مدخل التفسير
أبحاث حول إعجاز القرآن والدفاع عن صيانته من التحريف ، وحجّية القراءات ، ومناقشة القرّاء ، وقوانين اُصول التفسير
تأليف : الفقيه الأصولي
آية الله العظمى الشيخ محمّد الفاضل اللنكراني(دام ظلّه)
(الصفحة7)
تقديم
فضيلة الشيخ حسين أنصاريان
(الصفحة8)
بسم الله الرحمن الرحيم
نزل القرآن الكريم: على صدر الرسول الأكرم ـ منجّماً ـ طيلة ثلاثة وعشرين عاماً ، وهو الكتاب الذي خطّط للمجتمع الإنساني طريق الهداية والتكامل ، وتعهّده بالصيانة والأمانة ، كما شرّع له كلّ ما يتطلّبه من حاجات فردية واجتماعية سواء بسواء.
وقد نزلت آياته وسوره وفق مقتضيات الحياة ، وما تصلحها من دساتير وتوجيهات تقيم فيها العدل ، وتحقّق لها السعادة ، فإنّ هذه الآيات والمعجزات قد ناشدت خصومها محاكاة هذا الإعجاز ومعارضتها ، الأمر الذي كشف عن عجزهم واستسلامهم أمام تحدّي القرآن وقاطعيّته ، وبالتالي جلا عن عجزهم وعصبيّتهم تجاه حكومة القرآن وإعجازه.
والقرآن: هو المعجزة الإلهية الخالدة التي جاء بها أعظم الرُّسل وأكرمهم ولذلك فإنّ النهوض بحقّه هو من أعظم الحقوق وأخطرها ، كما أنّ إقامة سننه وواجباته هي من أخطر الفروض والواجبات.
والقرآن: هو الكتاب الذي يصعد بالإنسانية إلى أرفع مدارج الكمال ، ويهديها
(الصفحة9)
إلى سواء السبيل ، وينشد لها السعادة الأبديّة ، التي تمنحها العزّة والرفعة ، وتجنّبها الذلّ والشقاء ، وهو الكتاب الذي يغدق على الإنسانية كلّ معاني القدرة والمنعة في مجالات حياته الماديّة والمعنويّة.
والقرآن: هو الكتاب الذي يهدف ـ في ذاته ـ إلى التصعيد بالقوى العقلية ، والمواهب الفطرية إلى اُفق الابداع والابتكار ، الأمر الذي يهدم في روع الإنسان رواسب الخرافات والعادات الاجتماعية السيّئة ، والتقاليد الموروثة البالية ، كما يهدف إلى دعم الروح الإنسانية في إدراكاتها وتصوّراتها السماوية المجرّدة ، وما يرتبط بها من أسرار النفس ومزاياها.
والقرآن: هو الكتاب الذي تلوح فيه المبادرات العلمية والحضارية التي تأخذ بالبشرية إلى المسير الذي يتحوّل فيها جميع إبداعاتها وإدراكاتها ، كما يأخذ بها إلى استجلاء الأسرار والكوامن التي كان يجهلها ، إلى جانب أسرار التوحيد المتمازجة في هذه الخليقة ، وهكذا يأخذ بها هذا الكتاب إلى المبدأ والمعاد ، وإلى سائر الآيات الإلهية في براهينه وقصصه ، وهداياته وأنواره.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
«القرآن: هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الاحداث ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة ، وفيه كمال دينكم ، وما عدل أحد عن القرآن إلاّ إلى النار»(1).
والقرآن: هو الكتاب الذي يخوض حقائق كثيرة مختلفة تمثِّل الجانب الآخر من
(1) الكافي ج1 ص439.
(الصفحة10)
إعجازه ، إذ يكشف الستار عن أسرار الخليقة ، كما يتمثّل فيه الجانب الآخر من إعجازه ، وهو إعجاز الاسلوب ، والنظم ، والبلاغة ، وهكذا يخوض الإخبار عن الغيب ، ومستقبل العالم ، وما وراء الطبيعة ، والعالم الاُخرى التي لم تصل المعرفة إليها إلاّ عن طريقه ، كما يتميّز القرآن بالتخطيط السويّ للحياة البشرية المتأرجحة بما فيه من معالجة النوازع الوجودية التي تنتابه في عرض هذه الحياة وطولها.
