(الصفحة161)
ومن هنا يظهر: حال ما إذا كانت للطبيعـة أفراد متعدّدة ، ولكن كان فرد واحد منها متعلّقاً للأمر ، سواء كان الزائد عليـه مبغوضاً أو غير مبغوض ، فإنّـه لايعقل أن يكون التكليف بـه متوجّهاً إلى جميع المكلّفين أو إلى صرف وجود المكلّف با لتقريب المتقدّم .
وأمّا إذا كان المأمور بـه هو صرف وجود الطبيعـة ، فيمكن أن يكون التكليف متعلّقاً بصرف وجود المكلّف .
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ ما في تقريرات المحقّق النائيني من كون التكليف متوجّهاً إلى صرف وجود المكلّف من دون التفريق بين الأقسام المذكورة لايتمّ أصلاً ، كما لايخفى .
(الصفحة162)
(الصفحة163)
المقصد الثاني
في النواهي
وفيـه فصول:
(الصفحة164)
(الصفحة165)
الفصل الأوّل
في صيغـة النهي
اعلم أنّ هيئـة «لا تفعل» إنّما وُضعت في اللغـة للزجر عن وجود الطبيعـة التي تعرض لها تلك الهيئـة ، كما أنّ هيئـة «افعل» موضوعـة للبعث إلى وجودها ، فا لفرق بين الأمر والنهي بعد الاشتراك في تعلّقهما با لوجود إنّما هو في كون الأوّل موضوعاً ومفيداً للبعث ، والثاني دالاّ على الزجر ، وحينئذ فلايبقى للنزاع المعروف ـ وهو : أنّ المطلوب في باب النواهي هل هو الكفّ أو نفس أن لا تفعل ـ مجال أصلاً ; إذ ذلك النزاع متفرّع على اشتراكهما في الدلالـة على الطلب ، غايـة الأمر ثبوت الاختلاف في باب النواهي في أنّ متعلّق الطلب هل هو الأمر الوجودي أي الكفّ أو الأمر العدمي ، أي نفس أن لا تفعل ، وقد عرفت أنّ النهي لايدلّ على الطلب حتّى ينازع في تعيين المطلوب وأ نّـه أمر وجودي أو عدمي ، بل إنّما هو موضوع للزجر ، ومتعلّقـه إنّما هو وجود الطبيعـة لا غير ، كما هو واضح .
ثمّ على تقدير دلالـة النهي على الطلب فلا مجال لاحتمال كون المطلوب هو العدم ، وذلك لأنّ العدم ليس بشيء حتّى يمكن تعلّق الطلب بـه ، وهذا واضح جدّاً .
(الصفحة166)
ومنـه انقدح فساد ما في الكفايـة من كون المطلوب في باب النواهي هو العدم لا الكفّ ; إذ ليس وجـه استحا لـة تعلّق الطلب بـه كونـه خارجاً عن تحت القدرة والاختيار حتّى يرد بما ذكر فيها ، بل الوجـه فيها أ نّـه ليس بشيء ولا حقيقـة لـه حتّى صار لسببها مطلوباً ومراداً .
في منشأ الفرق بين مُرادَي الأمر والنهي
ثمّ إنّـه لا إشكال عند العقلاء في ثبوت الفرق بين الأوامر والنواهي بكفايـة الإتيان بفرد من الطبيعـة المأمور بها في تحقّق امتثال الأمر المتعلّق بـه وسقوطـه ; لحصول الغرض ، وهو تحقّقها بإيجاد فرد منها في الخارج ، وأ نّـه لايحصل الغرض بتمامـه إلاّ بترك جميع أفراد الطبيعـة المنهي عنها في باب النواهي ، إنّما الإشكال في وجـه الفرق ، فقد يقال بأنّ الحاكم بـه إنّما هو العقل ; نظراً إلى أنّ وجود الطبيعـة إنّما هو بوجود فرد واحد ، وعدمها لايكاد يتحقّق إلاّ بعد انعدام جميع الأفراد .
