(الصفحة361)
ومع عدم الأوّل لا يبقى مجال للانتقال . نعم ، في الشرائع: وكذا ـ أي يصحّ ضمان ـ ما ليس بلازم ، ولكن يؤول إلى اللزوم كمال الجعالة قبل فعل ما شُرط عليه ، وكمال السبق والرماية على تردّد (1) ، والظاهر أنّ قوله تعالى حكاية عن المنادي من قبل يوسف : {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}(2) لا دليل على جواز الضمان في الجعالة قبل تحقّق العمل ; لأنّ هذا الأمر كان أمراً صوريّاً ، والمنادي عالم بثبوت صواع الملك عند أحدهم ; لأنّه بنفسه وضعه فيه ، فلا يمكن أن يستفاد منه الجواز في مطلق مال الجعالة قبل تحقّق العمل ، ولعلّ هذا هو منشأ ترديد المحقّق ; لأنّ مرجعه في الحقيقة إلى ضمان ما لم يجب; لفرض عدم تحقّق العمل بعد .
ولكن يمكن أن يُقال بأنّه لو لم يكن ضمان مال الجعالة مشروعاً قبل تحقّق العمل لما وقع في الكتاب; لعدم علم العامل بذلك أصلاً ، فيكشف ذلك عن الصحّة قبله ، ولعلّه هو المنشأ للطرف الآخر لترديد المحقّق ، ولم يقم دليل على بطلان ضمان ما لم يجب بهذا العنوان حتّى يستفاد منه البطلان في الموارد المذكورة وأشباهها ، والسرّ فيه ما اُشير إليه من أنّه وإن كان غير لازم بالفعل ، لكن يؤول ويرجع إلى اللزوم ، ولو قلنا : إنّ عقد الجعالة سبب تامّ في الثبوت على العهدة وفي الذمّة ، وإن عرض له البطلان بعدم إتمام العمل أو بالفسخ أو نحو ذلك ، إتّجه حينئذ ضمانه; للثبوت في الذمّة حينئذ فعلاً وإن كان معرضاً للبطلان; لأنّه لا ينافي صحّة الضمان ، كما في البيع الخياري الذي هو معرض للفسخ بالخيار ، والمهر قبل الدخول على ما في المتن .
(1) شرائع الإسلام: 2 / 109 .
(2) سورة يوسف : 12 / 72 .
(الصفحة362)
ومنها: تميّز الدَّين والمضمون له والمضمون عنه; بمعنى عدم الإبهام والترديد ، فلا يصحّ ضمان أحد الدينين ولو لشخص معيّن على شخص معيّن ، ولا ضمان دين أحد الشخصين ولو لواحد معيّن أو على واحد معيّن . نعم ، لو كان الدَّين معيّناً في الواقع ولم يعلم جنسه أو مقداره ، أو كان المضمون له أو المضمون عنه متعيّناً في الواقع ولم يعلم شخصه ، صحّ على الأقوى ، خصوصاً في الأخيرين . فلو قال : ضمنت ما لفلان على فلان ولم يعلم أنّه درهم أو دينار ، أو أنّه دينار أو ديناران صحّ على الأصحّ . وكذا لو قال : ضمنت الدَّين الذي على فلان لمن يطلبه من هؤلاء العشرة ، ويعلم بأنّ واحداً منهم يطلبه ولم يعلم شخصه ، ثمّ قبل المطالب ، أو قال : ضمنت ما كان لفلان على المديون من هؤلاء ولم يعلم شخصه ، صحّ الضمان على الأقوى1.
1 ـ من الاُمور المعتبرة في الضمان تميّز الدَّين والمضمون له والمضمون عنه ، وقد فسّر التميّز في المتن بعدم الإبهام والترديد ، والسرّ في الاعتبار بهذا المعنى أنّه مع الترديد والإبهام لا يتحقّق الانتقال ثبوتاً وينجرّ إلى النزاع إثباتاً ، وقد فرّع عليه عدم صحّة ضمان أحد الدينين ولو لشخص معيّن على شخص معيّن ، ولا ضمان دين أحد الشخصين ولو لواحد معيّن أو على واحد معيّن . نعم ، لو كان الدَّين معيّناً في الواقع وفي مقام الثبوت ، ولكن لم يعلم جنسه أو مقداره لا يقدح ذلك في صحّة الضمان . وكذا لو كان المضمون له أو المضمون عنه متعيِّناً في الواقع ولكن لم يعلم شخصه ، ففي المتن أنّه صحّ على الأقوى ، وأولى من ذلك ما إذا علم شخصه ولكن لم يعلم إسمه أو نسبه ، أو سائر خصوصيّاته من شغله وحرفته ، وكونه من العلماء وعدم كونه منهم ، ولعلّه لأجل ذلك جعل للأخيرين خصوصيّة كما في البيع ، فإنّه مع كونه في رأس العقود اللازمة لا يلزم العلم بشخص البائع
(الصفحة363)
مسألة 3 : إذا تحقّق الضمان الجامع للشرائط انتقل الحقّ من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، وبرئت ذمّته ، فإذا أبرأ المضمون له ذمّة الضامن برئت الذمّتان: إحداهما بالضمان ، والاُخرى بالإبراء . ولو أبرأ ذمّة المضمون عنه كان لغواً1.
