(الصفحة81)
الثالث: أن يكون قصد التوصّل مأخوذاً في متعلّق الأمر الغيري بمعنى أن يكون قيداً للواجب لا للوجوب ، كما في الصورتين المتقدّمتين .
إذا عرفت ذلك ، فنقول : كلّ هذه الاحتمالات فاسدة ، بل لايمكن اعتبار قصد التوصّل على غير وجـه الأخير من الصور المتقدّمـة .
أمّا الوجـه الأوّل: فيرد عليـه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ وجوب المقدّمـة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها ـ أ نّـه لايعقل اشتراط الوجوب بخصوص قصد التوصّل الغير المنفكّ عن إرادة متعلّق الوجوب ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى اشتراط الوجوب بإرادة متعلّقـه ، فيصير الوجوب مباحاً ، كما عرفت فيما أجاب بـه التقريرات عن عبارة المعا لم ، بل نقول بأنّ الاستحا لـة هنا أوضح ممّا يوهمـه عبارة المعا لم ; لأنّ الوجوب بناء على قولـه لايكون مشروطاً بإرادة متعلّقـه ، بل بإرادة ذي المقدّمـة المتقدّمـة على إرادة المقدّمـة المتعلّقـة للوجوب الغيري ، وأمّا بناء على هذا القول يكون الوجوب مشروطاً بإرادة متعلّقـه .
ثمّ إنّ هذا الجواب يجري على الوجـه الثاني أيضاً .
وأمّا الوجـه الثالث: الراجع إلى اعتبار قصد التوصّل قيداً للواجب بحيث يجب تحصيلـه كسائر القيود المعتبرة في الواجب فهو وإن كان ممكناً في مقام الثبوت إلاّ بناء على ما اعتقده صاحب الكفايـة من أنّ الإرادة لا تكون من الاُمور الاختياريـة ، فلايعقل أن تكون متعلّقةً للطلب أصلاً .
ولكن لايخفى فساد هذا الاعتقاد فإنّـه يمكن للإنسان أن يوجد القصد المتعلّق ببعض الأشياء ، نظير أ نّـه إذا سافر الإنسان إلى بلد لايريد إقامـة عشرة أيّام فيـه ; لعدم كون الإقامـة فيها ذا مصلحـة لـه إلاّ أ نّـه يعرض لـه بعض الاُمور
1 ـ كفايـة الاُصول: 89.
(الصفحة82)
ا لمتفرّعـة على قصدها ، فيقصد ، فإقامـة العشرة وإن لم تكن محبوبةً لـه با لذات إلاّ أ نّها تصير محبوبةً با لعرض لمحبوبية تلك الاُمور المتوقّفة على قصدها ، مثل ما إذا كانت الصلاة غير المقصورة محبوبةً لـه دائماً ، فيريد الإقامة لذلك .
وبا لجملـة ، فكون الإرادة من الاُمور غير الاختياريـة ممّا لم يعلم لـه وجـه أصلاً ، كيف والمعتبر في صحّـة العبادات أن يكون الداعي إلى اتيانها قصد التقرّب ، فلو لم يكن القصد أمراً اختيارياً ، لم يكن وجـه لاعتباره فيها ، كما لايخفى فهذا الوجـه الراجع إلى أخذ قصد التوصّل قيداً للواجب وإن كان ممكناً في مقام الثبوت إلاّ أ نّـه لا دليل على إثباتـه ، كما سيأتي وجهـه عند التكلّم في مقام الإثبات إن شاء اللّـه تعا لى ، فانتظر .
هذا كلّـه فيما يتعلّق باعتبار قصد التوصّل في وجوب المقدّمـة .
القول في المقدّمـة الموصلـة
حول ما نسب إلى صاحب الفصول
وأمّا اعتبار الإيصال إليـه ـ كما يظهر من صاحب الفصولـ فإن كان هذا ا لقيد شرطاً للوجوب بمعنى أ نّـه لايجب المقدّمـة إلاّ مع الإيصال المتوقّف على تحقّق ذيها الراجع إلى أنّ وجوب المقدّمـة إنّما هو بعد الإتيان بذيها ، المتوقّف عليها ، فاستحا لتـه أظهر من أن يخفى ، فإنّـه من قبيل تحصيل الحاصل .
وا لظاهر أ نّـه لايقول بـه صاحب الفصول(قدس سره) بل مراده(قدس سره) إنّما هو اعتبار هذا القيد في متعلّق الوجوب ، لا أن يكون شرطاً للوجوب ، بل قيداً للواجب بحيث
1 ـ الفصول الغرويّـة: 81 / السطر 4.
(الصفحة83)
يجب تحصيلـه .
وقد اُورد عليـه بوجوه من الإيراد:
منها: أ نّـه يلزم الدور بناء عليـه ، وتقريبـه : أ نّـه لا إشكال في توقّف ذي المقدّمـة عليها ; لأنّ المفروض كونها مقدّمةً لـه ، فلو كان الإيصال مأخوذاً فيها ، يلزم توقّف المقدّمـة عليها أيضاً ; لأنّ حصول القيد متوقّف عليها بلا إشكال ، وهذا هو الدور محضاً .
وا لجواب أنّ ما يتوقّف ذوا لمقدّمـة عليـه هو ذات المقدّمـة ; لأنّـه لا مدخليـة للإيصال في مقدّميتها ، بل إنّما هو مأخوذ في متعلّق الواجب ، وما يتوقّف على ذي المقدّمـة هو الإيصال لا ذات المقدّمـة ، فا لموقوف على ذي المقدّمـة لايتوقّف هو عليها ، بل يتوقّف على ذاتها ، كما هو أوضح من أن يخفى .
