(الصفحة201)
مسألة 2 ـ يعتبر في قبول الشهادة أن ترد شهادتهما على موضوع واحد ووصف واحد ، فلو شهد أحدهما أنّه قتله غدوة والآخر عشية ، أو شهد أحدهما أنّه قتله بالسمّ والآخر أنّه بالسيف ، أو قال أحدهما: أنّه قتله في السوق ، وقال الآخر: في المسجد ، لم يقبل قولهما . والظاهر أنّه ليس من اللّوث أيضاً ، نعم لو شهد أحدهما بأنّه أقرّ بالقتل والآخر بمشاهدته لم تقبل شهادتهما ، ولكنّه من اللّوث1.
هو الاحتمال العقلائي المنافي للظهور ، لا الصراحة بدليل التمثيل بقوله: «ضربه بالسيف فمات» ، فتدبّر .
1 ـ لا شبهة في أنّه مع توقّف ثبوت القتل مثلاً على شهادة شاهدين ، لا محيص عن اعتبار اتّحادهما من حيث الموضوع ومن حيث الأوصاف والخصوصيات الراجعة إلى الزمان والمكان وآلة القتل ونحوها ، فلا اعتبار بالشهادة في الأمثلة المذكورة في المتن ، لثبوت الاختلاف الّذي مرجعه إلى التكاذب المقتضي للتساقط . واشتراكهما في الشهادة على أصل القتل لا يجدي بعد عدم انفكاكه عن الخصوصية الموجودة فيه المشهودة بها . ومنه يظهر عدم كون هذا المورد لوثاً ، خلافاً للشيخ (قدس سره)في المبسوط(1); لأنّ مورده ما إذا كان هناك شاهد واحد مثلاً ، ومرجع المقام بعد التساقط إلى عدم وجود شهادة في البين أصلاً ، فلا يكون لوثاً . وهذا بخلاف الفرض الأخير ، فإنّه وإن لم تكن الشهادة فيه مقبولة بلحاظ إثبات الإقرار أو أصل القتل لعدم اجتماع الشرائط من هذه الجهة ، إلاّ أنّه حيث لا يكون بين الشهادتين تكاذب ـ لإمكان صحّتهما وصدقهما ، بل كون كلّ واحدة منهما مؤيِّدة
(1) المبسوط: 7 / 254 .
(الصفحة202)
مسألة 3 ـ لو شهد أحد الشاهدين بالإقرار بالقتل مطلقاً ، وشهد الآخر بالإقرار عمداً ، ثبت أصل القتل الذي اتّفقا عليه ، فحينئذ يكلّف المدّعى عليه بالبيان ، فإن أنكر أصل القتل لا يقبل منه ، وإن أقرّ بالعمد قبل منه ، وإن أنكر العمدوادّعاه الولي فالقول قول الجاني مع يمينه . وإن ادّعى الخطأ وأنكر الولي قيل يقبل قول الجاني بيمينه ، وفيه إشكال ، بل الظاهر أنّ القول قول الولي ، ولو ادّعى الجاني الخطأ وادّعى الولي العمد فالظاهر هو التداعي1.
للأُخرى ـ يكون لوثاً ، كما هو ظاهر .
1 ـ أمّا ثبوت أصل القتل فلاتّحاد الشهادتين في المشهود به ، وهو الإقرار بالقتل ، وإضافة توصيفه بالعمد في إحداهما لا تنافي القبول ، لأنّ عدم تعرّض الآخر له لا ينافي تعرّض الأوّل بوجه . وعليه فيصير محكوماً بالإقرار بالقتل ، وحيث لا يكون معلوماً من حيث النوع فالحاكم يكلّفه بالبيان والتفسير ، فإن أقرّ بالعمد يقبل منه مع تصديق الوليّ له ، كما أنّه لو أقرّ بالخطأ وصدّقه الوليّ ينتفى القصاص وتثبت الدية على المقرّ لا على العاقلة ، لعدم نفوذ إقراره في حقّهم ، ولو كان مقروناً بتصديق الوليّ لجواز التواطؤ عليه ، كما لا يخفى .
وإن وقع الاختلاف بين المقرّ والوليّ ففيه فروض ثلاثة:
الأوّل: ما إذا كان الوليّ مدّعياً والمقرّ منكراً ، كما إذا ادّعى الوليّ العمد وأنكره المقرّ ، ولا إشكال في أنّ القول قول المقرّ الجاني بيمينه لكونه منكراً .
الثاني: ما إذا كان المقرّ مدّعياً للخطأ والوليّ منكراً له ، واستظهر في المتن أنّ القول قول الوليّ بيمينه، لكونه منكراً لمايدّعيه المقرّ. وظاهر الفاضلين في الشرائع(1)
(1) شرائع الإسلام: 4 / 994 .
(الصفحة203)
مسألة 4 ـ لو شهد أحدهما بمشاهدة القتل عمداً ، والآخر بالقتل المطلق ، وأنكر القاتل العمد وادّعاه الولي ، كان شهادة الواحد لوثاً ، فإن أراد الولي إثبات دعواه فلابدّ من القسامة1.
والقواعد(1) اشتراك هذا الفرض مع الأوّل في تقديم قول الجاني ، نظراً إلى أنّه أمر لابدّ من الرجوع إليه ، لكونه بياناً وتفسيراً لإقراره ، ولا يعرف ذلك إلاّ من قبله ، ولكنّ الظاهر ما في المتن لما ذكر .