والمشتري وخصوصيّاتهما .
نعم ، لا يجوز البيع في مثل الثمن المردّد بين الدرهم والدينار ، أو الدينار والدينارين ، وأمّا في الضمان فلا دليل على لزوم ارتفاع الغرر بهذا المقدار أيضاً . وكذا بالإضافة إلى الدائن والمديون بخلاف البائع والمشتري ، فلو قال : ضمنت الدَّين الذي على فلان لمن يطلبه من هؤلاء العشرة ، ويعلم بأنّ واحداً منهم يطلبه ولم يعلم شخصه ، ثمّ قبل المطالب ، أو قال : ضمنت ما كان لفلان على المديون من هؤلاء ولم يعلم شخصه ، يصحّ الضمان على الأقوى . وهكذا لو جمع بين الأمرين فقال : ضمنت ما لأحد من هذين الشخصين على أحد من الآخرين ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ مع تحقّق الضمان الجامع للاُمور المعتبرة المتقدِّمة ، ينتقل الحقّ بناءً على ما يقول به فقهاؤنا في معنى الضمان على ما عرفت(1) من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن; لأنّه بهذا المعنى نقل ذمّة إلى ذمّة اُخرى لا ضمّها إليها ، ويترتّب عليه براءة ذمّة المضمون عنه بمجرّد الضمان ، فإذا أبرأ المضمون له ذمّة الضامن برئت الذمّتان معاً: إحداهما بالضمان ، والاُخرى بالإبراء . ومنه يظهر أنّه لا أثر لإبراء ذمّة المضمون عنه بعد برائتها في نفسها بمجرّد الضمان ، كما لا يخفى .
(1) في ص357 ـ 359 .
(الصفحة364)
مسألة 4 : الضمان لازم من طرف الضامن ، فليس له فسخه بعد وقوعه مطلقاً . وكذا من طرف المضمون له ، إلاّ إذا كان الضامن معسراً وهو جاهل بإعساره ، فله فسخه والرجوع بحقّه على المضمون عنه ، والمدار إعساره حال الضمان ، فلو أعسر بعده فلا خيار ، كما أنّه لو كان معسراً حاله ثمّ أيسر لم يزل الخيار1.
مسألة 5 : يجوز اشتراط الخيار لكلّ من الضامن والمضمون له على الأقوى2.
1 ـ الضمان لازم من طرف الضامن فليس له فسخه ، كما هو الأصل الأوّلى في كلّ عقد شكّ في لزومه وعدمه; وهو المعبّر عنه بأصالة اللزوم ، وهكذا من طرف المضمون له إلاّ في صورة واحدة; وهي كون الضامن معسراً حال الضمان والمضمون له جاهلاً بإعساره ، والوجه في استثناء هذه الصورة كون اللزوم منافياً لغرض الضمان ; لأنّ الظاهر أنّ الوجه في تشريعه هي سكونة المضمون له واعتماده بانتقال حقّه إلى ذمّة الضامن ، ومع إعساره وجهل المضمون له بالإعسار لا يتحقّق هذا الوجه ، فلا محيص عن الالتزام بالخيار وجواز الفسخ والرجوع إلى المضمون عنه .
وممّا ذكرنا يظهر أنّ المدار في الإعسار وعدمه هو حال الضمان ، فلو أعسر بعد الضمان فلا خيار ، كما أنّه لو كان معسراً حاله ثمّ أيسر يكون الخيار باقياً; لجريان الاستصحاب في كلتا الصورتين ، كما لا يخفى .
2 ـ الدليل على جواز اشتراط الخيار لكلّ من الضامن والمضمون له ـ بعد كون مقتضى الأصل مع عدم الاشتراط هو اللزوم ـ هو عموم «المؤمنون عند
(الصفحة365)
مسألة 6 : يجوز ضمان الدَّين الحالّ حالاًّ ومؤجّلاً ، وكذا ضمان المؤجّل مؤجّلاً وحالاًّ . وكذا يجوز ضمان المؤجّل بأزيد أو أنقص من أجله1.
