(الصفحة261)
مستجمعاً للشرائط ، وهو إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجّة ، وقيل باعتبار مضيّ زمان يمكن فيه الإتيان بالأركان جامعاً للشرائط ، فيكفي بقاؤها إلى مضيّ جزء من يوم النحر يمكن فيه الطوافان والسعي ، وربما يقال باعتبار بقائها إلى عود الرفقة ، وقد يحتمل كفاية بقائها إلى زمان يمكن فيه الإحرام ودخول الحرم ، وقد يقال بكفاية وجودها حين خروج الرفقة ، فلو أهمل استقرّ عليه وإن فقدت بعد ذلك ; لأنّه كان مأموراً بالخروج معهم ، والأقوى اعتبار بقائها إلى زمان يمكن فيه العود إلى وطنه بالنسبة إلى الاستطاعة الماليّة والبدنيّة والسربيّة .
وأمّا بالنسبة إلى مثل العقل فيكفي بقاؤه إلى آخر الأعمال ، وذلك لأنّ فقد بعض هذه الشرائط يكشف عن عدم الوجوب عليه واقعاً ، وأنّ وجوب الخروج مع الرفقة كان ظاهريّاً ، ولذا لو علم من الأوّل أنّ الشرائط لا تبقى إلى الآخر لم يجب عليه .
نعم ، لو فرض تحقّق الموت بعد تمام الأعمال كفى بقاء تلك الشرائط إلى آخر الأعمال ; لعدم الحاجة حينئذ إلى نفقة العود والرجوع إلى كفاية وتخلية السرب ونحوها . ولو علم من الأوّل بأنّه يموت بعد ذلك، فإن كان قبل تمام الأعمال لم يجب عليه المشي ، وإن كان بعده وجب عليه . هذا إذا لم يكن فقد الشرائط مستنداً إلى ترك المشي ، وإلاّ استقرّ عليه ، كما إذا علم أنّه لو مشى إلى الحجّ لم يمت أو لم يقتل أو لم يسرق ماله مثلا ، فإنّه حينئذ يستقرّ عليه الوجوب ; لأنّه بمنزلة تفويت الشرط على نفسه ، وأمّا لو شكّ في أنّ الفقد مستند إلى ترك المشي أولا فالظاهر عدم الاستقرار ; للشكّ في تحقّق الوجوب وعدمه واقعاً . هذا بالنسبة إلى استقرار الحجّ لو تركه ، وأمّا لو كان واجداً للشرائط حين المسير فسار ، ثمّ زال بعض الشرائط في الأثناء فأتمّ الحجّ على ذلك الحال كفى حجّه عن حجّة الإسلام إذا لم يكن المفقود مثل العقل ، بل كان هو الاستطاعة البدنيّة أو الماليّة أو السربيّة ونحوها على
(الصفحة262)
الأقوى .
[3079] مسألة 82 : إذا استقرّ عليه العمرة فقط أو الحجّ فقط ، كما فيمن وظيفته حجّ الإفراد والقران ، ثمّ زالت استطاعته فكما مرّ يجب عليه أيضاً بأيّ وجه تمكّن ، وإن مات يقضى عنه .
[3080] مسألة 83 : تقضى حجّة الإسلام من أصل التركة إذا لم يوص بها ، سواء كانت حجّ التمتّع أو القران أو الإفراد ، وكذا إذا كان عليه عمرتهما ، وإن أوصى بها من غير تعيين كونها من الأصل أو الثلث فكذلك أيضاً ، وأمّا إن أوصى بإخراجها من الثلث وجب إخراجها منه ، وتقدّم على الوصايا المستحبّة وإن كانت متأخّرة عنها في الذكر ، وإن لم يف الثلث بها اُخذت البقيّة من الأصل ، والأقوى أنّ حجّ النذر أيضاً كذلك ; بمعنى أنّه يخرج من الأصل كما سيأتي الإشارة إليه . ولو كان عليه دين أو خمس أو زكاة وقصرت التركة ، فإن كان المال المتعلّق به الخمس أو الزكاة موجوداً قدّم لتعلّقهما بالعين ، فلايجوز صرفه في غيرهما ، وإن كانا في الذمّة فالأقوى أنّ التركة توزّع على الجميع بالنسبة ، كما في غرماء المفلّس ، وقد يقال بتقدّم الحجّ على غيره وإن كان دين الناس ، لخبر معاوية بن عمّار الدالّ على تقديمه على الزكاة ، ونحوه خبر آخر ، لكنّهما موهونان بإعراض الأصحاب مع أنّهما في خصوص الزكاة ، وربما يحتمل تقديم دين الناس لأهمّيّته ، والأقوى ما ذكر من التخصيص .
وحينئذ فإن وفت حصّة الحجّ به فهو ، وإلاّ فإن لم تف إلاّ ببعض الأفعال كالطواف فقط أو هو مع السعي فالظاهر سقوطه وصرف حصّته في الدين أو الخمس أو الزكاة ، ومع وجود الجميع توزّع عليها ، وإن وفت بالحجّ فقط أو العمرة فقط ففي مثل حجّ القران والإفراد تصرف فيهما مخيّراً بينهما ، والأحوط تقديم الحجّ ، وفي حجّ التمتّع الأقوى السقوط وصرفها في الدين وغيره ، وربما يحتمل فيه
(الصفحة263)
أيضاً التخيير ، أو ترجيح الحجّ لأهمّيّته أو العمرة لتقدّمها ، لكن لا وجه لها بعد كونهما في التمتّع عملاً واحداً ، وقاعدة الميسور لا جابر لها في المقام .
[3081] مسألة 84 : لايجوز للورثة التصرّف في التركة قبل استئجار الحجّ إذا كان مصرفه مستغرقاً لها ، بل مطلقاً على الأحوط ، إلاّ إذا كانت واسعة جدّاً فلهم التصرّف في بعضها حينئذ مع البناء على إخراج الحجّ من بعضها الآخر كما في الدين ، فحاله حال الدين .
[3082] مسألة 85 : إذا أقرّ بعض الورثة بوجوب الحجّ على المورّث ، وأنكره الآخرون لم يجب عليه إلاّ دفع ما يخصّ حصّته بعد التوزيع ، وإن لم يفِ ذلك بالحجّ لايجب عليه تتميمه من حصّته ، كما إذا أقرّ بدين وأنكره غيره من الورثة ، فإنّه لايجب عليه دفع الأزيد ، فمسألة الإقرار بالحجّ أو الدين مع إنكار الآخرين نظير مسألة الإقرار بالنسب ; حيث إنّه إذا أقرّ أحد الأخوين بأخ آخر وأنكره الآخر لايجب عليه إلاّ دفع الزائد عن حصّته ، فيكفي دفع ثلث ما في يده ، ولاينزل إقراره على الإشاعة على خلاف القاعدة للنصّ .
