(الصفحة241)
الحكم يتوقّف على لحاظ المجموع ، ورعاية الكلّ .
وبالجملة : الحديث ظاهر في كون كلّ واحد من الثقلين دليلاً وحجّة مستقلّة ، وحينئذ نقول : بناءً على عدم التحريف ، وعدم كون القرآن الموجود فاقداً لبعض ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخالياً عن بعض الآيات والجملات يكون هذا الوصف ـ وهي الحجّية المستقلّة ـ ثابتاً للقرآن ، ولا يتوقّف على إمضاء الأئمّة (عليهم السلام) وتصويبهم للاستدلال به .
وامّا بناءً على التحريف ، وثبوت النقيصة فإن كان الرجوع إليه متوقّفاً على إمضائهم (عليهم السلام) فهذا ينافي الحجّية المستقلّة التي يدلّ عليها الحديث ـ كما هو المفروض ـ وإن لم يكن كذلك بأن يدّعي القائل جواز التمسّك به من دون المراجعة إليهم ، والتوقّف على إمضائهم فواضح أنّ الرجوع غير جائز .
توضيحه : انّه ربما يقال إنّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى ظواهر الكتاب ـ مع العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه ـ هو العلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر ، ومع هذا العلم يسقط كلّ ظاهر عن الحجّية كما هو شأن العلم الإجمالي في سائر الموارد .
ولكنّه أجاب عن هذا القول ، المحقّق الخراساني (قدس سره) في «الكفاية» بما هذه عبارته :
«انّه ـ يعني العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ لا يمنع عن حجّية ظواهره ، لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلاً ، ولو سلّم فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام ، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجّية آياتها ، لعدم حجّية سائر الآيات ، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا
(الصفحة242)
كانت كلّها حجّة وإلاّ لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك ، كما لا يخفى فافهم .
نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به لأخلّ بحجّيته لعدم انعقاد ظهور له ـ حينئذ ـ وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله» .
وهذا الجواب :
وإن لم يكن خالياً عن المناقشة ، لعدم انحصار الحجّية بخصوص آيات الأحكام ، لأنّ معنى حجّية الكتاب المشتمل على جهات عديدة ومزايا متكثّرة لا ترجع إلى خصوص المنجزيّة والمعذريّة في باب التكاليف ، حتّى تختصّ الحجّية بالآيات المشتملة على بيان الأحكام الفرعيّة ، والقوانين العمليّة ، إلاّ انّه يجدي في دفع القول المذكور ، وإثبات انّ الوجه في عدم جواز الرجوع إلى ظواهر الكتاب ـ مع العلم الإجمالي بوقوع التحريف ـ ليس هو العلم الإجمالي المذكور .
والتحقيق : انّ الوجه في ذلك بناءً على التحريف انّه مع وصف التحريف يحتمل في كلّ ظاهر وجود قرينة دالّة على الخلاف ، ولا مجال لإجراء أصالة عدم القرينة ، لأنّها من الاُصول العقلائية التي استقرّ بناء العقلاء على العمل بها ، والشارع قد اتّبعها في محاوراته ولم يتخطَّ عنها ، والقدر المتيقّن من الرجوع إليها عند العقلاء هو ما إذا كان احتمال القرينة في الكلام ناشئاً عن احتمال غفلة المتكلِّم عن الإتيان بها ، السامع عن التوجّه والالتفات إليها ، وامّا إذا كان الاحتمال ناشئاً عن سبب آخر ـ كالتحريف ونحوه ـ فلم يعلم استقرار بنائهم على العمل بأصالة عدم القرينة ، لو لم نقل بالعلم بعدم الاستقرار ، نظراً إلى ملاحظة موارده .
مثال ذلك ـ على ما ذكره بعض الأعلام ـ انّه إذا ورد على إنسان مكتوب من أبيه أو صديقه أو شبههما ، ممّن تجب أو تنبغي إطاعته ، وقد تلف بعض ذلك
(الصفحة243)
المكتوب ، وكان البعض الموجود مشتملاً على الأمر بشراء دار للكاتب ، وهو يحتمل أن يكون في البعض التالف بيان لخصوصيات الدار التي أمر بشرائها ، من الجهات الراجعة إلى السعة والضيق ، والمحلّ والقيمة والجار وسائر الخصوصيات ، فهل يتمسّك بإطلاق البعض الموجود ، ويرى نفسه مختاراً في شراء أيّة دار اعتماداً على أصالة عدم القرينة على التقييد ، أو انّ العقلاء لا يسوغون له هذا الاعتماد ، ولا يعدّونه ممتثلاً إذا اشترى داراً على خلاف تلك الخصوصيات ، على فرض ثبوتها وذكرها في المكتوب ، واشتمال البعض التالف عليها؟! من الواضح عدم جواز التمسّك بالإطلاق ، وليس ذلك إلاّ لعدم الإطلاق في مورد الأخذ بأصالة عدم القرينة .