مسألة 7 : لو ضمن من دون إذن المضمون عنه ليس له الرجوع عليه ، وإن كان بإذنه فله ذلك ، لكن بعد أداء الدَّين لا بمجرّد الضمان ، وإنّما يرجع إليه بمقدار ما أدّاه ، فلو صالح المضمون له مع الضامن الدين ببعضه ، أو أبرأه من بعضه لم يرجع بالمقدار الذي سقط عن ذمّته بهما2.
شروطهم»(1) كما في البيع ونحوه ، فإنّه مع كون مقتضى أصالة اللزوم هو اللزوم ، إلاّ أنّه مع الإطلاق وعدم اشتراط الخيار ، ومعه يجوز إعمال الفسخ لكلّ من جعل له الخيار ، وفي المدّة المجعول فيها الخيار لو فرضت له مدّة ، كما لا يخفى .
1 ـ والدليل على الجواز في جميع صور المسألة الثلاثة ، أ نّ كون الدَّين مؤجَّلاً لا يقتضي عدم الثبوت في الذمّة ، وما ذكرناه سابقاً(2) من عدم الجواز فيما لو قال : أقرض فلاناً درهماً مثلاً ، أو بعه نسيئة وأنا ضامن ، فإنّما هو صرف استدعاء لا ثبوت في الذمّة ، وإلاّ فمع الثبوت فيها لا وجه لعدم الصحّة ، فالجواز في جميع صور المسألة ثابت .
2 ـ أمّا عدم جواز رجوع الضامن إلى المضمون عنه لأخذ ما أدّاه إلى المضمون له ، أو يريد الأداء إليه ، أو لا يريد أصلاً ، فالوجه فيه واضح في صورة عدم كون الضمان واقعاً بإذن المضمون عنه ، بل ربما كان واقعاً بدون علمه واطّلاعه ، ضرورة
(1) تقدّم في ص36 .
(2) في ص360 .
(الصفحة366)
مسألة 8 : لو كان الضمان بإذن المضمون عنه ، فإنّما يرجع عليه بالأداء فيما إذا حلّ أجل الدَّين الذي كان على المضمون عنه ، وإلاّ فليس له الرجوع عليه إلاّ بعد حلول أجله ، فلو ضمن الدَّين المؤجَّل حالاًّ ، أو المؤجّل بأقلّ من أجله فأدّاه ، ليس له الرجوع عليه إلاّ بعد حلول الأجل . نعم ، لو أذِن له صريحاً بضمانه حالاًّ ، أو بأقلّ من الأجل ، فالأقرب جواز الرجوع عليه مع أدائه . وأمّا لو كان بالعكس; بأن ضمن الحالّ مؤجّلاً ، أو المؤجّل بأكثر من أجله برضا المضمون عنه قبل حلول أجله ، جاز له الرجوع عليه بمجرّد الأداء في الحالّ ، وبحلول الأجل فيما ضمن بالأكثر بشرط الأداء . وكذا لو مات قبل انقضاء الأجل ، فحلّ الدَّين بموته وأدّاه الورثة من تركته ، كان لهم الرجوع على المضمون عنه1.
أنّه مع عدم الإذن لا يبقى وجه للانتقال ، ومن الممكن أن يكون هذا النحو من الضمان منافياً لشأن المضمون عنه وشخصيّته . وأمّا الجواز في صورة الإذن فيتوقّف على الأداء ويثبت بمقدار الأداء; لأنّه لا يكون تشريع الضمان على نقل الذمّة تبرّعاً ومجّاناً ، بل لأجل حصول الطمأنينة للمضمون له للوصول إلى دينه وماله ، ومع عدم أداء الضامن لا يبقى مجال للرجوع إلى المضمون عنه ، ومنه يظهر أنّ جواز الرجوع إنّما هو بمقدار ما أدّاه ، فلو صالح المضمون له مع الضامن بالبعض ، أو أبرأه كذلك لا يجوز له الرجوع إلى الجميع .
1 ـ قد عرفت جواز ضمان الدَّين الحالّ مؤجّلاً وكذا العكس ، وعليه فلو كان الضمان بإذن المضمون عنه الذي قد مرّ إنحصار جواز الرجوع له عليه بهذه الصورة ، فينحصر جواز الرجوع عليه بما إذا حلَّ أجل الدَّين الذي كان على المضمون عنه ، وإلاّ فليس له الرجوع عليه إلاّ بعد حلول أجله ; لعدم وجوب
(الصفحة367)
مسألة 9 : لو ضمن بالإذن الدَّين المؤجَّل مؤجّلاً ، فمات قبل انقضاء الأجلين وحلّ ما عليه فأخذ من تركته ، ليس لورثته الرجوع على المضمون عنه إلاّ بعد حلول أجل الدَّين الذي كان عليه ، ولا يحلّ الدَّين بالنسبة إلى المضمون عنه بموت الضامن ، وإنّما يحلّ بالنسبة إليه1.
