تفصيل الشريعة
في
شرح تحرير الوسيلة
القصاص
تأليف : الفقيه الأصولي
آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(دام ظلّه)
تحقيق و نشر : مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام)
(الصفحة7)
كتاب القصاص
وهو إمّا في النفس
وإمّا فيما دونها
القسم الأوّل: في قصاص النفس
والنظر فيه في الموجب
والشرائط المعتبرة فيه
وما يثبت به
وكيفية الاستيفاء
(الصفحة8)
(الصفحة9)
القول في الموجب
وهو إزهاق النفس المعصومة عمداً مع الشرائط الآتية1.
1 ـ القِصاص ـ بالكسر ـ : فعال من قصّ أثره ، إذا تتبعه ، ومن هذا الباب القصة ، بإعتبار كونها تذكرة للأمر الواقع فيما مضى ، والمراد به في المقام تعقيب الجناية الواقعة من قتل أو جرح أو مثلهما بإيراد مثله على الجاني والإتيان بمثل فعله .
وقد ورد في الكتاب العزيز بهذا العنوان أو بما لا ينطبق إلاّ عليه في ضمن الآيات الكثيرة ، فمن الأوّل قوله تعالى: {وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الأَلبَاب}(1) .
والمراد من الآية دفع ما ربّما يتوهّم في باب القصاص من أنّ مرجعه إلى ضمّ موت إلى موت آخر ومثله ، وهذا ممّا لا يقبله العقل السليم ، وربما يضاف إلى ذلك أنّ من يتصدّى لقتل غيره عدواناً وظلماً لا يكون إلاّ مريضاً ، واللازم أن يعالج حتى لا يتحقّق منه مثله .
(1) البقرة 2 : 179 .
(الصفحة10)
ولكن هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان النظر مقصوراً على القاتل فقط ولم يلاحظ الاجتماع وسائر الناس ، وأمّا مع ملاحظة العموم فالقصاص ضامن لحفظ الحياة ، فإنّه مع تحقّقه لا يتحقّق القتل من غيره إلاّ نادراً ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ كلّ أحد في مقام السعي والمجاهدة لحفظ حياة نفسه وعدم تحقّق ما يوجب التهديد بالإضافة إليها . فإذا رأى أنّ القتل يؤثّر في زوال حياته بالقصاص لا يكاد ينقدح في نفسه إرادته خصوصاً مع كون التصديق بالفائدة من مبادئ الإرادة ، ولا يتصوّر الفائدة مع انتفاء الموضوع أصلاً ، كما لايخفى .
ومن الثاني قوله تعالى: {مِن أَجل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحيَا النّاسَ جَمِيعاً}(1) .
فإن الظاهر أنّ المراد من قوله : «بغير نفس» هو عدم كونه بعنوان القصاص ، وأمّا التشبيه الواقع في الآية فقد ورد في توجيهه من أصحاب التفسير أقوال(2):
منها: أنّ معناه هو أنّ الناس كلّهم خصماؤه في قتل ذلك الإنسان ، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعاً ، فأوصل إليهم من المكر ما يشبه القتل الذي أوصله إلى المقتول ، فكأنّه قتلهم كلّهم; ومن استنقذها من غرق أو حرق أو هدم أو ما يميت لا محالة أو استنقذها من ضلال فكأنّما أحيا الناس جميعاً ، أي أجره على الله أجر من أحياهم جميعاً .
ومنها: أنّ من قتل نبيّاً أو إمام عدل فكأنّما قتل الناس جميعاً ، أي يعذَّب عليه ،
(1) المائدة 5 : 32 .
(2) ذكرها الطبرسي في مجمع البيان: 3 / 309 ـ 310 .
(الصفحة11)
كما لو قتل الناس كلّهم ، ومن شدّ على عضد نبي أو إمام فكأنّما أحيا الناس جميعاً في استحقاق الثواب .
