(الصفحة141)
هذا ، ولو سلّم كون الشرط لوجوب القصر والإتمام هو نفس الإقامـة مثلاً ، فمن المعلوم أنّ تحقّقـه موقوف على تحقّق الإقامـة عشرة أيّام ، وحينئذ فإذا تحقّقت يجيء الأمر بالإتمام وبا لصوم ، فقبل تحقّقها لايكون هنا إلاّ النهي ، وبعد تحقّقها المستلزم لسقوط النهي با لعصيان لايكون هنا إلاّ الأمر با لصوم وبالإتمام ، فأين يلزم الترتّب .
ثمّ لو سلّم الجميع ، فا لكلام إنّما هو فيما لو كان الأمر الثاني مشروطاً بما يتأخّر عن الأمر الأوّل من عصيان ونحوه ، مع أنّ مورد النقض يكون الأمر با لصوم أو الإتمام مترتّباً على نفس الإقامـة بناءً عليـه ، ومن المعلوم أنّ الإقامـة لايكون متأخّراً عن النهي المتعلّق بها حتّى يلزم الترتّب ، فا لمقام يكون طلباً للجمع حينئذ مع عدم الترتّب والطوليـة ، كما لايخفى .
ولنختم بذلك الكلام في الترتّب ، وقد عرفت في صدر المبحث ما هو مقتضى التحقيق ، فتأمّل جيّداً .
(الصفحة142)
الفصل السادس
في جواز الأمر مع العلم بانتفاء شرطـه
ربّما يحتمل في عنوان النزاع احتمالات :
أحدها: أن يكون المراد با لجواز الإمكان الوقوعي ، والضمير في شرطـه راجعاً إلى نفس الأمر ، فمرجع النزاع حينئذ إلى إمكان تحقّق المعلول من دون تماميـة علّتـه .
الثاني: أن يكون الضمير أيضاً راجعاً إلى نفس الأمر ولكن كان المراد با لجواز الإمكان الذاتي ، فمرجع النزاع حينئذ إلى أنّ تحقّق الأمر مع عدم تحقّق علّتـه هل هو من الممكنات الذاتيـة التي لاينافي عروض الامتناع لها والوجوب من ناحيـة وجود العلّـة وعدمها .
الثالث: أن يكون الضمير راجعاً إلى المأمور بـه أو المأمور ، فيرجع النزاع إلى جواز الأمر مع العلم بكون المكلّف غير قادر على إتيان المأمور بـه إمّا لفقد شرطـه أو لعلّـة فيـه .
هذا ، ولكن النزاع على الوجهين الأوّلين ـ مضافاً إلى كونـه بعيداً عن محلّ الخلاف بين الأعلام ـ ينافي ظاهر العنوان من حيث أخذ العلم فيـه ، فإنّـه لو كان
(الصفحة143)
ا لنزاع في إمكان تحقّق المعلول بدون علّـة بالإمكان الوقوعي أو الذاتي ، فلا مجال لكون العلم دخيلاً فيـه أصلاً ، كما هو واضح ، فينحصر أن يكون المراد هو الاحتمال الثا لث ، ومرجعـه إلى النزاع بين العدليـة والأشاعرة ، فإنّهم اختلفوا في جواز التكليف با لمحال ، فذهب الطائفـة الاُولى إلى عدم الجواز خلافاً للطائفـة الثانيـة القائلين با لجواز ، ولعلّ قولهم با لجواز مبني على ما ذكروه في مبحث الطلب والإرادة وكونهما مختلفين ، وإلاّ فلايعقل أن تتحقّق الإرادة با لنسبـة إلى مَنْ يعلم عدم صدور الفعل منـه ، كما هو واضح .
وكيف كان فا لذي يقتضيـه التحقيق في مورد النزاع هو أن يقال : إنّ الأوامر على قسمين :
أحدهما: الأوامر الشخصيـة الجزئيـة المتوجّهـة إلى أشخاص المأمورين .
ثانيهما: الأوامر الكليّـة المتوجّهـة إلى المكلّفين بنحو العموم .