الثالث: ما إذا كان كلّ واحد منهما مدّعياً ، بأن كان الوليّ مدّعياً للعمد ، والمقرّ مدّعياً للخطأ . والحكم فيه يمين كلّ منهما ، ومقتضاها سقوط الدعويين ، والظاهر الرجوع إلى الدية في مال المقرّ . ومقتضى الاحتياط المصالحة عليها ، كما لا يخفى .
1 ـ الوجه في كون شهادة الواحد لوثاً عدم التكاذب والتعارض بين الشاهدين ، لعدم تعرّض الآخر لصفة العمد لا نفيه لها . وعدم التعرّض المذكور وإن كان يوجب عدم ثبوت قتل العمد الذي هو موجب القصاص إلاّ أنّه لا يوجب أن لا تكون شهادة الواحد لوثاً ، فيكون كما لو لم يكن هناك شاهداً آخر . نعم لا ينبغي الإشكال في ثبوت أصل القتل بذلك ، فإن أراد الوليّ القصاص لادّعائه كون القتل بنحو العمد لابدّ له في إثبات دعواه من القسامة ، وإلاّ فتثبت الدية .
وهذا بخلاف ما إذا شهد أحدهما بالقتل عمداً والآخر بالقتل خطأً ، فإنّه لا تكون شهادة الأوّل لوثاً ، وإن اختاره العلاّمة في التحرير(2) ، بل ولا يثبت أصل
(1) قواعد الأحكام: 2 / 294 .
(2) تحرير الأحكام 2 : 251 .
(الصفحة204)
مسألة 5 ـ لو شهد اثنان بأنّ القاتل زيد مثلاً ، وآخران بأنّه عمرو دونه ، قيل: يسقط القصاص ووجب الدية عليهما نصفين لو كان القتل المشهود به عمداً أو شبيهاً به ، وعلى عاقلتهما لو كان خطأ . وقيل : إنّ الولي مخيّر في تصديق أيّهما
القتل بذلك ، وإن استشكل فيه في القواعد(1) .
أمّا أصل القتل فربّما يقال فيه بالثبوت ، لاتّفاق الشهادتين في ثبوته ، واختلافهما في الصفة . والفرق بين هذا المقام وبين ما تقدّم من الاختلاف في الخصوصيات الراجعة إلى الزمان أو المكان أو آلة القتل أو نحوها حيث لا يثبت أصل القتل فيه كما مرّ ، بأنّ تلك الخصوصيات إنّما كانت مرتبطة ومضافة إلى القتل ، لكونها ظرفاً زمانيّاً أو مكانياً للفعل أو آلة لتحقّقه وأشباههما ، وأمّا خصوصية العمديّة والخطئيّة فمرتبطة بالفاعل ، من جهة كونه قاصداً ومريداً وعدم كونه كذلك ، فلا مجال للتشبيه .
ولكن يدفعه أنّ الفعل كما له إضافة وارتباط بالأمور المذكورة ، كذلك له إضافة بالفاعل من جهة القصد وعدمه ، ولذا يترتّب عليه الحسن والقبح ، فالعمل الصادر عن قصد يغاير العمل الصادر عن غيره . وحينئذ فلا فرق بين أن يكون الاختلاف في الأُمور المذكورة ، وبين أن يكون في جهة العمد والخطأ . وعليه فلا يثبت أصل القتل ، لثبوت التعارض والتكاذب .
ومنه يظهر عدم كون هذا الفرض لوثاً ، لأنّ مورده صورة وجود الشاهد الواحد الخالي عن المعارض الموجب للسقوط ، فمع وجود المعارض لا يتحقّق اللّوث بوجه ، كما لا يخفى .
(1) قواعد الأحكام: 2 / 294 .
(الصفحة205)
شاء ، كما لو أقرّ اثنان كلّ واحد بقتله منفرداً ، والوجه سقوط القود والدية جميعاً1.
1 ـ يستفاد من الجواهر(1) أنّ صحّة تصوير قيام البيّنتين إمّا أن تكون لأجل اختيار صحّة التبرّع بالشهادة بالدّم ، أو لأجل ثبوت وكيلين للمدّعي وادّعاء كل واحد منهما مقروناً بإقامة بيّنة خاصّة ، أو لأجل القول بأنّه يجوز للمدّعى عليه إبراء نفسه بإقامة البيّنة على أنّ القاتل غيره .
ويمكن أن يكون لأجل تخيّل المدّعي أنّ الأربعة يشهدون بكون القاتل فلاناً ، ثم رأى الاختلاف بينهما عند الحاكم من جهة المشهود عليه ، ويمكن أن يكون لغير ذلك ، وكيف كان ففي المسألة أقوال:
أحدها: سقوط القصاص وتنصيف الدية عليهما أو على العاقلة بالنحو المذكور في المتن . وحكي هذا القول عن الشيخين في المقنعة(2) والنهاية(3) ، والقاضي(4)والصهرشتي وأبي منصور الطبرسي(5) ، والفاضل في بعض كتبه(6) وولده(7) وأبي العبّاس(8) .
ومرجعه إلى تعارض البيّنتين وتساقطهما بالإضافة إلى ما يترتّب على قتل العمد
(1) جواهر الكلام: 42 / 218 ـ 219 .
(2) المنقعة: 737 .
(3) النهاية: 742 .
(4) المهذّب : 2 / 502 .