هذا، ولكن لايخفى: أنّ هذا الكلام بمعزل عن التحقيق ; فإنّ معنى تحقّق الطبيعـة بوجود فرد ما كون كلّ واحد من الأفراد هو تمام تلك الطبيعـة ، ولاينقص عنها أصلاً ; إذ لو كانت الطبيعـة متحصّصـة بحصص عديدة حسب تعدّد الأفراد ، لكان وجودها في الخارج متوقّفاً على وجود جميع الأفراد ; لكي يتحصّل جميع الحصص ، فوجودها بوجود فرد واحد مساوق لكون كلّ فرد تمام طبيعتـه ، فزيد تمام الإنسان ، وكذا عمرو ، وبكر ، فإذا كان وجود زيد كافياً في وجود حقيقـة
1 ـ كفايـة الاُصول: 182.
2 ـ نفس المصدر: 182 ـ 183.
(الصفحة167)
ا لإنسان فكيف يعقل أن لايكون عدمـه كافياً في عدمها ، وهل هذا إلاّ المناقضـة في القول من غير التفات ؟
وتوهّم أنّ لازم ما ذكر كون طبيعـة واحدة موجودةً ومعدومةً معاً فيما إذا وجد زيد وعدم عمرو ، مع أنّ ذلك غير معقول ، يدفعـه أنّ الطبيعـة إنّما تتكثّر حسب تكثّر الأفراد ، فزيد وعمرو إنسانان لا إنسان واحد ، وحينئذ فلابأس باتّصافها با لوجود من ناحيـة وجود بعض الأفراد وبا لعدم من قِبَل انعدام بعضها الآخر ، كما أ نّـه يتّصف با لبياض والسواد ، وبا لطول والقصر ، وبا لحركـة والسكون ، وبا لقيام والقعود في آن واحد ، وليس ذلك إلاّ لكونـه متكثّراً ومتعدّداً حسب تكثّر الوجودات وتعدّد الأفراد .
فالإنصاف: أ نّـه لا فرق بين وجود الطبيعـة وعدمها من هذه الحيثيـة في نظر العقل أصلاً ، وكما أنّ وجود بعض الأفراد يكفي في تحصّل الطبيعـة فكذلك عدمـه كاف في انعدامها ، فاستناد الفرق بين الأوامر والنواهي إلى حكم العقل ممّا لا مجال لـه أصلاً ، كما لايخفى ، كما أنّ دعوى كون ذلك مستنداً إلى فهم العرف من الألفاظ بحسب معانيها اللغويـة وحقائقها التي وُضعت تلك الألفاظ بإزائها ممّا لم يعرف لـه وجـه ، كما هو واضح ، فانحصر أن يكون منشأ ذلك حكم العقلاء بذلك من غير ارتباط لـه بباب الألفاظ .
ثمّ إنّ دلالـة النهي على الزجر بعد المخا لفـة أيضاً إنّما هو لكون مدلولـه هو الزجر عن الطبيعـة المتعلّقـة لـه ، لا العدم حتّى يقال بأ نّـه متى تحقّقت المخا لفـة فقد انتقض إلى الوجود ، ولا مجال لبقائـه بعد تحقّق عصيانـه ، بل النهي لأجل كونـه دالاّ على الزجر عن جميع وجودات الطبيعـة ، لا مجال لسقوطـه بمجرّد تحقّق بعض وجوداتـه ، ولا دليل على كون المخا لفـة والعصيان مسقطاً .
نعم لو كان متعلّق النهي هو أوّل الطبيعـة ، فبمجرّد تحقّقـه يسقط ، لا لكون
(الصفحة168)
ا لمخا لفـة من حيث هي مسقطاً ، بل لأجل أ نّـه لايمكن امتثا لـه فيما بعد أصلاً ; لأنّ المفروض أنّ المبغوض إنّما هو أوّل وجود الطبيعـة ، وقد حصل ، وحينئذ فلو فرض عدم تقييده بذلك ـ كما في أكثر النواهي ـ إذ المتعلّق فيها الطبيعـة بجميع وجوداتها ، فلاوجـه لسقوطـه بعد تحقّقها ببعض وجوداتها ، فا لنهي مع أ نّـه تكليف واحد وحكم فارد لـه عصيانات متعدّدة وإطاعات متكثّرة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد تصدّى بعض من المحقّقين لإثبات بقاء النهي بكون مدلولـه على نحو العموم الاستغراقي ، كما في تقريرات المحقّق النائيني ، أو بكون المجعول هي الملازمـة بين طبيعي الطلب وطبيعي المتعلّق ، كما في حاشيـة بعض المحقّقين في محشّي الكفايـة .
