(الصفحة261)
المقصد الرابع
في الأوامر
وفيـه مقدّمـة وفصول:
(الصفحة262)
(الصفحة263)
مقدّمـة
وقبل الخوض في بحوث العامّ والخاصّ لابأس بذكر اُمور :
الأمر الأوّل: فيما تحكي عنـه أسماء الطبائع
اعلم أنّ الألفاظ الموضوعـة بإزاء الطبائع الكلّيـة لا تكون حاكيةً إلاّ عن نفس تلك الماهيات التي وُضعت بإزائها ، فلفظ الإنسان الموضوع لطبيعـة الإنسان ـ ا لتي هي عبارة عن الحيوان الناطق ـ لايحكي إلاّ عن نفس تلك الحقيقـة ، ولايعقل أن يكون حاكياً عن الخصوصيات التي تجتمع مع الطبيعـة في الوجود الخارجي وتتّحد معها في الواقع ، وذلك لأنّـه لايعقل أن تكون الطبيعـة مرآةً للعناوين المتّحدة معها في عا لم الوجود الذي هو مجمع المتفرّقات بعد ثبوت المغايرة بينها في عا لم المفهوميـة ، فكيف يمكن أن يكون الإنسان مرآة لأصل الوجود بعد وضوح المغايرة بينها وبينـه فضلاً عن الخصوصيّات الوجوديـة ، والاتّحاد في الوجود الخارجي لاينافي عدم الحكايـة في عا لم المفهوم ، كما هو واضح .
نعم قد وضع في كلّ لغـة ألفاظ تدلّ على الكثرات والوجودات ، كلفظـة «كلّ» وأمثا لها في لغـة العرب ، فعند إضافتـه إلى كلّ شيء يفيد أفراد ذلك الشيء
(الصفحة264)
وإن كان مدخولـه لايدلّ إلاّ على نفس الطبيعـة ، كما ذكرنا ، ويعبّر عنها بأ لفاظ العموم ، فقولـه : أكرم كلّ إنسان ، يفيد وجوب إكرام جميع ما يصدق عليـه الإنسان ، ويتّحد معـه في الخارج ، وهذا المعنى يستفاد من كلمـة «كلّ» وأمّا الإنسان فقد عرفت أ نّـه لايحكي إلاّ عن نفس الطبيعـة .
الأمر الثاني: في الفرق بين العامّ والمطلق
ثمّ لايخفى أنّ معنى العموم ـ كما عرفت ـ يرجع إلى دلالـة الألفاظ الموضوعـة لـه عليـه با لدلالـة اللفظيـة ; نظير جميع الدلالات اللفظيـة ، وأمّا الإطلاق ـ كما عرفت سابقاً ـ فهو يرجع إلى أنّ المتكلّم العاقل المختار إذا صار بصدد بيان جميع ما لـه دخل في موضوع حكمـه ولم يأخذ إلاّ ما نطق بـه وسمعـه المخاطب يستفاد من ذلك كون المذكور هو تمام الموضوع لحكمـه ، ولا مدخليـة لشيء آخر أصلاً ، وهذه الدلالـة ليست من باب دلالـة الألفاظ على معانيها ; ضرورة أنّ قولـه : أعتق رقبـة ، لايدلّ إلاّ على وجوب عتق الرقبـة واستفادة الإطلاق با لنسبـة إلى الرقبـة إنّما هي من باب حكم العقل بأنّ المتكلّم الكذائي الذي بصدد البيان محكوم بظاهر كلامـه ; لأنّـه لو كان شيء آخر دخيلاً في موضوع حكمـه ، لكان اللاّزم عليـه أن يذكر ، فهي نظير دلالـة الفعل الصادر من العاقل المختار على كون صدوره عن اختيار وإرادة ، ودلالـة التكلّم على كون مضمون الكلام مقصوداً للمتكلّم ، وحينئذ فباب الإطلاق لا ربط لـه بباب العموم أصلاً ، فما وقع من كثير منهم من أنّ العموم قد يستفاد من جهـة الوضع ، وقد يستفاد من القضيّـة عقلاً ، وقد يستفاد من جهـة الإطلاق مع وجود مقدّماتـه ليس على ما ينبغي ; لأنّ المستفاد من مقدّمات الحكمـة إنّما هو الإطلاق لا العموم ، فهو قسيم لـه لا أ نّـه قسم منـه ، كما عرفت .