منها: لزوم التسلسل ، وتقريبـه أن يقال : إنّ المقدّمـة حينئذ تكون مركّبةً من أمرين : أحدهما : الذات ، والآخر : قيد التوصّل ، فتكون الذات مقدّمـة لحصول المقدّمـة المركّبـة ، كما هو الشأن في جميع أجزاء المركّب .
مثلاً : لو كان الوضوء الموصل إلى الصلاة مقدّمةً ، والسير الموصل إلى الحج مقدّمـة ، فذات الوضوء والسير يكون مقدّمةً للوضوء الموصل والسير الموصل ، وحينئذ فيعتبر قيد الإيصال فيـه أيضاً ، فيلزم التسلسل .
وا لجواب : أنّ مدخليـة قيد الإيصال إنّما هو في تعلّق الوجوب إلى المقدّمـة بمعنى أ نّـه لايتعلّق الوجوب بها إلاّ مع ذلك القيد لابدونـه ، لا أن يكون القيد دخيلاً في مقدّميـة المقدّمـة وتوقّف ذيها عليها ، وحينئذ فليس هنا إلاّ ذات
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 290.
2 ـ نفس المصدر.
(الصفحة84)
ا لمقدّمـة وقيد الإيصال ، والاُولى لايتعلّق بها الوجوب إلاّ مع انضمام الثاني إليـه ، فمن أين يلزم التسلسل ؟ كما هو واضح .
منها: أ نّـه يلزم أن يكون ذو المقدّمـة متعلّقاً للوجوب النفسي وللوجوب الغيري ، بل للوجوبات الغيريـة المتعدّدة حسب تعدّد المقدّمات .
أمّا تعلّق الوجوب النفسي إليـه : فلأنّـه المفروض .
وأمّا تعلّق الوجوب الغيري : فلأنّـه لا إشكال في أنّ تحقّق قيد الإيصال موقوف على ذي المقدّمـة ، فيتعلّق بها الوجوب الغيري أيضاً .
وا لجواب : أنّ توقّف عنوان الإيصال على ذي المقدّمـة وإن كان مسلّماً إلاّ أنّ تعلّق الأمر الغيري إليها ممنوع بعد أ نّـه يعتبر عند القائل بهذا القول الإيصال إلى ذي المقدّمـة ، ومن المعلوم امتناع أن يكون الشيء موصلاً إلى نفسـه ، والإيصال إلى المقدّمـة الموصولـة لم يكن معتبراً عند القائل أصلاً .
وبا لجملـة ، فلو كان المراد تعلّق الأمر الغيري بذي المقدّمـة من دون قيد ، فهو ممنوع عند القائل بعد اعتباره في متعلّق الأمر الغيري قيد الإيصال ، كما هو واضح .
وإن كان المراد تعلّقـه بـه مع هذا القيد ، فالإيصال إلى المقدّمـة الموصلـة غير مقصود لـه ، والإيصال إلى نفسها لايعقل ، فكيف يلزم تعلّق الأمر الغيري بل الأوامر الغيريـة بذي المقدّمـة ؟ !
منها: ما اُورد عليـه في الكفايـة من أنّ القول با لمقدّمـة الموصلـة يستلزم إنكار وجوب المقدّمـة في غا لب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلّـة التامّـة في خصوص الواجبات التوليديـة .
1 ـ نهايـة الاُصول: 195.
(الصفحة85)
أمّا الاختصاص بالاُولى : فلأنّـه لايعقل ترتّب الممكن على غير علّتـه التامّـة ووجوده بدونها .
وأمّا الاختصاص با لثانيـة ـ مع أنّ وجود كلّ ممكن بدون علّتـه التامّـة مستحيل ـ أنّ مبادئ اختيار الفعل الاختياري من أجزاء العلّـة التامّـة ، وهي لا تكاد تتّصف با لوجوب ; لعدم كونها من الاُمور الاختياريـة ، وإلاّ لتسلسل .
وبا لجملـة ، فالإيصال إنّما هو في خصوص الواجبات التوليديـة ، وأمّا في غيرها فمع اجتماع جميع الأجزاء يمكن أن لايقع لتوسّط الإرادة والاختيار ، كما هو واضح .
وا لجواب : أنّ مراده(قدس سره) بالإيصال ليس ما يترتّب عليـه ذوا لمقدّمـة قهراً حتّى يورد عليـه بما ذكر ، بل مراده منـه هو ترتّب الفعل عليـه ولو بواسطـة أو وسائط بمعنى أنّ مطلق المقدّمـة لايتعلّق بـه الوجوب ، بل با لمقدّمـة التي يتعقّبها الإتيان بذي المقدّمـة ، سواء كانت علّةً تامّة لحصولـه قهراً أم لم تكن .
هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الإرادة من الاُمور الاختياريـة التي يمكن أن يتعلّق بها الطلب والبعث ، كيف ولو قلنا باستحا لـة تعلّق الطلب بها ، فلا تكون متعلّقةً للأمر الغيري حتّى بناء على وجوب مطلق المقدّمة ، فمن أين يلزم الإرادة التي هي من أجزاء العلّـة التامّـة ، كما هو واضح .
منها: ما اُورد عليـه في الكفايـة أيضاً ، وحاصلـه أ نّـه لو كان معتبراً فيـه الترتّب ، لما كان الطلب يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار لترتّب الواجب عليها مع أنّ الطلب لايكاد يسقط إلاّ با لموافقـة أو با لمخا لفـة أو بارتفاع موضوع
1 ـ كفايـة الاُصول: 145 ـ 146.
(الصفحة86)
ا لتكليف ، ولايكون الإتيان با لمقدّمـة با لضرورة من هذه الاُمور غير الموافقـة .
