(الصفحة301)
الشبهة الثالثة
إنّ للقائل بالتحريف أن يورد هذه الشبهة أيضاً ، وهي: أنّ عليّاً (عليه السلام) كان له مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به القوم فلم يقبلوا منه ، وقد صحّ اشتمال قرآنه على زيادات ليست في القرآن الموجود ، ولأجله لم يقع مورداً لقبول القوم ، ويترتّب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذا هو التحريف الذي يدّعيه القائل به ، والروايات الواردة في هذا الباب كثيرة ، منها:
1 ـ ما في رواية احتجاج عليّ (عليه السلام) على جماعة من المهاجرين والأنصار من أنّه قال: «يا طلحة انّ كلّ آية أنزلها الله تعالى على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) عندي بإملاء رسول الله وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزل الله تعالى على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلّ حلال أو حرام ، أو حدّ أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة ، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخطّ يدي ، حتّى أرش الخدش .
2 ـ ما في احتجاجه (عليه السلام) على الزنديق من أنّه أتى بالكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ لم يسقط منه حرف ألف ولا لام فلم يقبلوا ذلك .
3 ـ ما رواه في الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء .
(الصفحة302)
4 ـ ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن جابر ، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادّعى أحد من الناس انّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب ، والأئمّة من بعده (عليهم السلام) .
5 ـ قوله (عليه السلام) في خبر عبد خير: أقسمت أن لا أدع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللّوحين ، فما وضعت ردائي حتّى جمعت القرآن .
6 ـ قوله (عليه السلام) في خبر ابن الفريس: رأيت كتاب الله يُزاد فيه فحدّثت نفسي أن لا ألبس ردائي للصلاة حتّى أجمعه .
7 ـ قوله (عليه السلام) في رواية ابن شهرآشوب بعدما جمع القرآن وجاء إليهم ، ووضع الكتاب بينهم انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّي مخلف فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وهذا الكتاب وأنا العترة» .
8 ـ غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب الدالّة على اختصاصه (عليه السلام) بمصحف مخصوص كان مغايراً للمصاحف الاُخرى ، وحيث إنّ عليّاً (عليه السلام) مع الحقّ والحقّ معه ، فاللاّزم الالتزام بوقوع التحريف في القرآن الموجود لا محالة وهو المدّعى .
والجواب:
إنّ مغايرة مصحفه لتلك المصاحف من حيث ترتيب السور فالظاهر انّها مورد للاطمئنان ، لو لم تكن مقطوعاً بها .
وقد ذكر السيوطي في «الاتقان» انّ ترتيبه على نحو النزول كان أوّله اقرأ ثمّ المدّثر ، ثمّ المزّمل ، ثمّ تبّت ، ثمّ الكوثر ، وهكذا إلى آخر المكّي والمدني .
وحكي عن ابن سيرين في جمعه (عليه السلام) انّه قال: بلغني انّه كتبه على تنزيله ولو
(الصفحة303)
اُصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير ، والمحكيّ عن فهرست ابن النديم ترتيب آخر غير ترتيب النزول .
وبالجملة: فالمغايرة من حيث ترتيب السور ممّا لا يقدح أصلاً ، لعدم ثبوت كون ترتيب السور توقيفيّاً أوّلاً ، وعدم كون المخالفة في الترتيب ـ على فرض التوفيقيّة ـ بقادحة ثانياً .
امّا عدم ثبوت كون ترتيب السور توفيقيّاً فهو الذي ذهب إليه جمهورهم وزعموا أنّ الموجود إنّما هو باجتهاد من الصحابة ، وإن خالف فيه بعضهم كالزركشي والكرماني وبعض آخر .
قال البغوي في شرح السنّة على ما حكى عنه في الاتقان: «الصحابة جمعوا بين الدّفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئاً خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير ان قدّموا شئياً أو أخّروه ، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبرئيل إيّاه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كلّ آية انّ هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا ، فثبت أنّ سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه ، فإنّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملةً إلى السماء الدُّنيا ثمّ كان ينزله مفرّقاً عند الحاجة ، وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة» .
وعن ابن الحصّار انّه قال: «ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا ، وقد حصل
(الصفحة304)
اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف» .