أمّا ما يكون من قبيل الأوّل : فعدم إمكان تحقّقـه في صورة العلم بانتفاء شرط تحقّق المأمور بـه واضح ضروري ، وذلك لأنّ غايـة البعث إنّما هو الانبعاث وحركـة المكلّف نحو المطلوب ، فإذا فرض العلم بعدم إمكان تحقّق الانبعاث ـ كما في المقام ـ فيستحيل تحقّق البعث والتحريك من الآمر ; إذ مع العلم بعدم ترتّب الغايـة عليـه كيف يمكن أن ينقدح في نفسـه إرادة البعث مع أنّ من مبادئ الإرادة التصديق بفائدة المراد ، ولعمري أنّ هذا واضح جدّاً .
وأمّا ما يكون من قبيل القسم الثاني الذي إليـه ترجع الخطابات الشرعيـة الواردة بنحو العموم المتوجّهـة إلى الناس كذلك أيضاً ، فلايخفى أ نّـه لايضرّ بذلك كون بعض المكلّفين غير قادرين على الإتيان با لمأمور بـه ، فإنّ توجيـه الأمر بهذا النحو لايشترط فيـه إلاّ كون الأمر صا لحاً لانبعاث المكلّفين بحسب النوع ، وأمّا مجرّد العلم بعدم تحقّق الانبعاث با لنسبـة إلى بعض المكلّفين فلايضرّ بتوجيـه
(الصفحة144)
ا لأمر بهذا النحو .
نعم لو كان المكلّفون بحسب النوع غير منبعثين ، لاستحال تعلّق الأمر بهذا النحو أيضاً ، وقد عرفت تفصيل الكلام في الفرق بين قسمي الأمر والخطاب في صدر مبحث الترتّب ، فراجع .
(الصفحة145)
الفصل السابع
في أنّ متعلّق الطلب هل هي الطبيعة أو الأفراد ؟
وقبل الخوض في تحقيق المقام لابدّ من تحرير محلّ النزاع ، فنقول : ظاهر العنوان محتمل لاحتمالات :
أحدها: أن يكون المراد با لطبيعـة هي الماهيّـة وبالأفراد هو الوجود بحيث كان مرجع النزاع في هذا المقام إلى النزاع المعروف المشهور في الفلسفـة ، وهو أنّ الأصيل هل هي الماهيّـة أو الوجود ؟ فا لقائلون بأصا لـة الماهيّـة يقولون بتعلّق الطلب بها لكونها أصيلاً ، والقائلون بأصا لـة الوجود يقولون بتعلّق الطلب بـه لكونـه أصيلاً .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ النزاع على هذا الوجـه بعيد عن محلّ الكلام بين الاُصوليين .
ثانيها: أن يكون النزاع راجعاً ومبنيّاً على القول بأنّ الطبيعي هل يكون موجوداً في الخارج أو أنّ وجوده بمعنى وجود أفراده ؟ وكون النزاع على هذا
(الصفحة146)
ا لوجـه وإن كان ربّما يظهر من بعض الاستدلالات كما نقلـه في الفصول إلاّ أنّ ا لظاهر أ نّـه أيضاً بعيد عن محلّ الخلاف بين الاُصوليين ، كما هو واضح .
ثالثها: أن يكون النزاع راجعاً إلى النزاع في موادّ المشتقّات ، فا لقائلون بكونها موضوعةً لنفس الطبائع با لوضع العامّ والموضوع لـه العامّ يقولون بتعلّق الطلب با لطبيعـة ; لأنّها مدلولـة للمادّة ، كما أنّ القائلين بكونها موضوعةً بنحو الوضع العامّ والموضوع لـه الخاصّ يقولون بتعلّق الطلب بالأفراد ; لأنّها موضوع لها للمادّة ، والمفروض أنّ الهيئـة لا تدلّ إلاّ على البعث بما تتضمّنـه المادّة .
رابعها: أن يكون مرجع النزاع ـ بعد الاتّفاق على أنّ موادّ المشتقّات موضوعـة للماهيـة لابشرط كما نقلـه السكّاكيـ إلى أنّ المادّة بعد تعلّق الطلب بها هل تشرب معنى الوجود لأنّ الطلب إنّما يتعلّق بها من هذه الحيثيّـة ، أو أنّ الطلب إنّما يتعلّق بنفس مدلولها الذي هي الماهيّـة لابشرط ؟
وا لنزاع على الوجهين الأخيرين يرجع إلى النزاع في الأمر اللغوي ، كما أ نّـه على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً ، وقد عرفت أ نّـه على الوجهين الأوّلين بعيد عن محلّ الخلاف بين الاُصوليّين ، كما أ نّـه على الأخيرين يلزم اختصاص النزاع بما إذا كان الطلب بصيغـة الأمر با لنسبـة إلى مادّتها فقط ، وأمّا لو كان الطلب بغير صيغـة الأمر أو كان الطلب بها ولكن كانت المادّة مقيّدةً بأمر آخر ، كقولـه : صلّ مع الطهارة ، فلايجري ، بناءً عليهما ، مع أنّ الظاهر دخول جميع الأقسام والصور في محلّ النزاع .