وبالجملة : الوجه في عدم جواز الرجوع إلى الظواهر مع احتمال اقترانها بما يكون قرينة على إرادة خلافها عدم جواز الاعتماد على أصالة عدم القرينة الجارية في غير ما يشابه المقام ، فلا محيص عن القول بتوقّف جواز الرجوع على إمضاء الأئمّة (عليهم السلام) وتصويبهم .
وهذا ما ذكرناه من منافاته لما يدلّ عليه الحديث الشريف من ثبوت الحجّية المستقلّة للقرآن ، وعدم تفرّعها على الثقل الآخر ، بل هو الثقل الأكبر ، فكيف يكون متفرّعاً على الثقل الأصغر ، فتدبّر .
الدليل الخامس :
من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الروايات المستفيضة ، بل المتواترة الواردة عن النبيّ والعترة الطاهرة ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ الدالّة على عرض الروايات والأخبار المرويّة عنهم على الكتاب ، والأخذ بما وافق منها له ،
(الصفحة244)
وطرح ما خالفه وضربه على الجدار(1) وانّه زخرف ، وانّه ممّا لم يصدر منهم ، ونحو ذلك من التعبيرات ، وكذا الروايات الدالّة على استدلالهم (عليهم السلام) بالكتاب في موارد متعدّدة ، وقد تقدّم شطر منها في مقام الاستدلال على حجّية ظواهر الكتاب .
وتقريب الاستدلال بها على عدم التحريف يظهر بعد بيان أمرين :
الأوّل : لا شبهة ـ كما عرفت ـ في أنّ القول بالتحريف يلازم عدم حجّية الكتاب بالحجّية المستقلّة غير المتوقّفة على تصويب الأئمّة (عليهم السلام) وإمضائهم لما عرفت من عدم جريان أصالة عدم القرينة المحتملة في كلّ ظاهر ، إلاّ في موارد احتمال غفلة المتكلِّم أو السامع ، لأنّه القدر المتيقّن من موارد جريانها ، لو لم نقل بالعلم بعدم جريانها في مثل المقام ، كما في المثال المتقدّم .
الثاني : انّه لا خلاف بين القائل بالتحريف والقائل بعدمه في أنّ القرآن الموجود في هذه الأعصار المتأخِّرة هو الموجود في عصر الأئمّة (عليهم السلام) وانّ التحريف ـ على فرض ثبوته ـ كان قبل عصرهم في زمن الخلفاء الثلاثة ، ولم يتحقّق منذ شروع الخلافة الظاهرية لأمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلّين ـ والأئمّة الطاهرين من ولده (عليهم السلام) وإن حكي عن بعضهم تحقّق التحريف بعده ، كما سيأتي مع جوابه .
وحينئذ نقول : امّا ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ممّا يدلّ على عرض اخباره على الكتاب ، والأخذ بالموافق ، وطرح المخالف ، فالكتاب وإن لم يقع فيه تحريف في
(1) هذا التعبير وإن كان معروفاً سيّما في بحث التعادل والترجيح من علم الاُصول إلاّ انّي لم أظفر به بعد التتبّع في الروايات الواردة في هذا الباب التي جمعها صاحب الوسائل (قدس سره) في الباب التاسع من كتاب القضاء فلعلّ المتتبّع في غيره يظفر به .
(الصفحة245)
زمنه ، ولم يبدّل في عصره وحياته ، وإن كان ورد في شأن نزول قوله تعالى :
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ}(1) .
رواية مرويّة في الكافي بإسناده عن أبي بصير ، عن أحدهما (عليهما السلام) قال : سألته عن قول الله عزّوجلّ : ومن أظلم ممّن افترى . . .
