(الصفحة281)
الثانيـة: أصا لـة الحقيقـة التي تقتضي كون الظاهر مراداً لـه .
الثالثـة: أصا لـة تطابق الإرادة الجدّيـة مع الإرادة الاستعما ليـة بمعنى كون المتكلّم مريداً لمعناه الحقيقي جدّاً بحيث لايكون هازلاً ، ومع كون الدليل فاقداً لشيء من هذه المراتب لايصحّ الاحتجاج بـه على العبد ، كما هو واضح .
وحينئذ فنقول: إنّ هنا دليلين : أحدهما : قولـه : أكرم العلماء ، ثانيهما : قولـه : لا تكرم الفسّاق منهم ، فلو كان الدليل منحصراً في الأوّل ، لكانت المراتب الثلاثـة مجتمعةً فيـه ، وحاكمةً بوجوب إكرام جميع العلماء جدّاً ، إلاّ أنّ جريانها في الدليل الثاني يقتضي كون الإرادة الجدّيـة متعلّقةً با لزجر عن إكرام الفسّاق من العلماء ، فيرفع اليد بسببـه عن الأصل العقلائي الجاري في الأوّل مع قطع النظر عن الثاني ، فيقتصر في جريانـه على المورد الخارج عن الدليل المخصّص واقعاً ، فيظهر أنّ هنا إرادتين جدّيتين : إحداهما تعلّقت بوجوب إكرام العا لم الغير الفاسق الواقعي ، والاُخرى با لزجر عن إكرام الفاسق الواقعي ، فإذا شكّ في فرد أ نّـه هل يكون عا لماً فاسقاً أو غير فاسق ؟ فمرجع الشكّ إلى أ نّـه هل يكون داخلاً في المراد بالإرادة الجدّيـة الأوّليـة أو داخلاً في المراد بالإرادة الجدّيـة الثانويـة ؟ فكما أ نّـه لايجوز التمسّك با لخاصّ والرجوع إليـه ـ كما هو المفروض ـ للشك في تعلّق الإرادة بـه كذلك لايجوز التمسّك با لعامّ أيضاً ; للشكّ في تعلّق الإرادة الجدّيـة بـه ; إذ لا فرق بينهما من هذه الجهـة ، ومجرّد كونـه داخلاً في العموم بحسب الظاهر لايقتضي حجّيتـه با لنسبـة إليـه بعدما عرفت من توقّفها على تعلّق الإرادة الجدّيـة بـه أيضاً ، وهي مقصورة على العا لم الغير الفاسق .
ومن هنا يعرف فساد ما ذكره: من أنّ الخاصّ لايعارض العامّ ; لأنّـه من قبيل مزاحمـة الحجّـة بغير الحجّـة ، فإنّك عرفت أنّ العامّ أيضاً لايكون حجّةً حتّى يكون من ذاك القبيل ; لقصوره عن شمولـه بما هو حجّـة ; لأنّ حجّيتـه مقصورة
(الصفحة282)
على غير مورد الخاصّ ، فعدم شمول العامّ لـه ; لقصور فيـه ، لا لمزاحمتـه با لخاصّ حتى يستشكل عليـه بما ذكر .
وبا لجملـة ، فبناء العقلاء لايكون على العمل با لدليل فيما إذا شكّ في كونـه متعلّقاً للإرادة الجدّيـة ، ولذا لايعملون با لخاصّ في الفرد المشتبـه ، ولابا لعامّ في الفرد الذي شكّ كونـه عا لماً .
هذا هو غايـة ما يمكن أن يقال في تقريب مراد الكفايـة .
هذا ، ولايرد نظير هذا الكلام في العامّ المخصّص با لمنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر بحسب المفهوم الذي قلنا بجواز الرجوع في المورد المشكوك إلى العامّ ، وذلك لأنّ دليل الخاصّ فاقد للمرتبـة الاُولى التي هي عبارة عن الظهور ; لأنّ معناه اللغوي مردّد بينهما ، فحجّيتـه مقصورة على القدر المتيقّن ، وهو مرتكب الكبيرة في المثال ، فيرفع اليد عن العامّ با لنسبـة إلى خصوص المتّصف بهذه الصفـة ، ويبقى حجّـة في غير مورده ، فلا إشكال في جواز الرجوع إليـه .
ثمّ إنّـه لايخفى عدم الفرق فيما ذكرنا بين كون المخصّص لفظياً أو لبيّاً ; إذ لا فرق بين أن يقول المولى : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، وبين أن يحكم العقل بذلك ; إذ حكم العقل عبارة عن الكبريات الكلّيـة ، فالإرادة الجدّيـة أيضاً على طبقها ، فيجري الكلام المتقدّم بعينـه .
وجـه آخر لعدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهـة المصداقيّـة
ثمّ إنّـه حكي عن مقالات المحقّق العراقي وجـه آخر لعدم جواز التمسّك با لعامّ في الشبهـة المصداقيـة للمخصّص ، وهو : أنّ حجّيـة الظهور منحصرة في الدلالـة التصديقيـة للكلام الملقى من المتكلّم ، ولا تتحقّق تلك الدلالـة إلاّ بعد كون المتكلّم بصدد إبراز مرامـه بكلامـه وإفهام غرضـه بـه ، ويتوقّف ذلك على
(الصفحة283)
تصوّره وثبوتـه عنده ، ومع الشكّ ـ كما هو المفروض في المقام ـ لايتعلّق بـه غرضـه حتّى يفيده بكلامـه ، فإذا كان شاكّاً في كون زيد عا لماً كيف يتعلّق غرضـه بإكرامـه ؟ ! ومع عدمـه لايكون المقصود با للّفظ إفهامـه ، ومعـه لايكون الظهور حجّةً أصلاً با لنسبة إلى المورد الذي لم يتعلّق الغرض بإفهامـه ، ونسب هذا الوجـه إلى الشيخ الأنصاري(قدس سره)
وأنت خبير بأ نّـه ـ مضافاً إلى أنّ كلام الشيخ لايستفاد منـه هذا الوجـه ، بل مفاده يرجع إلى ما ذكرنا ممّا عرفت ـ نقول : هذا الوجـه لايتمّ أصلاً ، وذلك لأنّ مقصود المتكلّم إنّما هو بيان الكبريات الكلّيـة ، والجهل بصغرياتها خارجاً لايضرّ بتعلّق الغرض بها ثمّ إفادتها با للّفظ ; لأنّ من الواضح أنّ إلقاء الحكم الكلّي لو كان متوقّفاً على ثبوت صغراه عنده والعلم بحا لها يلزم أن لايتحقّق في الخارج أصلاً ; لقلّـة العلم با لصغريات تفصيلاً مع أنّ كثرتـه ممّا لايكاد ينكر .