وبالجملة فهذه مسألة خلافية ، وإن كان التعبير بـ «الكتاب» الظاهر في النظم والترتيب من جميع الجهات ، في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده ، وانقسام السور بالأقسام الأربعة: الطوال ، والمئون ، والمثاني ، والمفصّل ، في عصره أيضاً كما عرفت سابقاً ، وبعض الاُمور الاُخر كالتعبير عن السورة الاُولى بـ «فاتحة الكتاب» ربما يؤيّد كون الترتيب أيضاً بتوقيف من الرسول ، وبأمر من جبرئيل ، ولعلّه لذلك لم يكتب ابن مسعود ـ على ما نسب إليه ـ في مصحفه المعوّذتين وكان يقول: إنّهما ليستا من القرآن وإنّما نزل بهما جبرئيل تعويذاً للحسنين (عليهما السلام) ، وذلك لما رآه من وقوعهما في آخر القرآن فزعم انّهما لا تكونان منه ، وإن كان بطلان هذا الزعم لا يحتاج إلى إقامة الدليل بعد افتقار ثبوت القرآن إلى التواتر ووجوده في السورتين أيضاً ـ كما مرّ سابقاًـ .
وأمّا عدم كون المخالفة في الترتيب بقادحة فواضح ، ضرورة أنّ النزاع ليس في الاختلاف في ترتيب السور بوجه ، بل في كون القرآن الموجود ناقصاً عن مصحف عليّ (عليه السلام) في مقدار ممّا نزل بعنوان القرآن .
وامّا ترتيب الآيات فقد عرفت انّه كان بتوقيف من الرسول وبأمر من جبرئيل ويؤيّده التعبير بـ «السورة» التي معناها مجموعة آيات متعدّدة مترتّبة مشتملة على غرض واحد أو أغراض متعدّدة مرتبطة ، في نفس الكتاب العزيز في مواضع متكثّرة سيّما الآيات الواقعة في مقام التحدّي ، وكذا في لسان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأحكام المترتّبة على السورة كوجوب قراءتها في الصلاة الفريضة
(الصفحة305)
بعد حكاية الفاتحة أو استحبابها ومثل ذلك لا يلائم مع تفرّق الآيات وعدم وضوح كون كلّ واحدة منها جزء من أجزاء السورة التي هي جزء لها كما لا يخفى .
نعم ، ذكر بعض الأعلام في تفسيره المعروف بـ «الميزان»: انّ وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرّقة موقعها الذي هي فيه الآن ، لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد ، وانّ رواية عثمان بن أبي العاص عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: (انّ الله يأمر بالعدل والإحسان . . .) لا تدلّ على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة .
واستدلّ على ذلك بالروايات المستفيضة الواردة من طرق الشيعة وأهل السنّة انّ النبيّ والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والبزاز من طريق سعيد بن جبير ـ على ما في «الإتقان» .
عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ، وزاد البزاز: فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد خُتمت واستقبلت أو ابتدأت سورة اُخرى ، وغير ذلك من الروايات الواردة من طرقهم وطرقنا عن الباقر (عليه السلام) وهي صريحة في دلالتها على أنّ الآيات كانت مرتّبة عند النبيّ بحسب ترتيب النزول فكانت المكّيات في السور المكّية والمدنيّات في سور مدنيّة ، إلاّ أن تفرض سورة نزل بعضها بمكّة وبعضها بالمدينة ، ولا يتحقّق هذا الفرض إلاّ في سورة واحدة ، ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستنداً إلى اجتهاد الصحابة» انتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه أدام الله أيّامه .
(الصفحة306)
ويرد عليه: انّ رواية عثمان بن أبي العاص وإن كان بظاهرها لا يدلّ على العموم والشمول إلاّ أنّه يستفاد منها ذلك بعد ملاحظة انّه لا خصوصيّة لموردها خصوصاً بعدما ذكرنا من الجهات التي ترجع إلى كون الآيات مرتّبة في عهده وبيده (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والروايات الدالّة على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة لا تنافي صدور الأمر أحياناً بوضع آية كذا في السورة الفلانية فإنّ كون العلم بتمام السورة متوقّفاً على نزول البسملة لا دلالة فيه على عدم إمكان وضع آية فيها بأمر من جبرئيل أصلاً .
ويؤيّده أنّه لو كان ترتيب النزول معلوماً عند الصحابة ـ كما هو المفروض ـ لكان الاعتبار يساعد على كون الترتيب بهذه الكيفيّة ولا مجال ـ على هذا التقديرـ لإدخال الآية المدنيّة في السور المكّية أو بالعكس بمجرّد الظنّ بالتلائم والتناسب بين المطالب فإنّ مجرّد ذلك لا يقاوم الترتيب وتشكيل السور من الآيات التي هي جزء لها لم يكن مستنداً إلى اجتهاد واستنباط ونظر وتفكّر أصلاً .