قال : نزلت في ابن أبي صرح الذي كان عثمان استعمله على مصر ، وهو ممّن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هدر دمه يوم فتح مكّة ، وكان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا أنزل الله : «إنّ الله عزيز حكيم» كتب : «إنّ الله عليم حكيم» فيقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : دعها «إنّ الله عليم حكيم» وكان ابن أبي صرح يقول للمنافقين إنّي لأقول من نفسي مثل ما يجيء به فما يعيّر عليّ فأنزل الله : {ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً}إلاّ انّها لا تدلّ على وقوع التحريف ، وشيوع الكتاب المحرّف بين المسلمين ، فإنّ هذا الرجل كان واحداً من الكتّاب المعدودين المتكثّرين ، مع أنّ مناسبة الآية مع هذه القصّة غير واضحة ، كما أنّ صدق القصّة بنفسها كذلك .
وكيف كان ، فدلالة ما ورد منها عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هي لأجل وضوح عدم كون العرض على الكتاب المأمور به في هذه الأخبار مقصوراً على خصوص زمان حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس المراد انّه يكون هذا الحكم موقّتاً ومحدوداً بوقت مخصوص ، وحدّ معيّن ، بل ظاهره دوام هذا الحكم بدوام الدين ، واستمراره باستمرار شريعة سيِّد المرسلين ـ صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين ـ وحينئذ ـ فلا يبقى مجال لما ذكره المحدِّث المعاصر من عدم منافاة ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثبوت التغيير بعده ،
(1) الأنعام : 92 .
(الصفحة246)
وورود الرواية به ، نظراً إلى عدم حصول التغيير في عصره .
وقد عرفت أنّ الحكم دائمي غير محدود ، فيجري في هذه الأخبار ما يجري في الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) الدالّة على عرض أخبارهم على الكتاب ، وتشخيص الحقّ عن الباطل بسببه .
وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السلام) في ذلك فدلالته على عدم وقوع التحريف والتبديل في الكتاب ، وكونه حجّة مستقلّة مبتنيّة على ملاحظة انّ الغرض من هذه الأخبار هو بيان الميزان الذي به يتحقّق تمييز الحقّ عن الباطل من الروايات الصادرة المنقولة عنهم ، وانّ الملاك والمناط في ذلك هو موافقة الكتاب ، وعدم مخالفته ، ففي الحقيقة تكون الموافقة قرينة على الصدق ، وأمارة على الصدور منهم (عليهم السلام) ولا يتحقّق ذلك إلاّ بكون الكتاب حجّة مستقلّة غير متوقّفة على شيء ، ضرورة أنّ الكتاب الذي يحتاج إلى التصويب والإمضاء كيف يكون ميزاناً لتمييز الحقّ عن الباطل ، ممّا ورد عنهم ، ونسب إليهم . . .
وبالجملة : غرض الأئمّة (عليهم السلام) من هذه الأخبار نفي كون أقوالهم ، وما ورد عنهم من أحكام مخالفة الكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، والميزان الذي لا يرتاب فيه مسلم ، ولا يلائم ذلك أصلاً مع توقّف حجّيته على تصويبهم وإمضائهم ، فاخبار العرض على الكتاب من أعظم الشواهد على عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وبقائه على الحجّية المستقلّة إلى يوم القيامة .
وممّا ذكرنا ينقدح النظر فيما ذكره المحدّث المعاصر من أنّ ما جاء عنهم (عليهم السلام)قرينة على أنّ الساقط لم يضرّ بالموجود ، وتمامه من المنزل للإعجاز فلا مانع من العرض عليه ، فإنّك عرفت انّ العرض على الكتاب لتمييز الحقّ عن الباطل ،
(الصفحة247)
وتشخيص السقيم عن الصحيح ، ولا يلائم ذلك مع توقّف حجّية الكتاب على إمضائهم أصلاً ، كما أنّ دعوى اختصاص ذلك بخصوص آيات الأحكام فلا يعارض ما ورد في النقص فيما يتعلّق بالفضائل والمثالب ، بل صريح المحدّث البحراني (رحمه الله) في الدرّة النجفيّة انّه لم يقع في آيات الأحكام شيء من ذلك ، لعدم دخول نقص على الخلفاء من جهتها; مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم ثبوت ذلك في خصوص تلك الآيات بأنّ الاختصاص بها لا وجه له ، بعد ملاحظة أنّ الكتاب ـ كما مرّ مراراً ـ ليس كتاباً فقهيّاً يتعرّض لخصوص القوانين التشريعيّة ، والأحكام العمليّة ، وبعد ملاحظة عدم اختصاص تلك الأخبار الدالّة على العرض بخصوص الروايات المتعرّضة للأحكام كما هو واضح .