وسرّه ما عرفت من أنّ تعلّق الغرض با لكبريات لايستلزم العلم با لصغريات أصلاً .
ألا ترى أ نّـه لو كان بعض الصغريات مشكوكاً عند المتكلّم دون المخاطب ، هل يرضى أحد بخروج ذلك البعض وعدم شمول الحكم الكلّي لـه ؟ مثلاً لو أمر المولى عبده بإنقاذ أولاده من الغرق وشكّ في بعضهم أ نّـه من أولاده أو لا ; لظلمـة أو لغيرها مع كون حا لـه معلوماً عند العبد وأ نّـه منهم ، فهل يقول أحد من العقلاء بعدم وجوب إنقاذه على العبد وإن كان يعلم بأ نّـه ولد المولى ؟ معتذراً بجهل المولى حا لـه ، بل يحكم با لوجوب العقلاء كافّـة ولو فيما علم المولى بأ نّـه ليس ولده ، وهذا واضح .
1 ـ مقالات الاُصول 1: 443.
(الصفحة284)
تفصيل المحقّق النائيني في المخصّص اللبّي
ثمّ إنّـه فصّل المحقّق النائيني(قدس سره) ـ على ما في التقريرات ـ في المخصّص اللبّي بين ما إذا كان الذي لم يتعلّق بـه إرادة المولى من العناوين الغير الصا لحـة لأن تكون قيداً للموضوع وكان إحرازها من وظيفـة الآمر بأن كان من قبيل الملاكات وبين ما إذا كان ذلك من العناوين التي لا تصلح إلاّ أن تكون قيداً للموضوع ولم يكن إحراز انطباقها على مصاديقها من وظيفـة الآمر والمتكلّم ، بل من وظيفـة المأمور والمخاطب ، فقال با لجواز في الأوّل دون الثاني .
مثال الثاني: قولـه(عليه السلام) : «انظروا إلى رجل قد روى حديثنا...» ، فإنّـه عامّ يشمل العادل وغيره ، إلاّ أ نّـه قام الإجماع على اعتبار العدا لـة ، فتكون قيداً للموضوع ، ولايجوز الرجوع إلى العموم عند الشكّ في عدا لـة مجتهد ، كما إذا كان اعتبار العدا لـة بدليل لفظي .
ومثال الأوّل: قولـه(عليه السلام) : «اللّهمَّ العن بني أُميّـة قاطبـة» حيث يعلم أنّ ا لحكم لايشمل المؤمن منهم ; لأنّ اللعن لايصيب المؤمن ، فا لمؤمن خرج عن العامّ ; لانتفاء ملاكـه ، ولايكون قيداً للموضوع ; فإنّ مثل حكم اللعن لايصلح أن يعمّ المؤمن حتّى يكون خروجـه من باب التخصيص ، ويكون إحراز أنّ في بني أُميـة مؤمناً إنّما هو من وظيفـة المتكلّم حيث لايصحّ لـه إلقاء العموم إلاّ بعد إحراز ذلك ، فلو فرض أ نّـه علمنا بكون خا لد بن سعيد مثلاً مؤمناً ، كان ذلك موجباً لعدم
1 ـ الكافي 1: 67 / 10، وسائل الشيعـة 27: 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 1.
2 ـ كامل الزيارات: 332، الباب 71، مصباح المتهجد: 716.
(الصفحة285)
اندراجـه تحت العموم ، ولكن المتكلّم لم يبيّنـه لمصلحـة هناك اقتضت ذلك ، فلايجوز لنا لعنـه ; لعلمنا بعدم ثبوت الملاك فيـه ، وأمّا إذا شككنا في إيمان أحد منهم ، فا للاّزم الأخذ با لعموم وجواز لعنـه ; لأنّـه من نفس العموم يستكشف أ نّـه ليس بمؤمن ، وأنّ المتكلّم أحرز ذلك حيث إنّـه من وظيفتـه ، فلو لم يحرز أنّ المشكوك غير مؤمن ، لما ألقى العموم كذلك ، فأصا لـة العموم حينئذ جاريـة ، ويكون المعلوم الخروج من التخصيص الأفرادي حيث إنّـه لم يؤخذ عنوان قيداً للموضوع . انتهى .
وأنت خبير بأنّ محلّ النزاع في هذا المقام: هو ما إذا كان الخاصّ عنواناً كلّياً ذا مصاديق وأفراد ، غايـة الأمر كون بعض المصاديق مردّداً ، وأمّا إذا كان التخصيص أفرادياً ، فلا إشكال في جواز التمسّك با لعامّ ; لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في التخصيص الزائد ، وحينئذ نقول : إن كان الخارج عن عموم قولـه : «اللّهمّ العن بني أُميـة قاطبـة» هو عنوان المؤمن ، فمن الواضح عدم الفرق بينـه وبين سائر الموارد ، كما هو واضح ، وإن كان التخصيص أفرادياً ، فا لقول با لجواز فيـه ليس تفصيلاً في محلّ النزاع ، كما عرفت .