ومنها: أنّ معناه من قتل نفساً بغير حق فعليه مثل مأثم كلّ قاتل من الناس ، لأنّه سنّ القتل وسهّله لغيره ، فكان بمنزلة المشارك فيه ، ومن زجر عن قتلها بما فيه حياتها على وجه يقتدي به فيه بأن يعظّم تحريم قتلها كما حرّمه الله ، فلم يقدم على قتلها لذلك فقد أحيا الناس بسلامتهم منه .
ومنها: غير ذلك من التأويلات .
ولكنّ الظاهر عدم تمامية شيء منها وعدم انطباقه على ما هو ظاهر الآية ، ولكنّه قد ورد في تفسيرها روايات ولا محيص عن حملها عليها ، مثل رواية محمد ابن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّوجلّ ـ : {مَنْ قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النّاس جَمِيعَاً} قال: له في النار مقعد ، لو قتل الناس جميعاً لم يرد إلاّ ذلك المقعد(1) .
ورواية حمران قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) ما معنى قول الله عزّوجلّ : {مِن أَجل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرِ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النّاسَ جَمِيعاً} قال: قلت: كيف كأنّما قتل الناس جميعاً ، فإنّما قتل واحداً؟ فقال: يوضع في موضع من جهنّم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعاً لكان إنّما يدخل ذلك المكان . قلت: فإنّه قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه(2) .
(1) وسائل الشيعة: 19 / 2 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 1 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 2 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح2 .
(الصفحة12)
ورواية حنّان بن سدير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ: {وَمَن قَتَلَ نَفساً بِغَيرَ نَفس أَو فَسَاد فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً} قال: هو واد في جهنّم لو قتل الناس جميعاً كان فيه ، ولو قتل نفساً واحدة كان فيه(1) .
ومرجعها إلى اشتراك كليهما في الورود في واد خاصّ في جهنّم ، الذي إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها ، غاية الأمر وجود الإختلاف من جهة الشدّة والضعف بينهما ، كما صرّح بالتضاعف في رواية حمران .
بقي الكلام في بيان ما يوجب القصاص ، وقد ذكر في المتن أنّه إزهاق النفس المعصومة عمداً مع الشرائط الآتية ، وقد عرّفه المحقّق في الشرائع بأنّه: إزهاق النفس المعصومة المكافئة عمداً عدواناً(2) . فأدخل جملة من الشرائط في قوله: المكافئة ، وجملة في العمد ، نظراً إلى أنّ عمد الصبي والمجنون خطأ .
ويرد على المتن ـ مضافاً إلى أنّ الجمع بين توصيف النفس بالمعصومة مع جعل واحد من الشرائط الآتية «كونه محقون الدم» ممّا لا فائدة فيه أصلاً; لأنّ المراد منهما أمر واحد ـ أنّه إن كان المراد بالمعصومة هو المعصومة مطلقا وبالإضافة إلى كلّ أحد كما هو ظاهر الإطلاق ، فاللازم أن لا يكون قتل من استحق القتل قصاصاً أو دفاعاً موجباً للقصاص إذا تحقّق من الأجنبيّ; لعدم كونه معصوماً مطلقاً; لجواز قتله بالإضافة إلى ورثة المقتول أو الدافع ، وإن كان المراد هو المعصومة بالإضافة إلى القاتل فاللازم التقييد به وعدم الاقتصار على الإطلاق .
ثمّ إنّ النفس غير المعصومة قد تكون مهدورة الدّم كما في سابّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)أو
(1) وسائل الشيعة: 19 / 5 ، أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 10 .
(2) شرائع الإسلام: 4 / 971 .
(الصفحة13)
مسألة 1 ـ يتحقّق العمد محضاً بقصد القتل بما يقتل ولو نادراً ، وبقصد فعل يقتل به غالباً وإن لم يقصد القتل به . وقد ذكرنا تفصيل الأقسام في كتاب الدّيات1.