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : تمامية الاستدلال بأخبار العرض على الكتاب ، لعدم تحريفه ، وعدم وقوع النقص فيه ، كما أنّ الاستدلال بالروايات الحاكية لاستشهاد الأئمّة (عليهم السلام) في موارد متعدّدة بالكتاب لذلك ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلاً ، ضرورة أنّه لو لم يكن الكتاب حجّة مستقلّة ، ودليلاً تامّاً غير متوقّف على الإمضاء والتصويب لما كان وجه للاستشهاد ، وليس الاستشهاد منحصراً بالموارد التي يكون محلّ الخلاف بينهم وبين علماء العامّة ، فقد عرفت سابقاً بعض الموارد التي استدلّ (عليه السلام) بالكتاب في مقابل زرارة ، وإفهام بعض السائلين من الشيعة ، بل يستفاد من رواية زرارة المتقدّمة الواردة في المسح ببعض الرأس : انّ الكتاب من طرق علم الإمام (عليه السلام) فكيف يكون مع ذلك متوقّفاً على إمضائه (عليه السلام) .
فانقدح انّ المتأمِّل المنصف ، الخالي عن العناد والتعصّب لا يكاد يرتاب في دلالة هذه الأخبار أيضاً على خلوّ القرآن عن النقص والتحريف ، والتغيير
(الصفحة248)
والتبديل .
الدليل السادس :
من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الأخبار الكثيرة الواردة في بيان أحكام أو فضائل لختم القرآن أو سوره ، قال الصدوق (رحمه الله) فيما حكى عنه :
«وما روى من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القرآن بين سورتين في ركعة فريضة تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وانّ مبلغه ما في أيدي الناس ، وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كلّه في ليلة واحدة ، وانّه لا يجوز أن يختم في أقلّ من ثلاثة أيّام; تصديق لما قلناه أيضاً» .
وأدلّ من ذلك وجوب قراءة سورة كاملة في كلّ ركعة من الصلوات المفروضة ، وجواز تقسيمها في صلاة الآيات ، فإنّه من الواضح أنّ هذا الحكم كان ثابتاً في أصل الشريعة بتشريع الصلاة ، وانّ الصلاة التي كان المسلمون في الصدر الأوّل يصلّونها مشتملة على حكاية سورة من القرآن زائدة على فاتحة الكتاب التي لا صلاة إلاّ بها ، كما في الرواية ، وحينئذ لا يبقى خفاء في أنّ المراد بها هي السورة الكاملة من الكتاب الواقعي الذي كان بأيدي المسلمين في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ولم يقع فيه تحريف ولا تغيير على فرض وقوعه بعده . وحينئذ فالقائل بالتحريف يلزم عليه ـ في قبال هذا الحكم الذي موضوعه هو الكتاب الواقعي ـ الالتزام بأحد اُمور لا ينبغي الالتزام بشيء منها ، ولا يصحّ ادّعاؤه أصلاً :
الأوّل : عدم جوب قراءة السورة بعد عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم التمكّن من إحرازها ، فلا وجه لوجوبها ، لأنّ الأحكام إنّما تتوجّه في خصوص صورة التمكّن ،
(الصفحة249)
والمفروض عدمه بعد ذلك العصر الشريف .
ويردّه مضافاً إلى عدم التزامه ، به لا قولاً ولا عملاً ، لعدم خلوّ صلاته عن قراءة السورة ، وإلى وضوح ظهور تشريعها ، وإيجابها في الدوام والاستمرار ، وعدم الاختصاص بزمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو من جهة عدم التمكّن بعده ـ ورود الروايات الكثيرة من الأئمّة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الدالّة على وجوب السورة في كلّ صلاة فريضة إلاّ في بعض الموارد المستثناة .
ومن الواضح انّه على هذا التقدير تلزم اللّغوية لأنّه بعدما كان المفروض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة بوجه لا وجه لبيان هذا الحكم ، وصدوره منهم (عليهم السلام) في زمن كان القرآن الواقعي غير موجود عند الناس ، لا تصل إليه أيديهم ، كما هو غير خفيّ .
سلّمنا عدم وجوب السورة بعد ذلك العصر ، بل سلّمنا عدم وجوب السورة أصلاً في الصلوات المفروضة ، وقلنا بأنّ السورة ليست من الأجزاء الواجبة للصلاة ، لكن نقول دلالة الأخبار المرويّة عن العترة الطاهرة على مجرّد الاستحباب تكفي في إثبات عدم التحريف ، لأنّه لو فرض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة في عصرهم (عليهم السلام) لا يبقى معه مجال لورود تلك الروايات الكثيرة على الاستحباب .