ثمّ إنّـه قد استدلّ أيضاً على الجواز في مورد النزاع: بأنّ قول القائل : أكرم العلماء ، يدلّ بعمومـه الأفرادي على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء ، وبإطلاقـه على سرايـة الحكم إلى كلّ حا لـة من الحالات التي تفرض للموضوع ، ومن جملـة حالاتـه كونـه مشكوك الفسق والعدا لـة ، كما أنّ من جملـة حالاتـه كونـه معلوم العدا لـة أو معلوم الفسق ، وخرج بقولـه : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، معلوم الفسق منهم ، لا لمدخليـة العلم في الموضوع ، بل لأنّ المعلوم خروج معلوم
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 536 ـ 539.
(الصفحة286)
ا لفسق ، ولايعلم خروج الباقي ، فمقتضى أصا لـة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحت الحكم هذا .
وهذا الدليل أوضح فساداً من الدليل المتقدّم ، وذلك لأنّ موضوع حرمـة الإكرام إنّما هو الفاسق الواقعي ، لا الفاسق المعلوم ، وحينئذ فلو قيل بشمول حكم العامّ لـ «زيد» الذي هو مشكوك الفسق ، يلزم اجتماع حكمين واقعيّين ـ : أحدهما إيجابي ، والآخر تحريمي مثلاً ـ على إكرامـه لو كان في الواقع فاسقاً ، فهو من حيث إنّـه مشكوك الفسق يكون إكرامـه واجباً بمقتضى العامّ ، ومن جهـة أ نّـه فاسق واقعاً يكون إكرامـه محرّماً بمقتضى دليل الخاصّ هذا ، ولو صحّ ما ذكره يلزم تعلّق حكمين بإكرامـه من جهـة واحدة ، وذلك لأنّ الإطلاق الاحوا لي كما يجري في دليل العامّ يجري في الخاصّ أيضاً ; لأنّ موضوعـه هو الفاسق الواقعي ، سواء كان معلوم الفسق أومشكوكـه ، فزيد من حيث إنّـه مشكوك الفسق كمايجب إكرامـه بمقتضى إطلاق العامّ كذلك يكون مقتضى دليل ا لخاصّ حرمـة إكرامـه ، ومن ا لواضح استحا لـة اجتماع ا لحكمين .
وتوهّم: اندفاع الإشكال الأوّل بأنّ اجتماعهما في المقام نظير اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري ، وذلك ; لأنّ حكم الخاصّ غير مقيّد بخلاف العامّ ، فإنّ شمولـه لـه إنّما هو من حيث كونـه مشكوك الفسق ، فموضوعـه مقيّد با لشكّ دون حكم الخاصّ .
مندفع: بأنّ الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من جهـة أنّ الشكّ في الأوّل مأخوذ في موضوع الثاني ، وهنا ليس كذلك ; لأنّ شمول العامّ لـه ليس لكونـه مشكوك الحكم ، بل لكونـه مشكوك الفسق ، فلاربط لهذا المقام بذلك الباب .
وا لذي يسهّل الخطب أنّ معنى الإطلاق ليس كما توهّمـه المستدل ، بل هو
(الصفحة287)
ـ كما ذكرناه مراراً ـ عبارة عن أنّ تمام الموضوع للحكم المجعول هو المذكور بلا مدخليـة شيء آخر ، لا أ نّـه قد لاحظ السريان والشمول ، فإنّـه حينئذ لايبقى فرق بينـه وبين العموم أصلاً ، وهذا المورد أيضاً من الموارد التي وقع الخلط فيها بينهما ، فتأمّل ; لكي لا تخلط بينهما .
وينبغي التنبيـه على اُمور :
الأمر الأوّل: التمسّك بالعامّ مع كون الخاص معلّلاً
إذا خصّص العامّ ببعض أفراده على نحو التخصيص الأفرادي معلّلاً إخراج الفرد المخرج بعلّـة عامّـة لـه ولغيره ، مثل : ما إذا خصّص قولـه : أكرم كلّ رجل عا لم ، بقولـه : لا تكرم زيداً ، معلّلاً بأ نّـه فاسق ، فهل يوجب ذلك أن يكون المخصّص في الحقيقـة هو عنوان الفاسق ، فيجري فيـه ما تقدّم فيما تردّد أمر بعض أفراد العامّ بين انطباق عنوان الخاصّ عليـه وعدمـه من عدم جواز التمسّك با لعامّ با لنسبـة إليـه ، أو أنّ التخصيص هنا أفرادي ولايكون المخرج عنواناً كليّاً ، فيجوز التمسّك بـه ; لأنّ مرجعـه إلى الشكّ في التخصيص الزائد ، وهو منفيّ بأصا لـة العموم ؟ وجهان ، والظاهر : الأوّل ; لمساعدة العرف وشهادتـه بكون المخرج هو عنوان الفاسق في المثال ، كما لايخفى .
الأمر الثاني: العامّين من وجـه المتنافيي الحكم
إذا كان هناك عامّان من وجـه ، مثل : قولـه : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، فبناء على كونـه من صغريات مسأ لـة اجتماع الأمر والنهي يكون غير مرتبط با لمقام ، وأمّا بناء على ثبوت التعارض بينهما وتقديم أحد الدليلين با لنسبـة إلى مورد الاجتماع ، فلا إشكال في عدم جواز التمسّك با لعامّ في الفرد المشكوك
(الصفحة288)
انطباق عنوان الخاصّ عليـه ; لعدم الفرق بينـه وبين سائر الموارد ، كما هو واضح ولو فرض كونهما من قبيل الدليلين المتزاحمين بمعنى ثبوت المقتضيين في مورد الاجتماع ، غايـة الأمر ترجيح أحدهما ; لأقوائيـة ملاكـه من ملاك الآخر ، ففي جواز التمسّك في الفرد المشكوك انطباق عنوان المزاحم الأقوى عليـه با لدليل الآخر الذي ينطبق عنوان عليـه قطعاً وعدمـه وجهان مبنيّان على أنّ الحكم في المتزاحمين با لنسبـة إلى ما هو ملاكـه أضعف هل هو حكم إنشائي أو أ نّـه باق على فعليّتـه ؟ غايـة الأمر أنّ المكلّف معذور في مخا لفتـه لصرف قدرتـه في المزاحم الأقوى .