والتحقيق أن يقال: إنّ مورد النزاع إنّما هو أنّ متعلّق الطلب هل هي
1 ـ الفصول الغرويّـة: 125 / السطر 36 ـ 40.
2 ـ اُنظر قوانين الاُصول 1 : 121 / السطر 23.
(الصفحة147)
ا لماهيّـة من حيث هي هي ، أو أ نّـه هي الماهيّـة بلحاظ وجودها في الخارج ؟ إذ لايعقل أن يتعلّق الطلب با لفرد ; للزوم تحصيل الحاصل .
وحينئذ فنقول: إنّ الظاهر هو الأوّل ، وذلك لأنّـه بعد كون المصلحـة الباعثـة على الطلب قائمةً بنفس الماهيّة من دون مدخلية لشيء آخر أصلاً ، كما هو المفروض ، ومن المعلوم أنّ اللّفظ لايحكي إلاّ عن مدلولـه الذي هي نفس الماهيّـة في المقام ، فسرايـة الطلب منها إلى غيرها مستلزم لكون بعض المطلوب ممّا ليس لـه دخل في حصول الغرض أصلاً ، ولكون اللّفظ حاكياً عمّا ليس بموضوع لـه ، واتّحاد الماهيّـة مع وجوداتها في الخارج لايستلزم أن يكون اللّفظ الموضوع بإزائها دالاّ عليها أيضاً ، كيف وباب الألفاظ لا ربط لـه بباب الحقائق ، كما هو واضح .
وتوهّم: أنّ الماهيّـة من حيث هي هي ليست إلاّ هي لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غير مطلوبـة ، فكيف يمكن أن يتعلّق الطلب بها من هذه الحيثيـة .
مدفوع: بأنّ معنى هذا الكلام عدم كون الموجوديـة والمعدوميـة ونظائرهما مأخوذةً في الماهيّـة بحيث كانت تمامَ ذاتها أو جزءَ ذاتها ، وهذا لايستلزم استحا لـة تعلّق الطلب بها من حيث نفسها ، كيف ولا ارتباط بين المقامين أصلاً ، كما هو واضح .
وقد يتوهّم أيضاً: أنّ الماهيّـة من دون لحاظ وجودها في الخارج ليست منشأً لأثر ; إذ الآثار إنّما يترتّب على الوجود على ما هو مقتضى التحقيق ، فكيف يجوز أن تجعل في حيّز الطلب .
ولكنّـه مدفوع أيضاً: بأنّ الماهيّـة من هذه الحيثيـة ـ أي مع لحاظ وجودها في الخارج ـ ظرف لسقوط الطلب ، فا لمصحّح لتعلّقـه بها إنّما هو هذه الحيثيـة
(الصفحة148)
ا لتي لا تكون الماهيّـة بها منشأً للأثر ; إذ لحاظ التحقّق في الخارج إنّما هو لحاظ السقوط وحصول المطلوب ، كما هو واضح .
فالحقّ: أنّ الطلب إنّما تعلّق بنفس الماهيّـة ، غايـة الأمر أنّ صدق عنوانها يتوقّف على التحقّق الخارجي ، فالأمر بإكرام زيد مثلاً إنّما تعلّق بنفس طبيعـة الإكرام ، غايـة الأمر أنّ صدق عنوان الإكرام وتحقّقـه يتوقّف على وجوده ; إذ ماهيّـة الإكرام لا تكون إكراماً ، كما هو واضح .