(5) حكى عنهما في مفتاح الكرامة: 11 / 47 .
(6) مختلف الشيعة: 9 / 314 مسألة 22 ، تحرير الأحكام: 2 / 251 .
(7) إيضاح الفوائد: 4 / 608 .
(8) المقتصر : 431 .
(الصفحة206)
من القصاص ، وإن كان المشهود به لكليهما هو قتل العمد ، ولكن لا تتساقطان بالإضافة إلى الدية ، بل تثبت بالاشتراك والتنصيف بينهما أو بين عاقلتهما .
أقول: أمّا سقوط القصاص في قتل العمد مع تعارض البيّنتين ، فلا شبهة فيه بعدما عرفت من أنّ اختلافهما في الخصوصيات مثل الزمان والمكان يوجب تساقطهما ، فإنّه إذا كان الاختلاف في الزمان مثلاً موجباً لعدم ترتّب الأثر على شيء من البيّنتين مع عدم مدخليته في القصاص أصلاً; لأنّ الموجب له هو قتل العمد بلا مدخلية للزمان ، فالاختلاف في تعيين القاتل موجب للسقوط بطريق أولى .
هذا ، مضافاً إلى أنّ الاقتصاص من كليهما مع العلم ببراءة أحدهما وعدم صدور القتل منه بوجه لا مجال له أصلاً . والاقتصاص من أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، وتخيير الوليّ كما في الإقرارين لا دليل له بعد كون مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين هو التساقط ، كما حقّق في الأصول . وأمّا القرعة فلا مجال لها أصلاً ، لا لما في الجواهر(1) من الاحتياط في الدماء ، بل لعدم العلم الإجمالي بعدم خروج القاتل عنهما .
وأمّا ثبوت الدية عليهما أو على عاقلتهما بنحو التنصيف ، فربّما يستدلّ عليه بأنّه إن لم نقل بذلك يلزم إمّا بطلان دم امرىء مسلم إن لم نقل بثبوت الدية أصلاً ، أو إيجاب شيء بغير سبب ولا علّة ، إن قلنا بثبوتها على الأجنبي الذي هو شخص ثالث ، أو الترجيح بلا مرجّح إن أوجبناه على أحدهما المعيّن ، فاللاّزم هو الحكم
(1) جواهر الكلام: 42 / 219 .
(الصفحة207)
بالثبوت عليهما بنحو الاشتراك(1) .
ويرد عليه أنّ هذا الدليل لا يقتضي ارتباط القتل واستناده بهما ، بعد تعارض الأمارتين واقتضائه التساقط ، فاللاّزم الحكم بثبوت الدية على بيت المال مثلاً ، كسائر الموارد التي لا يعرف القاتل بوجه .
هذا ، مضافاً إلى أنّه يمكن القول بالتخيير الذي مرجعه إلى عدم العلم بأخذ الدّية ممّن لا يكون قاتلاً ، بخلاف التشريك والتنصيف .
وبالجملة: إثبات ذلك من طريق القاعدة ـ كما رامه المستدلّ ـ مشكل بل ممنوع جدّاً . نعم يمكن القول بأنّ فتوى الشيخين في كتابي المقنعة(2) والنهاية(3) ـ اللّتين هما من الكتب المعدَّة لنقل فتاوي الأئمّة (عليهم السلام) بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، كما هو الشأن في تدوين الكتب الفقهية في الأزمنة السالفة إلى زمن تأليف مبسوط الشيخ ـ يكشف عن وجود نصّ دالّ على ذلك ، وأنّ ذلك النصّ كان مفتى به لهما . ويؤيّده تصريح السرائر(4) والتحرير(5) بثبوت الرواية في المقام .
هذا ، ولكنّه حيث لا تكون الرواية واصلة إلينا ولا منقولة في كتب الحديث ، وفتويهما وإن كانت كاشفة عن النصّ لما ذكر ، إلاّ أنّه حيث تكون الرواية المكشوفة بهذا الطريق مرسلة لا محالة ; لعدم تعرّضهما لذكر السند ، فإن كان مفتى بها عند المشهور لكان إرسالها منجبراً باستناد المشهور إليها ، وأمّا مع عدم تحقّق الشهرة
(1) راجع إيضاح الفوائد: 4 / 608 والمهذّب البارع: 5 / 203 ـ 204 .
(2) المقنعة: 737 .
(3) النهاية: 742 .
(4) السرائر: 3 / 341 .
(5) تحرير الأحكام : 2 / 251 .
(الصفحة208)
فلا يبقى مجال للانجبار ، ولأجله لا يمكن الفتوى على طبقها مع كونها مخالفة للقاعدة ، كما عرفت .
ثانيها: كون الوليّ مخيّراً في تصديق أيّهما شاء ، كما لو أقرّ اثنان كلّ واحد بقتله منفرداً ، وهو محكي عن ابن إدريس(1) وعن المحقّق الثاني الجزم به(2) ، وعمدة ما استدلّ به عليه ثبوت التخيير فيما لو شهد اثنان على واحد بأنّه القاتل وأقرّ آخر بالقتل ، وقياس المقام عليه ، ويرد عليه ـ مضافاً إلى عدم معلومية ثبوت التخيير هناك كما يأتي في المسألة السادسة إن شاء الله تعالى ـ أنّه على تقديره لا مجال للقياس ، خصوصاً في الحكم المخالف للقاعدة ، لما عرفت من اقتضائها التساقط .