فعلى الأوّل لايجوز التمسّك با لدليل الآخر أيضاً ; لأنّ الإرادة الجدّيـة فيـه مقصورة بما عدا مورد المزاحم ، ولايعلم تعلّقها با لفرد المشكوك ، كما أ نّـه لايعلم شمول الدليل الآخر لـه أيضاً .
وعلى الثاني يجوز التمسّك بـه ، بل لا مجال لمخا لفتـه بعد كونـه حكماً فعليّاً ، وإحراز كونـه معذوراً متوقّف على شمول الدليل الآخر لـه ، وهو مشكوك ، ومن المعلوم أنّ الشكّ في العذر لايبيح مخا لفـة التكليف الفعلي المتوجّـه إليـه ، كما إذا شكّ في كونـه قادراً على امتثال سائر التكا ليف الفعليـة المتوجّهـة إليـه ، فإنّ العقل لايحكم بكونـه معذوراً في مخا لفتها أصلاً ، كما لايخفى .
هذا وقد عرفت في مبحث الترتّب أنّ الأقوى كون الحكمين المتزاحمين فعليّين ، غايـة الأمر كونـه معذوراً في مخا لفـة أحدهما لو صرف قدرتـه في امتثال الآخر ، وأمّا مع مخا لفـة كليهما فيستحقّ العقوبتين ، وحينئذ فا للاّزم في المقام بناء عليـه جواز التمسّك با لدليل الذي ملاكـه أضعف في المورد المشكوك ، كما عرفت .
(الصفحة289)
الأمر الثالث: إحراز المصداق بالأصل في الشبهـة المصداقيـة
هل يجوز إحراز كون الفرد المشكوك انطباق عنوان الخاصّ عليـه من أفراد العامّ بما هو حجّـة بالأصل الموضوعي مطلقاً ، أو لايجوز كذلك ، أو يفصّل بين الاُصول العدميـة الأزليـة وغيرها ؟ وجوه بل أقوال :
صريح محكي المقالات هو الوجـه الثاني .
قال في محكيّ كلامـه ما ملخّصـه: إنّ التخصيص لايوجب تضييقاً في العامّ حتّى با لنسبـة إلى الإرادة الجدّيـة ; لأنّـه بمنزلـة موت بعض الأفراد ، فكما أنّ موت بعض أفراده لايوجب تغييراً في العامّ بل هو باق على عمومـه كذلك التخصيص ; لأنّ موضوع الحكم بعده أيضاً هو كلّ عا لم مثلاً ، وحينئذ فهو لايوجب أن يكون العامّ معنوناً بعنوان غير الخاصّ حتّى يثبت ذلك العنوان بالاُصول العدميـة ، فاستصحاب عدم فسق زيد ـ سواء كان من الاُصول الأزليـة أو كان استصحاباً لحا لتـه السابقـة التي علم فيها بعدا لتـه وعدم كونـه فاسقاً ـ إنّما يجري عليـه نفي الحكم المترتّب على الفسّاق ، ولايثبت بـه حكم العامّ ; لكونـه لازماً عقليّاً ، كما هو واضح .
وقد عرفت: أنّ العامّ لايكون معنوناً بغير عنوان الخاصّ حتّى يثبت بالاستصحاب ذلك العنوان ، فيترتّب عليـه حكم العامّ .
نعم لو كان رفع الشكّ في المورد المشكوك بيد الشارع ، كما في الصلح والشرط المشكوك كونهما مخا لفين للكتاب والسنّـة فيبطلان أو موافقين لهما فيصحّان ، لابأس با لرجوع إلى عمومات أدلّـة الصلح والشرط . انتهى .
1 ـ مقالات الاُصول 1: 444 ـ 445.
(الصفحة290)
أقول: ممّا ذكرنا في مسأ لـة أنّ التخصيص لايوجب مجازيـة العامّ ، ظهر لك أنّ التخصيص وإن لم يوجب تضييقاً في موضوع حكم العامّ بحيث ينقلب الموضوع بعده كما في المطلق والمقيّد ، إلاّ أ نّـه يكشف عن كون الإرادة الجدّيـة مقصورة على ما عدا مورد الخاصّ ، وليس التخصيص بمنزلـة موت بعض الأفراد الذي لايوجب تغييراً في العامّ .
وسرّه : أنّ قولـه : أكرم كلّ عا لم ، إنّما يشمل على حكم واحد متعلّق بجميع أفراد العا لم ، فهو قضيّـة حقيقيّـة يكون المحمول فيها ثابتاً على جميع أفراد الموضوع المحقّقـة والمقدّرة ، وموت بعض أفراد الموضوع لايضرّ بها ; إذ ليس لكلّ مصداق حكم على حدة حتّى ينتفي بانتفائـه ، بل هو حكم واحد ثابت على الجميع ، غايـة الأمر اختلافـه سعةً وضيقاً با لموت وعدمـه ، ولكن ذلك لايوجب انقلاب الموضوع ، بخلاف التخصيص ; فإنّـه يوجب قصر الموضوع في الإرادة الجدّيـة على ما عدا مورد الخاصّ وإن لم يوجب تقييد موضوع الحكم المنشأ متعلّقاً با لعموم .
وبا لجملـة ، فقياس التخصيص على موت بعض المصاديق فاسد جدّاً .
وأمّا ماذكره من جواز التمسّك في المثا لين فقد عرفت أنّ النزاع في المقام في الشبهـة المصداقيـة للمخصّص التي كان منشأها اشتباه الاُمورا لخارجيـة فإثبات الجواز في غير المقام من الشبهات الحكميـة ليس تفصيلاً في مورد النزاع ، كما هو واضح .
هذا ، وصريح الكفايـة هو القول الأوّل .
وحكى الاُستاذ عن شيخـه المحقّق المعاصر أ نّـه قال في مجلس درسـه
1 ـ كفايـة الاُصول: 261.