(الصفحة265)
الأمر الثالث: في استغناء العامّ عن مقدّمات الحكمـة
ثمّ إنّ هنا إشكالاً ، وهو أ نّـه ليس لنا لفظ عام يدلّ على العموم مع قطع النظر عن جريان مقدّمات الحكمـة ، ضرورة أنّ كلمـة «كلّ» لا تدلّ إلاّ على استيعاب أفراد مدخولـه ، وأمّا أنّ مدخولـه مطلق أو مقيّد فلايستفاد منها أصلاً ، فإنّها تابعـة لمدخولها ، فإن اُخذ مطلقاً ، فهي تدلّ على تمام أفراد المطلق ، وإن اُخذ مقيّداً ، فهي تدلّ على جميع أفراد المقيّد ، فاستفادة العموم با لنسبـة إلى جميع أفراد المطلق موقوفـة على إحراز كون المدخول مطلقاً ، وذلك يتوقّف على إجراء مقدّمات الحكمـة ، كما هو واضح .
وقد أجاب عنـه في الدّرر بما لايرجع إلى محصّل .
وا لتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ مقدّمات الحكمـة حيث تجري تكون نتيجتها إثبات الإطلاق في موضوع الحكم بمعنى أنّ تمام الموضوع لحكمـه المجعول إنّما هي الطبيعـة معرّاة عن جميع القيود ، وذلك حيث يكون الأمر دائراً بين كون الموضوع هي نفس الطبيعـة أو هي مقيّدة ، وأمّا في أمثال المقام ممّا لايكون الموضوع هو الطبيعـة بل أفرادها ـ كما فيما نحن فيـه ـ فلا مجال لإجراء المقدّمات في مدخول ألفاظ العموم بعد وضوح أنّ الموضوع ليس هو المدخول ، بل هو مع مضمون تلك الألفاظ الدالّـة على استيعاب الأفراد .
نعم بعبارة اُخرى نقول : التعبير بلفظ العموم الذي يدلّ على الاستيعاب ظاهر في كون المتكلّم متعرّضاً لبيان موضوع حكمـه ، والتعرّض ينافي الإهمال ،
1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 210 ـ 211.
(الصفحة266)
وحينئذ فا لشكّ في كون الموضوع هو جميع أفراد الرجل مثلاً أو أفراد الرجل العا لم ينشأ من احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وهو مدفوع بالأصل .
وبا لجملـة ، فمجرى المقدّمات هو ما إذا دار الأمر بين الإهمال وغيره ، وفي المقام لا مجال لاحتمال الإهمال بعد كون المتكلّم متعرّضاً لبيان الموضوع ، وأ نّـه هو جميع الأفراد ; إذ بعد دلالـة الكلام على هذه الجهـة يكون لا محا لـة الشكّ في سعـة الموضوع وضيقـه ، مستنداً إلى احتمال الخطأ في عدم ذكر القيد ، وقد عرفت أ نّـه مدفوع بالأصل العقلائي الذي يقتضي العدم ، فظهر أنّ دلالـة مثل لفظـة «كلّ» على العموم لا تحتاج إلى مقدّمات الحكمـة أصلاً ، فتأمّل فإنّـه دقيق .
الأمر الرابع: في أقسام العموم
ثمّ إنّ للعموم أقساماً من الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، والمراد بالأوّل هو الشمول لجميع الأفراد بلا لحاظ الوحدة بينهما ، وبا لثاني هو جميعها مع ملاحظـة كونها شيئاً واحداً ، وبا لثا لث هو الشمول بحيث يكتفى بواحد منها في مقام الامتثال .
وا لظاهر أنّ كلمـة «كلّ» ونظائرها تدلّ على العموم الاستغراقي ، ولعلّ كلمـة المجموع دالّـة على المجموعي .
وا لظاهر أيضاً أنّ كلمـة «أيّ» ونظائرها تدلّ على البدلي .
ولايخفى أنّ هذه الأقسام الثلاثـة ثابتـة للموضوع مع قطع النظر عن تعلّق الحكم بـه ، كما يشهد بمراجعـة العرف ، فإنّـه لو سمع أحد منهم «كلّ رجل» مثلاً لايفهم منـه إلاّ العموم الاستغراقي ولو لم يعلم حكم ذلك الموضوع فضلاً عن كيفيّـة تعلّقـه بـه .