وكتاب: هذا مستواه ، وهذا محتواه ، كيف يوجد فيه أدنى اختلاف وهو وحيٌ من الله يتحدّى بآياته كلّ بليغ وكلّ مبدع ، بل وكلّ عبقري مفكِّر.
وحسبنا أن يعجز عن معارضته في الاسلوب ـ فضلاً عن الحقائق ـ كلّ الأجيال المختلفة طيلة أربعة عشر قرناً. وحتّى الإنسان المعاصر ، الذي شهد عصر العلم والإبداع إنّما يريد أن يستدرّ من القرآن الكريم حضارته وثقافته ، وفتوحاته العلمية والاجتماعية المختلفة.
والكتاب الذي بين أيدينا يجسِّد لنا كلّ هذه النواحي في إعجاز القرآن بالمعايير العلمية والواقعية ، ولذلك فإنّي اُناشد الباحثين والمحقِّقين أن يتبيّنوا هذه الخطوط العلمية ، وهذه الحقائق الناصعة الأصيلة بالنظرة الدقيقة ، والإدراك النافذ.
ومؤلِّف هذا الكتاب هو الاُستاذ المحقّق الحجّة الشيخ محمّد اللنكراني «الفاضل» أحد الشخصيات العلمية المرموقة في الأوساط والحوزات.
وقد ارتشفت من مناهل علمه طيلة الأيّام الدراسيّة التي قضيتها في قم ، مكبّاً ـ عنده ـ على دراسة الفقه والاُصول. وإذا أعتزّ أن أكون أصغر تلميذ له فلا أجد في نفسي من الأهليّة أن أزن هذا الكتاب بميزان معرفتي أو إعجابي ، إلاّ أنّ الباحثين وروّاد العلم هم الذين سوف يثمِّنون هذا الكتاب ، وهم يتبيّنون فيه المنهج العلمي
(الصفحة11)
العميق ، والأصالة والإبداع.
وقد مضى على إعداد هذا الكتاب فترة من الزمن دون أن ينتهل من معينه روّاد العلم والمعرفة ، وطلاّب القرآن. وفي مناسبة كريمة أسعدني الله أن أحظى بلثم أنامله في مدينة «يزد» وقد جرى ذكر هذا الكتاب القيِّم ، فأولاني بالاطّلاع عليه وأجازني بطبعه وإذاعته.
وممّا يبعثني على الفخر والاعتزاز أن اُولى بهذه الخصيصة والنعمة العظمى فأسأله تعالى أن يوفّقنا ـ نحن المسلمين ـ إلى أن نسترشد معارف القرآن ، وأن نقتدي بهداه ، وأن نتّبع تعاليمه وتوجيهاته.
كما أسأله تعالى أن ينشر علينا لواء الدين ، والجامعة العلمية التي تقود العالم الإسلامي إلى عظمة القرآن ومنعته ، وإلى أتباع أهل البيت الأطهار ، والتأسِّي بهم ، والأخذ بسيرتهم.
وانّي إذ أجد لزاماً على أن اُنوّه عن التوجيهات التي أسداها فضيلة الكاتب الإسلامي الكبير الاُستاذ السيِّد مرتضى الحكمي: أجد لزاماً على أن اُزجي له الشكر على ما اضطلع به من مراجعة الكتاب وتنسيقه والإشراف على إخراجه.
والله أسأل أن يوفّقنا إلى ما يحبّ ويرضى ، كما أسأله أن يقرن ذلك برضا إمامنا الغائب ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ حامل القرآن وشريكه في الهداية والعدل والإصلاح.
طهران: جمادى الثانية 1369هـ
حسين أنصاريان
(الصفحة12)
الإهداء
إلى المربِّي الكبير: الوالد المعظّ:
والرجل الفذّ لا أقدر على اداء حقوقه ، ولا أستطيع شكر عناياته ، وقد بالغ في تربيتي العلميّة والدينيّة ، وأجهد في تهيئة الوسائل اللاّزمة ، وكان جامعاً للفضائل المعنويّة ، ومربيّاً بالتربيّة القوليّة والعمليّة ، وحائزاً لشرف المهاجرة ، مصداقاً لقوله تعالى:
{ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}.