(الصفحة291)
في تقريب هذا القول ما ملخّصـه : أنّ العوارض على قسمين : قسم يعرض الماهيّـة مع قطع النظر عن الوجودين : الذهني والخارجي بحيث لو كان للماهيـة تقرّر وثبوت في غير عا لم الوجود ، لكان يعرضها ، كا لزوجيـة العارضـة لماهيّـة الأربعـة في عا لم التقرّر ، وقسم يعرض الوجود كالأبيضيـة الحاصلـة للجسم الموجود ، والفاسقيـة والقرشيـة وغيرها من العوارض القائمـة با لوجود ، وحينئذ نقول : لابأس في القسم الثاني بجريان استصحاب عدم تلك الأوصاف با لنسبـة إلى موصوفها وإن كان الموصوف حينما يتحقّق لايخلو من اتّصافـه بذلك الوصف ، بمعنى أ نّـه لو كان متّصفاً بـه ، لكان ذلك من أوّل وجوده وتحقّقـه ، كوصف القرشيـة ; لإمكان أن يقال : هذه المرأة ـ مشيراً إلى ماهيّتها ـ لم تكن قبل الوجود قرشيـة ، فيستصحب ذلك إلى زمان الوجود .
تحقيق في المقام
هذا ، وتحقيق الحال في هذا المقام ـ بحيث يظهر حال ما قيل أو يمكن أن يقال ـ يتوقّف على بيان حال القضايا ومناط الحمل .
فا لكلام يتمّ في ضمن مقدّمات :
الاُولى : أقسام القضايا بلحاظ النسبـة
فنقول : قد اشتهر بينهم بل اتّفقوا على أنّ القضيّـة متقوّمـة بثلاثـة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبـة ، ولكن لايخفى أنّ هذا المعنى لايصحّ على نحو الكلّيـة ; فإنّ القضايا مختلفـة ، فبعضها مشتملـة على النسبـة المتقوّمـة با لمنتسبين ، وبعضها بل أكثرها خا ليـة عن النسبـة بين الشيئين .
توضيح ذلك : أنّ القضايا الحمليـة على قسمين : الحمليّات المستقيمـة الغير
(الصفحة292)
ا لمأوّلـة ، مثل : زيد موجود ، والإنسان حيوان ناطق ، والحمليّات المأوّلـة ، مثل : زيد لـه البياض ، وعمرو على السطح ، ومناط الحمل في الأوّل هو الهوهويـة ، ولايكون بين الموضوع والمحمول فيها نسبـة ; لأنّ النسبـة إنّما تتحقّق بين الشيئين المتغايرين ; إذ لايعقل تحقّقها بين الشيء ونفسـه .
وحينئذ نقول: إنّ القضيـة إنّما تحكي عن الواقع ، فلابدّ من ملاحظتـه ليظهر حا لها ، وملاحظتـه تقضي بعدم كون «زيد» و«موجود» في الواقع شيئين ، وعدم كون الإنسان شيئاً والحيوان الناطق شيئاً ، وكذا لايكون في الواقع مغايرة بين الجسم وبين الأبيض ، ومع اتّحادهما بحسب الواقع لايعقل النسبـة بينهما ; لما عرفت من أنّ قوامها إنّما هو با لمنتسبين ، وإذا كان الواقع كذلك فا لقضيّـة المعقولـة وكذا الملفوظـة إنّما هما كذلك ; لأنّهما حاكيتان عنـه ، ومرآتان لـه ، فلايعقل النسبـة فيهما ، بل ملاك الحمل فيها إنّما هو الهوهويـة والاتّحاد المنافي للمغايرة المحقّقـة للنسبـة ، بل نقول : إنّ الأصل في الحمليّات إنّما هو هذا القسم الذي لايكون فيـه نسبـة ، ولذا نسمّيها با لحمليّات الغير المأوّلـة .
وأمّا غيرها من الحمليّات فمشتملـة على النسبـة ; لأنّ البياض لايعقل أن يتّحد مع زيد ويتحقّق بينهما الهوهويـة ، نعم لـه ارتباط وإضافـة إليـه باعتبار كونـه محلاّ لـه ، وهو حالّ فيـه عارض عليـه ، وهذا القسم هو الحمليّات المأوّلـة ، نحو : زيد في الدار ، ووجـه التسميـة بذلك أ نّها مأوّلـة ; لأنّ تقديره : زيد كائن في الدار ; إذ لايحمل المحمول فيها على موضوعها بدون تقدير الكون والحصول ونحوهما .
هذا في الموجبات، وأمّا السوالب: فا لتحقيق أ نّها خا ليـة عن النسبـة مطلقاً ; لما ذكرنا من أ نّها أيضاً حاكيـة عن الواقع ، ومن الواضح أ نّـه خال عن النسبـة ، فقولـه : زيد ليس بقائم ، يرجع إلى أنّ الواقع خال عن النسبـة بين زيد
(الصفحة293)
وبين القيام ، لا أ نّـه لـه نسبـة إلى عدم ا لقيام ، فهذه القضايا متضمّنـة لسلب الحمل ، لا أ نّها يكون ا لسلب فيها محمولاً .
ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في الحمليّات الغير الموجبـة المأوّلـة ، وأمّا السوا لب الغير المأوّلـة : فا لسلب فيها إنّما يتعلّق با لهوهويـة ، بمعنى أنّ السوا لب على قسمين أيضاً : قسم يتعلّق السلب با لهوهويـة ، كزيد ليس بموجود ، وقسم يكون السلب وارداً على النسبـة ، كقولـه : زيد ليس لـه القيام ، فقولنا بخلوّها عن النسبـة إنّما يكون النظر فيـه إلى السوا لب التي لو كانت موجبات تكون فيها النسبـة ، ضرورة أنّ غيرها لايتوهّم فيها النسبـة بعد منعها في الموجبات منها ، كما لايخفى .