ولكن كلّ ذلك ممّا لا دليل عليـه ، لو لم نقل بثبوت الدليل على خلافـه .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 395.
2 ـ نهايـة الدرايـة 2: 290 ـ 291.
(الصفحة169)
الفصل الثاني
في اجتماع الأمر والنهي
وقبل الخوض في ذكر أدلّـة الطرفين وبيان أدلّـة المختار لابدّ من تقديم اُمور :
الأمر الأوّل: في عنوان المسألـة وتحرير مصبّ النزاع
قد يقال ـ كما قيل ـ بأنّ مورد النزاع في هذا الباب هو اجتماع الأمر والنهي في واحد ، وأنّ المراد با لواحد ليس خصوص الواحد الشخصي بل كلّ ما يكون لـه جهتان ومندرجاً تحت عنوانين ولو كان واحداً جنسياً أو نوعياً ، كا لحركـة الصلاتيـة الكلّيـة المتّحدة مع الحركـة الكلّيـة الغصبيـة .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ الواحد الشخصي لايعقل أن يتعلّق تكليف واحد بـه فضلاً عن تكليفين ; لأنّ الخارج ظرف لسقوط التكليف لا ثبوتـه ، كما هو واضح .
وأمّا الواحد الجنسي أو النوعي : فما كان منـه مثل السجود للّـه والسجود للصنم ، فلاينبغي الارتياب في جواز تعلّق الأمر والنهي بـه ، وما كان منـه مثل الحركـة والسكون الكلّيتين المعنونين بعنوان الصلاتيـة والغصبيـة ، فمع قطع
(الصفحة170)
ا لنظر عن اتّحادهما في الخارج وتصادقهما على شيء فلاينبغي أيضاً الإشكال في جوازه لأنّ الحركـة ليست جنساً للصلاة أو الغصب ، وأمّا مع ملاحظـة التصادق على وجود واحد والانطباق على الخارج فيرجع الكلام إلى الواحد الشخصي ، كما لايخفى .
وممّا ذكرنا ظهر فساد ما في الكفايـة فراجع .
وا لأولى أن يعبّر عن محلّ النزاع بأ نّـه هل يجوز تعلّق الأمر والنهي با لعنوانين المتصادقين على واحد شخصي أو لا ; إذ ـ مضافاً إلى أ نّـه لايرد عليـه شيء ممّا تقدّم ـ يندفع بـه الإشكال المعروف ، وهو أ نّـه يكون البحث في المقام صغرويّاً ، ولازم التعبير بما عبّروه كونـه كبرويّاً ، مع أ نّـه لا إشكال فيـه ولا نزاع ; إذ تضادّ الأحكام الخمسـة بأسرها ممّا لم يناقش فيـه أحد .
وجـه الاندفاع : أ نّـه بناء على هذا التعبير الذي ذكرنا لا إشكال في كون البحث كبرويّاً أصلاً ، كما هو واضح .
الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي عن العبادة
ا لفرق بين هذه المسأ لـة ومسأ لـة النهي عن العبادة ـ التي سيجيء إن شاء اللّـه تعا لى ـ ذاتي لا خفاء فيـه أصلاً ; لعدم اتّحاد المسأ لتين لا في الموضوع ولا في المحمول ، كما لايخفى .
وكذا لاينبغي الإشكال في كون المسأ لـة اُصوليـة ; إذ هي مندرجـة تحت ضابطـة مسائل علم الاُصول .
وما ذكره في الكفايـة من إمكان كونهما من مسائل علم الكلام أو من
1 ـ كفايـة الاُصول: 183 ـ 184.
(الصفحة171)
غيره فيتمّ لو تصرّف في عنوان النزاع ، وإلاّ فظاهره يأبى عن ذلك .
نعم لابأس بجعلها من المبادئ الأحكاميـة ، وكذا لا إشكال في كون المسأ لـة عقليةً محضة ، ولا ارتباط لها بباب الألفاظ أصلاً ، وكذا في ثبوت المناط في أقسام الوجوب والتحريم النفسي والتعييني والعيني والغيري والتخييري والكفائي .