وبالجملة: ما تقدّم من الأدلّة المثبتة لكون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ وبيده (صلى الله عليه وآله وسلم) ومرتّباً مؤلّفاً في زمنه إن لم يكن مثبتاً لكون ترتيب السور أيضاً بأمره ونظره فلا أقلّ من إثباتها لكون ترتيب الآيات وتشكيل السور كذلك ضرورة أنّ له المدخلية الكاملة في ترتّب غرض الكتاب وحصول الغاية المقصودة لأنّ المطالب المتفرّقة المتشتّتة لا تفي بتحقّق الغرض ، فالدليل على ترتيب الآيات هو الدليل المتقدّم على تحقّق الجمع في عهد النبيّ وبيده (صلى الله عليه وآله وسلم) .
هذا كلّه فيما يتعلّق بمغايرة مصحف عليّ (عليه السلام) مع سائر المصاحف من جهة الترتيب بين السور ، نعم لا ينبغي الارتياب في عدم اختصاص المغايرة بهذا المقدار
(الصفحة307)
بل الظاهر ثبوت المغايرة أيضاً من حيث اشتماله على إضافات وزوائد لا تكون فيها أصلاً .
لكنّ الظاهر أنّ تلك الإضافات والزوائد لا تكون جزء للقرآن ، وإطلاق «التنزيل» عليها لا يدلّ على كونها من القرآن لعدم اختصاص هذا الوصف بالقرآن وكان المعمول نزول بعض الاُمور بعنوان التوضيح والتفسير للقرآن وكان بعض الكتّاب يكتبه مع القرآن من دون علامة ، لكونهم آمنين من الالتباس ، ولأجله حكي أنّ ابن مسعود قرأ وأثبت في مصحفه: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم في موسم الحجّ» .
وحكي عن ابن الجزري أنّه قال: ربما يدخلون التفسير في القراءات ، إيضاحاً وبياناً لأنّهم محقّقون لما تلقّوه عن النبيّ قرآناً فهم آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه .
وحينئذ فالظاهر أنّ الإضافات الواقعة في مصحف عليّ (عليه السلام) كانت من هذا القبيل وانّ امتيازه إنّما هو من جهة اشتماله على جميع ما نزل بهذا العنوان من دون أن يشذّ عنه شيء ، وهذا بخلاف سائر المصاحف ، ويؤيّده التأمّل في بعض الروايات المتقدّمة الواردة في هذا الشأن الدالّ على أنّ التنزيل والتأويل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ كلّها كان عند عليّ (عليه السلام) فأين الدلالة على اشتماله على مقدار ممّا نزل بعنوان القرآن ولا يكون موجوداً في المصحف الفعلي كما هو واضح .
(الصفحة308)
الشبهة الرابعة
الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب وادّعي تواترها ، وهي وإن كان أكثرها ضعيفاً من حيث السند لأجل اشتماله على أحمد بن محمّد السيّاري الذي اتّفق على فساد مذهبه واتّصافه بالوضع والجعل ، أو على عليّ بن أحمد الكوفي الذي حكى عن علماء الرجال في حقّه انّه فاسد المذهب وانّه كذّاب ، إلاّ أنّ دعوى التواتر الإجمالي فيها الذي مرجعه إلى العلم الإجمالي بصدور بعضها لا تنبغي المناقشة فيها ، ولكن لابدّ من ملاحظتها ليظهر حالها من حيث الدلالة على القول بالتحريف وانطباقها على مدّعى القائل به ، فنقول: هذه الروايات على طوائف مختلفة:
الطائفة الاُولى:
ما تدلّ على وقوع التحريف بعنوانه أو التغيير والتبديل وما يشابهها من العناوين وهي كثيرة:
1 ـ ما رواه الشيخ الكشّي في أوّل رجاله ـ على ما حُكي عنه ـ عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير قالا: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الرازي قال: حدّثني عليّ بن حبيب المدائني ، عن عليّ بن سويد السائي قال: كتب إليّ أبو الحسن الأوّل (عليه السلام) وهو في السجن: وأمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذنّ معالم دينك عن
(الصفحة309)
غير شيعتنا فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ، انّهم ائتمنوا على كتاب الله عزّوجلّ فحرّفوه وبدّلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة .
2 ـ ما عن عليّ بن إبراهيم القمّي ، عن أبيه ، عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الجارود ، عن عمران بن هيثم ، عن مالك بن حمزة ، عن أبي ذرّ قال: لمّا نزلت هذه الآية (يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ترد عليَّ اُمّتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الاُمّة فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ، وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه فأقول: ردّوا إلى النار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عَليّ راية فرعون هذه الاُمّة فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه ، وأمّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه ، فأقول لهم: ردّوا إلى النار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عليَّ راية مع سامريّ هذه الاُمّة فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فعصيناه وتركناه ، وأمّا الأصغر فخذلناه وضيّعناه وصنعنا به كلّ قبيح ، فأقول: ردّوا إلى النار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عَليّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج وآخرهم فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فمزّقناه وبرئنا منه ، وأمّا الأصغر فقاتلناه وقتلناه ، فأقول لهم: ردّوا إلى النار ظماء مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عليَّ راية مع إمام المتّقين وسيِّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين ووصيّ
(الصفحة310)
رسول ربّ العالمين فأقول لهم: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فاتّبعناه ، وأمّا الأصغر فأحببناه وواليناه وأردناه ونصرناه حتّى اُهريقت فيهم دماؤنا ، فأقول لهم: ردّوا إلى الجنّة روى مرويّين مبيضّة وجوهكم ، ثمّ تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يوم تبيضّ وجوه) الآية .
3 ـ ما رواه سعد بن عبدالله القمّي في محكي بصائره على ما نقله عنه الشيخ حسن بن سليمان الحلّي في محكي منتخبه ، عن القاسم بن محمّد الاصفهاني ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن يحيى بن آدم ، عن شريك بن عبدالله ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى فقال: يا أيّها الناس انّي تارك فيكم الثقلين امّا إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا كتاب الله وعترتي ، والكعبة البيت الحرام ، ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام): أمّا كتاب الله فحرّفوا وأمّا الكعبة فهدّموا وامّا العترة فقتلوا ، وكلّ ودائع الله قد نبذوا ، ومنها قد تبرّؤوا .
4 ـ ما عن الصدوق في الخصال بإسناده عن جابر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف والمسجد والعترة ، يقول المصحف: ياربّ حرّفوني ومزّقوني ، ويقول المسجد ، ياربّ عطّلوني وضيّعوني ، وتقول العترة: ياربّ قتلونا وطردونا وشرّدونا .
5 ـ ما رواه الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه في محكي «كامل الزيارة» ، عن محمّد بن جعفر الرزّاز ، عن الحسين بن أبي الخطّاب ، عن ابن أبي نجران ، عن يزيدبن إسحاق ، عن الحسن بن عطيّة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا دخلت الحائر فقل إلى قوله (عليه السلام): اللّهم العن الذين بدّلوا دينك وكتابك وغيّروا سنّة نبيّك .
6 ـ ما رواه السيّد ابن طاووس في «مهج الدعوات» بإسناده إلى سعد بن
(الصفحة311)
عبدالله في كتاب فضل الدّعاء عن أبي جعفر محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن الرضا (عليه السلام) ، وبكير بن صالح ، عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن الرضا (عليه السلام) قالا: دخلنا عليه وهو في سجدة الشكر فأطال السجود ثمّ رفع رأسه فقلنا له: أطلت السجود؟ فقال: من دعا في سجدة الشكر بهذا الدعاء كان كالرّامي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر قالا: قلنا: فنكتبه؟ قال: اكتبا إذا أنت سجدت سجدة الشكر فقل: اللّهم العن الذين بدّلا دينك إلى قوله (عليه السلام): وحرّفا كتابك .
7 ـ ما رواه ابن شهرآشوب في محكي «المناقب» بإسناده إلى عبدالله بن محمّدبن سليمان بن عبدالله بن الحسن ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عبدالله في خطبة أبي عبدالله (عليه السلام) يوم عاشوراء وفيها: «فإنّما أنتم من طواغيت الاُمّة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الاثام ومحرّفو الكتاب . . . الخطبة» .
قال المحدّث المعاصر ـ بعد نقل هذه الرواية ـ: «ونسبته (عليه السلام) التحريف إليهم مع كونه من فعل أسلافهم كنسبة قتل الأنبياء إلى اليهود المعاصرين لجدّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن العظيم لرضاهم جميعاً بما فعلوه واقتفائهم بآثارهم ، واقتدائهم بسيرتهم» .
8 ـ ما رواه السيّد ابن طاووس في «مصباح الزائر» ومحمّد بن المشهدي في مزاره ـ كما في البحار ـ عن الأئمّة (عليهم السلام) في زيارة جامعة طويلة معروفة ، وفيها في ذكر ما حدث بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «وعقّت سلمانها وطردت مقدادها ونفت جندبها وفتقت بطن عمّارها ، وحرّفت القرآن وبدّلت الأحكام» .