[3083] مسألة 86 : إذا كان على الميّت الحجّ ولم تكن تركته وافية به ولم يكن دين فالظاهر كونها للورثة ، ولايجب صرفها في وجوه البرّ عن الميّت ، لكن الأحوط التصدّق عنه ; للخبر عن الصادق (عليه السلام) عن رجل مات وأوصى بتركته أن أحجّ بها عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحجّ ، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا : تصدّق بها ، فقال (عليه السلام) : «ما صنعت بها؟» فقال : تصدّقت بها ، فقال (عليه السلام) : «ضمنت إلاّ أن لايكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة ، فإن كان لايبلغ ما يحجّ به من مكّة فليس عليك ضمان» . نعم ، لو احتمل كفايتها للحجّ بعد ذلك أو وجود متبرّع بدفع التتمّة لمصرف الحجّ وجب إبقاؤها .
[3084] مسألة 87 : إذا تبرّع متبرّع بالحجّ عن الميّت رجعت اُجرة الاستئجار
(الصفحة264)
إلى الورثة ، سواء عيّنها الميّت أو لا ، والأحوط صرفها في وجوه البرّ أو التصدّق عنه ، خصوصاً فيما إذا عيّنها الميّت ; للخبر المتقدّم .
[3085] مسألة 88 : هل الواجب الاستئجار عن الميّت من الميقات أو البلد؟ المشهور وجوبه من أقرب المواقيت إلى مكّة إن أمكن ، وإلاّ فمن الأقرب إليه فالأقرب ، وذهب جماعة إلى وجوبه من البلد مع سعة المال ، وإلاّ فمن الأقرب إليه فالأقرب ، وربما يحتمل قول ثالث; وهو الوجوب من البلد مع سعة المال وإلاّ فمن الميقات ، وإن أمكن من الأقرب إلى البلد فالأقرب ، والأقوى هو القول الأوّل، وإن كان الأحوط القول الثاني ، لكن لايحسب الزائد عن اُجرة الميقاتيّة على الصغار من الورثة ، ولو أوصى بالاستئجار من البلد وجب ويحسب الزائد عن اُجرة الميقاتيّة من الثلث، ولو أوصى ولم يعيّن شيئاً كفت الميقاتيّة ، إلاّ إذا كان هناك انصراف إلى البلديّة أو كانت قرينة على إرادتها ، كما إذا عيّن مقداراً يناسب البلديّة .
[3086] مسألة 89 : لو لم يمكن الاستئجار إلاّ من البلد وجب ، وكان جميع المصرف من الأصل .
[3087] مسألة 90 : إذا أوصى بالبلديّة ، أو قلنا بوجوبها مطلقاً ، فخولف واستؤجر من الميقات ، أو تبرّع عنه متبرّع منه ، برئت ذمّته وسقط الوجوب من البلد ، وكذا لو لم يسع المال إلاّ من الميقات .
[3088] مسألة 91 : الظاهر أنّ المراد من البلد هو البلد الذي مات فيه ، كما يشعر به خبر زكريّا بن آدم(رحمهما الله) : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل مات وأوصى بحجّة ، أيجوز أن يحجّ عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال (عليه السلام) : «ما كان دون الميقات فلا بأس» . مع أنّه آخر مكان كان مكلّفاً فيه بالحجّ ، وربما يقال : إنّه بلد الاستيطان ; لأنّه المنساق من النصّ والفتوى ، وهو كما ترى ، وقد يحتمل البلد الذي صار مستطيعاً فيه ، ويحتمل التخيير بين البلدان التي كان فيها بعد الاستطاعة ،
(الصفحة265)
والأقوى ما ذكرنا وفاقاً لسيّد «المدارك» (قدس سره) ، ونسبه إلى ابن إدريس (رحمه الله) أيضاً ، وإن كان الاحتمال الأخير وهو التخيير قويّاً جدّاً .
[3089] مسألة 92 : لو عيّن بلدة غير بلده كما لو قال : استأجروا من النجف ، أو من كربلاء تعيّن .
[3090] مسألة 93 : على المختار من كفاية الميقاتيّة لايلزم أن يكون من الميقات أو الأقرب إليه فالأقرب ، بل يكفي كلّ بلد دون الميقات ، لكن الاُجرة الزائدة على الميقات مع إمكان الاستئجار منه لايخرج من الأصل ، ولا من الثلث إذا لم يوص بالاستئجار من ذلك البلد ، إلاّ إذا أوصى بإخراج الثلث من دون أن يعيّن مصرفه ، ومن دون أن يزاحم واجباً ماليّاً عليه .
[3091] مسألة 94 : إذا لم يمكن الاستئجار من الميقات وأمكن من البلد وجب ، وإن كان عليه دين الناس أو الخمس أو الزكاة فيزاحم الدين إن لم تفِ التركة بهما ، بمعنى أنّها توزّع عليهما بالنسبة .
[3092] مسألة 95 : إذا لم تفِ التركة بالاستئجار من الميقات ، لكن أمكن الاستئجار من الميقات الاضطراريّ، كمكّة أو أدنى الحلّ وجب . نعم ، لو دار الأمر بين الاستئجار من البلد أو الميقات الاضطراري قدّم الاستئجار من البلد، ويخرج من أصل التركة ; لأنّه لا اضطرار للميّت مع سعة ماله .
[3093] مسألة 96 : بناءً على المختار من كفاية الميقاتيّة لا فرق بين الاستئجار عنه وهو حيّ أو ميّت ، فيجوز لمن هو معذور بعذر لايرجى زواله أن يجهّز رجلاً من الميقات كما ذكرنا سابقاً أيضاً ، فلايلزم أن يستأجر من بلده على الأقوى، وإن كان الأحوط ذلك .
[3094] مسألة 97 : الظاهر وجوب المبادرة إلى الاستئجار في سنة الموت ، خصوصاً إذا كان الفوت عن تقصير من الميّت ، وحينئذ فلو لم يمكن إلاّ من البلد
(الصفحة266)
وجب وخرج من الأصل ، ولايجوز التأخير إلى السنة الاُخرى ولو مع العلم بإمكان الاستئجار من الميقات توفيراً على الورثة ، كما أنّه لو لم يمكن من الميقات إلاّ بأزيد من الاُجرة المتعارفة في سنة الموت وجب ، ولايجوز التأخير إلى السنة الاُخرى توفيراً عليهم .