وهل يسوّغ التعرّض ـ سيّما مع كثرته ـ لحكم استحبابي لا يكون له موضوع أصلاً ، ولا يتمكّن الناس من إيجاده بوجه ، وهل لا يكون لغواً .
إن قلت : التعرّض لذلك لعلّه إنّما كان لأجل استحباب قراءة القرآن في الصلاة من دون تقيّد بكونها سورة كاملة .
(الصفحة250)
قلت : مع هذا الاحتمال لا وجه لذكر عنوان «السورة الكاملة» بل و«السورة» أصلاً ، فالظاهر أنّه حكم استحبابي خاصّ لا يرتبط بالحكم العام ، وهو استحباب قراءة القرآن في الصلاة ، لو كان قراءته فيها مستحبّاً خاصّاً ، غير مرتبط بأصل استحباب قراءة القرآن مطلقاً ـ في الصلاة وغيرها ـ فانقدح أنّ دلالة تلك الروايات الواردة في السورة ، ولو على استحبابها ، وكونها من الأجزاء غير الواجبة للصلاة تصدق القول بعدم التحريف ، وتؤيّد بقاء الكتاب على واقعه الذي نزل عليه ، مشروطاً ببقاء البصيرة الكاملة ، والخلوّ عن التعصّب غير الصحيح .
الثاني : الاقتصار على خصوص سورة لا يحتمل فيها التحريف ، نظراً إلى عدم جريان هذا الاحتمال ، في جميع السور ، بل هناك بعض السور لا يجري فيه هذا الاحتمال ، كسورة التوحيد ، وعليه فلابدّ في الصلاة من الاقتصار عليه ، نظراً إلى اقتضاء الاشتغال اليقيني للبراءة اليقينيّة .
ويدفعه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم التزامه به ـ لا قولاً ولا عملاً ـ إطلاق ما ورد من الأئمّة (عليهم السلام) في هذا الباب ، وعدم تقييد شيء منها بمثل ذلك كان عليهم البيان في مثل هذا الحكم ، الذي تعمّ به البلوى ، ومورد لاحتياج العموم في كلّ يوم وليلة عشر مرّات ، وليس في شيء منها الإشعار بالاختصاص ، فضلاً عن الدلالة والظهور .
وتؤيّده الروايات الواردة في باب العدول من سورة إلى اُخرى ، الدالّة على جواز الانتقال ، ما لم يتجاوز النصف ، وعدم جواز الانتقال من بعض السّور إلى اُخرى ، إلاّ إلى خصوص بعضها ، فإنّها متعرّضة لحكم العدول مطلقاً ، وعلى تقدير التحريف لا يبقى مجال لبيان هذا الحكم على النحو الوسيع المذكور في الروايات كما
(الصفحة251)
هو ظاهر .
الثالث : دعوى كون الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن الواقعي ، والثابت في زمن الأئمّة (عليهم السلام) بمقتضى الروايات الصادرة عنهم ، هو وجوب قراءة سورة من القرآن الموجود ، الذي كان بأيدي الناس ، وإن لم تكن سورة كاملة من القرآن الواقعي ، وبهذا الوجه يصحّ للمكلّف اختيار ما شاء من السّور ، ففي الحقيقة يكون ذلك ترخيصاً من الأئمّة (عليهم السلام) وتسهيلاً من ناحيتهم المقدّسة .
ويردّه : انّ هذه الدعوى ترجع إلى النسخ ، ضرورة أنّه ليس إلاّ رفع الحكم الثابت الظاهر في الدوام والاستمرار ، فإذا كان الحكم الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)عبارة عن وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن الواقعي ، وفرض ارتفاعه وتبدّله إلى الحكم بوجوب قراءة سورة من الكتاب الموجود ، فليس هذا إلاّ النسخ ، وهو وإن فرض إمكانه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّه قد وقع الإجماع والاتّفاق على عدم وقوعه ، فهذه الدعوى مخالفة للإجماع .
ثمّ إنّه أجاب المحدّث المعاصر عن أصل الدليل الذي ذكره الصدوق (رحمه الله) بما حاصله : «انّ ما جاء من ذلك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أقلّ قليل في كتب الأحاديث المعتبرة ، فلا منافاة بينه وبين ورود التحريف عليه بعده ، وعدم التمكّن من امتثال ما ذكره وأمره ، كما لا منافاة بين حثّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على التمسّك باتّباع الإمام (عليه السلام) وأمره بأخذ الأحكام منه ، ومتابعة أقواله وأفعاله ، وسيره ، والكون معه حيثما كان ، وعدم القدرة على ذلك ، لعدم تمكّنه من إظهار ما أودع عنده لخوف وتقيّة ، أو عدم تمكّن الناس من الوصول إليه ، والانتفاع به لذلك أو لغيره من الأعذار .