مناقشة الطائفة الاُولى:
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة: انّ المراد بالتحريف وما يشابهه من العناوين المذكورة في هذه الطائفة ليس هو التحريف بالمعنى المتنازع فيه وهو
(الصفحة312)
تنقيص الكتاب وحذف بعض آياته وكلماته بل المراد به ـ كما عرفت في أوّل البحث في معاني التحريف وإطلاقاته ـ هو حمل الآيات على غير معانيها وإنكار فضائل أهل البيت ونصب العداوة لهم وقتالهم وهضم حقوقهم .
والدليل على ذلك ـ مضافاً إلى ظهور الروايات بنفسها في أنّ المراد بالتحريف غير ما يدّعيه القائل به ، وإلى أنّ عدم ظهوره في ذلك يكفي لعدم صحّة الاستدلال لقيام الاحتمال المنافي له ـ دلالة كثير من هذه الروايات على إسناد التحريف إلى جميع الناس الذين لم يكونوا تابعين للعترة وقائلين بإمامتهم وولايتهم ، مع أنّ التحريف الذي هو محلّ البحث إنّما وقع ـ على تقدير وقوعه ـ في زمن الخلفاء قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) لما مرّ سابقاً من أنّ القائل بالتحريف لا يدّعي وقوعه بعده إلاّ الشاذ منهم ، وحينئذ يقع الكلام في أنّ التحريف الواقع في زمان مخصوص من أشخاص معدودين كيف يصحّ إسناده إلى جميع الناس غير الشيعة ، والحكم بأنّه إذا تعدّيت الشيعة لأخذ معالم الدين أخذت دينك من المحرّفين الذين خانوا الله ورسوله ، وكيف يصحّ الخطاب إليهم ـ كما في خطبته يوم عاشوراء ـ بأنّكم محرّفو الكتاب ، وكيف سكتوا في مقابل هذا الكلام ولم يعترضوا عليه (عليه السلام) .
وما ذكره المحدّث المعاصر وجهاً لصحّة الاسناد من رضاهم جميعاً بما فعله أسلافهم واقتفائهم لآثارهم واقتدائهم بسيرتهم واضح الفساد ضرورة أنّه هل يرضى مسلم معتقد بأساس الإسلام وناظر بالكتاب العزيز بعنوان الوحي الإلهي والمعجزة الوحيدة الخالدة للنبوّة والرسالة بأن يقع فيه التحريف؟! وهل يقتدي بسيرة المحرّف ويقتفي أثره في هذه الجهة ، ومجرّد الاعتقاد بخلافة المحرّف لا يوجب الرضا بعمله والخضوع في مقابل فعله ، بل وهل يجتمع الاعتقاد بالخلافة مع
(الصفحة313)
الاعتقاد بأنّه المحرّف والمغيّر ، بل وهل يرضى القائل بخلافته بإسناد التحريف ونسبته إليه فهذه كتبهم بين أيدينا تنادي بأعلى الصوت وتصرّح بأعلى مراتب الصراحة بكذب هذه النسبة ونفي وقوع التحريف منه ومن غيره ، ومع ذلك هل يصحّ إسناد التحريف إلى جميع القائلين بخلافته مستنداً إلى رضاهم بذلك .
سلّمنا وقوع التحريف منه فهل تصحّ نسبة عمل قبيح صادر من إمام قوم إلى جميع أفراد ذلك القوم مع عدم اطّلاعهم على وقوعه منه وعدم ارتكابهم إيّاه وعدم رضاهم بذلك ، ولعمري انّ هذا من الوضوح بمكان ، فلا محيص عن حمل التحريف الواقع في هذه الروايات المسندة إلى غير الشيعة على ما ذكرنا من حمل الآيات على غير معانيها ، وإنكار فضل أهل البيت وعدم الالتزام بإمامتهم والاقتداء بسيرتهم فلا مساس لهذه الطائفة من الروايات بمرام المستدلّ أصلاً .
الطائفة الثانية:
الروايات التي تدلّ على أنّه قد ذكر في بعض آيات الكتاب اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة المعصومين من ولده (عليه السلام) وهذه الطائفة أيضاً كثيرة:
1 ـ ما رواه في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: ولاية عليّ بن أبي طالب مكتوب في جميع صحف الأنبياء ، ولن يبعث الله رسولاً إلاّ بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وولاية وصيّه (عليه السلام) .
2 ـ رواية سيف بن عميرة عن غير واحد ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه قال: لو ترك القرآن كما اُنزل لألفينا فيه مسمّين كما سمّي من كان قبلنا .
3 ـ ما رواه في الكافي أيضاً عن عليّ بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمّد البرقي ، عن أبيه ، عن محمّد بن سنان ، عن عمّار بن مروان ، عن منخل ، عن جابر ، عن أبي
(الصفحة314)
جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا: «وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا في عليّ فأتوا بسورة من مثله» .