[3095] مسألة 98 : إذا أهمل الوصيّ أو الوارث الاستئجار فتلفت التركة أو نقصت قيمتها فلم تف بالاستئجار ضمن ، كما أنّه لو كان على الميّت دين وكانت التركة وافية وتلفت بالإهمال ضمن .
[3096] مسألة 99 : على القول بوجوب البلديّة وكون المراد بالبلد الوطن إذا كان له وطنان الظاهر وجوب اختيار الأقرب إلى مكّة ، إلاّ مع رضا الورثة بالاستئجار من الأبعد . نعم ، مع عدم تفاوت الاُجرة الحكم التخيير .
[3097] مسألة 100 : بناءً على البلديّة الظاهر عدم الفرق بين أقسام الحجّ الواجب ، فلا اختصاص بحجّة الإسلام ، فلو كان عليه حجّ نذريّ لم يقيّد بالبلد ولا بالميقات يجب الاستئجار من البلد ، بل وكذا لو أوصى بالحجّ ندباً ، اللازم الاستئجار من البلد إذا خرج من الثلث .
[3098] مسألة 101 : إذا اختلف تقليد الميّت والوارث في اعتبار البلديّة أو الميقاتيّة فالمدار على تقليد الميّت ، وإذا علم أنّ الميّت لم يكن مقلّداً في هذه المسألة فهل المدار على تقليد الوارث، أو الوصيّ، أو العمل على طبق فتوى المجتهد الذي كان يجب عليه تقليده إن كان متعيّناً ، والتخيير مع تعدّد المجتهدين ومساواتهم؟ وجوه . وعلى الأوّل ، فمع اختلاف الورثة في التقليد يعمل كلّ على تقليده ، فمن يعتقد البلديّة يؤخذ من حصتّه بمقدارها بالنسبة فيستأجر مع الوفاء بالبلديّة بالأقرب فالأقرب إلى البلد ، ويحتمل الرجوع إلى الحاكم لرفع النزاع ، فيحكم بمقتضى مذهبه ، نظير ما إذا اختلف الولد الأكبر مع الورثة في الحبوة ، وإذا اختلف تقليد الميّت والوارث في
(الصفحة267)
أصل وجوب الحجّ عليه وعدمه; بأن يكون الميّت مقلّداً لمن يقول بعدم اشتراط الرجوع إلى كفاية فكان يجب عليه الحجّ ، والوارث مقلّداً لمن يشترط ذلك فلم يكن واجباً عليه ، أو بالعكس، فالمدار على تقليد الميّت .
[3099] مسألة 102 : الأحوط في صورة تعدّد من يمكن استئجاره الاستئجار من أقلّهم اُجرة مع إحراز صحّة عمله مع عدم رضا الورثة أو وجود قاصر فيهم ، سواء قلنا بالبلديّة أو الميقاتيّة ، وإن كان لايبعد جواز استئجار المناسب لحال الميّت من حيث الفضل والأوثقيّة مع عدم قبوله إلاّ بالأزيد وخروجه من الأصل ، كما لايبعد عدم وجوب المبالغة في الفحص عن أقلّهم اُجرة وإن كانت أحوط .
[3100] مسألة 103 : قد عرفت أنّ الأقوى كفاية الميقاتيّة ، لكن الأحوط الاستئجار من البلد بالنسبة إلى الكبار من الورثة ; بمعنى عدم احتساب الزائد عن اُجرة الميقاتيّة على القصّر إن كان فيهم قاصر .
[3101] مسألة 104 : إذا علم أنّه كان مقلّداً ، ولكن لم يعلم فتوى مجتهده في هذه المسألة ، فهل يجب الاحتياط، أو المدار على تقليد الوصيّ أو الوارث؟ وجهان أيضاً .
[3102] مسألة 105 : إذا علم استطاعة الميّت مالاً ولم يعلم تحقّق سائر الشرائط في حقّه فلايجب القضاء عنه ; لعدم العلم بوجوب الحجّ عليه ; لاحتمال فقد بعض الشرائط .
[3103] مسألة 106 : إذا علم استقرار الحجّ عليه ولم يعلم أنّه أتى به أم لا ، فالظاهر وجوب القضاء عنه لأصالة بقائه في ذمّته ، ويحتمل عدم وجوبه عملاً بظاهر حال المسلم وأنّه لايترك ما وجب عليه فوراً ، وكذا الكلام إذا علم أنّه تعلّق به خمس ، أو زكاة، أو قضاء صلوات، أو صيام ولم يعلم أنّه أدّاها أو لا .
[3104] مسألة 107 : لايكفي الاستئجار في براءة ذمّة الميّت والوارث ، بل يتوقّف
(الصفحة268)
على الأداء ، ولو علم أنّ الأجير لم يؤدّ وجب الاستئجار ثانياً ، ويخرج من الأصل إن لم يمكن استرداد الاُجرة من الأجير .
[3105] مسألة 108 : إذا استأجر الوصيّ أو الوارث من البلد غفلة عن كفاية الميقاتيّة ضمن ما زاد عن اُجرة الميقاتيّة للورثة أو لبقيّتهم .
[3106] مسألة 109 : إذا لم يكن للميّت تركة وكان عليه الحجّ لم يجب على الورثة شيء، وإن كان يستحبّ على وليّه ، بل قد يقال بوجوبه ; للأمر به في بعض الأخبار .
[3107] مسألة 110 : من استقرّ عليه الحجّ وتمكّن من أدائه ليس له أن يحجّ عن غيره تبرّعاً أو بإجارة ، وكذا ليس له أن يحجّ تطوّعاً ، ولو خالف فالمشهور البطلان ، بل ادّعى بعضهم عدم الخلاف فيه وبعضهم الإجماع عليه ، ولكن عن سيّد «المدارك» التردّد في البطلان ، ومقتضى القاعدة الصحّة وإن كان عاصياً في ترك ما وجب عليه ، كما في مسألة الصلاة مع فوريّة وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ، إذ لا وجه للبطلان إلاّ دعوى أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، وهي محلّ منع ، وعلى تقديره لايقتضي البطلان ; لأنّه نهي تبعيّ ، ودعوى أنّه يكفي في عدم الصحّة عدم الأمر ، مدفوعة بكفاية المحبوبيّة في حدّ نفسه في الصحّة ، كما في مسألة ترك الأهمّ والإتيان بغير الأهمّ من الواجبين المتزاحمين ، أو دعوى أنّ الزمان مختصّ بحجّته عن نفسه ، فلايقبل لغيره ، وهي أيضاً مدفوعة بالمنع ، إذ مجرّد الفوريّة لايوجب الاختصاص ، فليس المقام من قبيل شهر رمضان ; حيث إنّه غير قابل لصوم آخر .