(الصفحة252)
وما ورد من الأئمّة (عليهم السلام) من بعده فالمراد منه الدائر بين الناس ، للانصراف ، ولكون بنائهم على إمضاء الموجود ، وتبعيّة غيرهم فيه .
ثمّ إنّ الثواب المذكور امّا للموجود خاصّة ، كما هو الظاهر من الروايات ، ويكون للمشتمل على المحذوف أزيد منه ، لم يذكروه لعدم القدرة على تحصيله ، أو هو للثاني ، وإنّما يجزىء قارئ الناقص به تفضّلاً من الله تعالى ، لعدم كونهم سبباً في النقص ، وللتسامح في النقيصة ، وصدق قراءة ، ما علّق عليه في الخبر عليه» .
ويدفعه : ما عرفت من عدم كون ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مقصوراً على زمانه ، ومحدوداً بحياته ، بل هو كسائر الأحكام المشرّعة في زمانه ، الظاهرة في الدوام والاستمرار ، فيشمله مثل قوله : «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» فلا ينفع عدم وقوع التحريف في زمنه ، ووقوعه بعده ـ على تقديره ـ في قصر الحكم على مدّة حياته .
ومن أنّ كون المراد ممّا ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) هو القرآن الموجود ، لبنائهم على التبعيّة يرجع إلى النسخ لا محالة ، وقد عرفت الاتّفاق على عدم تحقّقه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) واذن فلا محيص عن القول بأنّ ما ورد في ذلك من النبيّ أو الإمام ، ظاهر في بقاء الكتاب على ما هو عليه ، وعدم وقوع تحريف فيه ، وانّ ما بأيدي الناس نفس ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون اختلاف ، وقد عرفت أيضاً في بعض الاُمور السابقة الفرق بين الرجوع إلى الكتاب ، وبين التمسّك بالإمام ، وانّه لا مجال لمقايسة أحدهما على الآخر أصلاً ، فراجع .
الدليل السابع :
من الاُمور الدالّة على عدم التحريف : الدليل العقلي الذي ذكره بعض
(الصفحة253)
الأعلام ، وملخّصه مع تقريب منّا : «انّ القائل بالتحريف امّا أن يدّعي وقوعه وصدوره من الشيخين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وامّا أن يدّعي وقوعه وتحقّقه من عثمان ، بعد انتهاء الأمر إليه ، ووصول النوبة به ، وامّا أن يقول بصدوره من شخص آخر بعده ، فهذه احتمالات ثلاث ، لا رابع لها ، وجميعها فاسدة :
امّا الاحتمال الأوّل : فيدفعه انّهما في هذا التحريف امّا أن يكونا غير عامدين ، وإنّما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، نظراً إلى عدم كونه مجموعاً قبل ذلك في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وامّا أن يكونا متعمّدين ، وعلى هذا التقدير فامّا أن يكون التحريف الواقع منهما في الآيات التي لها مساس بزعامتهما لوقوع التصريح فيها ، أو ظهورها في ثبوت الخلافة والولاية لأهلها ـ وهو عليّ أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ـ وامّا أن يكون في غيرها من الآيات فالتقادير المتصوّرة ثلاثة :
امّا التقدير الأوّل : الذي مرجعه إلى عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، وكونهما غير معتمدين في التحريف ، فيردّه : انّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر القرآن ، والأمر بحفظه وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد وفاته يورث القطع بكون القرآن محفوظاً عندهم ـ جمعاً أو متفرّقاً ، حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ـ وقد اهتمّوا بحفظ أشعار الجاهليّة وخطبها ، فكيف لم يكن يهتمّون بأمر الكتاب العزيز الذي عرّضوا أنفسهم للقتل في نشر دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ، وهل يحتمل عاقل مع ذلك كلّه عدم اعتنائهم بالقرآن ، حتّى يضيع بين الناس ، أو يحتاج في إثباته إلى شهادة شهادتين .
على أنّ روايات الثقلين دالّة على بطلان هذا الاحتمال ، فإنّ قوله (عليه السلام) : «إنّي
(الصفحة254)
تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في عصره ، فإنّ المتروك ـ حينئذ ـ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ ، لأنّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات ، ولا على المحفوظ في الصدور .