الأمر الثالث: عدم اعتبار قيد المندوحـة
إنّـه ربّما يؤخذ في عنوان النزاع قيد المندوحـة ; نظراً إلى أنّ بدونها لا إشكال ولا خلاف في امتناع الاجتماع ، ولكن الحقّ ما في الكفايـة من أنّ وجود المندوحـة وعدمها لايرتبط بما هو المهم في محل البحث والمقصود في مورد النزاع ، فإنّ العمدة في المقام هو إمكان الاجتماع واستحا لتـه من هذه الحيثيّـة .
وبعبارة اُخرى : مورد النزاع إنّما هو استكشاف حال نفس التكليف من حيث الإمكان والاستحا لـة لاحال ا لمكلّف بـه من حيث ا لمقدوريـة وعدمها ، وهذاواضح جدّاً .
الأمر الرابع: جريان النزاع حتّى مع تعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد
ربّما يتوهّم ابتناء النزاع في هذه المسأ لـة على مسأ لـة كون متعلّق التكا ليف هل هي الطبائع أو الأفراد تارةً بمعنى أنّ النزاع إنّما يجري على خصوص القول الأوّل في تلك المسأ لـة ، وأمّا بناء على القول الثاني فلابدّ من القول
1 ـ كفاية الاُصول ر: 185.
2 ـ نفس المصدر: 187
(الصفحة172)
بالامتناع في مسأ لتنا هذه ، واُخرى بمعنى أنّ القول با لجواز مبني على القول با لطبائع ، والامتناع على القول بالأفراد .
هذا ، ولكن تحقيق الكلام مبني على استكشاف مرادهم في تلك المسأ لـة من الفرد ، فنقول : إن كان مرادهم من الفرد هو الموجود الشخصي الواحد ، فهذا ممّا يستحيل تعلّق التكليف لـه ; للزوم تحصيل الحاصل ، كما هو واضح .
وإن كان هو عنوان الفرد المعروض للكلّيـة بمعنى أنّ متعلّق الطلب هو عنوان فرد الطبيعـة ، فلا إشكال في جريان النزاع في المقام على كلا القولين في تلك المسأ لـة ; لأنّ القائل بالاجتماع يقول بتعلّق الأمر والنهي بعنوان الفرد ، كقولـه بتعلّقهما با لطبيـة بناءً على القول الآخر في تلك المسأ لـة ، وكذا لو كان مرادهم من الفرد هو الوجود الخاصّ بنحو العموم والكلّيـة في مقابل الطبيعـة التي هي بمعنى الوجود السعي .
نعم لو كان مرادهم من الفرد هي الخصوصيات والمقارنات المتّحدة في الخارج مع وجود الطبيعـة بحيث كان مرجع قولهم إلى سرايـة الأمر من الطبيعـة إلى الخصوصيّات المقارنـة لـه في الوجود ، وكذا النهي ، فيصير المقام مبنيّاً على تلك المسأ لـة ; لأنّ خصوصيـة الغصبيـة حينئذ مثلاً تصير مورداً لتعلّق الأمر ، وخصوصيـة الصلاتيّـة مورداً لتعلّق النهي ، فكأ نّـه قال : صلّ في المكان المغصوب ، ولا تغصب في الصلاة ، ولكن يبعد أن يكون مرادهم من الفرد ذلك ، فظهر عدم ابتناء النزاع على تلك المسأ لـة أصلاً ، كما لايخفى .
الأمر الخامس: حول اعتبار وجود المناطين في المجتمع
ذكر في الكفايـة ما حاصلـه : أ نّـه لايكاد يكون من باب الاجتماع إلاّ إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الحكمين مناط حكمـه مطلقاً حتّى في مورد
(الصفحة173)
ا لتصادق والاجتماع ، وأمّا إذا لم يكن لهما مناط حكمـه كذلك ، فلايكون من هذا الباب . انتهى موضع الحاجـة .
أقول: إن كان مراده من ذلك أنّ مورد النزاع في المقام هو ما كان متعلّقا الحكمين ذا مناط مطلقاً حتّى في مورد الاجتماع بحيث كان مرجعـه إلى تقييد في عنوان النزاع ، فلايخفى أ نّـه لا ارتباط لذلك بما هو المهم في مقصود البحث ومورد النزاع ; لما عرفت في وجـه عدم تقييد النزاع بقيد المندوحـة من أنّ المهم في هذا المقام جواز الاجتماع واستحا لتـه من هذه الحيثيّـة أي حيثيـة الاجتماع .