(الصفحة267)
فما ذكره صاحب الكفايـة ـ وتبعـه بعض من أجلاّء تلامذتـهـ من أنّ هذه ا لأقسام إنّما هي بلحاظ كيفيّـة تعلّق الأحكام ، وإلاّ فا لعموم في الجميع بمعنى واحد وهو الشمول ، ممّا لايصحّ أصلاً ; فإنّ الجمع بين ذلك وبين كون كلّ واحد منها مدلولاً عليـه بلفظ غير ما يدلّ على الآخر ـ كما اعترف في حاشيـة الكفايـةـ مستبعد جدّاً ; فإنّ دلالـة الألفاظ على ما وُضعت بإزائها لايرتبط بباب تعلّق الأحكام أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
ثمّ إنّ هذا التقسيم لايجري في باب الإطلاق أصلاً ; ضرورة أنّ معنى الإطلاق هو مجرّد كون المذكور تمام الموضوع لحكمـه المجعول بلا مدخليّـة لشيء آخر ، فقولـه : جئني برجل ، لايفيد إلاّ مجرّد كون الغرض مترتّباً على مجيء الرجل ، وأمّا شمولـه لجميع ما يصدق عليـه والتخيير بينـه فهو حكم عقلي مترتّب على تعلّق الحكم بنفس الطبيعـة ، لا أ نّـه يستفاد من الكلام هذا النحو من الإطلاق .
وا لدليل على ذلك أ نّـه لو كان المستفاد من الكلام الإطلاق الذي يسمّونـه بالإطلاق البدلي ، لكان قولـه بعد هذا الكلام : «أيّ رجل» تأكيداً لاستفادة مضمونـه من قولـه : جئني برجل ، مع أ نّـه ليس كذلك بداهـة ، بل إنّما هو تصريح بما يحكم بـه العقل بعد تعلّق الحكم بنفس الطبيعـة من التخيير بين أفرادها .
ولايتوهّم أ نّـه تصريح بالإطلاق ; فإنّ معنى التصريح بـه هو أن نقول : إنّ تمام الموضوع الحكمي هو الرجل مثلاً من دون قيد لا أن نقول بما يحكم بـه العقل بعد استفادة الإطلاق ، فتدبّر .
1 ـ مقالات الاُصول 1: 430.
2 ـ كفايـة الاُصول: 253.
(الصفحة268)
الأمر الخامس: فيما عدّ من الألفاظ الدالّـة على العموم
قد عدّ من الألفاظ الدالّـة على العموم : النكرة في سياق النفي ، أو النهي ، وكذا اسم الجنس الواقع في سياق أحدهما ، بتقريب أ نّـه لا تكاد تكون الطبيعـة معدومـة إلاّ إذا كانت معدومةً بجميع أفرادها ، وإلاّ فهي موجودة ، وظاهره تسليم أ نّـه لايدلّ على العموم لفظاً ، وهو كذلك ، ضرورة أنّ قولـه : ليس رجل في الدار ، لايكون شيء من ألفاظـه دالاّ على العموم ، فإنّ كلمـة النفي موضوعـة لنفي مدخولـه ، ورجل يدلّ على نفس الطبيعـة ، وتنوينـه المسمّى بتنوين التنكير يدلّ على تقيّد الطبيعـة با لوحدة اللاّبعينها ، وتوهّم ثبوت الوضع لمجموع الجملـة ممّا لاينبغي أن يصغى إليـه ، فا للّفظ لايدلّ على العموم أصلاً .
وأمّا دلالتـه عليـه عقلاً فقد عرفت سابقاً من أنّ ما اشتهر بينهم من وجود الطبيعـة بوجود فرد مّا وانعدامها بانعدام جميع الأفراد خلاف حكم العقل ; فإنّ الطبيعـة كما توجد بوجود فرد كذلك تنعدم بانعدام فردمّا ، ولاينافي انعدامها وجودها بوجود فرد آخر ، ولايلزم التناقض ; لأنّها متكثّرة حسب تكثّر الأفراد . نعم هو مقتضى حكم العرف لا العقل .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ دلالتـه عليـه مبنيـة على كونها مأخوذةً بنحو الإرسال ، وأمّا إذا اُخذت مبهمةً قابلة للتقييد ، فلايستفاد منـه العموم .
ومن هنا تعرف أنّ عدّ النكرة الكذائيـة من جملـة ألفاظ العموم ممّا لايصحّ ، بل غايتـه الدلالـة على الإطلاق بعد جريان مقدّمات الحكمـة في مدخول النفي وضمّ حكم العرف ، كما لايخفى .
وهكذا الحال في المفرد المعرّف با للاّم ، فإنّ توهّم دلالتـه على العموم وضعاً مندفع بوضوح الفرق بين قولـه : (أحلّ اللّـه البيع) وقولـه : أحلّ اللّـه كلّ
(الصفحة269)
بيع ، بل لايدلّ إلاّ على الإطلاق بعد جريان المقدّمات ، فهو أيضاً لايكون من الألفاظ الدالّـة على العموم .