فالمسؤول منه تعالى أن يعطي أجره عليه ، ويحشره في زمرة من يحبّه من أوليائه الطاهرين ، وأصفيائه المكرمين صلوات الله عليهم أجمعين ، وأن يقدرني على اداء بعض حقوقه ، آمين.
ولدك
(الصفحة13)
المقدّمة
(الصفحة14)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ، وجعله هدىً للمتّقين ، وذكرى لاُولي الألباب ، وأثبت إعجازه بقوله عزّ من قائل:
{لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}.
كما أنّه أثبت بجعله معجزاً خلود الاعجاز ، لاستمرار الشريعة ودوام النبوّة إلى يوم القيامة ، وابتنائها على المعجزة الخالدة ، وقد صانه من التحريف والتغيير بقوله تعالى: {انّا نحن نزّلنا الذكر وانّا له الحافظون}.
وأخبر عن عدمه بقوله تعالى:
{لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}.
وأفضل صلواته وتسليماته على رسوله الذي أرسله {بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون} النبيّ الذي ترك في اُمّته الثقلين ، وحصر النجاة في التمسّك بالأمرين ، وأخبر بانتفاء أيّ افتراق في البين ، حتّى يردا
(الصفحة15)
عليه الحوض.
وعلى آله الأخيار ، المصطفين الأبرار ، الّذين هم قرناء الكتاب ، والشارحون لآياته المفسِّرون لمحكماته ومتشابهاته ، العالمون بتنزيله وتأويله ، ولا يُغني الرجوع إليه من دون المراجعة إليهم.
واللعنة الدائمة الأبديّة على الذين:
{يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين* أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
وبعد: يقول العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغنيّ ، محمّد الموحّدي اللنكراني الشهير بـ «الفاضل» ابن العلاّمة الفقيه الفقيد آية الله المرحوم الحاج الشيخ فاضل اللنكراني (قدس سره) ، وحشر مع من يحبّه من النبيّ والأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ـ انّ من منن الله تعالى العظيمة ، وتوفيقاته الربّانية أن وفّقني برهة من الزمن ، وقطعة من الوقت للبحث حول كتابه العزيز من عدّة جهات ترجع إلى أصل إعجازه ، ووجوه الإعجاز فيه ، وكان ذلك بمحضر جماعة من الأفاضل لا يقلّ عددهم ، وعدّة من الأعلام يعتنى بشأنهم ، وكنت أكتب خلاصة البحث ، ليكون لي تذكرة ولغيري بعد مرور الأيّام تبصرة ، وقد بقى المكتوب في السواد سنين متعدّدة إلى أن ساعدني التوفيق ثانياً لإخراجه إلى البياض.
وأقرّ ـ ولا محيص عن الإقرار ـ بأنّ الإنسان يقصر باعه ـ وإن بلغ ما بلغ ، ويقلّ اطّلاعه ـ وإن أحاط بجميع الفنون ـ عن البحث التام حول كلام الكامل ، وكيف يصحّ في العقول أن يحيط الناقص بالكامل ، سواء أراد الوصول إلى معناه ،
(الصفحة16)
والبلوغ إلى مراده ، أم أراد الوصول إلى مرتبة عظيمة واستكشاف شؤونه من إعجازه وسائر ما يتعلّق به.
ولكن لا ينبغي ترك كلّ ما لا يدرك كلّه ، ولا يصحّ الإعراض عمّا لا سبيل إلى فهم حقيقته ، خصوصاً مع ابتناء الدين الخالد على أساسه وإعجازه ، وتوقّف الشريعة السّامية على نظامه الرفيع ، فإنّه ـ في هذه الحالة ـ لابدّ من الورود في بحر عميق بمقدار ميسور ، والاستفادة منه على قدر الظرف المقدور.
ومع أنّ الكتاب ـ سيّما في هذه الأعصار التي تسير قافلة البشر إلى أهداف مادّية ، وتبتني حياتهم التي لا يرون إلاّ إيّاها على أساس اقتصادي ، وأصبحت الشؤون المعنوية كأنّه لا يحتاج إليه ، والقوانين الإلهيّة غير معمول بها ـ قد صار هدفاً للمعاندين والمخالفين ، لأنّهم يرون أنّ الاقتفاء بنوره ، والخروج عن جميع الظلمات بسببه يسدّ باب السيادة المادّية ، ويمنع عن تحقّق السلطة ، ويوجب رقاء الفكر ، وحصول الاستضاءة ، فلابدّ لهم للوصول إلى أغراضهم الفاسدة من إطفاء نوره ، وإدناء مرتبته ، وتنقيص مقامه الشامخ ، فتارة يشكّون في إعجازه ، ويوردون على الناس شبهات في ذلك ، واُخرى يتمسّكون بتحريفه ويثبتون تنقيصه.