الثانيـة : مناط الصدق والكذب في القضايا
ثمّ إنّ ممّا ذكرنا ظهر أنّ المناط في كون القضيّـة محتملةً للصدق والكذب ليس كون نسبتها تامّةً في مقابل النسبة الناقصة ، كما هو المعروف ; لما عرفت من خلوّ أكثر القضايا عن النسبـة حتّى تكون تامّةً أو غيرها ، بل المناط فيـه هي الحكايـة التصديقيّـة المقابلـة للحكايـة التصوّريـة ، فإنّ الحاكي عن الواقع قد يحكي عنـه تصوّراً بمعنى أ نّـه يوقع في ذهن المخاطب تصوّر الواقع ، مثل : قولـه : زيد الذي هو قائم ، وقد يحكي عنـه تصديقاً ، بمعنى أ نّـه يؤثّر با لنسبـة إلى المخاطب التصديق بها نفياً أو إثباتاً ، مثل قولـه : زيد قائم ، أو : زيد لـه القيام ، فا لملاك في احتمال القضيّـة للصدق والكذب هو هذه الحكايـة التصديقيـة لا النسبـة التامّـة ; لما عرفت ، والدالّ على تلك الحكايـة إنّما هو تركيب الجُمل الخبريـة وهيئتها الموضوعـة بإزاء ذلك .
كما أنّ ممّا ذكرنا ظهر أيضاً أنّ الملاك في كون القضيـة صادقةً ليس هو أن
(الصفحة294)
يكون لنسبتها واقع تطابقـه ، كما هو المعروف ; لما عرفت من خلوّ أكثر القضايا عن النسبـة بحسب الواقع ، فلايكون لها بحسبـه نسبـة حتّى طابقتها ، بل المناط هو تطابقها مع نفس الواقع ونفس الأمر ، بمعنى أنّ الواقع لو كان زيد مثلاً موجوداً ، لكانت الحكايـة عنـه بقولـه : زيد موجود ، حكايـة صادقـة ; لأنّ الواقع مشتمل على الهوهويـة والاتّحاد بينهما ، وإن لم يكن كذلك ، لكانت كاذبةً ; لعدم تحقّقها في الواقع .
ثمّ لايخفى جريان هذا المعنى في السوا لب أيضاً ; فإنّها وإن لم يكن لها واقع بل قد يصدق مع عدم الموضوع أيضاً ، إلاّ أنّ واقعها هو خلوّ صفحـة الواقع عن الهوهويـة أو النسبـة بين موضوعها ومحمولها ، فصدق قولـه : زيد ليس بقائم ، إنّما هو بخلوّ الواقع عن الاتّحاد بينهما ، كما أنّ صدق قولـه : زيد ليس لـه البياض ، إنّما هو بخلوّه عن النسبـة والربط بينهما .
الثا لثـة : في القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ القضيّـة الموجبـة قد تكون محصّلةً ، وقد تكون معدولةً ، والمراد با لثاني هو أن يحمل المحمول السلبي على الموضوع ، مثل قولـه : زيد لا قائم .
وهذان القسمان يجريان في السوا لب أيضاً ; فإنّها أيضاً قد تكون محصّلةً ، وقد تكون معدولةً ، والمعدولة مطلقاً قد تكون معدولةَ الموضوع ، وقد تكون معدولةَ المحمول ، وقد تكون معدولةَ الطرفين ، وللقضيّة الموجبة قسم ثا لث يسمّى با لموجبـة السا لبـة المحمول ، وهو : أن يحمل القضيّـة السلبيـة على الموضوع ، مثل قولـه : زيد هو الذي ليس بقائم .
ولايخفى أنّ القضايا الموجبـة على أقسامها الثلاثـة تحتاج إلى وجود
(الصفحة295)
الموضوع ; فإنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت لـه ، بخلاف القضايا السا لبـة ; فإنّها تصدق مع عدم الموضوع أيضاً ، كما هو واضح .
الرابعـة : اعتبارات موضوع العامّ المخصّص
إذا عرفت ذلك كلّـه ، فاعلم أنّ التخصيص وإن لم يوجب تقييد حكم العامّ بحيث يوجب أن يكون الحكم المنشأ متعلّقاً بغير مورد الخاصّ ، إلاّ أ نّـه يوجب تضييق الموضوع في الإرادة الجدّيـة ، وتخصيصـه بغير مورده ، فقولـه : أكرم العلماء ، بعد تخصيصـه بلا تكرم الفسّاق منهم ، يكون المراد بـه هو إكرام العلماء الغير الفسّاق ، وحينئذ نقول : إنّ أخذ هذا الأمر العدمي في الموضوع يمكن أن يكون نظير القضيـة الموجبـة المعدولـة المحمول بحيث يكون الأمر السلبي محمولاً عليـه ووصفاً لـه ، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الموصوفين بغير الفسق ، ويمكن أن يكون نظير القضيّـة الموجبـة السا لبـة المحمول ، فيكون القيد كا لمحمول فيها قضيّـة سا لبـة ، فيصير الموضوع حينئذ هو إكرام العلماء الذين لايكونون فاسقين .
وأمّا احتمال أن يكون أخذ القيد العدمي في المقام نظير القضيّـة السا لبـة المحصّلـة الصادقـة مع عدم الموضوع بحيث يكون الموضوع في المقام هو : العا لم ليس بفاسق ، بحيث لاينافي عدم الموضوع ، فمندفع بأنّ هذا النحو من الموضوع لايعقل أن يكون موضوعاً للأحكام الشرعيـة ، فإنّـه لايعقل إيجاب إكرام العا لم ليس بفاسق الصادق مع عدم العلم أيضاً كما هو واضح .
نعم يمكن أن يؤخذ موضوعـه مفروض الوجود بأن يقال : العا لم الموجود ليس بفاسق ، مثل أن يقال : زيد الموجود ليس بقائم ، فإنّ مع فرض وجود الموضوع ينحصر فرض صدق القضيـة في عدم ثبوت المحمول لـه في الواقع ،
(الصفحة296)
وحينئذ نقول : لامجال لجريان الاستصحاب في المرأة التي شكّ في كونها قرشيـة لإثبات عدم كونها كذلك ، فيترتّب عليها حكم المرأة الغير القرشيـة ، وهو رؤيتها الدم إلى خمسين .