وأمّا الجمع المحلّى با للاّم : فا لظاهر أنّ دلالتـه على العموم بحسب الوضع ممّا لا إشكال فيـه ، إلاّ أنّ الكلام في كون مدلولـه هل هو العموم الاستغراقي أو المجموعي ؟ قد يقال با لثاني ; نظراً إلى أنّ مدخول اللاّم هو الجمع ، وهو لاينطبق على كلّ فرد فرد بل على جماعـة جماعـة من الثلاثـة فما فوق وغايـة ما يستفاد من اللاّم هو أقصى مراتب الجمع مع حفظ معنى الجمعيـة .
هذا ، ولكن لايخفى أنّ الجمع كعلماء مثلاً لايدلّ على كون أفراد العا لم ملحوظاً بنحو الاجتماع ، فالألف واللاّم التي يرد عليـه لايقتضي إلاّ استغراق أفراد العا لم بلا ملاحظـة الوحدة بينهما أصلاً ، ومن هنا تعرف أنّ ما أجاب بـه المحقّق النائيني على ما في التقريرات لايتمّ أصلاً ، فراجع .
(الصفحة270)
الفصل الأوّل
في حجّيـة العامّ المخصّص في الباقي
هل العامّ المخصّص حجّـة فيما بقي مطلقاً ، أو ليس بحجّـة كذلك ، أو يفصّل بين المخصّص المتّصل والمنفصل با لحجّيـة في الأوّل دون الثاني ؟
حول مجازيّـة العامّ المخصّص وعدمها
وا لعمدة في مبنى المسأ لـة هو : أنّ التخصيص يوجب المجازيـة في العـامّ أو لا ؟
وا لتحقيق أن يقال : إنّ المجاز ليس عبارةً عن استعمال اللّفظ في غير ما وُضع لـه ، كما اشتهر بينهم ، بل إنّما هو عبارة عن استعمال اللّفظ في نفس الموضوع لـه كا لحقيقـة بدعوى أنّ ذلك المعنى المقصود هو من مصاديق المعنى الموضوع لـه ، وهذه هي الفارق بين الحقيقـة والمجاز ، فإنّ استعمال اللّفظ في معناه في الأوّل لايحتاج إلى ادّعاء أصلاً ، بخلاف المجاز .
وبعبارة اُخرى: المقصود في المقامين هو نفس المعنى الموضوع لـه ، غايـة
(الصفحة271)
ا لأمر أ نّـه ادّعى المتكلّم تطبيقـه على ما ليس مصداقاً لـه في الواقع في المجاز .
والسرّ في ذلك: أ نّـه لو لم يكن هذا الادّعاء في البين بل كان المجاز عبارة عن مجرّد استعمال اللّفظ الموضوع للأسد مثلاً في زيد من دون ادّعاء أ نّـه من أفراد الأسد حقيقةً ، لم يكن للاستعمال المجازي حسن أصلاً ، فأيّ حسن في مجرّد تغيير اللّفظ وتبديلـه بلفظ آخر ؟ كما هو واضح لايخفى .
وهذا لا فرق فيـه بين المجاز المرسل والاستعارة ، فإنّ استعمال كلمـة «ا لقريـة» في أهلها في قولـه تعا لى :(واسئل القريـة) لايكون محسناً إلاّ إذا كان المقصود كون القريـة كأهلها شاهدةً على المطلب وعا لمـة بها بحيث صار من شدّة الوضوح معلوماً عند نفس القريـة أيضاً ، والتأمّل في جميع الاستعمالات المجازيـة يرشدنا إلى هذا المعنى .
إذا عرفت معنى المجاز ، يظهر لك أنّ تخصيص العامّ في أكثر العمومات المتداولـة الشائعـة لايستلزم المجازيـة في العامّ أصلاً ; إذ ليس المقصود فيها ادّعاء كون ما عدا مورد المخصّص هو نفس العامّ بحيث كأ نّـه لم يكن المخصّص من أفراد العامّ أصلاً ، فإنّ قولـه تعا لى : (أوفوا بالعقود) لايتضمّن ادّعاء أنّ ا لعقود الفاسدة ـ كا لربا ونظائره ـ لا تكون عقداً حقيقـة ، بل العقد إنّما ينحصر في العقود النافذة الماضيـة في الشريعـة ، فباب العموم والخصوص ليس لـه كثير ربط با لمجاز با لمعنى المتقدّم .
نعم يبقى الكلام في الجمع بين العموم الظاهر في شمول الحكم لجميع
1 ـ يوسف (12): 82.
2 ـ المائدة (5): 1.