ثمّ إنّه ذكر في الجواهر عقيب هذا القول وردّه ما لفظه: «وللمصنّف ـ أي المحقّق ـ تفصيل في نكت النهاية ، تبعه عليه تلميذه الآبي في كشف الرموز(3) ، وأبو العبّاس فيما حكي عنه(4) والمقداد(5) ، بل كأنّه مال إليه الشهيدان(6) ، فإنّه بعد أن أورد كلام السائل عن عبارة النهاية مورداً عليها بأنّه لم يعمل بشيء من الشهادتين ، فإيجاب الدية عليهما حكم بغير بيّنة ولا إقرار ، ثم الشهادة ليست بأنّهما اشتركا قال: الجواب ، الوجه: أنّ الأولياء إمّا أن يدّعوا القتل على أحدهما ، أو يقولوا: لا نعلم ، فإن ادّعوه على أحدهما قتلوه ، لقيام البيّنة على الدعوى ، وتهدر البيّنة
(1) السرائر: 3 / 341 ـ 342 .
(2) حكى عنه في مفتاح الكرامة : 11 / 49 .
(3) كشف الرموز: 2 / 614 ـ 615 .
(4) المهذّب البارع: 5 / 203 ـ 205 .
(5) التنقيح الرائع: 4 / 435 ـ 436 .
(6) غاية المراد: 386 ـ 387 ، المسالك: 15 / 192 .
(الصفحة209)
مسألة 6 ـ لو شهدا بأنّه قتل عمداً ، فأقرّ آخر أنّه هو القاتل وأنّ المشهود عليه بريء من قتله ، ففي رواية صحيحة معمول بها: إن أراد أولياء المقتول أن يقتلوا الذي أقرّ على نفسه فليقتلوه ، ولا سبيل لهم على الآخر ، ثمّ لا سبيل لورثة الذي أقرّ على نفسه على ورثة الذي شهد عليه ، وإن أرادوا أن يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوه ، ولا سبيل لهم على الّذي أقرّ ، ثم ليؤد الذي أقرّ على نفسه إلى أولياء
الأُخرى ، فلا يكون لهم على الآخر سبيل . وإن قالوا: لا نعلم ، فالبيّنتان متعارضتان على الانفراد لا على مجرّد القتل ، فيثبت القتل من أحدهما ، ولا يتعيّن ، والقصاص يتوقّف على تعيين القاتل ، فيسقط وتجب الدية ; لأنّه ليس نسبة القتل إلى أحدهما أولى من نسبته إلى الآخر(1) .
وفيه: إنّه تخصيص لكلام الشيخين والجماعة بالصورة الثانية ، وهو مناف لإطلاقهم المبني ظاهراً على اعتبار البيّنة الثانية ، وإن كانت على التبرّع ، وعليه يتّجه التعارض حينئذ وإن صدّق الولي أحدهما(2) . انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ثالثها: سقوط القود والدية جميعاً ، وهو مختار المتن ، والوجه فيه بعد عدم ثبوت رواية خاصّة معتبرة في المقام ، وعدم دليل على التخيير فيه ، لزوم الرجوع إلى القاعدة التي مقتضاها التساقط ، وعدم ترتّب الأثر على شيء من البيّنتين . وعدم بطلان دم امرىء مسلم لا يقتضي ضمانهما أو أحدهما للدّية كلاًّ أو بعضاً ، بل الحكم فيه مثل ما إذا لم يكن هناك بيّنة أصلاً من الثبوت على بيت مال المسلمين ، كما لايخفى .
(1) نكت النهاية : 3/374 ـ 375 .
(2) جواهر الكلام: 42 / 221 ـ 222 .
(الصفحة210)
الذي شهد عليه نصف الدية ، وإن أرادوا أن يقتلوهما جميعاً ذاك لهم ، وعليهم أن يدفعوا إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصّاً دون صاحبه ثم يقتلوهما ، وإن أرادوا أن يأخذوا الدية فهي بينهما نصفان ، والمسألة مشكلة جدّاً يجب الاحتياط فيها وعدم التهجّم على قتلهما1.
1 ـ مورد هذه المسألة كما يظهر من المسألة السابعة الآتية ما إذا لم يكن أولياء الميّت مدّعين للقتل على أحدهما بالخصوص ، وفيه صورتان: لانّه تارة لا يعلم بعدم ثبوت الاشتراك بينهما ، بل يحتمل صدوره بنحو الشركة ، واُخرى يعلم بالعدم وأنّه كان القتل متحقّقاً بنحو الانفراد ، ولابدّ قبل ملاحظة الرواية الصحيحة الواردة في المقام من ملاحظة مقتضى القاعدة في الصورتين ، فنقول:
أمّا الصورة الأولى: فربّما يقال: إنّ مقتضى القاعدة فيها جواز قتلهما معاً ; لأنّ البيّنة القائمة لا تخلو إمّا أن تكون لها دلالة التزامية على نفي اشتراك غيره في القتل ، أو لا تكون لها هذه الدلالة ، وعلى كلا التقديرين لا تنفي اشتراك الغير بوجه ، أمّا على الفرض الثاني فواضح ، وأمّا على الفرض الأوّل فلسقوط الدلالة الالتزامية بالإقرار المثبت لكون القاتل هو المقرّ ، وصراحة الإقرار في نفي الغير كما هو المفروض لا تقدح بعد كون دائرة حجّية الإقرار محدودة بما كان مضافاً إلى نفس المقرّ وثابتاً عليه .