ثمّ لايخفى أنّ في التقريرات المنسوبـة إلى المحقّق العراقي(قدس سره) قد عقد بعد هذا الفصل فصلاً آخر لسرايـة الطلب المتعلّق بصرف وجود الطبيعـة إلى حصصها أو الخصوصيات الفرديـة ، وكلامـه فيـه مبني على ما يقولـه الرجل الهمداني ، وقد فصّل مع جوابـه في محلّـه ، فراجع .
1 ـ نهايـة الأفكار 1: 384 ـ 389.
(الصفحة149)
الفصل الثامن
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
وا لكلام هنا تارة يقع في الإرادة الحتميـة التي ينشأ منها البعث ، واُخرى في البعث والوجوب ، وعلى التقديرين تارة يقع الكلام في إمكان بقاء الجواز بعد النسخ ، واُخرى في بيان مقتضى الجمع بين الدليلين ، وأ نّـه هل يقتضي الدليل ثبوتـه بعد الفراغ عن إمكان البقاء ثبوتاً ، فا لبحث يتمّ في ضمن اُمور :
الأمر الأوّل: في إمكان بقاء الجواز
فنقول : أمّا الكلام في الإرادة الحتميـة فقد يقال بإمكان بقاء أصلها بعد نسخها بتلك المرتبـة القويّـة ، نظراً إلى أنّ الإرادة وإن كانت من البسائط إلاّ أنّ صدقها على أفرادها إنّما هو على سبيل التشكيك ، كما يظهر بمراجعـة الوجدان ، فإنّ الإنسان قد يريد شيئاً بحيث لايمكن ردعـه عنها ، وقد يريد شيئاً ولكنّـه يمكن أن ينصرف عنها لتحقّق بعض الموانع ، وحينئذ فإذا نسخت بتلك المرتبـة القويّـة ،
(الصفحة150)
فلا مانع من بقائها ولو في ضمن المرتبـة الضعيفـة .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ معنى البساطـة هو عدم كون تلك الحقيقـة البسيطـة مركّبةً من شيء مشترك بين أفرادها بحيث كانت التفاوت الموجود بينها خارجاً عن الحقيقـة ، بل كانت تفاوت أفراد الطبيعـة من حيث القوّة والضعف ونظائرهما بحيث يكون ما بـه الاختلاف عين ما بـه الاشتراك ، وحينئذ فكيف يعقل ارتفاع بعض الأفراد وبقاء شيء منـه ؟ ! وهل يتوهّم أحد أ نّـه لو ارتفع الوجوب من الواجب الوجود يبقى أصل الوجود حتّى يمكن أن يصير ماديّاً ؟
وبا لجملـة ، فمن الواضح عدم إمكان البقاء في مثل البسائط .
هذا في الإرادة ، وأمّا الوجوب فكذلك أيضاً ، فإنّـه مع بساطتـه ـ كما اعترف بـه القائل ـ كيف يمكن بقاء شيء منـه ، كما هو واضح .
فا لتحقيق أ نّـه لايمكن البقاء ثبوتاً حتّى يبحث في مقام الإثبات .
الأمر الثاني: في مقتضى الأدلّـة إثباتاً بعد فرض إمكانـه
ثمّ إنّـه لو سلّمنا إمكان البقاء بحسب مقام الثبوت فهل يقتضي الدليل بقاء الجواز قد يقال : نعم ; لأنّ ذلك مقتضى الجمع بين دليلي الناسخ والمنسوخ ، نظير ما إذا ورد دليل على وجوب شيء ودليل آخر على عدم وجوبـه ، فإنّـه لا إشكال في أنّ مقتضى الجمع بينهما هو حمل الأوّل على الاستحباب ، فليكن المقام كذلك أيضاً ; لأنّـه لا فرق بينهما أصلاً .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ قياس المقام بذلك المثال قياس مع الفارق ; لأنّ
1 ـ لاحظ نهايـة الدرايـة 2: 262 ـ 266، نهايـة الأفكار 1: 389 ـ 390.
(الصفحة151)
ا لحمل على الاستحباب هناك لقيام الدليل على عدم كون البعث ناشئاً من الإرادة الحتميـة حتّى ينتزع منـه الوجوب بناءً على ما ذكرنا في معنى هيئـة «افعل» وأمّا بناء على ما ذكروه فقيام الدليل الآخر على عدم الوجوب قرينـة على إرادة معنى مجازي من الصيغـة الظاهرة في الوجوب عند التجرّد عن القرينـة .