(الصفحة272)
ا لأفراد وبين الخصوص الظاهر في عدم كون مورده مقصوداً من أوّل الأمر ; إذ ليس التخصيص كا لنسخ ، كما هو واضح .
والتحقيق فيـه أن يقال: إنّ هذا النحو الذي يرجع إلى إلقاء القاعدة الكليـة أوّلاً ثمّ بيان المستثنيات شائع بين العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة والجاعلين للقواعد التي يتوقّف النظام عليها ، فإنّ التأمّل فيها يرشد إلى أنّ دأبهم في ذلك هو جعل الحكم الكلّي أوّلاً ثمّ إخراج بعض المصاديق عنـه .
ولابدّ في مقام الجمع بينهما من أن يقال بأنّ البعث الكلّي المنشأ أوّلاً أو الزجر كذلك وإن كان بعثاً كلّياً حقيقةً وزجراً كذلك إلاّ أ نّـه لايكون المقصود منـه الانبعاث أو الانزجار في الجميع ، بل الانبعاث والانزجار في بعض الأفراد دون البعض الآخر ، والكاشف عن عدم كون البعث الكلّي لغرض الانبعاث في الكلّ هو ورود التخصيص الدالّ على عدم كون مورده مقصوداً من أوّل الأمر أصلاً ، فقولـه : أكرم العلماء ، بعث إلى إكرام جميع العلماء حقيقـة إلاّ أنّ إخراج الفسّاق منهم يكشف عن أنّ البعث المتوجّـه إليهم أيضاً في ضمن الجميع لايكون لغرض الانبعاث بل لغرض آخر ، والفائدة في هذا النحو من جعل الحكم يظهر في موارد الشكّ في التخصيص ، كما سيأتي .
وما ذكرنا هو الذي يرجع إليـه قولهم: بأنّ التخصيص تخصيص في الإرادة الجدّيـة لا الاستعما ليـة ، فإنّ المراد بالإرادة الاستعما ليـة هو أنّ ظاهر الاستعمال هو تعلّق البعث مثلاً بجميع أفراد العلماء وإن كان في الواقع لايكون المقصود ـ أي تحقّق الانبعاث ـ إلاّ با لنسبـة إلى غير الفاسق منهم ، لا أنّ كلمـة «ا لعلماء» قد اُريد منها الجميع استعمالاً لا جدّاً حتّى يقال ـ كما في تقرير المحقّق النائيني ـ بأ نّا لا نتصوّر للاستعمال إرادة مغايرة للإرادة الجدّيـة ، فهي ـ أي كلمـة «ا لعلماء» ـ إن
(الصفحة273)
اُريد معناها ، فقد اُريد جدّاً ، وإلاّ يكون هازلاً ، وذلك ينشأ من عدم الوصول إلى مرادهم فإنّك عرفت أنّ مرادهم من الإرادة الاستعما ليـة هو أنّ تعلّق الحكم بجميع الأفراد مدلول عليـه بظاهر الاستعمال ، ولكن تعلّقـه في الواقع إنّما هو ببعض الأفراد ، فراجع كتاب الدّرر تجده مصرّحاً بما ذكرنا في بيان مرادهم .
وكيف كان فقد عرفت: أنّ التخصيص يكشف عن عدم تعلّق البعث لغرض الانبعاث ، والزجر لغرض الانزجار بمورد المخصّص ، فلا دليل على رفع اليد عن حجّيتـه با لنسبـة إلى الباقي بعد ظهور الكلام وعدم معارض أقوى .
ثمّ إنّـه في التقريرات ـ بعد الإشكال بعدم تصوّر الإرادة الاستعما ليـة المغايرة للإرادة الجدّيـة ـ أجاب بأنّ ا لتخصيص لايوجب المجازيـة لا في ا لأداة ولافي ا لمدخول .
أمّا في الأداة: فلأنّها لم توضع إلاّ للدلالـة على استيعاب ما ينطبق عليـه المدخول ، وهذا لايتفاوت الحال فيها بين سعـة دائرة المدخول أو ضيقها أصلاً .
وأمّا في المدخول: فلأنّـه لم يوضع إلاّ للطبيعـة المهملـة المعرّاة عن جميع القيود ، فا لعا لم مثلاً ليس معناه إلاّ من انكشف لديـه الشيء من دون دخل العدا لـة وغيرها فيـه أصلاً ، فلو قيّد العا لم با لعادل مثلاً لم يستلزم ذلك مجازاً في لفظ العا لم أصلاً ; لأنّـه لم يستعمل إلاّ في معناه ، وخصوصيّـة العدا لـة إنّما استفيدت من دالّ آخر ، وهذا لا فرق فيـه بين اتّصال القيد وانفصا لـه وعدم ذكر القيد أصلاً .