وربما يتمسّك للبطلان في المقام بخبر سعد بن أبي خلف، عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): عن الرجل الصرورة يحجّ عن الميّت؟ قال (عليه السلام) : «نعم ، إذا لم يجد الصرورة ما يحجّ به عن نفسه ، فإن كان له ما يحجّ به عن نفسه فليس يجزئ عنه
(الصفحة269)
حتّى يحجّ من ماله ، وهي تجزئ عن الميّت إن كان للصرورة مال ، وإن لم يكن له مال» . وقريب منه صحيح سعيد الأعرج، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وهما كما ترى بالدلالة على الصحّة أولى ، فإنّ غاية ما يدلاّن عليه أنّه لايجوز له ترك حجّ نفسه وإتيانه عن غيره ، وأمّا عدم الصحّة فلا . نعم ، يستفاد منهما عدم إجزائه عن نفسه ، فتردّد صاحب «المدارك» في محلّه ، بل لايبعد الفتوى بالصحّة ، لكن لايترك الاحتياط .
هذا كلّه لو تمكّن من حجّ نفسه ، وأمّا إذا لم يتمكّن فلا إشكال في الجواز والصحّة عن غيره ، بل لاينبغي الإشكال في الصحّة إذا كان لايعلم بوجوب الحجّ عليه ; لعدم علمه باستطاعته مالاً ، أو لايعلم بفوريّة وجوب الحجّ عن نفسه، فحجّ عن غيره أو تطوّعاً ، ثمّ على فرض صحّة الحجّ عن الغير ـ ولو مع التمكّن والعلم بوجوب الفوريّة ـ لو آجر نفسه لذلك ، فهل الإجارة أيضاً صحيحة، أو باطلة مع كون حجّه صحيحاً عن الغير؟ الظاهر بطلانها ، وذلك لعدم قدرته شرعاً على العمل المستأجر عليه ; لأنّ المفروض وجوبه عن نفسه فوراً ، وكونه صحيحاً على تقدير المخالفة لاينفع في صحّة الإجارة ، خصوصاً على القول بأنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ; لأنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه وإن كانت الحرمة تبعيّة .
فإن قلت : ما الفرق بين المقام وبين المخالفة للشرط في ضمن العقد مع قولكم بالصحّة هناك ؟ كما إذا باعه عبداً وشرط عليه أن يعتقه فباعه ، حيث تقولون بصحّة البيع ويكون للبائع خيار تخلّف الشرط.
قلت : الفرق أنّ في ذلك المقام المعاملة على تقدير صحّتها مفوّتة لوجوب العمل بالشرط ، فلايكون العتق واجباً بعد البيع; لعدم كونه مملوكاً له بخلاف المقام، حيث إنّا لو قلنا بصحّة الإجارة لايسقط وجوب الحجّ عن نفسه فوراً ، فيلزم اجتماع أمرين متنافيين فعلاً ، فلايمكن أن تكون الإجارة صحيحة ، وإن قلنا : إنّ
(الصفحة270)
النهي التبعي لايوجب البطلان ، فالبطلان من جهة عدم القدرة على العمل ، لا لأجل النهي عن الإجارة . نعم ، لو لم يكن متمكّناً من الحجّ عن نفسه يجوز له أن يؤجر نفسه للحجّ عن غيره ، وإن تمكّن بعد الإجارة عن الحجّ عن نفسه لا تبطل إجارته ، بل لايبعد صحّتها لو لم يعلم باستطاعته، أو لم يعلم بفوريّة الحجّ عن نفسه فآجر نفسه للنيابة ولم يتذكّر إلى أن فات محلّ استدراك الحجّ عن نفسه، كما بعد الفراغ أو في أثناء الأعمال .
ثمّ لا إشكال في أنّ حجّه عن الغير لايكفيه عن نفسه ، بل إمّا باطل كما عن المشهور ، أو صحيح عمّن نوى عنه كما قوّيناه ، وكذا لو حجّ تطوّعاً لايجزئه عن حجّة الإسلام في الصورة المفروضة ، بل إمّا باطل، أو صحيح ويبقى عليه حجّة الإسلام ، فما عن الشيخ من أنّه يقع عن حجّة الإسلام لا وجه له ، إذ الانقلاب القهريّ لا دليل عليه ، ودعوى أنّ حقيقة الحجّ واحدة ، والمفروض إتيانه بقصد القربة ، فهو منطبق على ما عليه من حجّة الإسلام ، مدفوعة بأنّ وحدة الحقيقة لا تجدي بعد كون المطلوب هو الإتيان بقصد ما عليه ، وليس المقام من باب التداخل بالإجماع ، كيف وإلاّ لزم كفاية الحجّ عن الغير أيضاً عن حجّة الإسلام ، بل لابدّ من تعدّد الامتثال مع تعدّد الأمر وجوباً وندباً ، أو مع تعدّد الواجبين ، وكذا ليس المراد من حجّة الإسلام الحجّ الأوّل بأيّ عنوان كان، كما في صلاة التحيّة وصوم الاعتكاف ، فلا وجه لما قاله الشيخ أصلاً .
نعم ، لو نوى الأمر المتوجّه إليه فعلاً وتخيّل أنّه أمر ندبيّ غفلة عن كونه مستطيعاً أمكن القول بكفايته عن حجّة الإسلام ، لكنّه خارج عمّا قاله الشيخ ، ثمّ إذا كان الواجب عليه حجّاً نذريّاً أو غيره، وكان وجوبه فوريّاً فحاله ما ذكرنا في حجّة الإسلام; من عدم جواز حجّ غيره وأنّه لو حجّ صحّ أولا ، وغير ذلك من التفاصيل المذكورة بحسب القاعدة .