وأمّا هنا فمن المعلوم أنّ دليل المنسوخ ظاهر في الوجوب ، وليس لـه ظهورات متعدّدة حسب تعدّد مراتب الوجوب ، بل ليس لـه إلاّ ظهور واحد في خصوص الوجوب ، غايـة الأمر أ نّـه يكشف عن ثبوت الجواز والرجحان أيضاً ، وحينئذ فمع قيام الدليل على ارتفاعـه الراجع إلى ارتفاع الكاشف لايبقى وجـه لثبوتهما بعد انعدام ما يكشف عنهما ; إذ قد عرفت أ نّـه ليس هنا ظهورات ثلاثـة حتّى يكون مقتضى دليل الناسخ ارتفاع أحدها بحيث لاينافي ثبوت الباقي ، فا لحقّ أ نّـه لو قلنا بإمكان بقاء الجواز ثبوتاً ، فلايكون هنا دليل على بقائـه .
الأمر الثالث: في استصحاب الجواز عند الشكّ في بقائـه
قد يتمسّك في ذلك بالاستصحاب .
ولكن يرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ جريانـه موقوف على جريان الاستصحاب في ا لقسم الثا لث من أقسام استصحاب الكلّي مع أ نّـه محلّ إشكال ـ أ نّـه لو قلنا با لجريان في هذا القسم فهو إنّما فيما إذا لم يختلّ بعض ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب ، وأمّا إذا اختلّ كما في ا لمقام لأنّ الجواز المستصحب لايكون موضوعاً لمجعول شرعي حتّى يترتّب عليـه بالاستصحاب الحكم الذي جعل موضوعاً لـه ، ولايكون بنفسـه مجعولاً حتّى يثبت بالاستصحاب في الزمان اللاّحق فلا .
(الصفحة152)
أمّا عدم كونـه موضوعاً لمجعول شرعي : فواضح .
وأمّا عدم كونـه مجعولاً : فلأنّ الجعل إنّما تعلّق با لوجوب لا بـه .
وتوهّم تعلّق الجعل بـه تبعاً ، مدفوع : بأ نّـه لايكون الجواز جزء للوجوب حتّى يتعلّق الجعل بـه با لتبع ; لما عرفت من كونـه بسيطاً .
(الصفحة153)
الفصل التاسع
في الواجب التعييني والتخييري
ربّما يقسّم الواجب إلى تعييني وتخييري باعتبار أ نّـه لو كان متعلّق الوجوب شيئاً واحداً ، فهو واجب تعييني ، ولو كان شيئين أو أزيد ، فهو واجب تخييري .
وقد يقال بامتناع الثاني ; نظراً إلى أ نّـه لايعقل تعلّق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء على نحو الترديد بأن يكون التعلّق بحسب الواقع ونفس الأمر مردّداً ، وذلك لأنّ تشخّص الإرادة إنّما هو با لمراد ، ومن المعلوم أنّ التشخّص الذي هو مساوق للوجود مناف للإبهام والتردّد ; إذ لايعقل عروض الوجود للشيء المردّد بين الأمرين أو اُمور بأن يكون المردّد من حيث هو مردّد موجوداً في الواقع ، نعم لابأس بأن يكون الواقع المعيّن مردّداً عندنا ومجهولاً لنا ، ولكنّـه لايعقل التردّد مع قطع النظر عن علمنا وجهلنا .
وبا لجملـة فالإرادة من الصفات الحقيقيـة للنفس كا لعلم ونظائره ، ولها أيضاً إضافـة إلى المراد كإضافـة العلم إلى المعلوم ، فكما أنّ تشخّص العلم إنّما هو
(الصفحة154)
با لمعلوم ، ولايعقل تعلّق العلم با لمردّد الواقعي كذلك تشخّص الإرادة وتعيّنها إنّما هو با لمراد ، فلايعقل تعلّقها با لمردّد بحسب نفس الأمر أو بأزيد من شيء واحد ، وهذا في إرادة الفاعل واضح ، ومعلوم أ نّـه لا فرق بينها وبين إرادة الأمر ، فلايمكن تعلّقها أيضاً با لمردّد الواقعي والمبهم النفسي الأمري ، فظهر أ نّـه لايعقل الواجب التخييري ، وحينئذ فيجب صرف ما ظاهره ذلك ممّا ورد في الشرعيات والعرفيات عن ظاهرها ، ويقال بأحد الأقوال التي كلّها مبنيّـة على امتناع الواجب التخييري .