أقول: أمّا عدم لزوم المجاز في الأداة فهو مسلّم ، وكذا في المدخول فيما إذا
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 517.
2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 212 ـ 213.
3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 518.
(الصفحة274)
كان المخصّص متّصلاً ، وأمّا في المخصّص المنفصل فنقول : ما الذي اُريد با لعا لم قبل ورود التخصيص عليـه ؟ فإن اُريد الجميع من غير اختصاص با لعادل ـ كما هو ظاهر اللّفظ ـ فهو ينافي إخراج الفسّاق بعده ، وإن اُريد خصوص العادل ، فإن استعمل لفظ العا لم في خصوص العادل منـه ، فهو لو لم نقل بكونـه غلطاً فلا محا لـة يكون مجازاً ، وإن لم يستعمل فيـه فهو هازل ، كما صرّح بـه في الإشكال .
فالإنصاف أ نّـه لا مفرّ من الإرادة الاستعما ليـة با لمعنى الذي ذكرنا ، وعدم لزوم المجاز ; لما عرفت من عدم ارتباط المقام بباب المجازات أصلاً .
ثمّ إنّ ما ذكره بعض المحقّقين: ـ من محشّي الكفايـة ـ من أنّ الإنشاء الواحد لو كان بعثاً حقيقيّاً بالإضافـة إلى البعض دون البعض الآخر مع كونـه متعلّقاً بـه في مرحلـة الإنشاء يلزم صدور الواحد عن داعيين بلا جهـة جامعـة تكون هو الداعي ، ففيـه : أنّ الداعي في أمثال المقام ليس راجعاً إلى ما يصدر منـه الفعل حتّى يقال بأنّ الواحد لايصدر إلاّ من واحد ، والدليل على ذلك مانراه با لوجدان من اجتماع الدواعي المختلفـة على بعض الأفعال الصادرة منّا ، ولا استحا لـة فيـه أصلاً ، كما هو واضح لايخفى .
والمحكي عن المقالات: أ نّـه ذكر في وجـه حجّيـة العامّ في الباقي أنّ الكثرة والشمول الذي هو معنى العامّ يسري إلى لفظـه ، فكأ نّـه أيضاً كثير ، فسقوط بعض الألفاظ عن الحجّيـة لايستلزم سقوط الباقي .
ويقرب هذا ممّا ذكره الشيخ في التقريرات في وجـه الحجّيـة بعد تسليم
1 ـ نهايـة الدرايـة 2: 450.
2 ـ مقالات الاُصول 1: 437 ـ 438.
(الصفحة275)
ا لمجازيـة .
ولايخفى أنّ هذا الكلام ـ الذي با لشعر أشبـه ـ مردود : بأنّ سرايـة الكثرة إلى اللّفظ ممّا لا معنى لها أصلاً ، نظير القول بسرايـة الحسن والقبح إلى الألفاظ ، فإنّ من الواضح أنّ اللّفظ من حيث هو لايكون حسناً ولا قبيحاً ، ولذا لو اُلقي على الجاهل بمعناه لم يتوجّـه إلى شيء منهما ، كما لايخفى .
1 ـ مطارح الأنظار: 192 / السطر 17.
(الصفحة276)
الفصل الثاني
في تخصيص العامّ بالمجمل
نبحث في هذا المقام في جهتين :
الجهـة الاُولى: المخصّص اللفظي المجمل مفهوماً
إذا كان الخاصّ مجملاً بحسب المفهوم ، فتارة يكون مُردّداً بين الأقلّ والأكثر ، واُخرى بين المتبائنين ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون متّصلاً با لعامّ ، وإمّا أن يكون منفصلاً عنـه ، فا لصور أربع :
منها: ما إذا كان الخاصّ مردّداً بين الأقلّ والأكثر وكان متّصلاً با لعامّ ، كقولـه : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو أكرم العلماء العدول ، وتردّد الفاسق بين الاختصاص بمرتكب الكبيرة أو الشمول لمرتكب الصغيرة أيضاً .
