهره المحقّق في الشرائع ونسبه إلى الرّواية(1) ، وهو
(1) شرائع الإسلام : 4 / 874 .
(الصفحة138)
مسألة 8 : لو رجع المنكر الناكل عن نكوله ، فإن كان بعد حكم الحاكم عليه ، أو بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف لا يلتفت إليه ، ويثبت الحقّ عليه في الفرض الأوّل ، ولزم الحكم عليه في الثاني من غير فرق بين علمه بحكم النكول أو لا1.
الحكم بمجرّد النكول وعدم الحلف ، أو الردّ من المنكر ، وقوله (عليه السلام) : «تردّ اليمين على المدّعي» ليس معناه لزوم ردّها إليه ولو من الحاكم ، بل معناه عدم اختصاص اليمين بالمنكر ، وجواز وقوعه من المدّعي في مقابل اليمين على من ادّعى عليه ، وإن شئت قلت : إنّ الأمر فيه لا دلالة فيه على اللزوم ، بل هو في مقام توهّم الحظر ، فلا دلالة فيه إلاّ على الإباحة .
كما أنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لا اشعار فيه على جواز الردّ; لأنّه مضافاً إلى انّه مع ردّ الحاكم ، ربّما لا يتحقّق الحلف من المدّعي ، معناه تحقّق القضاء مع ميزانيّتهما وجوداً وعدماً كما لايخفى ، وإلاّ فمع ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي ، وعدم حلفه ، تسقط دعواه بحكم الحاكم كما تقدّم .
ودعوى أنّ مقتضى الأصل حلف المدّعي بعد ردّ الحاكم إليه; لعدم ثبوت حقّه بدونه نظراً إلى أنّه القدر المتيقّن ، مدفوعة ـ مضافاً إلى ما عرفت من دلالة بعض الروايات على خلافه ـ أنّه يسأله عن الدليل على السقوط مع عدم حلفه ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط حقّه بعد كون دعواه قابلة للطرح والسّماع ، كما هو المفروض . فالإنصاف قوّة القول الأوّل ورجحانه ، فتدبّر .
1 ـ في هذه المسألة فرعان :
الأوّل : إذا رجع المنكر الناكل عن نكوله بعد حكم الحاكم عليه ، وفي هذه
(الصفحة139)
الصّورة يثبت الحقّ على المنكر الناكل ، ولا أثر لرجوعه أصلا; لأنّه بعد ارتفاع النزاع وفصل الخصومة بسبب حكم الحاكم الموضوع لهذه الجهة لا يبقى مجال لتجديد النزاع في هذه الواقعة ، ولا الحكم ثانياً أصلا ، كما هو واضح لا يخفى .
الثاني : ما إذا رجع المنكر المزبور بعد حلف المدّعي المردود عليه الحلف وقبل الحكم ، سواء كان الحلف مردوداً عليه من المنكر أو من الحاكم ، بناءً على قول الماتن (قدس سره) من أنّ الحاكم يردّ عليه اليمين إذا لم يحلف المنكر ولم يردّ على المدّعي . وفي هذه الصورة يلزم على الحاكم الحكم على المنكر ، وأنّ الرجوع لا أثر له أصلا; لأنّا وإن ذكرنا أنّ الرجوع قبل الحلف لا مانع منه ، إلاّ أنّ الكلام هنا في الرجوع بعد الحلف ، والظاهر أنّه لا أثر له; لظهور بعض الروايات الواردة في ردّ المنكر اليمين إلى المدّعي في أنّه إذا حلف اليمين المردودة يترتّب عليها ثبوت الحقّ مطلقاً ، أي يجب على الحاكم أن يحكم على طبقه من دون انتظار أمر آخر ، مع أنّ الحكم بجواز الرجوع بعده ينجرّ إلى تعطيل القضاء وفصل الخصومة .
ولكن ذكر السيّد في الملحقات : أنّ الأقوى الالتفات إلى رجوعه; لعدم ثبوت الحقّ عليه قبل حكم الحاكم ، وإن تحقّق موجبه ، ودعوى أنّه قد وجب على الحاكم الحكم عليه بعد تحقّق الموجب فيستصحب ، مدفوعة بأنّه موقوف على عدم رجوعه لا أقلّ من الشكّ ، مع أنّ اطلاقات كون الحلف عليه شاملة لهذه الصورة ، والقدر المسلّم من حكم النكول ما إذا كان باقياً عليه(1) .
وممّا ذكرنا ظهر جوابه; لأنّه لا تصل النوبة إلى الاستصحاب مع ظهور الرّواية
(1) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 68 ذ مسألة 17 .
(الصفحة140)
مسألة 9 : لو استمهل المنكر في الحلف والردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه ، جاز إمهاله بمقدار لا يضرّ بالمدّعي ، ولا يوجب تعطيل الحقّ والتأخير الفاحش ، نعم لو أجاز المدّعي جاز مطلقاً بمقدار إجازته1.
مسألة 10 : لو قال المدّعي : لي بيّنة لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها ، فله أن يحضرها ، أو مطالبة اليمين ، أو ترك الدعوى ، نعم يجوز له إرشاده
في خلافه ، فالظاهر هو عدم الالتفات إليه ، كما في المتن .
ثمّ إنّه حكي عن الرياض التفصيل بين صورة العلم وصورة الجهل(1) ، والظّاهر أنّه لا وجه له بعد عدم كون الجهل عذراً في الأحكام الوضعيّة ، كما في الاتلاف الموجب للضمان ، فإنّه لا فرق فيه بين الصورتين ، بل وبين صورة ثبوت التكليف وعدمه كما في النائم ، كما لا يخفى .
1 ـ لو استمهل المنكر في الحلف والردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه ، ففيه صورتان :
الاُولى : صورة إجازة المدّعي الذي يدّعى عليه الحقّ عيناً أو ديناً ، وفي هذه الصورة يجوز للمدّعي الإمهال مطلقاً ، ويقتصر على مقدار إجازته لأنّه صاحب الحقّ احتمالا ، ولا يعدو عنه كما هو المفروض ، فيجوز له ذلك مطلقاً .
الثانية : ما إذا أراد الحاكم الإمهال ، وفي هذه الصورة لابدّ من الاقتصار في الإجازة على مقدار لا يضرّ بالمدّعي على تقدير كونه محقّاً ، ولا يوجب تعطيل الحقّ والتأخير الفاحش ، مع كون المقصود من الحكم فصل الخصومة ووصول الحقّ إلى صاحبه ، كما لا يخفى .
(1) رياض المسائل : 9 / 314 .
|