أمّا على الاحتمال الأوّل ـ الذي يكون مرجعـه إلى أنّ الموضوع هي المرأة المتّصفـة بوصف الغير القرشيـة ـ فواضح ; لأنّ ثبوت الوصف إنّما يتوقّف على تحقّق الموصوف وثبوتـه ، وهذه المرأة المتولّدة في الحال لم تكن متحقّقةً في الأزل فضلاً عن أن تكون متّصفةً بوصف ، فليس للاستصحاب حا لة سابقة أصلاً .
وكذا على الاحتمال الثاني الذي مرجعـه إلى جعل نظير القضيّـة السا لبـة وصفاً للموضوع ، فإنّ اتّصافـه بـه مشروط بوجوده ، والمعلوم خلافـه في الأزل ، فضلاً عن اتّصافـه بـه ، فلا مجال للاستصحاب أصلاً .
وأمّا على الاحتمال الأخير الذي كان مرجعـه إلى أنّ أخذ القيد العدمي لا على سبيل الوصف ، ولكن كان موضوعـه مفروض الوجود ، فا لظاهر أيضاً عدم جريان الاستصحاب ; لأنّ المفيد في المسأ لـة إنّما هو استصحاب عدم قرشيـة مرأة خاصـة ، والمعلوم أنّ الموضوع كان منتفياً في الأزل ; لأنّ المصحّح للإشارة إليها بأنّ هذه المرأة لم تكن قرشيّةً إنّما هو الوجود ; إذ لايعقل الإشارة إلى الأعدام حسّيةً كانت أو عقليّةً .
وما تقدّم في تقريب القول با لجريان من إمكان أن يقال : هذه المرأة ، مشيراً إلى ماهيتها ، إلى آخره ، فهو غير صحيح ; لأنّ الماهيّـة قبل وجودها لا تكون شيئاً حتّى يمكن أن تقع مشاراً إليها .
إن قلت: نجعل الحا لـة السابقـة : المرأة الغير القرشيـة على نحو القضايا السا لبـة التي تكون أعمّ من وجود الموضوع [و] نستصحبها إلى زمان وجودها ، فيصير الموضوع موجوداً ، فيترتّب عليـه الحكم .
(الصفحة297)
قلت: استصحاب تلك الحا لـة وجرّها إلى زمان وجود المرأة وإن كان صحيحاً من حيث وجود الحا لـة السابقـة إلاّ أنّ تطبيق تلك الحا لـة التي تكون أعمّ من وجود الموضوع على الحا لـة اللاّحقـة المشروطـة بوجود الموضوع يكون بحكم العقل ، فهو يكون حينئذ مثبتاً ; لأنّ الأثر الشرعي مترتّب على الخاصّ ، وإثباتـه إنّما هو بحكم العقل ، فا لحقّ عدم جريان هذا الاستصحاب ونظائره ، كاستصحاب عدم قابليّـة التذكيـة ، وأمّا استصحاب غير العدم الأزلي : فالأقوى جريانـه فيما إذا كانت لـه حا لـة سابقـة متيقّنـة في بعض الموارد لا مطلقاً .
وتفصيلـه: أ نّـه لو قال : أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم ، أو كان المخصّص منفصلاً ، ثمّ شكّ في أنّ زيداً العا لم هل يكون فاسقاً أو لا ، فتارة يكون زيد في السابق عا لماً غير فاسق يقيناً ، فلاشبهـة في جريان الاستصحاب با لنسبـة إلى العا لم المقيّد بذلك القيد ، فيترتّب عليـه حكم العامّ لتنقيح موضوعـه بالاستصحاب ، فيدخل في الكبرى الكلّيـة ، واُخرى يكون في السابق غير فاسق يقيناً ولكن لم يكن عا لماً ، فالآن شكّ في بقاء عدا لتـه مع العلم باتّصافـه با لعا لميـة في الحال ، والظاهر عدم جريان الاستصحاب حينئذ ; لأنّ القاعدة الكلّيـة في صحّـة جريان الاستصحاب الموضوعي أن يكون المستصحب بنفسـه صغرىً لإحدى الكبريات الشرعيـة بلاواسطـة ، وفي المقام ليس كذلك ; لأنّ استصحاب كون زيد غير فاسق إنّما يجدي في إثبات كونـه غير فاسق ، ولكنّـه لايكون موضوعاً للحكم الشرعي ، ضرورة أ نّـه تعلّق با لعا لم الغير الفاسق ، وإثباتـه بضميمـة الوجدان ، ضرورة أنّ زيداً لو كان في الحا لـة اللاّحقـة غير فاسق يكون عا لماً غير فاسق إنّما هو بحكم العقل ، فيصير الأصل مثبتاً ، فلايجري ، كما أ نّـه لايجري فيما إذا كان عا لماً فاسقاً في الزمان السابق ثمّ صار عادلاً في اللاّحق
(الصفحة298)
ولكن شكّ في بقاء علمـه ، فإنّ استصحاب علمـه لايجدي بعد كون الموضوع هو العا لم الغير الفاسق إلاّ على القول بالأصل المثبت .
ولكن لايخفى: أنّ هذا الفرض خارج عن المقام ; لأنّ مفروضـه استصحاب عدم عنوان الخاصّ ومثلـه في الخروج عن مورد النزاع ما لو كان زيد عا لماً غير فاسق في السابق يقيناً ثمّ شكّ في بقاء علمـه مع العلم بعدا لتـه عكس الصورة الاُولى ، ولا إشكال أيضاً في جريان الاستصحاب فيها ; لأنّـه كان في السابق عا لماً غير فاسق ، فيستصحب هذا العنوان المقيّد ، ويجري عليـه حكم العامّ في الزمان اللاّحق ، كما هو واضح .