الدفع على المضمون عنه قبل حلول الأجل ، فلا يجب عليه الدفع إلى الضامن مع ضمانه حالاًّ ، وهكذا مع ضمانه مؤجّلاً ولكن بأقلّ من أجله .
وبالجملة : الضمان لا يؤثّر في لزوم الأداء على المضمون عنه قبل حلول الأجل ، واستدرك في المتن ما إذا أذِن المضمون عنه للضامن صريحاً بضمانه الدَّين المؤجَّل حالاًّ ، أو بأقلّ من الأجل ، فإنّه يجوز حينئذ للضامن الرجوع عليه قبل حلول أجل الدَّين الأصلي ، لكن لا بمجرّد الضمان بل بعد الأداء إلى المضمون له وحصول براءة ذمّة المضمون عنه . وأمّا لو كان الأمر بالعكس ; بأن ضمن الحالّ مؤجّلاً أو المؤجّل بأكثر من أجله مع رضا المضمون عنه بذلك ، جاز للضامن الرجوع إلى المضمون عنه بمجرّد الأداء في ظرفه الضماني ، وهكذا الحال فيما لو مات الضامن في هذه الصورة قبل انقضاء الأجل الذي ضمن الدَّين عند حلوله ، وبعد موت الضامن يحلّ الدَّين بموته كسائر الموارد ، وأدّاه الورثة من تركة الضامن ، فإنّ لهم حينئذ الرجوع إلى المضمون عنه لفرض تحقّق الأداء ، كما لا يخفى .
1 ـ المفروض في هذه المسألة ضمان الدَّين المؤجَّل مؤجّلاً; سواء كان الأجلان متّحدين أم كان أجل الدَّين الذي ضمنه أكثر من أجل الدَّين الأصلي ، لكن عرض للضامن الموت قبل انقضاء الأجلين ، فإنّه لا خفاء حينئذ في حلول ديون الضامن التي منها الدَّين الذي ضمنه بمجرّد موت الضامن ، وعليه : فالواجب على الورثة
(الصفحة368)
مسألة 10 : لو دفع المضمون عنه الدَّين إلى المضمون له من دون إذن الضامن برئت ذمّته ، وليس له الرجوع عليه1.
أخذ هذا الدَّين أيضاً من تركته ، ولكن ليس لهم الرجوع إلى المضمون عنه إلاّ بعد حلول أجل الدَّين الأصلي ; لأنّ حلول الدَّين لأجل الموت إنّما هو بالإضافة إلى الضامن الذي عرض عليه الموت ، لا بالنسبة إلى المضمون عنه الذي لم يتحقّق له الموت بعد ، كلّ ذلك إنّما هو في الضمان الواقع بإذن المضمون عنه ، وإلاّ ففي صورة العدم لا يجوز لنفس الضامن الرجوع ، فضلاً عن ورثته بعد موته ، وإن كان المفروض الأداء إلى المضمون له كما هو ظاهر .
1 ـ لو دفع المضمون عنه الدَّين إلى المضمون له ولو من دون إذن الضامن برئت ذمّة الضامن وليس له الرجوع على المضمون عنه ، أمّا حصول البراءة فلأنّ ذمّة المضمون عنه وإن لم تكن مشغولة بعد تحقّق الضمان; لأنّ المفروض أ نّه عبارة عن نقل ذمّة إلى ذمّة اُخرى ، إلاّ أنّه يجوز التبرّع بأداء الدَّين ولو مع عدم رضا المديون بذلك ، فضلاً عن لزوم الاستئذان منه .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو تحقّق الإبراء مكان الدفع ، فإنّه وإن كان الإبراء متوجّهاً إلى ذمّة الضامن لفرض اشتغالها به ، إلاّ أنّه حيث كان جواز رجوعه إلى المضمون عنه متفرِّعاً على الأداء ، والمفروض تحقّق الإبراء فلا مجال للرجوع ، ولا وجه لتوهّم أنّ إبراء الضامن وإخراج ذمّته عن العهدة إنّما هو بمنزلة الأداء ، فيجوز له الرجوع إلى المضمون عنه ; لأنّ الإبراء ولو فرض أنّه يكون لمصلحته; بمعنى أنّه لا يريد المضمون له اشتغال ذمّة الضامن بالإضافة إليه ، ولكنّه ليس بمنزلة الأداء حتّى يجوز له الرجوع إلى المضمون عنه ، فتدبّر جيّداً .