مدّعي النبوّة ، حيث إنّه يجوز لكلّ من سمع ذلك منهما التصدي لقتله وإزهاق نفسه ، ففيه لا يتحقّق الموجب للقصاص بلا إشكال ، وقد يكون إزهاقها بعنوان الحدّ الذي يتوقف على إذن الحاكم ، كما في الزاني المحصن واللائط إيقاباً والمرتدّ الفطري ، وتحقّق الموجب فيه محلّ إشكال بل منع ، لأنّ مجرّد لزوم مباشرة الحاكم وإذنه لا يوجب كون النفس معصومة بعد وضوح أنّ الشارع أسقط احترامها لأجل الجناية التي ارتكبها ، وسيأتي عند تعرّض المتن له تفصيل البحث في ذلك إن شاء الله تعالى .
1 ـ ظاهر العبارة أنّ العمد محضاً الذي هو معتبر في ما يوجب القصاص يتحقّق في موارد ثلاثة:
المورد الأوّل:ما إذا قصد القتل وكانت الآلة ممّا يتحقّق به القتل غالباً ، ويستعمل في هذا الغرض نوعاً ، وهذا هو القدر المتيقّن من موارد العمد ، لأنّ المفروض صدور القتل عن قصد وإرادة ، وكون الآلة مؤثِّرة في حصوله غالباً(1) .
الموردالثاني: ماإذا قصدالقتل ولكن لم تكن الآلة مؤثّرة في القتل إلاّ نادراً، كالعصا ونحوه واتّفق القتل به ، وقد قيل: إنّ فيه قولين ، ولكن في الجواهر بعد نسبة ثبوت القصاص إلى الأشهر واحتماله أنّ عليه عامّة المتأخّرين: لم أجد فيه خلافاً ، وإن
(1) الوسيلة: 429 ، شرائع الإسلام: 4 / 971 ، قواعد الأحكام: 2 / 277 ، تحرير الأحكام: 2 / 240 ، كنز العرفان: 2 / 366 ، مسالك الأفهام: 15 / 67 ، رياض المسائل: 10 / 234 .
(الصفحة14)
أرسل(1) ، نعم يظهر من اللمعة نوع تردّد فيه(2) .
وكيف كان فالظاهر أنّ مقتضى القاعدة هو ثبوت القصاص; لأنّ المفروض قصد القتل وتحقّقه في الخارج ، ومجرّد عدم تأثير الآلة في القتل إلاّ نادراً لا يقتضي الخروج عن صدق عنوان العمد ، ولكنّه ورد في هذا الأمر روايات مختلفة:
فطائفة منها تدلّ على تحقّق العمد في هذا المورد :
مثل: صحيحة عبدالرّحمن بن الحجاج قال: قال لي أبو عبدالله (عليه السلام) : يخالف يحيى ابن سعيد قضاتكم؟ قلت: نعم ، قال: هات شيئاً ممّا اختلفوا فيه ، قلت: اقتتل غلامان في الرحبة ، فعضّ أحدهما صاحبه ، فعمد المعضوض إلى حجر فضرب به رأس صاحبه الذي عضّه ، فشجّه فكزّ فمات ، فرفع ذلك إلى يحيى بن سعيد فأقاده ، فعظم ذلك على ابن أبي ليلى وابن شبرمة ، وكثر فيه الكلام وقالوا: إنّما هذا الخطأ ، فودّاه عيسى بن علي من ماله . قال: فقال: إنّ من عندنا ليقيدون بالوكزة ، وإنّما الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غيره(3) .
والغلامان في الرّواية محمول على البالغين ، والظاهر إرادة القتل في مورد الرّواية ، كما يدلّ عليه قوله: «اقتتل» ، وعليه فحصر الخطأ فيما إذا أراد الشيء فأصاب غيره ظاهر في ثبوت العمد في مورد الرواية مع كون الحجر لا يقتل غالباً .
وصحيحة الحلبي ، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : العمد كلّ ما اعتمد شيئاً فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة ، فهذا كلّه عمد; والخطأ من اعتمد شيئاً
(1) جواهر الكلام : 42 / 13 .
(2) اللمعة الدمشقية: 174 .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 23 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 1 .
(الصفحة15)
فأصاب غيره(1) .