الأمر الرابع: التمسّك بالعامّ إذا شكّ في فرد من غير جهـة التخصيص
حكي عن بعض : التمسّك با لعامّ فيما إذا شكّ في فرد لا من جهـة التخصيص ، بل من جهـة اُخرى ، مثل : ما إذا شكّ في صحّـة الوضوء با لمائع المضاف ، فيتمسّك في صحّتـه بعموم قولـه : أوفوا با لنذور ، فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر ، فيقال هذا الوضوء يجب الوفاء بـه للعموم ، وكلّ ما يجب الوفاء بـه فلا محا لـة يكون صحيحاً ; للقطع بعدم وجوب الوفاء با لفاسد ، ويستنتج صحّـة ا لوضوء با لمضاف ولو لم يتعلّق بـه النذر ، وكذا القول في إطاعـة الوا لدين .
وربّما اُيّدَ ذلك بصحّـة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات إذا تعلّق النذر بهما كذلك ، وبصحّـة النافلـة في وقت الفريضـة إذا صارت متعلّقةً للنذر .
هذا ، ولايخفى عدم تماميـة هذا الكلام ; فإنّ هنا دليلين أحدهما : وجوب الوفاء با لنذور مثلاً ، ثانيهما : عدم انعقاد النذر إلاّ في طاعـة اللّـه ، فمع الشكّ في
1 ـ اُنظر مطارح الأنظار: 195 / السطر 36.
(الصفحة299)
صحّـة الوضوء با لمضاف لا مجال للتمسّك بعموم الدليل الأوّل ; لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في كونـه طاعةً للّـه ، فيرجع إلى التمسّك با لعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص ، ولو فرض وجود دليل واحد نظراً إلى حكومـة الدليل الثاني على الأوّل لا مخصّصاً لـه ، فعدم الجواز مستند إلى أنّ إثبات حكم العامّ متوقّف على إحراز موضوعـه ; إذ لايمكن إثبات الصغرى بسبب الكبرى ، كما هو واضح .
ثمّ إنّ قضيّـة الأمثلـة المذكورة هو الاختصاص بصورة النذر ، فلا ترتبط با لمقام ، مضافاً إلى أ نّها ليست مورداً للشكّ ; للعلم با لحرمـة والبطلان قبل تعلّق النذر وبارتفاعها بعده ، وتوجيـه الأوّلين بأحد الوجوه المذكورة في الكفايـة ، كما أنّ توجيـه الأخير المذكور في الدّرر ، فراجع .
الأمر الخامس: التمسّك بالعامّ عند الشكّ بين التخصيص والتخصّص
إذا علم بحرمـة إكرام زيد مثلاً ولكن شكّ في أ نّـه عا لم ، فيكون الدليل الدالّ على حرمـة إكرامـه مخصّصاً لإكرام العلماء ، فيترتّب عليـه الأحكام المترتّبـة على العا لم ، أو جاهل فلم يرد تخصيص على العموم فيترتّب عليـه الأحكام المترتّبـة على الجاهل ، فهل يجوز التمسّك بأصا لـة العموم في إثبات أ نّـه غير عا لم أو لا ؟ ظاهر المحكيّ عن الأصحاب في موارد كثيرة هو الجواز حيث إنّهم ذكروا في مسأ لـة عدم نجاسـة الغسا لـة أنّ الدليل على ذلك أ نّها لاينجّس المحل ; إذ لو كانت نجسةً مع عدم تنجّس المحلّ بها ، يلزم التخصيص في عموم كلّ نجس
1 ـ كفايـة الاُصول: 261 ـ 262.
2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 220 ـ 221.
(الصفحة300)
منجّس ، فأصا لـة العموم يقتضي منجّسيّـة جميع النجاسات ممّا لايكون بمنجّس لايكون نجساً على ما هو مقتضى عكس نقيضـه .
هذا ، وحكي عن المقالات أنّ أصا لـة العموم وإن كانت جاريةً إلاّ أنّ عكس نقيض القضيـة الذي هو لازم لها لايثبت بها ; لأنّ الدليل عليها هو بناء العقلاء ، ولم يثبت بناؤهم على ترتيب اللّوازم عليها ، وللمقام نظائر كثيرة من حيث التفكيك بين اللازم والملزوم في عدم إثبات الثاني بالأوّل ، وكذا العكس .
والتحقيق أن يقال: بأنّ جريان أصا لـة العموم في أمثال المقام مورد تأمّل وإشكال ; لأنّ مدركها هو بناء العقلاء ، فيحتاج في جريانها فيـه إلى إحراز بنائهم ، مع أنّ المتيقّن ما إذا كان المراد غير معلوم ، مثل : ما إذا شكّ في وجوب إكرام زيد العا لم بعد قولـه : أكرم العلماء ، وأمّا إذا علم مراده وشكّ في علمـه لأن يترتّب عليـه الأحكام الاُخر ، فلم يعلم استقرار بنائهم على التمسّك بـه ، نظير أصا لـة الحقيقـة التي ينحصر مورد جريانها بما إذا شكّ في كون المراد هل هو المعنى الحقيقي أو المجازي ، وأمّا إذا علم با لمراد ولكن لم يعلم أ نّـه معنى حقيقي للّفظ ومجازي لـه ، فلا تجري أصا لـة الحقيقـة لإثبات أنّ المعنى المراد معنى حقيقي لـه ، فالإنصاف أ نّـه لايجري الأصل في المقام حتّى يتكلّم في إثبات اللوازم بـه أوّلاً .
وممّا ذكرنا يظهر: أ نّـه لا مانع من التمسّك بأصا لـة العموم فيما لو علم بحرمـة إكرام زيد ولكن شكّ في أنّ المراد بـه هو زيد العا لم ، فيكون مخصّصاً ، أو زيد الجاهل ، فيكون تخصّصاً .
1 ـ مقالات الاُصول 1: 450.
|