وأمّا ما هو خارج عن هذه الدائرة كنفي الغير في المقام فلا يكون الإقرار حجّة بالنسبة إليه .
فالجمع بين البيّنة والإقرار يقتضي ثبوت القتل بنحو الاشتراك ، ومقتضاه جواز قتل أحدهما وكذا قتل كليهما ، غاية الأمر أنّه في صورة قتل كليهما يجب على أولياء المقتول ردّ نصف الدية إلى ورثة المشهود عليه ، ولا يجب ردّ نصف آخر إلى ورثة
(الصفحة211)
المقرّ بعد اقتضاء إقراره عدم استحقاق الديه مع قصاصه بوجه ، كما أنّه في صورة قتل المقرّ فقط لا يجب على المشهود عليه ردّ نصف الدية إلى ورثة المقرّ بعد الاقتضاء المذكور . نعم في صورة قتل المشهود عليه يجب على المقرّ ردّ نصف الدية إلى ورثته ، كما أنّه في صورة اختيار الدية يجب على كلّ منهما أداء النصف ، كما هو ظاهر .
وأمّا الصورة الثانية: فهل مقتضى القاعدة فيها التساقط ، كما في تعارض البيّنتين على ما مرّ ، أو التخيير كما في تعارض الإقرارين على ما مرّ أيضاً ، أو الأخذ بخصوص الإقرار وعدم ترتيب الأثر على البيّنة؟ وجوه:
والظاهر هو الوجه الأخير ; لأنّ بناء العقلاء على الأخذ بالإقرار وترجيحه على البيّنة المعارضة كما يظهر من المراجعة إليهم ، ولعلّ منشأه أنّ الإقرار شهادة على النفس والبيّنة شهادة على الغير ، ومن الواضح أنّ الأوّل أقوى ، كما لا يخفى .
وأمّا الرواية فهي رواية زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل قتل فحمل إلى الوالي ، وجاءه قوم فشهد عليه الشهود أنّه قتل عمداً ، فدفع الوالي القاتل إلى أولياء المقتول ليقاد به ، فلم يريموا حتّى أتاهم رجل فأقرّ عند الوالي أنّه قتل صاحبهم عمداً ، وأنّ هذا الرجل الذي شهد عليه الشهود بريء من قتل صاحبه ، فلا تقتلوه به وخذوني بدمه؟
قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام) : إن أراد أولياء المقتول أن يقتلوا الذي أقرّ على نفسه فليقتلوه ولا سبيل لهم على الآخر ، ثمّ لا سبيل لورثة الذي أقرّ على نفسه على ورثة الذي شهد عليه ، وإن أرادوا أن يقتلوا الذي شهد عليه فليقتلوا ولا سبيل لهم على الذي أقرّ ، ثم ليؤدّ الدّية الذي أقرّ على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية ، قلت: أرأيت إن أرادوا أن يقتلوهما جميعاً؟ قال: ذاك لهم ، وعليهم أن يدفعوا
(الصفحة212)
إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الدية خاصّاً دون صاحبه ، ثم يقتلونهما .
قلت: إن أرادوا أن يأخذوا الدّية؟ قال: فقال: الدّية بينهما نصفان ، لأنّ أحدهما أقرّ والآخر شُهد عليه ، قلت: كيف جعلت لأولياء الذي شهد عليه على الذي أقرّ نصف الدية حيث قتل ، ولم تجعل لأولياء الذي أقرّ على أولياء الذي شهد عليه ولم يقرّ؟ قال: فقال: لأنّ الذي شهد عليه ليس مثل الّذي أقرّ ، الذي شهد عليه لم يقرّ ولم يبرأ صاحبه ، والآخر أقرّ وبرأ صاحبه ، فلزم الذي أقرّ وبرأ صاحبه ما لم يلزم الذي شهد عليه ولم يقرّ ولم يبرأ صاحبه(1) .
والمراد بقول زرارة في صدر السؤال: «رجل قتل» هو المتّهم بالقتل ، لا الصدور منه قطعاً . والمراد بقوله (عليه السلام) : «لا سبيل لهم على الآخر . . . أو على الذي أقرّ» هو عدم السبيل من جهة أخذ الدية ، ويحتمل أن يكون المراد أنّه مع اختيار قتل أحدهما ، ثم القتل لا يبقى له مجال لقتل الآخر مع تجدّد الإرادة ، وإن كان يجوز له أوّل الأمر اختيار قتل كليهما .
ثم لم يتبيّن وجه التعبير بالورثة أو الأولياء في كلام الإمام والسائل في صورة قتل المقرّ ، مع أنّ المشهود عليه حينئذ بنفسه باق ، وعل تقدير لزوم الأداء لابدّ أن يكون المؤدّى هو المشهود عليه لا الورثة ، كما لا يخفى .
وهل الرواية ناظرة إلى كلتا صورتي المسألة ، أو تختصّ بخصوص صورة احتمال الشركة وعدم العلم بعدمها ، أو بخصوص صورة العلم بعدم الشركة؟
يظهر الأوّل من صاحب الجواهر(2) ، والثاني من بعض الأعلام(3) ، والثالث من
(1) وسائل الشيعة: 19 / 108 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 5 ح1 .
(2) جواهر الكلام: 42 / 224 .
(3) مباني تكملة المنهاج: 2 / 100 ـ 101 مسألة 108 .