(الصفحة369)
مسألة 11 : يجوز الترامي في الضمان; بأن يضمن مثلاً زيد عن عمرو ، ثمّ يضمن بكر عن زيد ، ثمّ يضمن خالد عن بكر وهكذا ، فتبرأ ذمّة الجميع ويستقرّ الدَّين على الضامن الأخير ، فإن كان جميع الضمانات بغير إذن من المضمون عنه ، لم يرجع واحد منهم على سابقه لو أدّى الدَّين الضامن الأخير . وإن كان جميعها بالإذن يرجع الأخير على سابقه ، وهو على سابقه إلى أن ينتهي إلى المديون الأصلي . وإن كان بعضها بالإذن دون بعض ، فإن كان الأخير بدونه كان كالأوّل ، لم يرجع واحد منهم على سابقه ، وإن كان بالإذن رجع هو على سابقه ، وهو على سابقه لو ضمن بالإذن ، وإلاّ لم يرجع وانقطع الرجوع عليه . وبالجملة كلّ ضامن كان ضمانه بإذن من ضمن عنه يرجع عليه بما أدّاه1.
1 ـ أمّا أصل جواز ترامي الضمان بالنحو المذكور في المتن ، فالدليل عليه أنّه بعدما كان الضمان عبارة عن نقل ذمّة إلى اُخرى ، فما المانع من نقل ذمّة عمرو إلى زيد وثبوت الدَّين على عهدته ، ثمّ النقل من ذمّة زيد إلى بكر وثبوت الدَّين على عهدته وهكذا ، فبالنتيجة تبرء ذمّة الجميع ويستقرّ الدَّين على الضامن الأخير كاستقراره على الأوّل مع الانحصار به ، وبملاحظة ما تقدّم من أنّ جواز رجوع الضامن إلى المضمون عنه يتوقّف على إذنه في الضمان ورضاه ذلك ، يتصوّر للمسألة صور تالية :
الاُولى : أن يكون جميع الضمانات بغير إذن من المضمون عنه ، والمذكور في المتن أنّه في هذه الصورة لم يرجع واحد منهم على سابقه لو أدّى الدَّين الضامن الأخير; لفرض عدم الإذن المعتبر في جواز الرجوع ، كما مرّ (1) .
(1) في ص365 ـ 366 .
(الصفحة370)
مسألة 12 : لا إشكال في جواز ضمان اثنين عن واحد بالاشتراك; بأن يكون على كلّ منهما بعض الدَّين ، فتشتغل ذمّة كلّ بمقدار ما عيّناه ولو بالتفاوت ، ولو اُطلق يقسّط عليهما بالتساوي ، فبالنصف لو كانا اثنين وبالثلث لو كانوا ثلاثة وهكذا ، ولكلّ منهما أداء ما عليه ، وتبرأ ذمّته ، ولا يتوقّف على أداء الآخر ما عليه ، وللمضمون له مطالبة كلّ منهما بحصّته أو أحدهما ، أو إبراؤه دون الآخر . ولو كان ضمان أحدهما بالإذن دون الآخر ، رجع المأذون إلى المضمون عنه دون الآخر . والظاهر أنّه لا فرق في جميع ما ذكر بين أن يكون ضمانهما بعقدين; بأن ضمن أحدهما عن نصفه ثمّ ضمن الآخر عن نصفه الآخر ، أو بعقد واحد; كما إذا ضمن عنهما وكيلهما في ذلك فقبل المضمون له . هذا كلّه في
الثانية : عكس الصورة الاُولى; وهو أن يكون الجميع بالإذن ، وفي هذه الصورة يرجع الأخير على سابقه وهو على سابقه إلى أن ينتهي إلى المديون الأصلي ; لأنّ المفروض كون الجميع مع الإذن ، وقد تقدّم جواز الرجوع في صورة الإذن (1) .
الثالثة : أن يكون بعض الضمانات بالإذن دون البعض الآخر ، وقد فصّل فيه في المتن بأنّه إن كان الضمان غير المأذون فيه هو الأخير ، يكون حكمه حكم الصورة الاُولى في أنّه لا يرجع واحد منهم على سابقه ، وإن كان الضمان الأخير مأذوناً فيه رجع هو على سابقه وهو على سابقه في صورة الضمان بالإذن ، وإلاّ لم يرجع وانقطع الرجوع عليه ، والضابطة أنّ كلّ ضامن كان ضمانه بإذن المضمون عنه ، بالإضافة إلى هذا الضمان يجوز لضامنه الرجوع إلى المضمون عنه فيه ، وإلاّ فلا ، والوجه فيه واضح .
(1) في ص366 .
(الصفحة371)
ضمان اثنين عن واحد بالاشتراك .