هذا غايـة ما يمكن أن يقال في امتناع الواجب التخييري، ولكنّـه لايخفى ما فيـه ; فإنّ قياس الإرادة التشريعيـة بالإرادة الفاعليـة قياس مع الفارق ، فإنّ معنى الإرادة التشريعيـة ليس راجعاً إلى إرادة الآمر إتيان المأمور با لمأمور بـه ، كيف ويستحيل تخلّفـه با لنسبـة إلى الواجب تعا لى ، بل معناها ليس إلاّ إرادة التشريع والبعث والتحريك ، وحينئذ فنقول : إنّ تعلّق الإرادة بأحد الشيئين أو الأشياء مردّداً ومبهماً وإن كان مستحيلاً ، بداهـة إلاّ أ نّـه لايلزم في الواجب التخييري هذا المحذور أصلاً ، فإنّ الآمر بعدما يتصوّر الشيئين مثلاً ويرى أنّ كل واحد منهما مؤثّر في حصول غرضـه الواحد أو كان هناك غرضان يترتّب أحدهما على أحد الشيئين والآخر على الآخر ولكن مع حصول أحد الغرضين لايمكن تحصيل الآخر أو لايكون تحصيلـه لازماً ، فبعدما رأى ذلك يريد أن يبعث العبد نحوهما فيبعث ، ولكن يفهم العبد ذلك ، أي كون أحدهما غير واجب مع حصول الآخر بأن يخلّل بين البعثين كلمـة أو نحوها .
وبالجملـة: فليس هناك شيء متعلّق با لمردّد الواقعي لا تصوّر المولى ولا إرادتـه البعث ولا نفس البعث .
أمّا الأوّل : فمن الواضح أنّ البعث إلى الشيئين لايعقل بدون تصوّرهما ،
(الصفحة155)
وحيث إنّ المتصوّر متعدّد فلا محا لـة يكون التصوّر كذلك ; لما عرفت من أنّ تشخّصـه إنّما هو بتشخّصـه ، فهناك تصوّران .
وأمّا إرادتـه البعث : فواضح تعدّدها بعدما يريد البعث إلى هذا والبعث إلى ذاك .
ومن هنا يظهر وجـه تعدّد البعثين .
فتوهّم: أنّ القول با لواجب التخييري مستلزم لكون متعلّق البعث الواحد مردّداً بين الشيئين أو الأشياء مع وضوح استحا لتـه ; لأنّـه وإن كان من الاُمور الاعتباريـة إلاّ أنّ تعلّقها با لمردّد مستحيل كتعلّق الاُمور الحقيقيـة بـه ، وهل يعقل اعتبار ملكيـة المردّد بين الثوب والدار ونظائره ؟
مدفوع: بأنّ ذلك كلّـه مبني على أن يكون البعث واحداً والمبعوث إليـه متعدّداً ، مع أ نّك عرفت تعدّد البعث حسب تعدّد المبعوث إليـه في الواجب التخييري .
فالتحقيق: أنّ الواجب التخييري ليس نحواً آخر من الوجوب وسنخاً آخر من البعث ، بل لا فرق بينـه وبين التعييني من حيث الوجوب والبعث أصلاً ، غايـة الأمر أ نّـه يعتبر التعيينيّـة والتخييريـة بعد ملاحظـة وحدة الواجب وتعدّده ، فا لحقّ إمكان الواجب التخييري ، ومعـه لا مجال لرفع اليد عمّا ظاهره ذلك من الأدلّـة الشرعيـة والأوامر العرفيـة كما أ نّـه لا تصل النوبـة إلى الأقوال الكثيرة التي عرفت أنّ كلّها مبنيّـة على امتناع الواجب التخييري .