(الصفحة213)
المحقّق في الشرائع ، حيث أنّه بعد نقل مفاد الرواية والإشارة إليها قال: وفي قتلهما إشكال لانتفاء الشركة ، وكذا في إلزامهما بالدية نصفين ، ثم قال: والقول بتخيير الوليّ في أحدهما وجه قوي ، غير انّ الرواية من المشاهير(1) .
فإنّ التعليل بانتفاء الشركة ظاهر في أنّ المورد صورة العلم بعدمها ، وإن فسّره في الجواهر بقوله: كما هو مقتضى البيّنة والإقرار ، وخصوصاً مع علم المدعي بعدم ذلك(2) ، إلاّ أنّ الظاهر عدم كون هذا التفسير مراداً للمصنّف ، بل انتفاء الشركة إنّما هو مع قطع النظر عن البيّنة والإقرار .
وكيف كان فيظهر من تفسير صاحب الجواهر أنّ الرواية عنده ناظرة إلى الصورتين ، غاية الأمر حمل عبارة المتن أيضاً على ذلك .
والظاهرهوالوجه الأخير; لأنّه بملاحظة هذه المسألة مع المسألة المتقدّمة الواردة في تعارض البيّنتين يظهرأنّه لااختلاف بين المسألتين من حيث المورد، وأنّ الاختلاف يرجع إلى كون التعارض هناك إنّما هو بين البيّنتين ، وهنا بين البيّنة والإقرار .
فلو كانت هذه المسألة لها صورتان والرواية ناظرة إلى كلتيهما لكان اللاّزم هناك أيضاً تصويرهما ، والفرق بين الصورتين خصوصاً مع أنّه لم يرد هناك نصّ ظاهر معتبر . وعليه كان اللاّزم إجراء أحكام الشركة في القتل في إحدى الصورتين ، مع أنّه لم ينقل عن أحد ذلك كما تقدّم .
فيظهر أنّ المورد صورة العلم بالعدم مع قطع النظر عن البيّنتين ، وعليه فمورد مسألتنا هذه أيضاً تكون هذه الصورة .
(1) شرائع الإسلام: 4 / 995 .
(2) جواهر الكلام: 42 / 224 .
(الصفحة214)
نعم يمكن أن يقال: بأنّ مورد المسألة وإن كانت صورة واحدة ، إلاّ أنّه لا يمنع أن تكون الرواية بنفسها ناظرة إلى كلتا الصورتين أو الصورة المقابلة لتلك الصورة .
ولكنّ الظاهر أنّ الأصحاب بأجمعهم قد فهموا من الرواية صورة العلم بعدم الشركة ، أعمّ ممّن عملوا بها وأفتوا على طبقها ، وممّن لم يعملوا بها وأفتوا على طبق القاعدة باعتقادهم .
أمّا العاملون بها ـ كما هو المشهور ـ بل في محكي الرياض: قد صرّحوا بشهرة الرواية مشعرين ببلوغها درجة الإجماع(1) ولعلّه كذلك ، فقد أفتى به الشيخ(2)وأتباعه(3) والإسكافي(4) والحلبي(5) وغيرها ، بل لم نرَ لهم مخالفاً عدا من مرّ ، وعبائرهم غير صريحة في لمخالفة عدا الحلي(6) وفخر الدين(7) . إلى آخره»(8) .
فلأنّهم تمسّكوا بها في مسألة تعارض البيّنة والإقرار التي أوردوها عقيب مسألة تعارض البينتين التي عرفت أنّ موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ولذا لم يقل أحد فيها بجواز قتل كلا المشهود عليهما . والظاهر اتّحاد مورد المسألتين كما مرّ آنفاً ، فيظهر أنّهم قد فهموا من الرواية خصوص هذه الصورة .
وأمّا غير العاملين بالرواية إمّا لأجل عدم حجّية خبر الواحد ، أو لأجل كونها
(1) شرائع الإسلام: 4 / 995 ، مسالك الأفهام: 15 / 194 .
(2) النهاية: 743 .
(3) المهذّب: 2 / 502 ، إصباح الشيعة: 493 ـ 494 ، غنية النزوع: 407 .
(4) حكاه عنه في مختلف الشيعة: 9 / 315 ـ 316 مسألة 23 .
(5) الكافي في الفقه: 387 .
(6) السرائر : 3 / 342 ـ 343 .
(7) إيضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
(8) رياض المسائل: 10 / 310 .
(الصفحة215)
مخالفة للقواعد من وجوه مختلفة ، كالحلّي(1) والعلاّمة في التحرير(2) ، وفخر الدين في الإيضاح(3) ، وبعض آخر(4) فلأجل أنّ ما ذهبوا إليه هو الحكم بالتخيير .
وهذا يدلّ على ما ذكرنا من وجهين من جهة أنّ الرواية لو لم تكن مخالفة للقاعدة لما كان وجه لطرحها ، وهي إنّما تتمّ على تقدير كون موردها صورة العلم بعدم الشركة ، ومن جهة نفس الفتوى بالتخيير الكاشفة عن كون موردها خصوص هذه الصورة ، وإلاّ لقالوا بجواز قتل كليهما ولو في إحدى صورتي المسألة .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا محيص عن الحكم على طبق الرواية ولو مع العلم بعدم الشركة ، ومخالفتها للقواعد لا تقدح بعد كون اعتبار حجّية الخبر إنّما هو للاستفادة منه فيما إذا كان مخالفاً للقاعدة ، ضرورة أنّه مع الموافقة لا حاجة إلى الخبر بوجه ، فتدبّر .