وا لجواب : أ نّا نمنع السقوط بمجرّد الإتيان بذات المقدّمـة ; لأنّ القائل يقول بأنّ سقوطـه متوقّف على ضميمـة قيده إليـه ، فلايسقط إلاّ بعد الإتيان بذي المقدّمـة ، كما أنّ الأمر با لصلاة لايسقط إلاّ مع الإتيان بجزئـه الأخير أيضاً ، وهذا واضح لا إشكال فيـه .
فانقدح من جميع ما ذُكر أ نّـه لايلزم محال من الأخذ بأحد الأقوال الثلاثـة الواقعـة في مقابل القول بوجوب مطلق المقدّمـة في مقام الثبوت بناء على أن يكون القيد الزائد دخيلاً في متعلّق الوجوب ، لا أن يكون شرطاً لـه ، كما عرفت .
ما أفاده المحقّق الحائري والعراقي في المقام
ثمّ إنّـه لو سلّمنا استلزام كلام الفصول للمحاذير المتقدّمـة ، فلايدفعها ما ذكره بعض من الأعاظم في تقريب كلامـه وتوجيـه مرامـه بحيث لايورد عليـه بشيء حيث قال(قدس سره) في كتابـه المسمّى با لدّرر ما ملخّصـه : أنّ الطلب متعلّق با لمقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيداً بـه بمعنى أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها ، لأنّها بتلك الملاحظـة لا تنفكّ عن المطلوب الأصلي ، ولو لاحظ مقدّمـة منفكّـة عمّا عداها ، لايريدها جزماً ; لأنّ مطلوبيتها إنّما هو في ظرف ملاحظـة باقي المقدّمات معها ، فالإرادة لا تتعلّق بها بنحو الإطلاق حتّى تشمل حال انفكاكها عن باقي المقدّمات .
ثمّ قال : وهذا الذي ذكرنا مساوق للوجدان ، ولايرد عليـه ما ورد على
1 ـ كفايـة الاُصول: 146.
(الصفحة87)
ا لقول باعتبار الإيصال قيداً وإن اتّحد معـه في الأثر .
ونظير هذا ما يظهر من التقريرات المنسوبـة إلى العراقي(قدس سره) حيث قال المقرّر ما ملخّصـه : إنّ الواجب ليس مطلق المقدّمـة ولا خصوص المقدّمـة المقيّدة بالإيصال ، بل الواجب هو المقدّمـة في ظرف الإيصال على نحو القضيـة الحينيـة ، وبعبارة اُخرى : الواجب هي الحصّـة التوأمـة مع سائر المقدّمات الملازم لوجود ذيها .
وتوضيحـه أن يقال: حيث إنّ الغرض من وجوب المقدّمـة ليس إلاّ التوصّل إلى ذي المقدّمـة ، ومن الواضح أنّ هذا إنّما يترتّب على مجموع المقدّمات ، لا كلّ واحد على سبيل الاستقلال وإن كان كلّ واحد منها يتوقّف عليـه المطلوب الأصلي إلاّ أنّ المحبوبيـة إنّما يتعلّق بـه مع انضمامـه إلى سائر المقدّمات ، ونتيجـة ذلك هو تعلّق أمر غيري واحد بمجموع المقدّمات بحيث ينبسط على كلّ واحد منها كانبساط الوجوب في الواجب النفسي على أجزائـه ، وكما أنّ متعلّق الأمر النفسي الضمني في الواجبات النفسيـة إنّما هو كلّ واحد من الأجزاء لا مطلقاً ولا مقيّداً بانضمام سائر الأجزاء إليـه ، بل الحصّـة المقارنـة لباقي الأجزاء ، فكذلك الأمر هنا بلا تفاوت . انتهى ملخّص موضع الحاجـة من كلامـه .
ولكن لايخفى أنّ المحذورات المتقدّمـة لو سلّم لا تدفع بما ذكره المحقّقان المتقدّمان ; لأنّ لحاظ الإيصال إمّا أن يكون دخيلاً في المطلوب ويوجب تضييقاً با لنسبـة إليـه ، فهذا بعينـه ما ذكره صاحب الفصول ، وإمّا أن لايكون كذلك ، فهذا
1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 119.
2 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 389 / السطر 10.
(الصفحة88)
بعينـه القول بوجوب مطلق المقدّمـة ، وأخذه على نحو القضيـة الحينيـة لايزيد على أخذه مطلقاً ; لأنّ معناها هو أنّ ترتّب الحكم على الموضوع لايقيّد بوقت دون وقت ، وذكر الحين إنّما هو لتعريف الموضوع والإشارة إليـه من دون مدخليـة لـه في ترتّب الحكم أصلاً ، مثل أن يقال : كلّ من كان في الدار فهو عا لم مثلاً ، فإنّ الكون في الدار إنّما اُخذ عنواناً مشيراً إلى الموضوع ومعرّفاً لـه لا لكونـه دخيلاً في ثبوت المحمول .
ومن هنا يظهر بطلان ما تقدّم من التقريرات ، مضافاً إلى أ نّـه كيف يمكن الجمع بين أخذ الإيصال بنحو القضيـة الحينيـة التي عرفت عدم الفرق بينها وبين القضيّـة المطلقـة من حيث إطلاق الموضوع أصلاً وبين كون متعلّق الأمر الغيري هي الحصّـة المقارنـة لباقي المقدّمات الملازم لوجود ذيها مع أنّ الطبيعـة المطلقـة لا تصير حصّةً إلاّ بانضمام بعض القيودات إليها ، كما هو أظهر من أن يخفى .