(الصفحة271)
فصل
في الحجّ الواجب بالنذر والعهد واليمين
ويشترط في انعقادها : البلوغ والعقل والقصد والاختيار ، فلا تنعقد من الصبي وإن بلغ عشراً وقلنا بصحّة عباداته وشرعيّتها ; لرفع قلم الوجوب عنه ، وكذا لا تصحّ من المجنون والغافل والساهي والسكران والمكره ، والأقوى صحّتها من الكافر، وفاقاً للمشهور في اليمين خلافاً لبعض ، وخلافاً للمشهور في النذر وفاقاً لبعض ، وذكروا في وجه الفرق عدم اعتبار قصد القربة في اليمين واعتباره في النذر ، ولا تتحقّق القربة في الكافر .
وفيه: أوّلاً : أنّ القربة لا تعتبر في النذر بل هو مكروه، وإنّما تعتبر في متعلّقه، حيث إنّ اللازم كونه راجحاً شرعاً . وثانياً : أنّ متعلّق اليمين أيضاً قد يكون من العبادات . وثالثاً : أنّه يمكن قصد القربة من الكافر أيضاً . ودعوى عدم إمكان إتيانه للعبادات لاشتراطها بالإسلام ، مدفوعة بإمكان إسلامه ثمّ إتيانه، فهو مقدور لمقدوريّة مقدّمته ، فيجب عليه حال كفره كسائر الواجبات ، ويعاقب على مخالفته ، ويترتّب عليها وجوب الكفّارة فيعاقب على تركها أيضاً ، وإن أسلم صحّ إن أتى به ، ويجب عليه الكفّارة لو خالف ، ولايجري فيه قاعدة جبّ الإسلام لانصرافها عن المقام . نعم ، لو خالف وهو كافر وتعلّق به الكفّارة فأسلم لايبعد دعوى سقوطها عنه كما قيل .
[3108] مسألة 1 : ذهب جماعة إلى أنّه يشترط في انعقاد اليمين من المملوك إذن المولى ، وفي انعقاده من الزوجة إذن الزوج، وفي انعقاده من الولد إذن الوالد ، لقوله (عليه السلام) : «لايمين لولد مع والده ، ولا للزوجة مع زوجها ، ولا للمملوك مع
(الصفحة272)
مولاه» . فلو حلف أحد هؤلاء بدون الإذن لم ينعقد ، وظاهرهم اعتبار الإذن السابق ، فلا تكفي الإجازة بعده مع أنّه من الإيقاعات، وادّعي الاتّفاق على عدم جريان الفضوليّة فيها ، وإن كان يمكن دعوى أنّ القدر المتيقّن من الاتّفاق ما إذا وقع الإيقاع على مال الغير ، مثل الطلاق والعتق ونحوهما ، لا مثل المقام ممّا كان في مال نفسه . غاية الأمر اعتبار رضا الغير فيه ، ولا فرق فيه بين الرضا السابق واللاحق ، خصوصاً إذا قلنا : إنّ الفضولي على القاعدة .
وذهب جماعة إلى أنّه لايشترط الإذن في الانعقاد ، لكن للمذكورين حلّ يمين الجماعة إذا لم يكن مسبوقاً بنهي أو إذن ، بدعوى أنّ المنساق من الخبر المذكور ونحوه أنّه ليس للجماعة المذكورة يمين مع معارضة المولى أو الأب أو الزوج ، ولازمه جواز حلّهم له ، وعدم وجوب العمل به مع عدم رضاهم به . وعلى هذا فمع النهي السابق لاينعقد ، ومع الإذن يلزم ، ومع عدمهما ينعقد ولهم حلّه ، ولايبعد قوّة هذا القول ، مع أنّ المقدّر كما يمكن أن يكون هو الوجود يمكن أن يكون هو المنع والمعارضة ; أي لايمين مع منع المولى مثلا ، فمع عدم الظهور في الثاني لا أقل من الإجمال ، والقدر المتيقّن هو عدم الصحّة مع المعارضة والنهي ، بعد كون مقتضى العمومات الصحّة واللزوم .
ثمّ إنّ جواز الحلّ أو التوقف على الإذن ليس في اليمين بما هو يمين مطلقاً كما هو ظاهر كلماتهم ، بل إنّما هو فيما كان المتعلّق منافياً لحق المولى أو الزوج ، وكان ممّا يجب فيه طاعة الوالد إذا أمر أو نهى ، وأمّا ما لم يكن كذلك فلا ، كما إذا حلف المملوك أن يحجّ إذا أعتقه المولى ، أو حلفت الزوجة أن تحجّ إذا مات زوجها أو طلّقها ، أو حلفا أن يصلّيا صلاة الليل ، مع عدم كونها منافية لحقّ المولى ، أو حقّ الاستمتاع من الزوجة ، أو حلف الولد أن يقرأ كلّ يوم جزءاً من القرآن ، أو نحو ذلك ممّا لايجب طاعتهم فيها للمذكورين ، فلا مانع من انعقاده ، وهذا هو المنساق
(الصفحة273)
من الأخبار ، فلو حلف الولد أن يحجّ إذا استصحبه الوالد إلى مكة مثلا لا مانع من انعقاده ، وهكذا بالنسبة إلى المملوك والزوجة ، فالمراد من الأخبار أنّه ليس لهم أن يوجبوا على أنفسهم باليمين ما يكون منافياً لحقّ المذكورين ، ولذا استثنى بعضهم الحلف على فعل الواجب أو ترك القبيح ، وحكم بالانعقاد فيهما ، ولو كان المراد اليمين بما هو يمين لم يكن وجه لهذا الاستثناء ، هذا كله في اليمين .
وأمّا النذر، فالمشهور بينهم أنّه كاليمين في المملوك والزوجة ، وألحق بعضهم بهما الولد أيضاً ، وهو مشكل لعدم الدليل عليه ، خصوصاً في الولد إلاّ القياس على اليمين ، بدعوى تنقيح المناط وهو ممنوع ، أو بدعوى أنّ المراد من اليمين في الأخبار ما يشمل النذر; لإطلاقه عليه فى جملة من الأخبار ، منها: خبران في كلام الإمام (عليه السلام)، ومنها: أخبار في كلام الراوي وتقرير الإمام (عليه السلام) له ، وهو أيضاً كما ترى ، فالأقوى في الولد عدم الإلحاق . نعم ، في الزوجة والمملوك لايبعد الإلحاق باليمين; لخبر قرب الإسناد عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) : «أنّ عليّاً (عليه السلام)كان يقول : ليس على المملوك نذر إلاّ بإذن مولاه» . وصحيح ابن سنان، عن الصادق (عليه السلام) : «ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير، ولا هبة ولا نذر في مالها إلاّ بإذن زوجها إلاّ في حجّ، أو زكاة، أو برّ والديها، أو صلة قرابتها» . وضعف الأوّل منجبر بالشهرة ، واشتمال الثاني على ما لا نقول به لايضرّ .