ولاشبهـة في هذه الصورة في عدم جواز الرجوع إلى العامّ با لنسبـة إلى المورد المشكوك ، وهو خصوص مرتكب الصغيرة فقط ، وذلك لأنّ الخاصّ المتّصل با لكلام يصير مانعاً من انعقاد ظهور للعامّ في العموم حتّى يقال بأنّ القدر المتيقّن من الدليل المجمل المزاحم الأقوى هو خصوص مرتكب الكبيرة ،
(الصفحة277)
فأصا لـة العموم با لنسبـة إلى غيره محكّمـة ، بل الكلام ما دام لم يتمّ لايتّبع ظهوره أصلاً ، بل الظهور الذي يجب اتّباعـه عند العقلاء هو الظهور الحاصل للكلام بملاحظـة جميع قيوده وخصوصياتـه ، فإذا فرض أنّ موضوع الحكم المجعول هو العا لم غير الفاسق فلابدّ من إحراز هذا العنوان الذي هو بمنزلـة الصغرى في تطبيق الكبرى عليـه ، وهذا واضح .
منها: هذه الصورة مع كون الخاصّ منفصلاً عن العامّ ، ربّما يقال ـ كما في أكثر الكتب الاُصوليـة ـ بجواز الرجوع إلى العامّ في هذه الصورة با لنسبـة إلى المورد المشكوك دخولـه في الخاصّ ; لإجما لـه مفهوماً ; نظراً إلى أنّ العامّ قبل ورود التخصيص عليـه انعقد لـه ظهور في العموم ، ومن الواضح أ نّـه لايرفع اليد عن هذا الظهور إلاّ بسبب حجّـة أقوى منـه ، وحجّيـة الخاصّ إنّما هي با لنسبـة إلى ما يعلم شمولـه لـه يقيناً ; لما عرفت من أنّ إحراز الصغرى شرط في تطبيق الكبرى عليـه ، فقولـه : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، لايكون حجّةً إلاّ با لنسبة إلى خصوص مرتكب الكبيرة ، فبا لنسبـة إلى المورد المشكوك لم يقم حجّـة أقوى على خلاف العامّ الذي انعقد لـه ظهور في العموم ، فا لواجب الرجوع إليـه ، كما لايخفى .
وفي الدّرر تنظّر في ذلك وقال بإمكان أن يقال : إنّـه بعدما صارت عادة المتكلّم جاريةً على ذكر التخصيص منفصلاً عن كلامـه ، فحال المنفصل في كلامـه حال المتّصل في كلام غيره ، فكما أ نّـه يحتاج في التمسّك بعموم كلام سائر المتكلّمين إلى إحراز عدم المخصّص المتّصل إمّا با لقطع أو بالأصل ، كذلك يحتاج في التمسّك بعموم كلام المتكلّم المفروض إلى إحراز عدم المخصّص المنفصل أيضاً كذلك ، فإذا احتاج العمل با لعامّ إلى إحراز عدم التخصيص با لمنفصل ، فا للازم الإجمال فيما نحن فيـه ; لعدم إحراز عدمـه لابا لقطع ولابالأصل ، أمّا
(الصفحة278)
ا لأوّل : فواضح ، وأمّا الثاني : فلما مضى من أنّ جريانـه مخصوص بمورد لم يوجد ما يصلح لأن يكون مخصّصاً ، والمسأ لـة محتاجـة إلى التأمّل . انتهى .
هذا ، ولايخفى أنّ جريان العادة على ذكر التخصيص منفصلاً إنّما يجدي با لنسبـة إلى عدم جواز التمسّك با لعامّ بمجرّد صدوره من المتكلّم ، بل لابدّ من الفحص والبحث عن المخصّص ، وأمّا با لنسبـة إلى عدم جواز الرجوع إليـه بعد العلم با لتخصيص في المورد المشكوك انطباق المخصّص عليـه فلابعد انعقاد ظهور لـه في العموم وعدم المزاحمـة با لحجّـة الأقوى في المورد المشكوك كما بيّنّا .
نعم ، قد يشكل التمسّك بـه في بعض المخصّصات الواردة بلسان التفسير والشرح بحيث يكون ظاهراً في عدم جعل الحكم بنحو العموم الشامل لمورد التخصيص من الأوّل ، مثل : قولـه بعد الأمر بإكرام العلماء : ما أردت إكرام فسّاقهم ، ونحو ذلك من التخصيصات التي تكون بلسان الحكومـة والتفسير العامّ الواقع قبلها .
منها: ما إذا كان الخاصّ مردّداً بين المتبائنين وكان منفصلاً ، والظاهر أ نّـه لايجوز الرجوع إلى العامّ في شيء من المحتملات ; لأنّ العلم الإجما لي بخروج واحد منها مانع من جريان أصا لـة العموم ; لأنّ جريانها با لنسبـة إلى جميع الأطراف مخا لف للعلم الإجما لي وفي بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجّح ، وحينئذ فلو كان مفاد الخاصّ حكماً تحريميّاً والعامّ حكماً وجوبياً ، يدور الأمر بين المحذورين ، وإن كان مفاده الجواز ونفي الوجوب ، فا للاّزم إكرام الجميع ; لتوقّف الامتثال اليقيني عليـه .