وأمّا ضمانهما عنه بالاستقلال فلا إشكال في عدم وقوعه لكلّ منهما كذلك على ما يقتضي مذهبنا في الضمان ، فهل يقع باطلاً أو يقسّط عليهما بالاشتراك؟ وجهان ، أقربهما الأوّل1.
1 ـ قد نفى الإشكال عن جواز ضمان اثنين أو أزيد عن واحد بالاشتراك; بأن يكون على كلّ منهما أو منهم بعض الدَّين ، فتشتغل ذمّة كلّ بمقدار ما عيّناه ولو بالتفاوت . وأمّا ضمانهما عنه بالاستقلال ، فقد نفى في ذيل كلامه الإشكال عن عدم وقوعه لكلّ منهما كذلك ، بناءً على مقتضى مذهبنا كما عرفت ، وإلاّ لكان اللازم الالتزام بوقوع ضمان الواحد هكذا أيضاً ; لعدم الفرق ، وحينئذ فهل يقع ضمان اثنين عن واحد بالاستقلال باطلاً من رأسه ، أو يقسّط عليهما بالاشتراك ، الظاهر هو الأوّل ، وإلاّ لكان اللازم الالتزام بالاشتراك في ضمان الواحد بناءً على ما يقول به غيرنا لينطبق على مذهبنا ، فتدبّر .
ثمّ إنّه على تقدير الضمان بالاشتراك لو أطلق ضامنان المقدار ولم يعيّناه ، فالظاهر التقسيط بالنصف كما في ضامنين ، أو بالثلث كما إذا كانوا ثلاثة ، ويجري على الضمان المذكور ما تقدّم من الأحكام; من أنّ الواجب على كلّ إنّما هو مقدار سهمه ، ومن عدم توقّف براءة واحد منهما بالأداء على أداء الآخر ، ومن أنّ للمضمون عنه جواز الرجوع إليه بحصّته ، ومن أنّ جواز رجوع الضامن إلى المضمون عنه إنّما يتوقّف على الإذن والأداء ، وقد صرّح في المتن بأنّه لا فرق بين أن يكون ضمانهما بعقدين أو بعقد واحد ، كما إذا ضمن عنهما وكيلهما في ذلك فقبل المضمون له ، والوجه فيه واضح .
(الصفحة372)
مسألة 13 : لو تمّ عقد الضمان على تمام الدَّين ، فلا يمكن أن يتعقّبه آخر ولو ببعضه ، ولو تمّ على بعضه لا يمكن أن يتعقّبه على التمام ، أو على ذلك المضمون1.
مسألة 14 : يجوز الضمان بغير جنس الدَّين ، لكن إذا كان الضمان بإذن المضمون عنه ليس له الرجوع عليه إلاّ بجنسه2.
مسألة 15 : كما يجوز الضمان عن الأعيان الثابتة في الذمم ، يجوز على المنافع والأعمال المستقرّة عليها ، فكما يجوز أن يضمن عن المستأجر ما عليه من الاُجرة ، كذلك يجوز أن يضمن عن الأجير ما عليه من العمل . نعم ، لو كان ما عليه اعتبر فيه المباشرة لم يصحّ ضمانه3.
1 ـ ظهر حكم هذه المسألة بجميع صورها ممّا تقدّم من المباحث ولا طائل للإعادة والتكرار ، فتدبّر .
2 ـ يجوز الضمان بغير جنس الدَّين ، فإذا كان الثابت على عهدة المديون الأصلي مقدار من الحنطة مثلاً ، يجوز أن يضمن الضامن عنه مقداراً من الشعير بما يساوي ذلك المقدار من حيث القيمة مثلاً; لأنّ مرجع الضمان المذكور بعد اعتبار رضا المضمون له إلى تبديل الحنطة بالشعير وتحقّق المعاوضة بينهما . نعم ، إذا كان أصل الضمان بإذن المضمون عنه يجوز الرجوع للضامن عليه . غاية الأمر بخصوص جنسه ، إلاّ أن يُقال بجواز الرجوع بما يضمنه مع توافق الثلاثة على ذلك وعلمهم به ، والمفروض ثبوت الإذن من المضمون عليه للضامن .
3 ـ كما يجوز الضمان عن الأعيان الثابتة في الذمم في مقابل المنافع والأعمال ،
(الصفحة373)
مسألة 16 : لو ادّعى شخص على آخر ديناً ، فقال ثالث للمدّعي: «عليَّ ما عليه» فرضي صحّ الضمان; بمعنى ثبوت الدَّين في ذمّته على تقدير ثبوته ، فتسقط الدعوى عن المضمون عنه ، ويصير الضامن طرفها ، فلو أقام المدّعي البيِّنة على ثبوته يجب على الضامن أداؤه ، وكذا لو ثبت إقرار المضمون عنه قبل الضمان بالدَّين . وأمّا إقراره بعد الضمان فلا يثبت به شيء ، لا على المقرّ ولا على الضامن1.