وغايـة ما يمكن أن يقال في تقريب كلام الفصول أن يقال : حيث إنّ الغرض من وجوب المقدّمـة وغايتـه ليس إلاّ التوصّل إلى المطلوب الأصلي ففي متعلّقـه نحو من التضيّق من ناحيـة علّتـه الغائيـة لا أن يكون مقيّداً بـه ولا أن يكون مطلقاً با لنسبـة إليـه ، كما هو الشأن في سائر الأشياء با لنسبـة إلى العلل الغائيـة لها ولكن لايخفى أنّ هذا يرجع إلى التقييد لما سنذكره من أنّ جميع الحيثيات التعليليـة ترجع إلى الجهات التقييديـة ، فانتظر .
وانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّـه لو قلنا باستلزام كلام الفصول للمحذورات المتقدّمـة من الدور والتسلسل وغيرهما لما يجديـه التوجيـه بما ذكر أصلاً .
هذا ، ولكن قد عرفت أنّ شيئاً من الإيرادات غير وارد عليـه أصلاً .
هذا كلّـه في مقام الثبوت .
(الصفحة89)
في الدليل العقلي على المقدّمـة الموصلـة
وأمّا مقام الإثبات : فقد استدلّ صاحب الفصول بوجوه أسدّها وأمتنها هو الوجـه الأخير .
قال في بيانـه: حيث إنّ المطلوب با لمقدّمـة مجرّد التوصّل بها إلى الواجب وحصولـه ، فلا جرم يكون التوصّل بها إليـه وحصولـه معتبراً في مطلوبيتها ، فلا تكون مطلوبةً إذا انفكّت عنـه ، وصريح الوجدان قاض بأنّ مَنْ يريد شيئاً لمجرّد حصول شيء آخر لايريده إذا وقع مجرّداً عنـه ، ويلزم منـه أن يكون وقوعـه على وجـه المطلوب منوطاً بحصولـه .
وأجاب عنـه في الكفايـة أوّلاً: بمنع كون المطلوب با لمقدّمـة التوصّل بها إلى الواجب ، بل مطلوبيتها لأجل عدم التمكّن من التوصّل بدونها ، كيف ولايكون التوصّل من آثارها إلاّ في بعض المقدّمات .
وثانياً: بأ نّـه لو سلّم كون المطلوب با لمقدّمـة ذلك ولكن لا نسلّم مدخليّـة الغايـة في مطلوبيّـة ذيها ; لأنّ صريح الوجدان يقضي بأنّ ما اُريد لأجل غايـة وتجرّد عنها بسبب عدم حصول بعض ما لَـه دخل في تحقّقها يقع على ما هو عليـه من المطلوبيـة الغيريـة ، كيف وإلاّ يلزم أن يكون وجودها من قيوده ومقدّمـة لوقوعـه على نحو تكون الملازمـة بين وجوبـه بذاك النحو ووجوبها .
وهو كما ترى ، ضرورة أنّ الغايـة لا تكون قيداً لذي الغايـة بحيث كان تخلّفها موجباً لعدم وقوع ذي الغايـة على ما هو عليـه من المطلوبيـة الغيريـة ، وإلاّ يلزم أن تكون مطلوبةً بطلبـه ، كسائر قيوده ، فلايكون وقوعـه على هذه الصفة
1 ـ الفصول الغرويّـة: 86 / السطر 22.
(الصفحة90)
منوطاً بحصولها ، كما أفاده .
ولعلّ منشأ توهّمـه الخلط بين الجهـة التقييديـة والتعليليـة . انتهى ملخّص موضع الحاجـة من كلامـه .
وفي كلٍّ من الجوابين نظر بل منع .
أمّا الأوّل: فلأنّ من الواضح البديهي أنّ مطلوبيـة المقدّمـة إنّما هو للتوصّل بها إلى ذيها ; لأنّ المفروض أ نّها مطلوبـة بتبع الغير ولأجلـه فتعلّق الطلب بها لاينشأ إلاّ لكونها يتوصّل بها إلى المطلوب الأصلي .
وا لدليل عليـه أ نّـه لاينقطع السؤال عن تعلّق الوجوب بها بـ «لِمَ» إلاّ بعد الجواب بأ نّها مطلوبـة للتوصّل إليـه ، وإلاّ فمجرّد التوقّف مع قطع النظر عن ترتّب ذي المقدّمـة عليها لايكفي في انقطاع السؤال ، كما يظهر بمراجعـة الوجدان السليم .
وما ذكره من أنّ التوصّل ليس من آثارها ، فيدفعـه أ نّك عرفت فيما سبق أنّ المراد بكلمـة الموصل ليس خصوص العلّـة التامّـة ، كما ربّما يوهمـه الجمود على ظاهرها ، بل المراد بـه ترتّب ذي المقدّمـة عليها والإتيان بـه بعدها .
وأمّا الثاني: فلايخفى أنّ إرادة شيء لأجل غايـة ترجع إلى إرادتـه مقيّداً بها ، كما هو واضح ، ضرورة أنّ العقل لايحكم بحكم إلاّ مع تشخيص موضوعـه بجميع جهاتـه وحيثياتـه التي لها مدخليّـة في الحكم ، وإذا حكم بحكم لموضوع من جهـة خاصّـة وحيثيـة مخصوصـة فيستحيل أن يصرف حكمـه عن تلك الجهـة والحيثيـة ، ويسري إلى ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحيثيـة التي تكون دخيلاً في ترتّب الحكم أو إلى بعض الجهات الاُخر المغايرة لهذه الجهـة ،
1 ـ كفايـة الاُصول: 149 ـ 150.