ويؤيّد كون مراده ذلك اختلاف التعبير في هذا المقام وفي مسأ لـة المندوحـة حيث إنّـه عبّر هنا بأ نّـه لايكاد يكون من باب الاجتماع ، فإنّ ظاهره تطبيق عنوان النزاع على الموارد الخارجيـة ، كما لايخفى .
وإن كان مراده من ذلك بيان الفارق بين المقام الذي هو من قبيل التزاحم وبين باب التعارض ، ودفع توهّم التناقض بين الكلمات حيث إنّهم ذكروا في باب التعارض أنّ من أقسامـه التعارض با لعموم والخصوص من وجـه ولم يذكروا في وجـه العلاج في ذلك المقام أنّ من جملـة وجوهـه الجمع بنحو يقولـه القائل بالاجتماع في ذلك المقام ، بل ذكروا أنّ علاجـه الأخذ بالأظهر إن كان ، وإلاّ التوقّف ، أو الرجوع إلى المرجّحات السنديـة على الخلاف ، وبيان الدفع على ما يظهر منـه أنّ مسأ لتنا هذه مبنيّ على إحراز المناط في مورد الاجتماع با لنسبـة إلى الحكمين ، بخلاف باب التعارض ، فإنّـه مبني على وحدة الملاك والمناط في الواقع ، ولكن لايعلم أنّ الملاك الموجود هَل هو ملاك الأمر أو النهي ، فإن كان مراده ـ أي صاحب الكفايـة ـ دفع هذا التوهّم ، فيرد عليـه : منع كون باب
1 ـ كفايـة الاُصول: 189.
(الصفحة174)
ا لتعارض مبنيّاً على إحراز وحدة الملاك والمناط ، فإنّ التعارض والاختلاف موضوع عرفي وقع في الروايات الواردة في علاج المتعارضين المستدلّ بها في ذلك الباب ، فكلّ ما صدق عليـه هذا العنوان بنظر العرف يترتّب عليـه أحكامـه المذكورة في تلك الروايات ، سواء كان المناطان موجودين في مورد الاجتماع أم لا ، فإنّـه لا ارتباط لـه بباب المناط أصلاً .
وبا لجملـة ، فباب التعارض من الأبواب العرفيـة التي لا مجال للعقل ولا طريق لـه إليـه أصلاً ، فكلّ مورد حكم العرف بصدق هذا الموضوع يترتّب عليـه أحكامـه ، بخلاف مسأ لتنا هذه ، فإنّها مسأ لـة عقليـة محضـة لا طريق للعرف إليها أصلاً .
نعم في تطبيق هذه المسأ لـة على الموارد الخارجيـة نحتاج إلى إحراز المناطين في مورد الاجتماع ، بخلاف باب التعارض ، فإنّـه غير مرتبط بباب المناط أصلاً ، بل لابدّ من الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع .
وبا لجملـة ، فا لفرق بين المقام وبين باب التعارض بهذا الوجـه الذي ذكره في الكفايـة ممّا لم يعرف لـه وجـه أصلاً .
الأمر السادس: في ثمرة بحث الاجتماع
وفيـه جهات من البحث :
الجهـة الاُولى: ثمرة النزاع على القول بجواز الاجتماع
إنّهم ذكروا في ثمرة النزاع أ نّـه بناء على القول بجواز الاجتماع لا إشكال
1 ـ كفايـة الاُصول: 192.
(الصفحة175)
في صحّـة الصلاة في الدار المغصوبـة وحصول الامتثال بها وإن كان معصيةً ; للنهي أيضاً .
لكنّ التحقيق يقتضي خلافـه ، وأنّ القائل با لجواز لايمكن لـه القول با لصحّـة أصلاً .
وينبغي أوّلاً حكايـة ما ذكره المحقّق النائيني ـ على ما في تقريراتـه ـ في وجـه القول بجواز الاجتماع من المقدّمات التي لو تمّت يترتّب عليها صحّـة الصلاة في الدار المغصوبـة ، ثمّ بيان ما يمكن أن يورد عليـه من الإيرادات ، وهذه المقدّمات وإن كانت طويلةً ; لما عرفت من كونها مصنوعةً لإثبات القول با لجواز ، إلاّ أ نّا نذكرها بطريق الاختصار ، ونحيل التفصيل إلى مقامـه ، فنقول :
منها: بساطـة المقولات ، وأنّ ما بـه الاشتراك فيها عين ما بـه الامتياز .