ومرسلة جميل بن دراج ، عن بعض أصحابنا ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قتل العمد كلّ ما عمد به الضرب فعليه القود ، وإنّما الخطأ أن تريد الشيء فتصيب غيره . وقال: إذا أقرّ على نفسه بالقتل قتل وإن لم يكن عليه بيّنة(2) .
ورواية أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لو أنّ رجلاً ضرب رجلاً بخزفة أو بآجرة أو بعود فمات كان عمداً(3) . والقدر المتيقّن منها صورة إرادة القتل وقصده لا مجرّد الضرب بإحداها ، وإن لم يكن قاصداً للقتل أصلاً .
ورواية عبدالرحمن بن الحجاج المروية في تفسير العياشي عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال: إنّما الخطأ أن تريد شيئاً فتصيب غيره ، فأمّا كلّ شيء قصدت إليه فأصبته فهو العمد(4) .
ومرسلة ابن أبي عمير المروية في التفسير المزبور عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال: كلّما أُريد به ففيه القود ، وإنّما الخطأ أن تريد الشيء فتصيب غيره(5) . ونقلها في الجواهر هكذا: مهما اُريد تعيّن القود(6) . . . ، وجعلها من الروايات المعارضة لهذه الروايات مع وضوح ظهورها في ثبوت القود في المقام ، خصوصاً مع حصر الخطأ فيما ذكر .
وطائفة ظاهرها عدم تحقّق العمد وعدم ثبوت القود .
(1) وسائل الشيعة: 19 / 24 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 3 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 25 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 6 .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 8 .
(4) وسائل الشيعة: 19 / 28 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 18 .
(5) وسائل الشيعة: 19 / 28 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 16 .
(6) جواهر الكلام : 42 / 15 .
(الصفحة16)
مثل: رواية أبي العباس ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: أرمي الرّجل بالشيء الذي لا يقتل مثله ، قال: هذا خطأ ، ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها ، قلت: أرمي الشاة فأُصيب رجلاً ، قال: هذا الخطأ الذي لا شكّ فيه; والعمد الذي يضرب بالشيء الذي يقتل بمثله(1) . وظهورها في كون المفروض فيها صورة إرادة القتل لا شكّ فيه ، كما أنّ دلالتها على عدم كون المقام من موارد العمد ظاهرة .
ومرسلة عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: قال أميرالمؤمنين (عليه السلام) : في الخطأ شبه العمد أن تقتله بالسّوط أو بالعصا أو بالحجارة ، إنّ دية ذلك تغلظ ، وهي مائة من الإبل . الحديث(2) .
ورواية أبان بن عثمان ، عن أبي العباس وزرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: إنّ العمد أن يتعمّده فيقتله بما يقتل مثله ، والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله ، يقتله بما لا يقتل مثله ، والخطأ الذي لا شكّ فيه أن يتعمّد شيئاً آخر فيصيبه(3) . والظّاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «لا يريد قتله» هو عدم إرادة القتل حينما يتعمّده ويقصده ، ولذا لا يستصحب الآلة القتّالة ، ولكنّه بعد الوصول إليه يحدث له إرادة القتل فيقتله بما لا يقتل مثله ، لظهورها في أنّ الفرق بين هذا الفرض والفرض الأوّل هو مجرّد كون الآلة فيه قتّالة بخلافه ، وفي أنّ الفرق بينه وبين الفرض الأخير هو عدم تعلّق قصد القتل بالمقتول بل بشيء آخر ، فالفروض الثلاثة كلّها مشتركة في أصل إرادة القتل .
ومثل هذه الرواية رواية زرارة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: إنّ الخطأ أن تعمده
(1) وسائل الشيعة: 19 / 25 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 7 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 27 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 11 .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 27 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 13 .
(الصفحة17)
ولا تريد قلته بما لا يقتل مثله ، والخطأ ليس فيه شكّ أن تعمد شيئاً آخر فتصيبه(1) .
ورواية أُخرى لزرارة ، عن أُي عبدالله (عليه السلام) ، قال: العمد أن تعمده فتقتله بما مثله يقتل(2) .