ثمّ هل الزوجة تشمل المنقطعة أو لا ؟ وجهان ، وهل الولد يشمل ولد الولد أو لا ؟ كذلك وجهان . والأمة المزوّجة عليها الاستئذان من الزوج والمولى بناءً على اعتبار الإذن ، وإذا أذن المولى للمملوك أن يحلف أو ينذر الحجّ لايجب عليه إعطاء ما زاد عن نفقته الواجبة عليه من مصارف الحجّ ، وهل عليه تخلية سبيله لتحصيلها
(الصفحة274)
أو لا ؟ وجهان ، ثمّ على القول بأنّ لهم الحلّ هل يجوز مع حلف الجماعة التماس المذكورين في حلّ حلفهم أم لا ؟ وجهان .
[3109] مسألة 2 : إذا كان الوالد كافراً ففي شمول الحكم له وجهان ، أوجههما العدم ; للانصراف ونفي السبيل .
[3110] مسألة 3 : هل المملوك المبعّض حكمه حكم القنّ أو لا ؟ وجهان ، لايبعد الشمول ، ويحتمل عدم توقّف حلفه على الإذن في نوبته في صورة المهاياة، خصوصاً إذا كان وقوع المتعلّق في نوبته .
[3111] مسألة 4 : الظاهر عدم الفرق في الولد بين الذكر والاُنثى ، وكذا في المملوك والمالك ، لكن لا تلحق الاُمّ بالأب .
[3112] مسألة 5 : إذا نذر أو حلف المملوك بإذن المالك ، ثمّ انتقل إلى غيره بالإرث أو البيع أو نحوه بقي على لزومه .
[3113] مسألة 6 : لو نذرت المرأة أو حلفت حال عدم الزوجيّة ثمّ تزوّجت وجب عليها العمل به، وإن كان منافياً للاستمتاع بها ، وليس للزوج منعها من ذلك الفعل كالحجّ ونحوه ، بل وكذا لو نذرت أنّها لو تزوّجت بزيد مثلا صامت كلّ خميس ، وكان المفروض أنّ زيداً أيضاً حلف أن يواقعها كلّ خميس إذا تزوّجها ، فإنّ حلفها أو نذرها مقدّم على حلفه وإن كان متأخّراً في الإيقاع ; لأنّ حلفه لايؤثّر شيئاً في تكليفها ، بخلاف نذرها فإنّه يوجب الصوم عليها ; لأنّه متعلّق بعمل نفسها ، فوجوبه عليها يمنع من العمل بحلف الرجل .
[3114] مسألة 7 : إذا نذر الحجّ من مكان معيّن كبلده أو بلد آخر معيّن ، فحجّ من غير ذلك المكان لم تبرأ ذمّته ووجب عليه ثانياً . نعم ، لو عيّنه في سنة فحجّ في تلك السنة من غير ذلك المكان وجب عليه الكفّارة ; لعدم إمكان التدارك . ولو نذر أن يحجّ من غير تقييد بمكان، ثمّ نذر نذراً آخر أن يكون ذلك الحجّ من مكان كذا
(الصفحة275)
وخالف فحجّ من غير ذلك المكان برأ من النذر الأوّل ، ووجب عليه الكفّارة لخلف النذر الثاني ، كما أنّه لو نذر أن يحجّ حجّة الإسلام من بلد كذا فخالف، فإنّه يجزئه عن حجّة الإسلام ووجب عليه الكفّارة لخلف النذر .
[3115] مسألة 8 : إذا نذر أن يحجّ ولم يقيّده بزمان فالظاهر جواز التأخير إلى ظنّ الموت أو الفوت ، فلايجب عليه المبادرة إلاّ إذا كان هناك انصراف ، فلو مات قبل الإتيان به في صورة جواز التأخير لايكون عاصياً ، والقول بعصيانه مع تمكّنه في بعض تلك الأزمنة وإن جاز التأخير لا وجه له . وإذا قيّده بسنة معيّنة لم يجز التأخير مع فرض تمكّنه في تلك السنة ، فلو أخّر عصى وعليه القضاء والكفّارة ، وإذا مات وجب قضاؤه عنه ، كما أنّ في صورة الإطلاق إذا مات بعد تمكّنه منه قبل إتيانه وجب القضاء عنه ، والقول بعدم وجوبه بدعوى أنّ القضاء بفرض جديد ضعيف لما يأتي .
وهل الواجب القضاء من أصل التركة أو من الثلث؟ قولان ، فذهب جماعة إلى القول بأنّه من الأصل ; لأنّ الحجّ واجب ماليّ، وإجماعهم قائم على أنّ الواجبات الماليّة تخرج من الأصل ، وربما يورد عليه بمنع كونه واجباً ماليّاً ، وإنّما هو أفعال مخصوصة بدنيّة، وإن كان قد يحتاج إلى بذل المال في مقدّماته ، كما أنّ الصلاة أيضاً قد تحتاج إلى بذل المال في تحصيل الماء والساتر والمكان ونحو ذلك ، وفيه : أنّ الحجّ في الغالب محتاج إلى بذل المال بخلاف الصلاة وسائر العبادات البدنيّة ، فإن كان هناك إجماع أو غيره على أنّ الواجبات الماليّة تخرج من الأصل يشمل الحجّ قطعاً .
وأجاب صاحب «الجواهر» (رحمه الله) بأنّ المناط في الخروج من الأصل كون الواجب ديناً ، والحجّ كذلك ، فليس تكليفاً صرفاً كما في الصلاة والصوم ، بل للأمر به جهة وضعيّة ، فوجوبه على نحو الدينيّة بخلاف سائر العبادات البدنيّة ، فلذا
(الصفحة276)
يخرج من الأصل، كما يشير إليه بعض الأخبار الناطقة بأنّه دين أو بمنزلة الدين .