ومنها: تغاير المقولات بحسب الحقيقـة والهويّـة واعتبارها بشرط لابا لنسبـة إلى أنفسها ، فاجتماعها لايعقل أن يكون على نحو الاتّحاد بحيث يكون ما بحذاء أحدهما في الخارج عين ما بحذاء الآخر .
ومنها: كون الحركـة في كلّ مقولـة عين تلك المقولـة ، ولا تكون الحركـة جنساً للمقولات حتّى يلزم التركيب فيها ، ولا هي أيضاً من الأعراض المستقلّـة حتّى يلزم قيام عرض بعرض .
وبعد هذه المقدّمات يظهر: تعدّد متعلّق الأمر والنهي ; إذ الصلاة إنّما تكون من مقولـة الوضع سواء قلنا : إنّ المأمور بـه في مثل الركوع والسجود هو الهيئـة كما هو مختار الجواهر أو الفعل كما هو المختار ، فيكون الانحناء إلى الركوع أوضاعاً متلاصقـة متّصلـة ، والغصب إنّما يكون من مقولـة الأين ; إذ ليس الغصب
1 ـ جواهر الكلام 10: 69 و 123 ـ 124.
(الصفحة176)
إلاّ عبارة عن شاغليـة الشخص للمكان ، فتوهّم اجتماع الصلاة والغصب في الحركـة مع وحدتها مندفع بأ نّـه إن كان المراد من وحدة الحركـة وحدتها با لعدد بحيث تعدّ حركـة واحدة ، فهذا ممّا لاينفع ، وإن كان المراد منها وحدة الحركـة الصلاتيـة والحركـة الغصبيـة با لهويـة والحقيقـة ، فهذا ممّا لايعقل ; لاستدعاء ذلك اتّحاد المقولتين ; لما عرفت من أنّ الحركـة في كلّ مقولـة عين تلك المقولـة .
وبا لجملـة ، الحركـة لايعقل أن تكون بمنزلـة الجنس للصلاة والغصب ، وبحيث يشتركان فيها ويمتازان بأمر آخر ; للزوم التركيب في الأعراض ، وليست عرضاً آخر غير المقولات ; للزوم قيام العرض با لعرض ، وهو محال ، فلابدّ من أن تكون الحركـة في كلّ مقولـة عين تلك المقولـة ، وحينئذ يظهر أ نّـه كما أنّ الصلاة مغايرة با لحقيقـة للغصب ، فكذا الحركـة الصلاتيـة مغايرة للحركـة الغصبيـة ، ويكون في المجمع حركتان : حركـة صلاتيـة ، وحركـة غصبيـة ، وليس المراد من الحركـة رفع اليد ووضعـه وحركـة الرأس والرجل ووضعهما ، فإنّ ذلك لا دخل لـه في المقام حتّى يبحث عن أ نّها واحدة أو متعدّدة ، بل المراد من الحركـة : الحركـة الصلاتيـة والحركـة الغصبيـة ، وهما متعدّدتان ، فلا محا لـة ، فأين يلزم تعلّق الأمر والنهي بعين ما تعلّق بـه الآخر .
هذا كلّـه ، مضافاً إلى أنّ الإضافـة الحاصلـة بين المكان والمكين ونسبتـه إليـه لايعقل أن تختلف بين أن يكون المكين من مقولـة الجوهر أو من مقولـة الأعراض ، وكما لايعقل التركيب الاتّحادي بين الجوهر والإضافـة في قولك : زيد في الدار ، كذلك لايعقل التركيب الاتّحادي بين الضرب والإضافـة في قولك : ضرب زيد في الدار ، أو الصلاة والإضافـة في قولك : صلاة زيد في الدار ، وكما
(الصفحة177)
لايكون زيد غصباً كذلك لا تكون الصلاة غصباً . انتهى كلامـه في غايـة ا لتلخيص .