وعليه فيظهر صحّة ما أفاده صاحب الجواهر من أنّه لا بأس بالخروج بمثلها عن القواعد ، بل لعلّ طرحها والعمل بما تقتضيه القواعد كالاجتهاد في مقابلة النصّ(5) .
كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لإيجاب الاحتياط كما في المتن ، لأنّه لا يبقى لوجوبه مجال مع وجود الرواية الصحيحة الصريحة ، كما عرفت .
(1) السرائر: 3 / 342 ـ 343 .
(2) تحرير الأحكام: 2/251، وكذا ظاهر قوله في قواعدالأحكام: 2/295 ومختلف الشيعة: 9/316 مسألة 23.
(3) ايضاح الفوائد : 4 / 609 ـ 610 .
(4) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4 / 437 .
(5) جواهر الكلام: 42 / 225 .
(الصفحة216)
مسألة 7 ـ لو فرض في المسألة المتقدّمة إنّ أولياء الميّت ادّعوا على أحدهما دون الآخر سقط الآخر ، فإن ادّعوا على المشهود عليه سقط إقرار المقرّ ، وإن ادّعوا على المقرّ سقطت البيّنة1.
1 ـ صرّح بذلك المحقّق في محكيّ نكت النهاية(1) ، وتبعه على ذلك أبوالعبّاس(2) والمقداد(3) والفاضل الاصبهاني(4) . والوجه فيه واضح ، ضرورة أنّه مع فرض كون الدعوى من أولياء الميّت على خصوص المقرّ لا يجوز لهم الرجوع إلى المشهود عليه والاقتصاص منه أو أخذ الدّية عنه . والرواية في المسألة المتقدّمة لا تكون شاملة لهذه الصورة ، لوضوح أنّ موردها ما إذا لم يكن للأولياء دعوى على خصوص أحدهما ، فالحكم في الرواية وإن كان مخالفاً للقاعدة ولا محيص عن الأخذ به إلاّ أنّها لا تشمل هذه الصورة قطعاً ، كما انّه لو فرض كون الدعوى على خصوص المشهود عليه لا يسوغ لهم الرجوع إلى المقرّ بعد اعتقادهم عدم جواز الاقتصاص منه ولا أخذ الدية منه ، وعليه فيظهر أنّ مورد المسألة المتقدّمة ما إذا كان الأولياء غير عالمين بالقاتل ولا مدّعين على أحد .
(1) النهاية ونكتها: 3 / 377 .
(2) المهذّب البارع: 5 / 207 .
(3) التنقيح الرائع: 4 / 437 .
(4) كشف اللثام: 2 / 460 .
(الصفحة217)
الثالث : القسامة
والبحث فيها في مقاصد :
الأوّل: في الّلوث
والمراد به أمارة ظنّية قامت عند الحاكم على صدق المدّعي ، كالشاهد الواحد أو الشاهدين مع عدم استجماع شرائط القبول ، وكذا لو وجد متشحّطاً بدمه وعنده ذو سلاح عليه الدّم ، أو وجد كذلك في دار قوم أو في محلّة منفردة عن البلد لا يدخل فيها غير أهلها ، أو في صفّ قتال مقابل الخصم بعد المراماة . وبالجملة كلّ أمارة ظنّية عند الحاكم توجب اللّوث ، من غير فرق بين الأسباب المفيدة للظّن فيحصل اللّوث بإخبار الصبي المميِّز المعتمد عليه والفاسق الموثوق به في اخباره ، والكافر كذلك والمرأة ونحوهم1.
1 ـ قال في الجواهر في معنى القسامة : هي الأيمان تقسم على جماعة يحلفونها كما في الصحاح(1) . أو الجماعة الذين يحلفونها كما في القاموس(2) . ولا يبعد صدقها عليهما كما عن المصباح(3) . وعن غير واحد: أنّها لغة اسم للأولياء الّذين يحلفون على دعوى الدم ، وفي لسان الفقهاء اسم للأيمان ، وعلى التقديرين هي اسم أُقيم مقام المصدر ، يقال: أقسم إقساماً وقسامة ، وهي الاسم له . يقال: أكرم إكراماً وكرامة ، ولا اختصاص لها بأيمان الدماء لغة ، ولكنّ الفقهاء خصّوها بها(4) .
(1) الصحاح: 5 / 2010 .
(2) القاموس المحيط: 4 / 166 .
(3) المصباح المنير: 2 / 690 .
(4) جواهر الكلام: 42 / 226 .
(الصفحة218)
والقسامة جارية في خصوص القتل ومثله ، ولا تجري في سائر الحقوق ، والوجه فيها كما يظهر من بعض الروايات أنّها إنّما جعلت ليحقن بها دماء المسلمين ، نظراً إلى أنّه بدونها تتحقّق الجرأة على القتل نوعاً ، لأنّه بعد عدم كون القاتل مقرّاً بالقتل نوعاً ، وعدم كون البيّنة حاضرة عند تحقّق القتل كذلك ـ لو لم تشرع القسامة مضافة إلى الإقرار والبيّنة ـ يلزم بطلان دماء المسلمين وصيرورتها هدراً ، فالغرض من تشريعها إنّما هو ذلك ، والظاهر أنّها من وضع الإسلام ، وعدم ثبوت السابقة لها قبله ، كما يظهر من بعض الروايات الآتية أيضاً .