4 ـ ما رواه فيه أيضاً عن أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم الحسني ، عن محمّدبن الفضل ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)هكذا: «فبدّل الذين ظلموا آل محمّد حقّهم قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمّد حقّهم رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون» .
5 ـ ما رواه فيه أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد وعليّ بن إبراهيم ، عن أبيه جميعاً ، عن ابن محبوب ، عن ابن حمزة ، عن أبي يحيى ، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفي عدوّنا وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام .
6 ـ رواية أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا وربع في عدوّنا وربع سنن وأمثال وربع فرائض وأحكام .
ومنها غير ذلك من الروايات الواردة بهذا المضمون .
مناقشة الطائفة الثانية
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة ـ مضافاً إلى عدم دلالة بعضها على كون الاسم مذكوراً في الكتاب بالصراحة فإنّ اشتمال جميع صحف الأنبياء ومنها القرآن على ولاية أمير المؤمنين ـ عليه أفضل صلوات المصلّين ـ كما في الرواية الاُولى لا دلالة فيه على ذكر الاسم والتعرّض له صريحاً وهو غير خفيّ ، كما أنّ نزول القرآن ثلثه أو ربعه في الأئمّة (عليهم السلام) ليس معناه التعرّض لأساميهم المقدّسة والتصريح بعناوينهم الشريفة ، بل المراد هو الاشتمال على فضائلهم ومدائحهم
(الصفحة315)
بالعناوين التي هم أظهر مصاديقها وأكمل أفرادها ، كما أنّ اشتماله على قدح أعدائهم لا يرجع إلى ذكرهم بأسمائهم بل إلى ذكرهم بالعناوين التي لا تنطبق إلاّ عليهم ولا يصدق على من سواهم ـ كما هو ظاهر ـ انّ الظاهر أنّ المراد بالتنزيل والنزول ليس هو التنزيل بعنوان القرآنية بل بعنوان التفسير والتوضيح له لما مرّ في ذكر مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من أنّ اشتماله على جميع ما نزل ، لا دلالة فيه على كونه قرآناً بأجمعه بل كان امتيازه من بين سائر المصاحف لأجل اشتماله على جميع ما نزل بعنوان التفسير والتأويل من دون أن يشذّ عنه شيء بخلاف سائر المصاحف .
وعليه فالظاهر أنّ اسمه المبارك والأسامي الشريفة للأئمّة من ولده ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ كان مذكوراً في مقام بيان المراد والشرح والتوضيح لا بعنوان القرآنية .
ويؤيّده ـ بل يدلّ عليه ـ انّه لو كان اسمه مصرّحاً به في القرآن ، ولا محالة يكون التصريح به مقروناً بمدحه والتعرّض لولايته وخلافته لكان اللاّزم الاستدلال به في مقام الاحتجاج على خلافته وولايته من دون فرق بين أن يكون الاستدلال صادراً من نفسه الشريفة أو من غيره ممّن يتولاّه ويعتقد بولايته ، مع أنّ الاحتجاجات مضبوطة وليس في شيء منها الاحتجاج بالكتاب بهذا النحو المشتمل على وقوع التصريح باسمه وخلافته كما يظهر لمن راجعها .
مضافاً إلى أنّ حديث «الغدير» وقصّته الشريفة صريح في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما نصب عليّاً (عليه السلام) بأمر الله بتلك الكيفيّة المعروفة المشتملة على أنّ النبيّ إنّما كان له خوف من ذلك ووعده الله أن يعصمه من الناس وأكّده بأنّه إن لم يفعل ما بلّغ رسالته ، ولأجله جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس في اليوم المعروف في وسط الطريق
(الصفحة316)
لأجل إظهار الولاية وتبليغ الخلافة وتعيين الوصاية ، ولو كان اسم عليّ (عليه السلام) مذكوراً في القرآن ولا محالة كان ذلك بعنوان الولاية والإمارة لما كان حاجة إلى أصل النّصب ولما كان وجه لخوف الرسول ، ولما كان لمكث الناس وجمعهم في وسط الطريق مع كثرتهم جدّاً أثر أصلاً .
كلّ ذلك دليل قطعي على عدم كون موضوع الولاية معلوماً عند المسلمين وعدم كون إمارة عليّ (عليه السلام) معروفة لديهم لأجل عدم اشتمال القرآن على ذلك ـ صريحاًـ وعدم التعرّض لاسمه ـ قطعاً ـ خصوصاً مع ملاحظة أنّ قصّة الغدير إنّما وقعت في أواخر عمر النبيّ في الرجوع عن حجّة الوداع وفي ذلك الزمان قد نزلت عامّة القرآن وشاع بين المسلمين .