وقد عرفت: أنّ هذا الكلام لو تمّ لترتّب عليـه صحّـة الصلاة في ا لدارا لمغصوبـة ; لأنّـه بعد كون الحركـة الصلاتيـة مغايرة للحركـة الغصبيـة لايكون المبغوض والمبعّد عن ساحـة المولى بعينـه محبوباً ومقرّباً للعبد نحو المولى حتّى يقال باستحا لـة كون المبعّد مقرّباً ، فإنّ المبغوض هي الحركـة الغصبيـة ، والمحبوب هي الحركـة الصلاتيـة .
وبا لجملـة ، بعد فرض تعدّد الحركـة لايبقى مجال للإشكال في صحّـة الصلاة ; لعدم الارتباط بين الحركتين ، فا لحركـة الصلاتيـة تؤثّر في القرب ، والغصبيـة تؤثّر في البعد .
هذا، ولكن يرد على ما ذكره أوّلاً: أنّ الصلاة ليست بنفسها من المقولات ; لأنّها مركّب اعتباري ، واجزاؤها عبارة عن الحقائق المختلفـة والهويّات المتشتّتـة ، فلايعقل أن تكون بنفسها مندرجةً تحت مقولة واحدة ، وكذا الغصب ليس مندرجاً تحت مقولـة أصلاً ، فإنّـه عبارة عن الاستيلاء والتسلّط على مال الغير عدواناً ، ومن المعلوم أنّ ذلك أمر اعتباري يعتبره العرف والعقلاء ، وليس من الاُمور الواقعيـة والحقائق ، نظير سلطـة الشخص على مال نفسـه .
هذا ، مضافاً إلى أنّ ما يتّحد مع الصلاة في الدار المغصوبـة ليس هو الغصب ; لما عرفت من أ نّـه عبارة عن التسلّط على مال الغير عدواناً ، وهذا المعنى ممّا لايرتبط با لصلاة أصلاً ، بل الذي يتّحد معها هو التصرّف في مال الغير بغير إذنـه ، الذي محرّم آخر غير الغصب ، وبينهما عموم من وجـه ، كما لايخفى .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 427 ـ 428.
(الصفحة178)
ومن المعلوم أنّ التصرّف جامع انتزاعي للأفعال المرتبطـة إلى مال الغير من الكون فيـه وسائر التصرّفات ، وليس التصرّف بنفسـه من المقولات أصلاً ، بل المندرج تحتها إنّما هو مصاديق التصرّف .
فظهر أنّ ما يكون مندرجاً تحت مقولـة من المقولات من مصاديق التصرّف المتّحدة مع الصلاة إنّما هو الكون في المكان المغصوب ، الذي هو من مقولـة الأين ، وإلاّ فا لغصب وكذا التصرّف بعنوانـه ليسا من المقولـة أصلاً كما لايخفى .
وثانياً: أنّ الركوع ـ وهو الفعل الخاصّ الصادر من المكلّف كما هو الأقوى وفاقاً لـه ـ يمكن أن يكون من مقولـة الأين ; لما ذكره المستدلّ من أنّ الحركـة في كلّ مقولـة عين تلك المقولـة ، فا لرأس المتحيّز في حيّز مخصوص إذا تحرّك منـه إلى مكان آخر ، يكون ذلك حركـة في الأين ، وإن كان بالإضافـة إلى حدوث حا لـة اُخرى وكيفيـة حادثـة با لنسبـة إلى أجزاء الإنسان بعضها مع بعض يكون حركةً في الوضع ، وحينئذ فا لركوع الذي يكون حركـة واحدة أينيّـة صار متعلّقاً للحبّ والبغض ; لعدم كون المقولتين حينئذ متعدّداً حتّى يستحيل تركيب الاتّحادي بينهما ، بل صار كلٌّ من الركوع والكون في مكان مغصوب ، الذي هو مصداق للتصرّف في مال الغير مندرجاً تحت مقولـة الأين ، فصارت الحركـة حركةً واحدة أينيّة .
ثمّ إنّ ما ذكرناه من أنّ مصاديق التصرّف في مال الغير تكون مندرجةً تحت المقولات فإنّما هو مبني على المسامحـة ، ضرورة أنّ المندرج تحتها إنّما هو مصداق ذات التصرّف ، لا مقيّداً بكونـه في مال الغير ، فا لكون في المكان إنّما يكون مندرجاً تحت مقولـة الأين ، لا الكون في المكان المغصوب ، فإنّ غصبيـة المكان خارج عن ذلك أصلاً .