وأمّا اللّوث فهو لغة القوّة ، أو من التلوّث وهو التلطّخ . والأوّل يناسب تفسيره بأنّه أمارة ظنّية قامت عند الحاكم على صدق المدّعى كالأمثلة المذكورة في المتن; لأنّه يوجب تقوّى دعوى المدّعي . والثاني يناسب تفسيره بالتهمة وسوء الظّن التي يوجب تلك الأمارات تحقّقها ، وتوجب تلوّث المتّهم وتلطّخه ، وكلا التفسيرين يظهر من المتن .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ أصل اعتبار القسامة لإثبات القتل ، فقد ذكر في الجواهر ـ بعد قوله: ولم نجد مخالفاً في ذلك من العامة والخاصّة إلاّ عن الكوفي منهم(1) ـ : هي من الضروريات بين علماء المسلمين(2) .
كما أنّ اعتبار اللّوث في القسامة بمعنى عدم اعتبارها بدونه ، بخلاف الإقرار والبيّنة ، حيث لا يشترط في اعتبارهما اللّوث بوجه ، ضرورة اعتبار الإقرار ولو لم يكن المقرّ متَّهماً بالقتل بوجه . كما أنّه من الواضح اعتبار البيّنة ولو لم يكن المشهود
(1) نيل الأوطار: 7 / 38 ، حاشية ردّ المحتار: 6 / 627 ، الخلاف: 5 / 303 مسألة 1 .
(2) جواهر الكلام: 42 / 227 .
(الصفحة219)
عليه متّهماً كذلك . فقد ادّعى عليه الشيخ في محكيّ الخلاف الإجماع(1) ، وكذا صاحب الغنية(2) ، ولابدّ من ملاحظة النّصوص الواردة في المقام ليظهر اعتبار القسامة أوّلاً ، وأنّه هل تدلّ على اعتبار اللّوث فيها أم لا ثانياً؟ حيث إنّه يظهر من المقدّس الأردبيلي عدم دلالة هذه النصوص على ذلك ، حيث قال: وكأنّ لهم على ذلك إجماعاً أو نصّاً ما اطّلعت عليه(3) ، فنقول:
منها: صحيحة بريد بن معاوية ، التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن القسامة؟ فقال: الحقوق كلّها البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلاّ في الدّم خاصّة ، فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بينما هو بخيبر ، إذ فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً ، فقالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيده (أقده) برمّته ، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلاً أقيده برمّته .
فقالوا: يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا ، وإنّا لنكره أن نقسم على ما لم نره ، فودّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة; لكي إذا رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوّه حجزه مخافة القسامة أن يقتل به ، فكفّ عن قتله; وإلاّ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً; وإلاّ اُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون(4) .
ودلالتها على اعتبار القسامة واضحة ، وأمّا اعتبار اللّوث فيها فموردها وإن
(1) الخلاف : 5 / 303 مسألة 1 .
(2) غنية النزوع: 441 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان: 14 / 183 .
(4) وسائل الشيعة: 19 / 114 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب9 ح3 .
(الصفحة220)
كانت صورة تحقّق اللّوث والتهمة إلاّ أنّه لا يظهر من الرواية مدخليّته فيها ; لعدم كون المورد موجباً للتقييد ، كما أنّ ذكر الفاجر الفاسق في مقام التعليل لا دلالة له على أنّه لأجل تحقّق الاتّهام ، بل يمكن أن يكون لأجل عدم صدور القتل من غيره نوعاً ، أو تحقّق الإقرار بعد القتل كذلك ، فتدبّر .
ومنها: رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن القسامة أين كان بدؤها؟ فقال: كان من قبل رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمّا كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الأنصار عن أصحابه ، فرجعوا في طلبه فوجدوه متشحّطاً في دمه قتيلاً ، فجاءت الأنصار إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله قتلت اليهود صاحبنا ، فقال: ليقسم منكم خمسون رجلاً على أنّهم قتلوه ، قالوا: يا رسول الله كيف نقسم على ما لم نرَ؟ قال: فيقسم اليهود ، قالوا: يا رسول الله من يصدّق اليهود؟ فقال: أنا إذن أدّي صاحبكم ، فقلت له: كيف الحكم فيها؟
فقال: إنّ الله عزّوجلّ حكم في الدّماء ما لم يحكم في شيء من حقوق الناس لتعظيمه الدّماء ، لو أنّ رجلاً ادّعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقلّ من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين على المدّعي ، وكانت اليمين على المدّعى عليه ، فإذا ادّعى الرّجل على القوم أنّهم قتلوا كانت اليمين لمدّعي الدّم قبل المدّعى عليهم ، فعلى المدّعي أن يجيء بخمسين يحلفون أنّ فلاناً قتل فلاناً ، فيدفع إليهم الذي حلف عليه ، فإن شاؤوا عفوا ، وإن شاؤوا قتلوا ، وإن شاؤوا قبلوا الدّية ، وإن لم يقسموا فإنّ على الذين ادّعي عليهم أن يحلف خمسون ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً ، فإن فعلوا أدّى أهل القرية الّذين وجد فيهم ، وإن كان بأرض فلاة أُدّيت ديته من بيت المال ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرىء مسلم(1) .
(1) وسائل الشيعة: 19 / 118 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 10 ح5 .
|