ثمّ إنّ ما ذكره في الكفايـة: من أ نّـه لو كان هناك غرض واحد مترتّب على الشيئين أو الأشياء ، فلا محا لـة يكون الواجب هو الجامع والقدر المشترك بينهما أو بينها ; لأنّـه لايمكن صدور الغرض الواحد من المتعدّد بما هو متعدّد ، فحيث إنّ
(الصفحة156)
ا لغرض يترتّب على الجامع ، فلا محا لـة يكون الجامع واجباً ، ففيـه ـ مضافاً إلى منع ما ذكره من عدم إمكان صدور الشيء الواحد من المتعدّد فإنّ ذلك إنّما هو في موارد مخصوصـة ، كما حقّق في محلّـهـ أ نّـه لو سلّم ترتّب الغرض على ا لجامع ، فلا ارتباط لذلك با لمقام ; إذ ليس الكلام في أنّ المترتّب عليـه الغرض هل هو شيء واحد أو متعدّد ، وليس التقسيم أيضاً ناظراً إلى الغرض ، بل التقسيم إنّما هو للوجوب باعتبار الواجب ، فا لحكم بكون الواجب في الغرض واجباً تعيينيّاً لكون الغرض واحداً ، والمؤثّر في حصولـه أيضاً كذلك ممنوع جدّاً بعدما كان الواجب بحسب الظاهر شيئين أو أشياء ، وكون التقسيم بملاحظتـه ، ولا منافاة بين كون الغرض مترتّباً على الجامع والأمر متعلّقاً بما هو في ضمنـه كما لايخفى .
ثمّ لايذهب عليك أنّ البعث إلى أحد الأشياء ونظائره من العناوين الكليّـة الانتزاعيـة إنّما هو من قبيل الواجب التعييني ; لأنّ متعلّق الوجوب شيء واحد وإن كان كلّياً انتزاعيّاً ، فتأمّل جيّداً .
تذنيب: التخيير بين الأقلّ والأكثر
هل يمكن التخيير عقلاً بين الأقلّ والأكثر أم لا ؟
وليعلم أنّ مورد النزاع ما إذا اُخذ الأقلّ لابشرط من حيث الزيادة ، وأمّا إذا اُخذ بشرط لا ، فهو مباين للأكثر ، والتخيير بينـه وبين الأكثر حينئذ يكون من التخيير بين المتبائنين ، ولا إشكال في جوازه .
1 ـ كفايـة الاُصول: 174.
2 ـ الحكمـة المتعاليـة 2: 210 ـ 212.
(الصفحة157)
إذا عرفت ذلك ، فنقول : للمسأ لـة صور ; فإنّ الأقلّ والأكثر قد يكونان من الاُمور التي تحصل تدريجاً ، وقد يكونان من الاُمور التي تحصل دفعةً ، وعلى التقديرين قد يكون هنا غرض واحد يترتّب على كلّ واحد منهما ، وقد يكون هنا غرضان يترتّب أحدهما على الأقلّ والآخر على الأكثر ولكن لايمكن تحصيل أحدهما مع حصول الآخر ، أو لايجب تحصيلـه وإن أمكن .
(الصفحة158)
الفصل العاشر
في الواجب العيني والكفائي
ربّما يقسّم الواجب إلى عيني وكفائي ، والمراد بالأوّل هو ما يعتبر في سقوط الوجوب وحصول الامتثال بالإتيان بـه مباشرةً ، ولايسقط بفعل الغير ، والمراد با لثاني هو ما لايعتبر فيـه ذلك ، بل يسقط التكليف عن الجميع بفعل بعض المكلّفين ، ويعاقب الجميع لو لم يمتثل ، وهذا كوقوعـه في الشرع ممّا لا إشكال فيـه ولا كلام ، وإنّما الكلام في الواجب الكفائي في كيفيّـة تعلّق الوجوب با لمكلّفين .
فنقول: هل الوجوب متعلّق بمجموع المكلّفين من حيث المجموع أو با لواحد لابعينـه أو با لواحد المردّد أو بكلّ واحد من المكلّفين ؟ وجوه واحتمالات .
وتفصيل الكلام: أ نّـه لايعقل كون الوجوب متعلّقاً با لمجموع من حيث المجموع ; لأنّـه لا وجود للمجموع من حيث هو سوى الوجودات والأفراد ، كما أ نّـه لايعقل تعلّقـه با لواحد لابعينـه ; لأنّـه لا وجود لـه ; لأنّ الوجود مساوق للعينيـة ، كما برهن في محلّـه .