(الصفحة91)
فإذا سلّم أنّ مطلوبيـة المقدّمـة إنّما هو للتوصّل بها إلى ذيها ، كما هو المفروض في الجواب الثاني ، فلا محا لـة تكون المطلوبيـة واقعةً على المقدّمة بتلك الحيثية ، وإلاّ فذاتها مطلقاً ولو مع بعض الحيثيات الاُخر لايتعلّق بها طلب أصلاً .
وما اشتهر في الألسن من الفرق بين الجهات التعليليـة والتقييديـة بكون الثانيـة دخيلاً في الموضوع وقيداً لـه دون الاُولى ، ليس بصحيح ، فإنّ جميع الجهات التعليليـة راجعـة إلى الجهات التقييديـة ; لما عرفت من استحا لـة أن يصرف العقل حكمـه الثابت لموضوع عنـه إلى غيره ، وهذا بمكان من الوضوح .
وانقدح من جميع ما ذكرنا أ نّـه لو قلنا با لملازمـة ، فا لواجب متابعـة صاحب الفصول(قدس سره) والأخذ بقولـه الراجع إلى ثبوت الملازمـة بين وجوب ذي المقدّمـة وبين الوجوب المتعلّق بخصوص المقدّمات الموصلـة ، وقد عرفت أ نّـه لايرد عليـه شيء ممّا أوردها القوم عليـه .
وعلى تقدير تسليم الورود ، فلايدفعـه التوجيـه بلحاظ الإيصال ، كما عرفت من الدّرر ، أو با لحصّـة التوأمـة كما عرفت من التقريرات ، إلاّ أنّ الكلام في أصل ثبوت الملازمـة ، وسيجيء ما هو الحقّ في بابها ، فانتظر .
في ثمرة القول بالمقدّمـة الموصلـة
قد يقال ـ كما قيل ـ بأنّ ثمرة القول با لمقدّمـة الموصلـة هو تصحيح العبادة التي يتوقّف على تركها فعل واجب أهمّ ، كا لصلاة التي يتوقّف على تركها فعل الإزا لـة التي هي واجبـة ، وتكون أهمّ من فعل الصلاة بناءً على أن يكون ترك أحد الضدّين مقدّمةً لوجود الآخر ، كما سيأتي تحقيقـه في مبحث الأمر با لشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه أم لا ؟ فإنّـه بناءً على هذا القول لايكون الترك مطلقاً واجباً ليكون فعلها محرّماً ، فتكون فاسدةً ، بل الواجب هو الترك الموصل إلى فعل الضدّ
(الصفحة92)
ا لواجب ، والمحرّم إنّما هو نقيض هذا الترك الخاصّ الذي يقارن مع الفعل تارةً ، ومع الترك المجرّد اُخرى ، ومن المعلوم أ نّـه لايسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر فضلاً عن المتقارنين ، وحينئذ فلايكون الفعل محرّماً حتّى يكون فاسداً .
مناقشـة الشيخ الأنصاري في الثمرة
وربّما اُورد على تفريع هذه الثمرة ـ كما في التقريرات المنسوبـة إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره) ـ بما حاصلـه أنّ فعل الضدّ وإن لم يكن نقيضاً للترك الواجب مقدّمـة بناءً على المقدّمـة الموصلـة إلاّ أ نّـه لازم لما هو من أفراد النقيض حيث إنّ نقيض ذاك الترك الخاصّ ، وهو أعمّ من الفعل والترك المجرّد ، وهذا يكفي في إثبات الحرمـة ، وإلاّ لم يكن الفعل محرّماً ولو بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمـة ; لأنّ الفعل أيضاً ليس نقيضاً للترك ، لأنّـه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنّما هو رفعـه ، ورفع الترك الذي هو أمر عدمي لايمكن أن يتّحد مع الفعل الذي هو أمر وجودي ، فكما أنّ مجرّد الملازمـة بين نقيض الترك والفعل يكفي في اتّصافـه با لحرمـة فكذلك تكفي في المقام ، غايـة الأمر أنّ مصداق النقيض للترك إنّما ينحصر في الفعل فقط ، وأمّا نقيض الترك الخاصّ فلـه مصداقان ، وذلك لايوجب تفاوتاً بينهما فيما نحن بصدده ، كما لايخفى .
وأجاب عن الإيراد المحقّقُ الخراساني(قدس سره) في الكفايـة حيث قال : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإنّ الفعل في الأوّل لايكون إلاّ مقارناً لما هو النقيض
1 ـ الفصول الغرويّـة: 98 / السطر 6، كفايـة الاُصول: 150 ـ 151.
2 ـ مطارح الأنظار: 78 / السطر 26.
(الصفحة93)
من رفع الترك المجامع معـه تارة ومع الترك المجرّد اُخرى ، ولايكاد تسري حرمـة الشيء إلى ما يلازمـه فضلاً عمّا يقارنـه أحياناً .
نعم لابدّ أن لايكون الملازم محكوماً فعلاً بحكم آخر على خلاف حكمـه ، لا أن يكون محكوماً بحكمـه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فإنّـه بنفسـه يعاند الترك المطلق وينافيـه لا ملازم لمعانده ومنافيـه ، فلو لم يكن عين ما يناقضـه بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّـه متّحد معـه عيناً وخارجاً ، فإذا كان الترك واجباً فلا محا لـة يكون الفعل منهياً عنـه قطعاً ، فتدبّر جيّداً . انتهى .
والتحقيق أن يقال: إنّـه لو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء رفعـه الذي هو أمر عدمي وقلنا بأنّ وجوب الشيء إنّما يقتضي حرمـة النقيض فقط ، فلا إشكال في أنّ الفعل لايصير محرّماً حتّى بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمـة ; لأنّ نقيض الترك المطلق رفعـه الذي هو عبارة عن ترك الترك ، فا لحرمـة إنّما يتعلّق بهذا ، ومن المعلوم عدم اتّحاده مع الفعل أصلاً ; لأنّـه يستحيل أن يتّحد الحيثيـة العدميـة مع الحيثيـة الثبوتيـة الراجعـة إلى حيثيـة طرد العدم ، فيمتنع أن يكون النور عين عدم الظلمـة ، وغير ذلك من الأمثلـة .