1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 215.
(الصفحة279)
منها: هذه الصورة مع كون الخاصّ متّصلاً ويجري فيها حكم الصورة السابقـة ، كما هو واضح .
هذا كلّـه فيما إذا كان الخاصّ مجملاً مفهوماً .
الجهـة الثانيـة: المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً
وأمّا إذا كان مجملاً بحسب المصداق بأن اشتبـه فرد وتردّد بين أن يكون مصداقاً للخاص أو باقياً تحت العامّ للشبهـة الخارجيـة ، فلايجوز التمسّك با لعامّ ، سواء كان الخاصّ متّصلاً أو منفصلاً .
أمّا إذا كان المخصّص متّصلاً، فلوضوح أ نّـه لاينعقد ظهوره حينئذ إلاّ في غير عنوان الخاصّ . وبعبارة اُخرى : يصير الموضوع لوجوب الإكرام أمر واحد ، وهو العا لم غير الفاسق ، فا لتمسّك با لعامّ حينئذ يصير من قبيل التمسّك بـه في الشبهـة المصداقيـة لنفس العامّ ; إذ لا فرق حينئذ بين أن يتردّد أمر زيد مثلاً بين أن يكون عا لماً أو لا ، وبين أن يتردّد أمره بعد العلم بكونـه عا لماً بين أن يكون فاسقاً أو لا ، فكما لايجوز التمسّك بـه في الفرض الأوّل كذلك لايجوز في الفرض الثاني ; لأنّ عنوان غير الفاسق أيضاً يكون جزءاً للموضوع ، وهذا واضح .
وأمّا إذا كان المخصّص منفصلاً، فا لظاهر عدم جواز التمسّك با لعامّ أيضاً .
وقبل الخوض فيـه لابدّ من بيان أنّ الكلام ممحّض في خصوص العامّ والخاصّ ، ولا ارتباط لـه بباب المطلق والمقيّد أصلاً . فما وقع من بعضهم من الخلط بينهما في هذا المقام ونظائره حيث قال ـ كما في التقريرات المنسوبـة إلى المحقّق النائيني ـ بأنّ ورود التخصيص بقولـه : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، بعد ورود قولـه : أكرم العلماء ، يدلّ على أنّ الموضوع للحكم يكون مركّباً من العا لم وعنوان الغير الفاسق ، فكما لايجوز التمسّك بـه فيما إذا شكّ في الجزء الأوّل
(الصفحة280)
كذلك لايجوز فيما إذا شكّ في الجزء الآخر ، ممّا لايصحّ أصلاً ; لأنّ التخصيص ليس كا لتقييد في تضييق دائرة الموضوع ، فإنّ الموضوع في المثال هو جميع أفراد العا لم بلا قيد إلاّ أنّ التخصيص يكشف عن عدم تعلّق الإرادة الجدّيـة بجميع ما هو مراد استعمالاً ، وقد عرفت أنّ المراد با لعامّ قبل ورود التخصيص وبعده هو جميع الأفراد ، وإلاّ يلزم المجازيـة .
وبا لجملـة ، فا لموضوع في باب العلم هو الأفراد لا الطبيعـة ، كما في باب المطلق ، والتخصيص لايوجب التضييق ، بخلاف التقييد .
حول جواز التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيّـة
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أ نّـه قد يقال بجواز التمسّك با لعامّ في الشبهـة المصداقيـة للمخصّص .
وقد استدلّ لـه بوجوه أجودها ما ذكره في الكفايـة من أنّ الخاصّ إنّما يزاحم العامّ فيما كان فعلاً حجّـة ، ومن المعلوم أ نّـه حجّـة با لنسبـة إلى مَنْ علم أ نّـه من مصاديقـه ، وأمّا با لنسبـة إلى الفرد المشتبـه فلايكون حجّةً ، فلايعارض العامّ فيـه ، ولايزاحمـه ، فإنّـه يكون من قبيل مزاحمـة الحجّـة بغير الحجّـة .
ولايخفى فساده .
بيان ذلك: أنّ مناط حجّية الدليل إنّما هوباجتماع هذه المراتب الثلاثـة فيه :
الاُولى: كونـه ظاهراً بحسب معناه اللغوي أو العرفي في المعنى المقصود للمتكلّم .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 525.
2 ـ كفايـة الاُصول: 258 ـ 259.
|