ومرسلة يونس،عن بعض أصحابه،عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال:إن ضرب رجل رجلاً بعصا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلّم فهو يشبه العمد ، فالديّة على القاتل; وإن علاه وألحّ عليه بالعصا أو بالحجارة حتى يقتله فهو عمد يقتل به ، وإن ضربه ضربة واحدة فتكلّم ثم مكث يوماً أوأكثر من يوم فهو شبه العمد(3) . والظاهر أنّ اختلاف الفروض إنّماهو في تحقّق قصدالقتل في الصورة الثانية المستلزم للإلحاح ، ومثله دون الصورتين الآخرتين ، وعليه فتصير الرواية من روايات الطائفة الأُولى .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ الجمع بين الطائفتين يمكن بوجهين:
أحدهما: حمل الطائفة الأُولى الدالّة بظاهرها على ثبوت العمد في المقام على شبه العمد بقرينة الطائفة الثانية ، فالنتيجة حينئذ عدم ثبوت القصاص لعدم تحقّق موجبه الذي هو العمد .
ثانيهما: حمل الطائفة الثانية على صورة عدم إرادة القتل وعدم تحقّق قصده بقرينة الطائفة الأُولى ، فينتج ثبوت القصاص في المقام .
والظاهر أنّ الترجيح مع الوجه الثاني لأنّ ـ مضافاً إلى عدم ظهور الطائفة الثانية في صورة إرادة القتل ، بل حمل بعضها على هذه الصورة كان بعيداً ـ حمل الطائفة الأولى على شبه العمد لا يكاد يجتمع مع ثبوت الحكم بالقصاص في
(1) وسائل الشيعة: 19 / 28 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 17 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 28 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 20 .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 25 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 5 .
(الصفحة18)
بعضها ، كما في مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدّمة ، وليس المذكور في جميعها كلمة «العمد» حتى تحمل على شبه العمد ، بل الحكم بالقود الذي لا يتحقّق إلاّ بعد ثبوت موجبه الذي هو العمد محضاً ، فالترجيح مع هذا الوجه .
ثم إنّه لو فرض ثبوت التعارض وعدم إمكان الجمع لكان الترجيح مع الطائفة الأولى ، الموافقة للشهرة الفتوائية المحققة ، كما مرّت الإشارة إليه مراراً .
المورد الثالث: ما إذا قصد فعلاً يقتل به غالباً وإن لم يقصد القتل به ، وقيل : يفهم من الغنية الإجماع عليه(1) ، وهو الذي تقتضيه القاعدة ، لأنّ القصد إلى الفعل الذي يتحقّق به القتل غالباً مع التوجه والإلتفات إلى ذلك لا يكاد ينفكّ من قصد القتل ، غاية الأمر أنّه يصير القتل مقصوداً بالتبع ، والفعل يكون مقصوداً بالأصالة ، وهو لا يوجب الخروج عن عنوان العمد ، فإنّ من ضرب الغير بآلة قتّالة مع العلم بكونها كذلك يكون عند العرف قاتلاً بالقتل العمدي ، وإن كان غرضه غير القتل كامتحان الآلة ، أو امتحان رميه إيّاها ، أو غير ذلك من الأغراض .
ويدلّ عليه مضافاً إلى ما ذكرنا صحيحة الحلبي وأبي الصباح الكناني جميعاً ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال (قالا ـ ظ) سألناه عن رجل ضرب رجلاً بعصا فلم يقلع عنه الضرب حتى مات ، أيدفع إلى وليّ المقتول فيقتله؟ قال: نعم ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجيز عليه بالسيف(2) . ومثلها رواية موسى بن بكر(3) . ورواية سليمان بن خالد(4) .
(1) غنية النزوع : 402 .
(2) وسائل الشيعة: 19 / 24 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 2 .
(3) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 10 .
(4) وسائل الشيعة: 19 / 27 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 12 .