قلت : التحقيق أنّ جميع الواجبات الإلهيّة ديون لله تعالى ، سواء كانت مالاً أو عملاً ماليّاً أو عملاً غير ماليّ ، فالصلاة والصوم أيضاً ديون لله ولهما جهة وضع ، فذمّة المكلّف مشغولة بهما ولذا يجب قضاؤهما ، فإنّ القاضي يفرغ ذمّة نفسه أو ذمّة الميّت ، وليس القضاء من باب التوبة أو من باب الكفّارة ، بل هو إتيان لما كانت الذمّة مشغولة به ، ولا فرق بين كون الاشتغال بالمال أو بالعمل ، بل مثل قوله : «لله عليّ أن أعطي زيداً درهماً» ، دين إلهي لا خلقي، فلايكون الناذر مديوناً لزيد ، بل هو مديون لله بدفع الدرهم لزيد ، ولا فرق بينه وبين أن يقول : «لله عليّ أن أحجّ أو أن اُصلّي ركعتين» فالكلّ دين الله ، ودين الله أحقّ أن يقضى كما في بعض الأخبار ، ولازم هذا كون الجميع من الأصل .
نعم ، إذا كان الوجوب على وجه لايقبل بقاء شغل الذمّة به بعد فوته لايجب قضاؤه ، لا بالنسبة إلى نفس من وجب عليه ولا بعد موته ، سواء كان مالاً أو عملاً، مثل وجوب إعطاء الطعام لمن يموت من الجوع عام المجاعة ، فإنّه لو لم يعطه حتّى مات لايجب عليه ولا على وارثه القضاء ; لأنّ الواجب إنّما هو حفظ النفس المحترمة ، وهذا لايقبل البقاء بعد فوته ، وكما في نفقة الأرحام، فإنّه لو ترك الإنفاق عليهم مع تمكّنه لايصير ديناً عليه ; لأنّ الواجب سدّ الخلّة ، وإذا فات لايتدارك . فتحصّل أنّ مقتضى القاعدة في الحجّ النذري إذا تمكّنه وترك حتّى مات وجوب قضائه من الأصل ; لأنّه دين إلهي ، إلاّ أن يقال بانصراف الدين عن مثل هذه الواجبات ، وهو محلّ منع ، بل دين الله أحقّ أن يقضى .
وأمّا الجماعة القائلون بوجوب قضائه من الثلث، فاستدلّوا بصحيحة ضريس وصحيحة ابن أبي يعفور الدالّتين على أنّ من نذر الإحجاج ومات قبله يخرج من ثلثه ، وإذا كان نذر الإحجاج كذلك مع كونه ماليّاً قطعاً فنذر الحجّ بنفسه أولى بعدم
(الصفحة277)
الخروج من الأصل ، وفيه : أنّ الأصحاب لم يعملوا بهذين الخبرين في موردهما ، فكيف يعمل بهما في غيره؟ وأمّا الجواب عنهما بالحمل على صورة كون النذر في حال المرض بناءً على خروج المنجّزات من الثلث فلا وجه له بعد كون الأقوى خروجها من الأصل ، وربما يجاب عنهما بالحمل على صورة عدم إجراء الصيغة ، أو على صورة عدم التمكّن من الوفاء حتّى مات ، وفيهما ما لايخفى، خصوصاً الأوّل .
[3116] مسألة 9 : إذا نذر الحجّ مطلقاً أو مقيّداً بسنة معيّنة ولم يتمكّن من الإتيان به حتّى مات لم يجب القضاء عنه ; لعدم وجوب الأداء عليه حتّى يجب القضاء عنه ، فيكشف ذلك عن عدم انعقاد نذره .
[3117] مسألة 10 : إذا نذر الحجّ معلّقاً على أمر كشفاء مريضه أو مجيء مسافره فمات قبل حصول المعلّق عليه ، هل يجب القضاء عنه أم لا ؟ المسألة مبنيّة على أنّ التعليق من باب الشرط أو من قبيل الوجوب المعلّق ، فعلى الأوّل لايجب; لعدم الوجوب عليه بعد فرض موته قبل حصول الشرط، وإن كان متمكّناً من حيث المال وسائر الشرائط ، وعلى الثاني يمكن أن يقال بالوجوب ; لكشف حصول الشرط عن كونه واجباً عليه من الأوّل ، إلاّ أن يكون نذره منصرفاً إلى بقاء حياته حين حصول الشرط .
[3118] مسألة 11 : إذا نذر الحجّ وهو متمكّن منه فاستقرّ عليه ، ثمّ صار معضوباً لمرض أو نحوه ، أو مصدوداً بعدوّ أو نحوه ، فالظاهر وجوب استنابته حال حياته; لما مرّ من الأخبار سابقاً في وجوبها ، ودعوى اختصاصها بحجّة الإسلام ممنوعة كما مرّ سابقاً ، وإذا مات وجب القضاء عنه، وإذا صار معضوباً أو مصدوداً قبل تمكّنه واستقرار الحجّ عليه ، أو نذر وهو معضوب أو مصدود حال النذر مع فرض تمكّنه من حيث المال ، ففي وجوب الاستنابة وعدمه حال حياته ووجوب القضاء
(الصفحة278)
عنه بعد موته قولان ، أقواهما العدم ، وإن قلنا بالوجوب بالنسبة إلى حجّة الإسلام ، إلاّ أن يكون قصده من قوله : «لله عليّ أن أحجّ» الاستنابة .
[3119] مسألة 12 : لو نذر أن يحجّ رجلاً في سنة معيّنة فخالف مع تمكّنه وجب عليه القضاء والكفّارة ، وإن مات قبل إتيانهما يقضيان من أصل التركة ; لأنّهما واجبان ماليّان بلا إشكال ، والصحيحتان المشار إليهما سابقاً الدالّتان على الخروج من الثلث معرض عنهما كما قيل ، أو محمولتان على بعض المحامل ، وكذا إذا نذر الإحجاج من غير تقييد بسنة معيّنة مطلقاً، أو معلّقاً على شرط وقد حصل وتمكّن منه وترك حتّى مات ، فإنّه يقضى عنه من أصل التركة ، وأمّا لو نذر الإحجاج بأحد الوجوه ولم يتمكّن منه حتّى مات ، ففي وجوب قضائه وعدمه وجهان ، أوجههما ذلك ; لأنّه واجب ماليّ أوجبه على نفسه فصار ديناً . غاية الأمر أنّه ما لم يتمكّن معذور ، والفرق بينه وبين نذر الحجّ بنفسه أنّه لايعدّ ديناً مع عدم التمكّن منه واعتبار المباشرة ، بخلاف الإحجاج فإنّه كنذر بذل المال ، كما إذا قال : «لله عليّ أن اُعطي الفقراء مائة درهم» ومات قبل تمكّنه ، ودعوى كشف عدم التمكّن عن عدم الانعقاد ممنوعة ، ففرق بين إيجاب مال على نفسه أو إيجاب عمل مباشري ، وإن استلزم صرف المال ، فإنّه لايعدّ ديناً عليه بخلاف الأوّل .