وهذا أيضاً ممّا يورد بـه على المستدلّ ، فإنّـه بعد العدول عن الغصب إلى
(الصفحة179)
ا لتصرّف في مال الغير ، وعنـه إلى مصاديقـه يبقى الإشكال في عدم كون مصاديق التصرّف في مال الغير بما هي مصاديق لـه مندرجاً تحت مقولـة ; لما عرفت من عدم مدخليـة مال الغير في ذلك أصلاً .
فظهر من جميع ذلك: أنّ المقرّب والمبعّد إنّما هو شيء واحد وأمر فارد ، وهي الحركـة الأينيّـة ، ومع فرض كونـه مبعّداً لايمكن أن يكون مقرّباً ، فلايصلح أن يكون جزءاً للعمل العبادي أصلاً ، فا لصلاة في الدار المغصوبـة باطلـة ولو على القول با لجواز .
هذا كلّـه فيما يتعلّق با لقول با لجواز .
الجهـة الثانيـة: ثمرة النزاع على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر
وأمّا بناء على القول بالامتناع وتقديم جانب الأمر فقد يقال بصحّـة الصلاة مطلقاً ، مثل ما إذا قيل با لجواز ، غايـة الأمر أ نّـه لا معصيـة بناء عليـه دونـه .
ولكن لايخفى أ نّـه لايتمّ ذلك بإطلاقـه ، بل إنّما يتمّ فيما لو لم تكن لـه مندوحـة ولم يتمكّن من الامتثال في غير المكان الغصبي ، وأمّا مع وجود المندوحـة والتمكّن من الامتثال في غير الدار المغصوبـة فظاهرٌ أ نّـه لو صلّى فيها لا تكون صلاتـه صحيحةً ، ضرورة أنّ مزاحمة ملاك الصلاة لملاك الغصب وتقديم الاُولى للأهمّيـة لايقتضي أزيد من سقوط ملاك الثاني عن التأثير فيما لو دار الأمر بين إتيان الاُولى أو ارتكاب الثاني .
وبعبارة اُخرى: دار الأمر بين إتيان الاُولى أو ارتكاب الثاني . وبعبارة اُخرى : دار الأمر بين امتثال الأمر ومخا لفـة النهي وبين موافقـة النهي ومخا لفـة الأمر . وأمّا لو تمكّن من امتثال الأمر وموافقـة النهي معاً ، فمن الواضح أ نّـه لا تسقط ملاك النهي عن التأثير أصلاً .
(الصفحة180)
ونظير ذلك يتصوّر في الأمرين ، فإنّ أهمّيـة إنقاذ الولد المأمور بـه با لنسبـة إلى إنقاذ الأخ المأمور بـه أيضاً لايقتضي إلاّ سقوط الأمر الثاني في خصوص ما إذا دار الأمر بين إنقاذ الولد والأخ بمعنى أ نّـه لم يمكن اجتماعهما ، وأمّا فيما أمكن امتثال كلا الأمرين بانقاذ كلا الغريقين ، فلايجدي الأهمّيـة شيئاً أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
هذا كلّـه بناء على تقديم جانب الأمر .
الجهـة الثالثـة: ثمرة النزاع على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي
وأمّا بناء على تقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان العبادة مع الالتفات إلى موضوع المحرّم وإ لى تحريمـه أو مع الجهل تقصيراً ، ضرورة أنّ الفعل لايصلح مع ذلك لأن يتقرّب بـه مع أ نّـه لايكاد يتمشّى قصد التقرّب من الملتفت أصلاً ، إنّما الإشكال في بطلانها مع الجهل قصوراً .
حكم العبادة مع الجهل عن قصور
ظاهر الكفايـة بل صريحها صحّـة العبادة معـه .
ولايخفى أنّ إثبات الصحـة موقوفـة على إثبات جهتين :
الجهـة الاُولى: كون المجمع مشتملاً على كلا مناطي الحكمين : مناط الوجوب ومناط التحريم .
الجهـة الثانيـة: كفايـة مناط الوجوب في الصحـة بعد سقوط مناط التحريم عن التأثير في الحكم الفعلي .
1 ـ كفايـة الاُصول: 212.
|