كذلك يجوز الضمان عليهما إذا كانا على العهدة ، فيجوز أن يضمن عن الأجير ما عليه من العمل في الإجارة على الأعمال ، كما أنّه يجوز أن يضمن عن المستأجر ما عليه من الاُجرة مطلقاً في تلك الإجارة وغيرها ، وقد استثنى من ذلك صورة واحدة; وهو ما لو كان العمل المستأجر عليه مشروطاً فيه مباشرة الأجير ، بحيث لا يجوز أن يقوم مقامه شخص آخر حتّى الوارث في صورة الموت ، ففي هذه الصورة لا يتمّ الضمان ; لأنّه ينافي قيد المباشرة المأخوذ في الإجارة ، أو الانصراف إلى صورة المباشرة ولو كانت الإجارة مطلقة لم يقع فيها التصريح بهذا القيد .
وبالجملة : لابدّ وأن يكون الضامن صالحاً لأن يقوم مقام المضمون عنه ، وفي صورة التصريح بقيد المباشرة ، أو انصراف الإطلاق إليه لا يمكن أن يتحقّق ذلك ، فلا يصحّ الضمان بوجه ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ لو ادّعى شخص على آخر ديناً ، فقال ثالث للمدّعي : «عَليَّ ما عليه» فرضي المدّعي بذلك صحّ الضمان ، بمعنى ثبوت الدَّين على تقديره في ذمّته ، وخروج المضمون عنه عن الطرفية للدعوى ، وصيرورة الضامن طرفاً لها . وعليه فلو أقام المدّعي البيِّنة على ثبوته يجب على الضامن أداؤه ، وليس هذا من التعليق في الضمان
(الصفحة374)
مسألة 17 : الأقوى عدم جواز ضمان الأعيان المضمونة كالغصب والمقبوض بالعقد الفاسد لمالكها عمّن كانت هي بيده1.
الذي يعتبر فيه التنجيز على ما عرفت (1); لأنّه قيد في أصل تحقّق الضمان ; لعدم صحّته بدون اشتغال ذمّة المضمون عنه وثبوت الدَّين على عهدته; لما مرّ من أنّه نقل ذمّة إلى اُخرى عند علمائنا(2) ، مثل ما إذا كان في يد المشتري شيء يشكّ في ملكيّة البائع له ، فقال البائع : إن كان هذا ملكي فقد بعتك إيّاه .
نعم ، حيث إنّ البيِّنة يثبت الدّين وعلى الضامن أداؤه ، يجوز له الرجوع إلى المضمون عنه بشرطين: الأداء والرضا . ولو فرض إقرار المضمون عنه بثبوت الدَّين على عهدته ، فإن كان إقراره قبل الضمان فهو نافذ ، وإن كان إقراره بعد الضمان فغير نافذ ; لأنّه إقرار في حقّ الغير وعليه .
1 ـ في جواز ضمان الأعيان المغصوبة كالغصب والمقبوض بالعقد الفاسد لمالكها عمّن كانت هي بيده ، وعدم جوازه وجهان; من أنّ مرجع الضمان المذكور إلى اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، وتعلّق أحدهما بالعهدة ولو لم يتحقّق التلف بعدُ ، ومن أنّه ما دام لم يتحقّق التلف لا يكون على العهدة شيء ، ووجب عليه ردّ المال إلى صاحبه وحفظه لذلك . وإن قلنا بأنّ مقتضى التحقيق في قاعدة ضمان اليد ثبوت نفس العين على العهدة وإن كانت شخصية ولم يتحقّق التلف أصلاً ، فالظاهر أنّه لا مانع من ضمانها لثبوتها على العهدة ، وإن كان الواجب في صورة البقاء تأديتها بنفسها وفي صورة التلف المثل أو القيمة ، ولا يبعد أن يُقال بأنّه الظاهر بعد ظهور
(1) في ص359 ـ 360 .
(2) في ص357 ـ 358 .
(الصفحة375)
مسألة 18 : لا إشكال في جواز ضمان عهدة الثمن للمشتري عن البائع لو ظهر المبيع مستحقّاً للغير ، أو ظهر بطلان البيع ـ لفقد شرط من شروط صحّته ـ إذا كان بعد قبض البائع الثمن وتلفه عنده ، وأمّا مع بقائه في يده فمحلّ تردّد . والأقوى عدم صحّة ضمان درك ما يحدثه المشتري ـ من بناء أو غرس في الأرض المشتراة إن ظهرت مستحقّة للغير ، وقلعه المالك ـ للمشتري عن البائع1.