وبالجملة: فنفس حديث الغدير ـ الذي لا مجال للخدشة فيه وهو المسلّم عند القائل بالتحريف أيضاً ـ دليل قطعي على عدم اشتمال القرآن على التصريح بالولاية لعليّ (عليه السلام) بحيث لم يكن معه حاجة إلى النصب كما هو واضح .
هذا مضافاً إلى دلالة الروايات المتواترة على وجوب عرض الروايات المنسوبة إليهم (عليهم السلام) المنقولة عنهم ، على الكتاب والسنّة وانّ ما خالف الكتاب يجب طرحه وانّهم لم يقولوا به ولم يصدر عنهم (عليهم السلام) ، ومن الواضح:
أوّلاً: أنّ المراد بالكتاب الذي يجب عرض الروايات عليه ليس هو الكتاب الذي لم يكن بأيدي الناس بل كان عند أهله ـ على فرض اختلافه مع القرآن الذي يكون بأيدي الناس كما يقول به القائل بالتحريف ـ ضرورة أنّ المأمور بالعرض على الكتاب هو عموم الناس والكتاب الذي أمروا بالعرض عليه هو الكتاب الذي يكون بأيديهم .
(الصفحة317)
ثانياً: انّ أخبار العرض على الكتاب لا يختصّ موردها بخصوص الروايات الواردة في الأحكام الفرعية العمليّة لأنّه ـ مضافاً إلى عدم قرينته على الاختصاص ـ يدلّ عليه أنّ القرآن لا دلالة له على كثير من هذه الأحكام فكيف يكون الغرض من هذه الأخبار ـ على كثرتها ـ عرض خصوص الروايات الواردة في الفروع بل الظاهر العموم ، وحينئذ نقول:
إنّ هذه الطائفة من الروايات الدالّة على اشتمال القرآن على ذكر أسماء الأئمّة (عليهم السلام) مخالفة للكتاب فيجب طرحها وضربها على الجدار .
مع أنّ عمدتها هي ما رواه في الكافي عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) وفيها قرينة واضحة على كذبها وعدم صدقها فإنّ ذكر عليّ (عليه السلام) في الآية التي كانت بصدد إثبات النبوّة وفي مقام التحدّي على الإتيان بمثل القرآن لا مناسبة له أصلاً ، ضرورة أنّ الغرض منها إثبات أصل النبوّة والسفارة وكون القرآن نازلاً من عند الله غير قابل للريب فيه وانّ البشر عاجز عن الإتيان بمثله فأيّ تناسب بين هذا الغرض وبين ذكر عليّ (عليه السلام) .
وبعبارة اُخرى: الريب الذي كانوا فيه هو الريب بالإضافة إلى جميع القرآن وتخيّل انّه غير مرتبط بالوحي الإلهي لا الريب في ما نزل في عليّ ، والتحدّي المناسب إنّما هو التحدّي على الإتيان بما يماثل القرآن ولا ملائمة بين الريب فيما نزل في عليّ وبين الإتيان بسورة مثل القرآن كما هو واضح .
ومع قطع النظر عن جميع الأجوبة المذكورة وتسليم ما استفاد المستدلّ من هذه الطائفة نقول: إنّها معارضة برواية صحيحة صريحة في خلافها وهي ما رواه في الكافي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: (وأطيعوا الله
(الصفحة318)
وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) قال: فقال: نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته في كتاب الله؟ قال (عليه السلام): فقولوا لهم: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسّر لهم ذلك . . . الحديث .
فإنّه يستفاد منه مفروغيّة عدم اشتمال القرآن على اسم عليّ والأئمّة من ولده (عليهم السلام) بين السائل والإمام وكان غرض السائل استفهام العلّة والسؤال عن نكتة عدم الاشتمال وعدم التسمية ، وعليه فهذه الرواية حاكمة على الروايات المتقدّمة ومبيّنة للمراد منها وانّ الغرض من الاشتمال ليس هو التصريح بالاسم بعنوان القرآنية بل بعنوان التفسير والتأويل ، ولو أبيت عن الحكومة وقلت بالمعارضة يكفي ذلك لسقوط الاستدلال وأن لا يكون للتمسّك بهذه الطائفة مجال ، فهل مع ذلك يبقى الشكّ والإشكال .