ومن العجب: أنّ بعض من لا يطّلع على حقيقة الأمر ، ويتخيّل أنّ البحث في هذه المباحث إنّما يجري مجرى المباحث العلميّة ، التي لا يتجاوز عن البحث العلمي قد وافق معهم في هذه العقيدة الفاسدة ، غفلة عن أنّ الأيادي الخفيّة ناشرة لهذه الفكرة الخبثية ، وباعثة على رواجها بين العوام والجهلة ، وهدفها سلب الاعتصام بحبل الله المتين ، وترك الاقتداء بكلام الله المبين ، ونفي وصف الإعجاز والحجّية عن القرآن العظيم.
(الصفحة17)
فمثل هذه الجهات أوجب البحث حول الكتاب المجيد بالبحوث التي أشرت إليها. وأظنّ أنّه لا يبقى موقع للشبهة ـ مع المراجعة إلى هذه الرسالة ـ لمن يريد استكشاف الحقيقة ، ويترك طريق الغيّ والجهالة ، فقد بالغت على أن أجمع فيها ما يكون دليلاً على المقصود ، وأجبت عن الشبهات الواردة بما هو مقبول العقول ، ومع ذلك فالنقص والخطأ فيه لو كان ، فمنشأه قصور الباع ، وعدم سعة الاطّلاع ، وأرجو من القارئ الكريم أن ينظر إليها بعين الإنصاف ، وأن يذكّرني إذا أشرف على نقص أو اشتباه.
وفي هذا الصدد اُقدِّم جزيل الشكر إلى جميع الأصدقاء الكرام ـ الذين لهم نصيب في طبع الرسالة ونشرها ، سيّما صديقي الأعز الفاضل الكامل الواعظ الشهير الشيخ حسين المعروف بـ «أنصاريان» وفّقه الله تعالى لمراضيه وجعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه بحقّ أوليائه الطاهرين.
وأبتهل إليه تعالى أن يمدّني بالتوفيق ، ويلحظ عملي بعين القبول ، فإنّه الوليّ الحميد المجيد.
قم ـ الحوزة العلمية ـ جمادى الاُولى 1396هـ
محمد الموحدي الفاضل
(الصفحة18)
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ
وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً
(الصفحة19)
حقيقة المعجزة
(الصفحة20)
المعجزة ـ بحسب الاصطلاح ـ هو ما يأتي به المدّعي لمنصب من المناصب الإلهيّة: من الاُمور الخارقة للعادة النوعيّة ، والنواميس الطبيعيّة ، والخارجة عن حدود القدرة البشريّة ، والقواعد والقوانين العلميّة ، وإن كانت دقيقة نظريّة ، والرياضات العلميّة وإن كانت نتيجة مؤثِّرة ، بشرط أن يكون سالماً عن المعارضة عقيب التحدّي به ، ففي الحقيقة يعتبر في تحقّق الإعجاز الاصطلاحي الاُمور التالية:
الأوّل: أن يكون الإتيان بذلك الأمر المعجز مقروناً بالدعوى ، بحيث كانت الدعوى باعثة على الإتيان به ، ليكون دليلاً على صدقها ، وحجّة على ثبوتها.
الثاني: أن تكون الدعوى عبارة عن منصب من المناصب الإلهيّة ، كالنبوّة والسفارة ، لأنّه حيث لا يمكن تصديقها من طريق السماع عن الإله ، لاستحالة ذلك ، فلابدّ من المعجزة الدالّة على صدق المدّعي ، وثبوت المنصب الإلهي ـ كما يأتي بيان ذلك في وجه دلالة المعجزة على صدق الآتي بها ـ وأمّا لو لم تكن الدعوى منصباً إلهيّاً ، بل كانت أمراً آخر كالتخصّص في علم مخصوص ـ مثلاً ـ فالدليل
|