ومجرّد الملازمـة بينهما لايوجب سرايـة الحكم من النقيض إلى ما يلازم معـه ، وهو الفعل ، بل غايتـه أن لايكون الفعل محكوماً بحكم يخا لف حكم النقيض ، لا أن يكون محكوماً بحكمـه .
ولو قلنا بأنّ نقيض كلّ شيء رفعـه ، أو كون الشيء مرفوعاً بـه ، فنقيض الأمر الوجودي رفعـه الذي عبارة عن الأمر العدمي ، ونقيض الأمر العدمي الأمرُ الوجودي لارتفاعـه بـه ، وقلنا بأنّ الحرمـة تتعلّق بنفس النقيض ، فلا إشكال في
1 ـ كفايـة الاُصول: 151 ـ 152.
(الصفحة94)
حرمـة الفعل بناء على أن يكون الواجب هو الترك المطلق ; لأنّ الفعل حينئذ يكون نقيضاً لـه ، لا أن يكون ملازماً لما هو النقيض لارتفاع الترك بمجرّد الفعل ، وأمّا بناء على القول با لمقدّمـة الموصلـة وأنّ الواجب هو الترك الموصل ، فلايكون الفعل بنفسـه نقيضاً للترك الخاصّ ، فلايتّصف با لحرمـة ، لا لأنّ الفعل لايكون إلاّ مقارناً لما هو النقيض من رفع الترك الخاصّ المجامع معـه تارة ومع الترك المجرّد اُخرى ، كما يظهر من الكفايـة في العبارة المتقدّمـة ، وذلك لأنّ المقارنـة ممنوعـة ، فإنّ معناها كما في سائر الموارد يرجع إلى إمكان الانفكاك ، ومن المعلوم استحا لتـه في المقام ، فإنّـه مع وجود الفعل لايمكن أن لايكون معـه رفع الترك الخاصّ ، ومع عدمـه لايكون هنا شيء حتّى يقال بانفكاك النقيض عنـه ، كما أنّ انطباق الإنسان على زيد وصدقـه عليـه يتوقّف على وجوده ، وإلاّ فمع عدمـه لايصدق عليـه أصلاً ، فمجرّد ذلك لايوجب أن يقال بأنّ الإنسان مقارن لزيد ، كما هو واضح ، بل لأجل أنّ المفروض عدم سرايـة الحكم من النقيض إلى شيء آخر .
ولو قلنا بأنّ مجرّد المعاندة والمنافرة يكفي في حرمـة الشيء لأنّ النقيض عبارة عمّا يعاند الشيء بحيث لايمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما ، أو قلنا بأنّ مجرّد انطباق النقيض على شيء يكفي في اتصافـه با لحرمـة وإن لم يتّحد معـه ، فلا إشكال في حرمـة الفعل على القولين ، كما هو واضح لايخفى .
مناقشـة العلمين: الأصفهاني والعراقي
ثمّ إنّـه اعترض بعض المحقّقين في شرحـه على الكفايـة على تفريع الثمرة بما حاصلـه : أنّ المراد با لمقدّمـة الموصلـة إمّا العلّـة التامّـة أو المقدّمـة التي لا تنفكّ عن ذيها .
(الصفحة95)
فالمقدّمـة الموصلـة على الأوّل: ترك الصلاة ووجود الإرادة ، ومن الواضح أنّ نقيض المجموع من الأمرين مجموع النقيضين ، وإلاّ فليس لهما بهذا الاعتبار نقيض ، فنقيض الترك هو الفعل ، ونقيض الإرادة عدمها ، فإذا وجب مجموع الترك والإرادة بوجوب واحد ، حرم مجموع الفعل وعدم الإرادة بحرمـة واحدة ، ومن الواضح تحقّقهما عند إيجاد الصلاة ، بداهـة عدم إمكان إرادة الإزا لـة مع فعل الصلاة .
وأمّا على الثاني: فا لمقدّمـة هو الترك الخاصّ ، وحيث إنّ الخصوصيـة ثبوتيـة ، فا لترك الخاصّ لا رفع لشيء ولا مرفوع بشيء ، فلا نقيض لـه بما هو ، بل نقيض الترك المرفوع بـه هو الفعل ، ونقيض الخصوصيـة عدمها الرافع لها ، فيكون الفعل محرّماً لوجوب نقيضـه ، ومن الواضح اقتران الفعل بنقيض تلك الخصوصيـة المأخوذة في ظرف الترك ، كما هو واضح ، فافهم واغتنم . انتهى .
ونظير هذا يظهر من تقريرات بعض الأعاظم حيث قال ما ملخّصـه: الحقّ اندفاع ما اُورد على الشيخ(قدس سره) في المقام ; لأنّ المقدّمـة المتقيّدة بالإيصال تنحلّ إلى ذات وخصوصيـة ، ووحدتها في عا لم الموضوعيـة ليست إلاّ أمراً اعتبارياً ناشئاً من وحدة الحكم ; لامتناع أن يكون مورد الحكم في مثل المقام واحداً حقيقيّاً مع اختلاف الذات والتقيّد في المقولـة ، ونتيجـة الانحلال هو عروض الحكم على الاُمور المتكثّرة ، ومن شأنها تكثّر نقيضها بلا حاجـة إلى تصـوّر جامع بينها كي يستشكل في المقام بعدم معقوليـة كون العدم جامعاً بين الوجود والعدم المحض ، إلاّ أنّ لازم تعدّد نقيض الواجب هو مبغوضيـة أوّل نقيض يتحقّق في الخارج ; لأنّـه بوجوده يتحقّق عصيان الأمر ، فيسقط ، فلايبقى موضوع
1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 150 ـ 151.