وامّا التقدير الثاني : الذي يرجع إلى انّهما حرّفا القرآن عمداً في الآيات التي لا تمسّ بالزعامة والخلافة فهو بعيد في نفسه ، بل مقطوع العدم ، ضرورة أنّ الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ، وحفظ القرآن الذي كان مورداً لاهتمام المسلمين ، وهلاّ احتجّ بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، المعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة ، ولم يذكر ذلك عليّ (عليه السلام) في خطبته الشقشقية ـ المعروفة ـ وغيرها .
وامّا التقدير الثالث : الذي يرجع إلى وقوع التحريف منهما عمداً في الآيات الواردة في موضوع الخلافة فهو أيضاً مقطوع العدم ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)والصدِّيقة الطاهرة ـ سلام الله عليهما ـ وجماعة من الصحابة قد عارضوهما في أمر الخلافة ، واحتجّوا عليهما بما سمعوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره ، ولو كان في القرآن شيء يمسّ بزعامتهم لكان أحقّ بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، مع أنّه لم يقع ذلك بوجه كما يظهر من كتاب «الاحتجاج» المشتمل على احتجاج اثني عشر رجلاً على أبي بكر في أمر الخلافة ، ومن العلاّمة المجلسي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في «البحار ج8 ص79» حيث عقد باباً لاحتجاج عليّ (عليه السلام) في أمر الخلافة ، فانقدح أنّ الاحتمال الأوّل فاسد بجميع تقاديره .
وامّا الاحتمال الثاني : وهو وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى
(الصفحة255)
الاُولى ، لأنّ الإسلام قد انتشر في زمانه على نحو لم يكن في إمكانه وإمكان من هو أكبر منه أن ينقص من القرآن شيئاً .
ولأنّه لو كان محرّفاً للقرآن لكان في ذلك أوضح حجّة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان علناً ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج .
ولأنّه كان من الواجب على عليّ (عليه السلام) بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله الذي كان يقرأ به في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وزمان الشيخين ، ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثراً في مقصوده ، وأظهر لحجّته في الثائرين بدم عثمان ، ولاسيّما انّه قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبة له : «والله لو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الاماء لرددته ، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» هذا أمر عليّ (عليه السلام) في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً(1) .
وامّا الاحتمال الثالث : الذي مرجعه إلى دعوى وقوع التحريف بعد زمان
(1) والإنصاف : انّ هذه الجهة بنفسها تكفي لدفع احتمال التحريف الذي يدّعى القائل به وقوعه في زمن الخلفاء الثلاثة ، فإنّ إمضاء عليّ (عليه السلام) للقرآن الموجود في عصره ، وعدم التعرّض لتكميله على تقدير التحريف ، بل وعدم التفوّه بذلك دليل على كماله وعدم نقصه ، لأنّه (عليه السلام) لم يتقبّل أمر الخلافة الظاهرية لأجل حبّها وحبّ الرئاسة ، بل لأجل ترويج الدين ، وتأييد شريعة سيِّد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع هذا الفرض فلم يكن هناك موضوع أهمّ من ردّ القرآن إلى أصله لو كان محرّفاً ، مع كونه هو الثقل الأكبر ، والمعجزة الوحيدة الخالدة إلى يوم القيامة ، واقتداره على ذلك بعد استقرار أمره كان واضحاً ضروريّاً ، وعلى تقدير العدم فالمبارزة لأجله ـ حتّى مع البلوغ إلى مرتبة بذل الخلافة والاعراض عنها ـ كانت لائقة . فالإنصاف انّ هذا الدليل كاف لدفع أصل التحريف وإبطال القول به ، بشرط الخلوّ عن التعصّب ، وعدم الجمود على خلاف إدراك العقل .
(الصفحة256)
الخلفاء ، فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنّها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى انّ الحجّاج لمّا قام بنصرة بني اُميّة أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر والشام والحرمين والبصرة والكوفة ، وانّ القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف ، وامّا المصاحف الاُخرى فقد جمعها ولم يبق منها شيئاً ولا نسخة واحدة .