الطائفة الثالثة:
الروايات الدالّة على ذكر أسامي أشخاص اُخر في القرآن وانّ المحرّفين حذفوها وأبقوا من بينها اسم أبي لهب:
1 ـ ما في محكيّ غيبة النعماني عن أحمد بن هوذة عن النهاوندي ، عن عبدالله بن حمّاد ، عن صباح المزني ، عن الحرث بن المغيرة ، عن أصبغ بن نباتة قال: سمعت عليّاً (عليه السلام) يقول: كأنّي بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة يعلّمون الناس القرآن كما اُنزل ، قلت: يا أمير المؤمنين أوليس هو كما اُنزل؟ فقال: لا ، محي منه سبعون من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم وما ترك أبو لهب إلاّ للازراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه عمّه .
(الصفحة319)
2 ـ ما رواه الشيخ أبو عمر والكشّي في محكيّ راله في ترجمة أبي الخطّاب ، عن أبي خلف بن حمّاد ، عن أبي محمّد الحسن بن طلحة ، عن ابن فضّال ، عن يونس بن يعقوب ، عن بريد العجلي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: أنزل الله في القرآن سبعة بأسمائهم فمحت قريش سبعة وتركوا أبا لهب .
3 ـ ما رواه في الكافي عن علي بن محمد ، عن بعض أصحابه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: دفع إليّ أبو الحسن (عليه السلام) مصحفاً وقال: لا تنظر فيه ففتحته وقرأت فيه (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) فوجدت فيها اسم سبعين من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم قال: فبعث إليّ أبو الحسن (عليه السلام): ابعث إليّ بالمصحف .
مناقشة الطائفة الثالثة:
والجواب عن هذه الطائفة ـ مضافاً إلى عدم تماميّة شيء منها من حيث السند لأجل الضعف أو الإرسال ، وإلى ثبوت المعارضة والمنافاة بين أنفسها ، ولا يدفعها ما ذكره المحدّث المعاصر من عدم حجّية مفهوم العدد ، ولعلّ الاقتصار على السبعة في رواية بريد لعدم تحمّل السامع أزيد منها فانّهم كانوا يكلّمون الناس على قدر عقولهم لوضوح بطلان الدفع ، وإلى مخالفتها للكتاب فيشملها الأخبار الدالّة على العرض على الكتاب وانّ ما خالفه باطل أو زخرف بالتقريب المتقدّم في الطائفة السابقة ـ انّ ملاحظة مضامينها تشهد بكذبها ضرورة انّ ترك أبي لهب لا مساس له بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ مجرّد العمومة ما لم يكن اشتراك في التوحيد والنبوّة لا يترتّب عليها شيء من التوقير والحرمة مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى مشعرة بأنّه كان المناسب محو اسم أبي لهب أيضاً ولا يتوهّم في الإمام (عليه السلام) مثل ذلك بوجه . والرواية الثانية صدرها مناقض لذيلها لأنّ صدرها يدلّ على أنّه أنزل الله في القرآن سبعة
(الصفحة320)
بأسمائهم والذيل يدلّ على محو السبعة جميعاً وترك أبي لهب فهو يدلّ على كون المجموع ثمانية وليس قوله (عليه السلام): وتركوا أبا لهب ، بمنزلة الاستثناء عن محو السبعة كما لا يخفى ، والرواية الثالثة لا دلالة فيها على كون اسم سبعين من قريش بعنوان الجزئية للقرآن مع أنّ تصريح الراوي بمخالفة نهي الإمام عن النظر فيه يوجب سقوط روايته عن الاعتماد ، كما أنّ الظاهر من الرواية انّ دفع الإمام المصحف إليه إنّما هو لأجل أن يرى فيه ما رأى ولا يجتمع ذلك مع النهي عن النظر فتدبّر ، وكيف كان فالاعتماد على هذه الطائفة مع ملاحظة ما ذكرنا لا يتحقّق من الطالب المنصف البعيد عن التعصّب والتابع للدليل والبرهان .
الطائفة الرابعة:
الروايات الدالّة على أنّه قد غيّر بعض كلمات الكتاب العزيز بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)ووضع مكانه بعض آخر ففي الحقيقة تدلّ على وقوع الزيادة والنقيصة معاً; الزيادة من جهة الوضع والنقيصة من ناحية الحذف .
1 ـ ما رواه عليّ بن إبراهيم القمّي في محكيّ تفسيره عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين .
2 ـ ما عن العيّاشي عن هشام بن سالم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله تعالى: (انّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران) قال: هو آل إبراهيم وآل محمّد على العالمين فوضعوا اسماً مكان اسم .
3 ـ ما رواه حريز عن أبي عبدالله (عليه السلام) انّه قرأ: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ضعفاء ، وما كانوا أذلّة ورسول الله فيهم عليه وعلى آله الصلاة والسلام .
|