[3120] مسألة 13 : لو نذر الإحجاج معلّقاً على شرط، كمجيء المسافر أو شفاء المريض فمات قبل حصول الشرط مع فرض حصوله بعد ذلك وتمكّنه منه قبله ، فالظاهر وجوب القضاء عنه إلاّ أن يكون مراده التعليق على ذلك الشرط مع كونه حيّاً حينه ، ويدلّ على ما ذكرنا خبر مسمع بن عبد الملك فيمن كان له جارية حبلى فنذر إن هي ولدت غلاماً أن يحجّه أو يحجّ عنه ; حيث قال الصادق (عليه السلام) ـ بعدما سئل عن هذا ـ : «إنّ رجلاً نذر لله ـ عزّوجلّ ـ في ابن له إن هو أدرك أن يحجّ عنه أو يحجّه ، فمات الأب وأدرك الغلام بعد ، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
(الصفحة279)
الغلام فسأله عن ذلك ، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يحجّ عنه ممّا ترك أبوه» . وقد عمل به جماعة ، وعلى ما ذكرنا لايكون مخالفاً للقاعدة كما تخيّله سيّد «الرياض» وقرّره عليه صاحب «الجواهر» وقال : إنّ الحكم فيه تعبّدي على خلاف القاعدة .
[3121] مسألة 14 : إذا كان مستطيعاً ونذر أن يحجّ حجّة الإسلام انعقد على الأقوى ، وكفاه حجّ واحد ، وإذا ترك حتّى مات وجب القضاء عنه والكفّارة من تركته ، وإذا قيّده بسنة معيّنة فأخّر عنها وجب عليه الكفّارة، وإذا نذره في حال عدم الاستطاعة انعقد أيضاً ووجب عليه تحصيل الاستطاعة مقدّمة ، إلاّ أن يكون مراده الحجّ بعد الاستطاعة .
[3122] مسألة 15 : لايعتبر في الحجّ النذري الاستطاعة الشرعيّة ، بل يجب مع القدرة العقليّة ، خلافاً للدروس ، ولا وجه له ; إذ حاله حال سائر الواجبات التي تكفيها القدرة عقلاً .
[3123] مسألة 16 : إذا نذر حجّاً غير حجّة الإسلام في عامه وهو مستطيع لم ينعقد إلاّ إذا نوى ذلك على تقدير زوالها فزالت ، ويحتمل الصحّة مع الإطلاق أيضاً إذا زالت ، حملاً لنذره على الصحّة .
[3124] مسألة 17 : إذا نذر حجّاً في حال عدم الاستطاعة الشرعيّة ثمّ حصلت له ، فإن كان موسّعاً أو مقيّداً بسنة متأخّرة قدّم حجّة الإسلام لفوريّتها . وإن كان مضيّقاً; بأن قيّده بسنة معيّنة وحصل فيها الاستطاعة أو قيّده بالفوريّة قدّمه ، وحينئذ فإن بقيت الاستطاعة إلى العام القابل وجبت وإلاّ فلا ; لأنّ المانع الشرعي كالعقلي ، ويحتمل وجوب تقديم النذر ولو مع كونه موسّعاً ; لأنّه دين عليه ، بناءً على أنّ الدين ولو كان موسّعاً يمنع عن تحقّق الاستطاعة ، خصوصاً مع ظنّ عدم تمكّنه من الوفاء بالنذر إن صرف استطاعته في حجّة الإسلام .
[3125] مسألة 18 : إذا كان نذره في حال عدم الاستطاعة فوريّاً ، ثمّ استطاع
(الصفحة280)
وأهمل عن وفاء النذر في عامه وجب الإتيان به في العام القابل مقدّماً على حجّة الإسلام ، وإن بقيت الاستطاعة إليه لوجوبه عليه فوراً ففوراً ، فلايجب عليه حجّة الإسلام إلاّ بعد الفراغ عنه ، لكن عن «الدروس» أنّه قال ـ بعد الحكم بأنّ استطاعة النذر شرعيّة لا عقليّة ـ : «فلو نذر ثمّ استطاع صرف ذلك إلى النذر ، فإن أهمل واستمرّت الاستطاعة إلى العام القابل وجب حجّة الإسلام أيضاً» . ولا وجه له . نعم ، لو قيّد نذره بسنة معيّنة وحصل فيها الاستطاعة فلم يف به وبقيت استطاعته إلى العام المتأخّر أمكن أن يقال بوجوب حجّة الإسلام أيضاً ; لأنّ حجّه النذري صار قضاء موسّعاً ، ففرق بين الإهمال مع الفوريّة والإهمال مع التوقيت ، بناءً على تقديم حجّة الإسلام مع كون النذري موسّعاً .
[3126] مسألة 19 : إذا نذر الحجّ وأطلق من غير تقييد بحجّة الإسلام ولا بغيره وكان مستطيعاً أو استطاع بعد ذلك ، فهل يتداخلان فيكفي حجّ واحد عنهما ، أو يجب التعدّد، أو يكفي نيّة الحجّ النذري عن حجّة الإسلام دون العكس؟ أقوال ، أقواها الثاني ; لأصالة تعدّد المسبّب بتعدّد السبب ، والقول بأنّ الأصل هو التداخل ضعيف ، واستدلّ للثالث بصحيحتي رفاعة ومحمّد بن مسلم عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله فمشى ، هل يجزئه عن حجّة الإسلام؟ قال (عليه السلام) : نعم ، وفيه: أنّ ظاهرهما كفاية الحجّ النذري عن حجّة الإسلام مع عدم الاستطاعة وهو غير معمول به ، ويمكن حملهما على أنّه نذر المشي لا الحجّ ثمّ أراد أن يحجّ، فسأل (عليه السلام)عن أنّه هل يجزئه هذا الحجّ الذي أتى به عقيب هذا المشي أم لا ؟ فأجاب (عليه السلام)بالكفاية . نعم ، لو نذر أن يحجّ مطلقاً أيّ حجّ كان كفاه عن نذره حجّة الإسلام ، بل الحجّ النيابي وغيره أيضاً ; لأنّ مقصوده حينئذ حصول الحجّ منه في الخارج بأيّ وجه كان .
[3127] مسألة 20 : إذا نذر الحجّ حال عدم استطاعته معلّقاً على شفاء ولده مثلا
|