(الصفحة96)
لمبغوضيـة غيره .
ففي المثال المعروف إذا كان الشخص الآتي با لصلاة مريداً للإزا لـة في فرض عدم إتيانـه با لصلاة ، فأوّل نقيض لمتعلّق الوجوب الغيري هو فعل الصلاة ، فتصير مبغوضةً ، فتبطل .
وأمّا إذا كان الشخص الآتي با لصلاة غير مريد للإزا لـة على تقدير عدم الإتيان با لصلاة ، فأوّل نقيض للواجب هو عدم إرادة الإزا لـة ، فيكون هو المبغوض ، ولا تصل النوبـة إلى مبغوضيـة الصلاة ; لسقوط الأمر الغيري بعصيانـه بترك إرادة الإزا لـة ، فتبقى الصلاة مع محبوبيّتها ، فلا وجـه لبطلانها . انتهى ملخّص ما في التقريرات .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ الانحلال والتعدّد إنّما هو في الواقع ومع قطع النظر عن كونهما موضوعاً لحكم واحد وإرادة واحدة ، فإنّـه يصحّ أن يقال بأنّ نقيضهما مجموع النقيضين ، بمعنى أ نّـه لايكون للمجموع نقيض واحد ; لأنّـه ليس إلاّ أمراً اعتبارياً ، بل هما شيئان ، ولهما نقيضان . وأمّا مع ملاحظـة تعلّق حكم واحد بهما ـ كما هو المفروض في المقام ـ فمن الواضح كونهما شيئاً واحداً بهذا الاعتبار ; إذ لايعقل أن يتعلّق الحكم الواحد والإرادة الواحدة با لشيئين بوصف كونهما كذلك من دون اعتبار الوحدة بينهما .
وما ذكره في التقريرات: من أن الوحدة ناشئـة عن وحدة الحكم .
ففيـه: أنّ الأمر با لعكس ; إذا الوحدة إنّما هو قبل تعلّق الحكم وبلحاظـه ; لما عرفت من أنّ تشخّص الإرادة با لمراد ، ومع تعدّده لايعقل وحدتها ، فا لحقّ في المقام ما ذكرنا من دوران الأمر مدار مفهوم النقيض ومعناه ، أنّ نقيض الحكم هل
1 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1: 395 ـ 396.
(الصفحة97)
يتعلّق با لنقيض أو بالأعم ممّا ينطبق عليـه ؟ كما حقّقناه ، فراجع .
الأمر الثامن
في الواجب الأصلي والتبعي
قال في الفصول: الأصلي ما فُهم وجوبـه بخطاب مستقلّ ، أي غير لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبـه تابعاً لوجوب غيره ، والتبعي بخلافـه ، وهو ما فُهم وجوبـه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبـه مستقلاّ ، كما في المفاهيم ، والمراد با لخطاب هنا ما دلّ على الحكم الشرعي فيعمّ اللفظي وغيره . انتهى .
وظاهره كما ترى أنّ هذا التقسيم إنّما هو بحسب مقام الدلالـة والإثبات ، لابحسب مقام الثبوت ، ولكن استظهر المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفايـة كون التقسيم بلحاظ الأصا لـة والتبعيّـة في الواقع ومقام الثبوت .
قال : حيث إنّـه يكون الشيء تارة متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلاّ للالتفات إليـه بما هو عليـه ممّا يوجب طلبـه فيطلبـه ، كان طلبـه نفسيّاً أو غيريّاً ، واُخرى متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غيره لأجل كون إرادتـه لازمةً لإرادتـه من دون التفات إليـه بما يوجب إرادتـه .
هذا ، ولكن يرد عليـه أنّ مقتضى التقسيم وجعل الأصلي با لمعنى المذكور أن يكون التبعي عبارةً عمّا لم تتعلّق بـه إرادة مستقلّـة لأجل عدم الالتفات إليـه تفصيلاً ، سواء كانت إرادتـه تبعاً لإرادة غيره المراد نفساً والمطلوب كذلك أم لم يكن كذلك ، فا لتخصيص بالاُولى يوجب خروج الثاني عن التقسيم ، وعدم دخولـه
1 ـ الفصول الغرويّـة: 82 / السطر 7.
2 ـ كفايـة الاُصول: 152.
(الصفحة98)
لا في الأصلي ولا في التبعي ، كما لايخفى .
ويظهر من بعض المحقّقين في حاشيتـه على الكفايـة معنى آخر ، وهو : أنّ للواجب وجوداً ووجوباً با لنسبـة إلى مقدّمتـه جهتان من العلّيـة إحداهما العلّيـة الغائيـة حيث إنّ المقدّمـة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها ، بخلاف ذيها ، فإنّـه مراد لا لمراد آخر ، والثانيـة العلّيـة الفاعليـة ، وهي أنّ إرادة ذي المقدّمـة علّـة لإرادة مقدّمتـه ، ومنها تنشأ وتترشّح عليها الإرادة .
وا لجهـة الاُولى مناط الغيريـة ، والجهـة الثانيـة مناط التبعيّـة ، ووجـه الانفكاك بين الجهتين أنّ ذات الواجب النفسي حيث إنّـه مترتّب على الواجب الغيري ، فهي الغايـة الحقيقيّـة ، لكنّـه ما لم يجب لا تجب المقدّمـة ، فوجوب المقدّمـة معلول خارجاً ، لوجوب ذيها ، ومتأخّر عنـه رتبةً ، إلاّ أنّ الغرض منـه ترتّب ذيها عليها . انتهى موضع الحاجـة .