(الصفحة19)
والعصا وإن لم يكن بمجرده من الآلات القتّالة ، إلاّ أنّ تكرار الضرب به وعدم قلع الضرب عنه يوجب صيرورته من هذه الآلات . ومقتضى إطلاق السؤال وترك الاستفصال أنّه لا فرق بين ما إذا كان مراد الضارب القتل أو مجرّد الضرب فقط ، وعليه فظاهر الجواب كون هذا المورد أيضاً من موارد العمد التي فيها القصاص ، والظاهر أنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «ولكن لا يترك يعبث به» هو عدم المعاملة مع القاتل معاملة ما صنعه بالمقتول ، بل يسرع عليه بالسيف الذي يوجب قتله من دون زجر وتمثيل . يقال: أجاز عليه ، أي أجهزه وأسرع في قتله . وعليه فالروايات المذكورة مطابقة لما تقتضيه القاعدة .
ثمّ إنّ بعض الأعلام استدلّ لكون المورد الثالث من موارد العمد بصحيحة فضل ابن عبدالملك التي رواها الصدوق عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، أنّه قال: إذا ضرب الرجل بالحديدة فذلك العمد . قال: سألته عن الخطأ الذي فيه الدية والكفارة أهو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله؟ فقال: نعم ، قلت: رمى شاة فأصاب إنساناً ، قال: ذاك الخطأ الذي لا شكّ فيه ، عليه الدية والكفّارة(1) .
قال في تقريب الاستدلال بها: إنّها تدلّ على أنّ الضرب بالحديدة الذي يترتّب عليه القتل عادة من القتل العمدي ، وإن لم يقصد الضارب القتل ابتداء ، وأمّا مع قصد القتل فلا خصوصية للحديدة(2) .
ويرد عليه ، انّ الحديدة لا تكون من الآلات القتّالة ، لأنّ المراد بها هي الحديدة الصغيرة ، وقد جعلها في بعض الروايات المتقدّمة في رديف الحجر والعصا والوكزة ،
(1) وسائل الشيعة: 19 / 26 ، أبواب القصاص في النفس ب 11 ح 9 .
(2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 4 مسألة 1 .
(الصفحة20)
والمراد من ضرب الرجل بها هو الضرب المقرون مع قصد القتل وإرادته ، ويدلّ عليه سؤال الراوي بعده عن الخطأ ، وأنّه هو أن يعتمد ضرب رجل ولا يعتمد قتله الظاهر في أنّ الفرق بينه وبين العمد هو إرادة القتل فيه دونه ، وعليه فالرواية تنطبق على المورد الثاني دون الثالث .
كما أنّه استدلّ له أيضاً بصحيحة أبي العباس وزرارة المتقدّمة عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال: إنّ العمد أن يتعمّده فيقتله بما يقتل مثله ، والخطأ أن يتعمّده ولا يريد قتله يقتله بما لا يقتل مثله ، والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمّد شيئاً آخر فيصيبه(1) . نظراً إلى أنّ التقييد بقوله (عليه السلام) «بما لا يقتل مثله» يدلّ على أنّ الآلة إذا كانت قتّالة فليس هو من الخطأ ، وإن لم يقصد القتل ابتداءً(2) .
ويرد عليه أنّ هذا التقييد كما وقع في الخطأ وقع التقييد بما يقتل مثله في العمد ، مع أنّ الظاهر عدم كونه مقيّداً به ، لما عرفت في المورد الثاني من أنّ قصد القتل يوجب تحقّق العمد وإن لم تكن الآلة قتّالة ، فالإنصاف أنّ الدليل في هذا المورد هي الروايات التي أوردناها ، وقد استدلّ بها صاحب الجواهر (قدس سره)(3) .
بقي الكلام في أنّه هل يتحقّق العمد فيما إذا لم يقصد القتل ولم يكن الفعل مؤثِّراً في القتل بحسب الغالب أو لا يتحقّق؟ فيه وجهان ، بل قولان ، حكى عن الغنية الإجماع على الثاني(4) . وقال في الجواهر: لا أجد فيه خلافاً بين المتأخّرين(5) .
(1) تقدّمت في ص16 .
(2) مباني تكملة المنهاج: 2 / 4 مسألة 1 .
(3) جواهر الكلام : 42 / 14 .
(4) غنية النزوع: 402 .
(5) جواهر الكلام : 42 / 16 .
|