أقول : ولعلّ من هذه الجهة قول بعض القائلين بالتحريف في آية {ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر} في سورة القدر انّ أصلها كان هكذا : «ليلة القدر خير من ألف شهر يملكها بنو اُميّة وليس فيها ليلة القدر» مع أنّ ملاحظة مقدار آيات تلك السورة وقصور معنى هذه الآية الأصليّة ، بل عدم ارتباط موضوع ليلة القدر بأمر خلافتهم يكفي في القطع بخلاف ذلك ، وإن لم يكن هنا دليل على عدم التحريف ، فضلاً عن الأدلّة الكثيرة المتقدّمة الدالّة على ذلك بأقوى دلالة .
وكيف كان ، فالدليل على بطلان الاحتمال الثالث انّ الحجّاج كان واحداً من ولاة بني اُميّة ، وهو أقصر باعاً ، وأصغر قدراً ، وأقلّ وزناً من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أحقر من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف في إمكانه أن يغيّر ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ، ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها ، مع انتشار القرآن فيها ، وعلى تقديره ، وفرض وقوعه . فكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرّخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده ، مع ما فيه من الأهمّية ، وكثرة الدّواعي إلى نقله ، وكيف أغضى المسلمون عن هذه الجناية ـ التي لم يكن مثلها جناية ـ بعد انتهاء أمر الحجّاج ، وانقضاء عهده ، وزوال اقتداره وسلطنته .
(الصفحة257)
على أنّه كيف تمكّن من جمع نسخ المصاحف كلّها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخة واحدة في أقطار المسلمين المتباعدة ، وعلى تقدير تمكّنه من ذلك فهل تمكّن من إزالته من صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن؟ وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله .
مع أنّ القرآن لو كان في بعض آياته يمسّ بني اُميّة لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجّاج ، وهو أشدّ منه قدرة ، وأعظم نفوذاً ، ولاستدلّ به أصحاب عليّ (عليه السلام)على معاوية ، كما احتجّوا عليه بما حفظه التاريخ وكتب الحديث والكلام .
أضف إلى ذلك : التحريف بالزيادة قد قام الإجماع على عدمه ، وانّ موضوع الخلاف هو التحريف بالنقيصة ، فكيف ادّعى القائل وقوع الزيادة منه ، فهذا الاحتمال أيضاً فاسد ، وبفساده يتمّ الأمر السابع الذي كان هو الدليل العقلي على عدم التحريف ، فانقدح انّ الاعتبار إنّما يساعد على عدم التحريف لا ثبوته ، كما ادّعاه صاحب الكفاية (قدس سره) .
وبما قدّمنا من الاُمور والأدلّة السبعة على عدم التحريف; يتّضح أنّ من يدّعي التحريف مع كونه مخالفاً للنقل يضادّ بداهة العقل أيضاً ، وانّ دعوى التحريف لا تكاد تصدر إلاّ ممّن اغترّ ببعض ما يدلّ عليه ، ممّا سيجيء الجواب الوافي عنه ـ إن شاء الله تعالى ـ وممّن خدع من طريق الجهات السياسيّة المشبوهة التي لا ترى الارتقاء والتسلّط لنفسها إلاّ بتضعيف الدين ، وإيجاد الفرقة بين المسلمين ، وتنقيص الكتاب المبين الذي كان الغرض من تنزيله هداية الناس إلى يوم الدين ، وإخراجهم من ظلمات الريب والشكّ إلى عالم النور واليقين .
وربما كان المدّعي للتحريف ـ ممّن له التفات إلى هذه الجهات ـ وكان الغرض
(الصفحة258)
من دعواه ما ذكرنا من إيجاد الثلمة في الإسلام والمسلمين ـ نعوذ بالله من كلا الأمرين ـ ونسأل منه التوفيق للتمسّك بالثقلين ، وأن لا نتعصّى من حكم العقل في كلّ ما يقع في البين .
وحيث انّه يمكن أن يتخيّل الباحث الطالب للحقيقة صحّة ما يقول به القائل بالتحريف من الشبهة ، أو يقع في الارتياب بعض الطلبة ، فلابدّ لنا من التعرّض للجميع والجواب الصحيح ، فنقول : الشبهات التي تشبّث بها القائلون بالتحريف متعدّدة :
(الصفحة259)
شبهات القائلين بالتحريف
(الصفحة260)
شبهة كلّ ما وقع في التوراة والإنجيل من التحريف يقع في القرآن . شبهة وقوع التحريف فيما يتصدّى غير المعصوم إلى جمعه . شبهة اختلاف مصحف عليّ (عليه السلام) مع غيره من المصاحف . شبهة دعوى التواتر في القول بتحريف القرآن . شبهة عدم ارتباط الآيات بعضها ببعض .
|