دليل القاعدة في كون المضمون هو المأخوذ باليد ، فتدبّر جيّداً .
1 ـ في هذه المسألة فروع :
الأوّل : إذا قبض البائع الثمن وأتلفه أو صار تالفاً عنده ، يجوز ضمانه للمشتري عن البائع في صورة ظهور المبيع مستحقّاً للغير ، أو ظهور بطلان البيع لفقد شرط من شروط صحّته ; لأنّ الثمن في هاتين الصورتين على عهدة البائع وفي ذمّته مثلاً أو قيمة ، وقد عرفت أنّ هذا النحو من الضمان لا ينافي التنجيز المعتبر فيه ، والفرق بينه وبين ما تقدّم(1) من عدم الصحّة فيما لو قال : أقرض فلاناً أو بعه نسيئة وأنا ضامن إنّما هو ثبوت الإجماع على البطلان هناك ، وعدم ثبوته هنا ، وإلاّ فلا فرق بينهما كما لايخفى .
اللّهمّ إلاّ أن يُقال : إنّ ظهور المبيع مستحقّاً للغير ، أو ظهور بطلان البيع يكشف عن اشتغال ذمّة البائع بالثمن ; لأنّ الفرض حصول التلف عنده . وأمّا في المثالين فلم يتحقّق الاشتغال بوجه حين الضمان; لعدم حصول الاقتراض والبيع بعد .
الثاني : الصورة مع بقاء الثمن في يد البائع ، وقد تردّد في صحّة الضمان في هذه الصورة في المتن ، والظاهر أنّ الترديد واحتمال الوجهين ينشأ ممّا قوّاه سابقاً من عدم
(1) في ص360 .
(الصفحة376)
مسألة 19 : لو كان على الدَّين الذي على المضمون عنه رهن ينفكّ بالضمان ، شرط الضامن انفكاكه أم لا1.
مسألة 20 : لو كان على أحد دين فالتمس من غيره أداءه ، فأدّاه بلا ضمان
صحّة الضمان في الأعيان المضمونة كالمغصوب ونحوه ، ضرورة ضمان نفس الثمن مع البقاء في يد البائع لو ظهر المبيع مستحقّاً للغير ، أو ظهر بطلان البيع ، ومن أنّ كونه مضموناً على البائع بالفعل غير معلوم ، ولذا يجوز له إتلافه مع عدم علمه بالحال ، فالضمان يرجع إلى اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة ، فلا مانع من ضمان العهدة فتدبّر .
الثالث : صحّة ضمان درك ما يحدثه المشتري ـ من بناء أو غرس في الأرض المشتراة إن ظهرت مستحقّة للغير ، وقلعه المالك ـ للمشتري عن البائع ، وعدم صحّته ، وقد قوّى في المتن العدم ، والظاهر أنّ الوجه فيه أنّ الظهورين المزبورين وإن كانا كاشفين عن بطلان المعاملة ، الذي لازمه عدم كون المبيع للبائع ، إلاّ أنّ قلع المالك للبناء أو الغرس الذي أحدثه المشتري ـ بتخيّل كون الأرض مملوكة له ـ غير معلوم . ومن المحتمل أن لا يتحقّق القلع من المالك ، ويرضى ببقاء البناء أو الغرس مجّاناً أو مع الاُجرة ، والمفروض رجوع الثمن إلى المشتري ، فإذا رضي بالبقاء مع الاُجرة لا يكون هناك مانع منه .
1 ـ والوجه فيه أنّ الرهن كان وثيقة بالإضافة إلى المديون الأوّلي ، والمفروض انتقال ذمّته إلى ذمّة الضامن ورضا المضمون له بذلك ، فمن كان الرهن عنده لا تكون ذمّته مشغولة ، ومن كانت ذمّته مشغولة لا يكون في مقابلها رهن ، فالرهن ينفكّ بنفس الضمان; سواء شرط انفكاكه أم لا .
(الصفحة377)
عنه للدائن ، جاز له الرجوع على الملتمس مع عدم قصد التبرّع1.
1 ـ هذه المسألة لا تكون من مسائل كتاب الضمان ; لأنّه لا يكون فيها ضمان ، بل هي من مسائل كتاب القرض والدَّين ، والنظر فيها إلى أنّ المديون لو التمس من شخص أن يؤدّي دينه من غير ضمان ، فأدّاه إجابةً لالتماسه ، فإن كان الأداء بقصد التبرّع فلا يجوز له الرجوع إلى المديون ، وإن لم يكن بقصد التبرّع فله الرجوع كما في الضمان على ما تقدّم (1) .
(1) في ص 366 .
(الصفحة378)
(الصفحة379)
كتاب الحوالة
والكفالة
(الصفحة380)
|