ولكن لايخفى أنّ إرادة المقدّمـة لايعقل أن تكون معلولةً لإرادة ذيها ، بمعنى صدورها عنها وترشّحها عنها كترشّح المعلول من العلّـة ; لأنّ الإرادة المتعلّقـة بذي المقدّمـة قد توجد مع عدم تعلّقها با لمقدّمـة لأجل عدم التوجّـه إلى المقدّمـة أو إلى مقدّميتها ، ومن المعلوم أنّ الإرادة إنّما هو بعد التوجّـه ; لما حقّق في محلّـه من أنّ تصوّر المراد والتوجّـه إليـه من مبادئ الإرادة ، بل مقدّم على جميعها ، فكيف يمكن أن تتعلّق بما لايكون متوجّهاً إليـه ، وتعلّق الإرادة على فرض التوجّـه لا محا لـة لايفيد في تصحيح المعلوليـة مطلقاً .
وا لحقّ كما عرفت مراراً أنّ إرادة المقدّمـة كإرادة ذيها تحصل بفعّا ليـة
1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 157 ـ 158.
2 ـ الحكمـة المتعاليـة 4: 114، و 6: 342.
(الصفحة99)
ا لنفس وموجدة بفاعليتها ، غايـة الأمر أنّ الفائدة المترتّبـة عليها ليست إلاّ حصول ما هو مطلوب با لذات ، بخلاف المراد الأوّلي والمطلوب الأقصى ، كما لايخفى .
وا لإنصاف أنّ هذا التقسيم إنّما هو بلحاظ الأصا ليـة والتبعيـة في مقام الإثبات ، كما عرفت من صاحب الفصول(قدس سره) ، لابحسب مقام الواقع والثبوت ، كما لايخفى .
حول الأصل عند الشكّ في الأصليّـة والتبعيّـة
ثمّ إنّـه ذكر في الكفايـة أ نّـه إذا كان الواجب التبعي ما لم تتعلّق بـه إرادة مستقلّـة ، فإذا شكّ في واجب أ نّـه أصلي أو تبعيّ ، فبأصا لـة عدم تعلّق إرادة مستقلّـة بـه يثبت أ نّـه تبعيّ ، ويترتّب عليـه آثاره إذا فرض لـه أثر شرعي ، كسائر الموضوعات المتقوّمـة باُمور عدميـة .
نعم لو كان التبعي أمراً وجوديّاً خاصّاً غير متقوّم بعدمي وإن كان يلزمـه ، لما كان يثبت بها إلاّ على القول بالأصل المثبت ، كما هو واضح ، فافهم .
وذكر المحقّق المحشّي: أ نّـه إن كان مناط التبعيّـة عدم تفصيليـة القصد والإرادة ، فا لتبعيـة موافقـة للأصل ; للشك في أنّ الإرادة ملتفت إليها أم لا ، والأصل عدمـه ، وإن كان مناطها نشو الإرادة عن إرادة اُخرى وترشّحها منها ، فالأصليـة موافقـة للأصل ; إذ المترشّح من إرادة اُخرى ، ونشوها منها أمر وجودي مسبوق با لعدم ، وليس الاستقلال في الإرادة على هذا أمراً وجوديّاً ، بل هو عدم نشوها عن إرادة اُخرى ، بخلاف الاستقلال من حيث توجّـه الالتفات إليها ، فإنّـه
1 ـ كفايـة الاُصول: 153.
(الصفحة100)
أمر وجودي ، كما عرفت . انتهى .
ولكن لايخفى: أ نّـه لو قلنا بأنّ مناط التبعيّـة عدم تعلّق إرادة مستقلّـة بـه ، كما ذهب إليـه صاحب الكفايـة ، فلا تكون التبعيّـة موافقةً للأصل ; إذ ليست هي عبارة عن نفس عدم تعلّق إرادة مستقلّـة بـه على نحو السلب التحصيلي حتّى تكون مسبوقةً با لعدم ، فإنّ السلب التحصيلي يصدق مع انتفاء الموضوع أيضاً ، وهو لاينطبق على المقام أصلاً ; لأنّ الواجب التبعي هو ما كان متعلّقاً للإرادة ، غايـة الأمر أ نّـه لا تكون إرادتـه تفصيليّةً ; فهو ـ أي السلب ـ إمّا مأخوذ فيـه على نحو السلب العدولي ، أو الموجبـة سا لبـة المحمول ، وعلى التقديرين لا تكون موافقـة للأصل ، واستصحاب بقاء العدم المأخوذ صفـة لاينتج في إثبات ثبوتها لهذه الإرادة المتعلّقـة با لواجب ، كما في استصحاب عدم القرشيـة الغير الجاري على التحقيق ، كما أ نّـه لو قلنا بأنّ مناط التبعيـة هو نشو الإرادة من إرادة اُخرى وترشّحها منها ، كما اختاره المحقّق المحشّي في عبارتـه المتقدّمـة ، لا تكون الأصليـة موافقةً للأصل ; لأنّ عدم ترشّح الإرادة من إرادة اُخرى لايكون مأخوذاً فيها على نحو السلب التحصيلي الصادق مع انتفاء الموضوع بل العدولي ، ولا تكون مع هذا موافقةً للأصل ، بعين التقريب المتقدّم .
فالتحقيق: أ نّـه بناء عليهما لا تكون شيء من التبعيّـة والأصليـة موافقةً للأصل ، فا لواجب الرجوع إلى الاُصول العمليّـة ، كما لايخفى .
1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 158.
|