(الصفحة159)
وأمّا الواحد المردّد : فقد عرفت في مبحث الوجوب التخييري أ نّـه لايعقل تعلّق البعث با لشيء المردّد ، ومن المعلوم أ نّـه لا فرق بين المبعوث والمبعوث إليـه من هذه الجهـة ; إذ كما أنّ البعث لـه إضافـة إلى المبعوث إليـه كذلك لـه إضافـة إلى المبعوث الذي هو المكلّف .
وما عن بعض الأعاظم من ثبوت الفرق بينهما لا نعرف لـه وجهاً أصلاً ، كما لايخفى .
وأمّا تعلّقـه بكلّ واحد من المكلّفين : فقد يقال ـ كما عن بعض أعاظم المعاصرين ـ بأ نّـه هي كيفيّـة تعلّق الوجوب في الواجب الكفائي ، والفرق بينـه وبين الواجب العيني حينئذ مع اشتراكـه معـه في ذلك إنّما هو في الإطلاق والتقييد ، بمعنى أنّ متعلّق الطلب في العيني إنّما هي الطبيعـة المتقيّدة بقيد المباشرة ، بخلاف متعلّقـه في الواجب الكفائي فإنّـه هي الطبيعـة المطلقـة المعرّاة عن قيد المباشرة .
قال : والدليل على ذلك أ نّـه لو شك في الواجب أ نّـه عيني أو كفائي ، يبنى على الثاني ، وليس ذلك إلاّ لكون المطلوب فيـه مطلقاً بخلاف الأوّل .
وفي تقريرات المحقّق النائيني أنّ التحقيق في تصوير الواجب الكفائي أ نّـه عبارة عمّا كان الغرض منـه مترتّباً على صدور الفعل من صرف وجود المكلّف ، بخلاف العيني الذي لايحصل الغرض إلاّ بصدوره من مطلق وجود المكلّف الساري في الجميع . انتهى .
1 ـ نهايـة الاُصول: 228.
2 ـ نفس المصدر: 229 ـ 230.
3 ـ أجود التقريرات 1: 187.
(الصفحة160)
أقسام الواجب الكفائي
وا لتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الواجب الكفائي على أقسام :
منها: ما لايكون للطبيعـة المأمور بها إلاّ فرد واحد بمعنى أ نّـه لايعقل تحقّقها بعد وجود فرد واحد منها ، كقتل سابّ النبي ودفن الميّت وأمثا لهما .
ومنها: ما يكون لها أفراد متعدّدة ووجودات متكثّرة بمعنى أ نّـه يمكن أن تتحقّق الطبيعـة بعد تحقّق فرد واحد منها كا لصلاة على الميّت ونحوها .
وعلى التقدير الثاني قد يكون المأمور بـه هو الفرد الواحد منها ، وقد يكون هو صرف وجودها الصادق على الأفراد المتعدّدة ، وعلى التقديرين قد يكون الفرد الآخر أو صرف وجودها الآخر مبغوضاً للمولى ، وقد يكون لا محبوباً ولا مبغوضاً ، وعلى التقادير قد يكون المكلّف هو صرف وجوده وقد يكون هو الجميع .
إذا عرفت ذلك، فنقول: أمّا إذا لم يكن للطبيعـة المأمور بها إلاّ فرد واحد ووجود فارد ، فلا معنى لأن يكون التكليف فيـه متعلّقاً بكلّ واحد من المكلّفين أو بصرف وجوده ; إذ من الواضح أنّ البعث إنّما هو لغرض الانبعاث ، ولايعقل أن ينبعث المكلّفين إلى عمل لايمكن تحقّقـه إلاّ من واحد منهم ، وهل يعقل أن يأمر المولى عبيده بشرب الماء الموجود في الإناء الذي لايمكن تحقّقـه إلاّ من واحد من عبيده ؟ هكذا لو كان التكليف متعلّقاً بصرف وجود المكلّف ; لأنّـه يصدق على الجميع أيضاً ، فلابدّ إمّا أن يقال بكون الخطاب في أمثال المثال مشروطاً بعدم إتيان الآخر بـه ، وإمّا أن يقال با لنحو الذي ذكرنا في الواجب التخييري ، غايـة الأمر أنّ التخيير هاهنا با لنسبـة إلى المكلّف وهناك با لنسبـة إلى المكلّف بـه ، وإمّا أن يقال بأنّ المكلّف إنّما هو واحد من الأناسي المنطبق على جميعهم .
|