(الصفحة321)
4 ـ ما رواه محمد بن جمهور عن بعض أصحابنا قال: تلوت بين يديّ أبي عبدالله (عليه السلام) هذه الآية: (ليس لك من الأمر شيء) فقال: بلى ، وشيء وهل الأمر كلّه إلاّ له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنّها نزلت: «ليس لك من الأمر إن تبت عليهم أو تعذّبهم فإنّهم ظالمون» وكيف لا يكون من الأمر شيء والله عزّوجلّ يقول: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال عزّوجلّ: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً ان عليك إلاّ البلاغ) .
ومنها غير ذلك من الروايات الواردة الدالّة على وقوع التغيير وحذف شيء ووضع آخر مكانه .
مناقشة الطائفة الرابعة:
والجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة ـ مضافاً إلى اختلال سند أكثرها وإلى مخالفتها للكتاب وشمول أخبار العرض على الكتاب لها بالتقريب المتقدّم في الجواب عن الطائفة الثانية ـ انّها مخالفة للإجماع لانعقاده من المسلمين على عدم وقوع التحريف بالزيادة في القرآن بوجه وانّ الكتاب الموجود كلّه قرآن من دون زيادة حرف فيه أصلاً .
مضافاً إلى أنّ التغيير في مثل الآية الواقعة في الرواية الاُولى لا يترتّب عليه فائدة لأنّ الآية الأصلية ـ على هذا الفرض ـ لا تكون منافية لغرض المحرف ولا موجبة للإيراد على الكتاب من الجهات الأدبيّة وغيرها من الجهات ولا سبباً لتنقيص مقام النبيّ ، وعليه فيقع السؤال عن وجه التحريف وعلّة التغيير مع عدم ترتّب فائدة عليه أصلاً كما لا يخفى .
وإلى أنّ الآية الواقعة في الرواية الثالثة معناها عدم استقلال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في
(الصفحة322)
شيء فإنّ مفاد «اللاّم» هو الاختصاص بمعنى الاستقلال كما في مثل قوله تعالى: (انّا لله وانّا إليه راجعون) ومع ثبوت الاستقلال لله وانحصاره به يصحّ نفيه عن غيره ولو كان نبيّاً فإنّ النبوّة لا تخرج النبيّ عن وصف الإمكان في مقابل الوجوب والممكن كما قد ثبت في محلّه ذاته الافتقار والاحتياج والربط والاتّصال وبلوغه إلى أعلى مراتب الكمال لا يغيّر ذاته ولا يوجب ثبوت وصف الاستقلال له ، وعليه فلا يبقى للإيراد على الآية مجال ولا منافاة بين هذه الآية وبين سائر الآيات المذكورة في الرواية الدالّة على وجوب الأخذ بما آتاه الرسول والانتهاء عمّا نهى عنه ولزوم الإطاعة له وانّ إطاعة الله تعالى ضرورة انّ جميع هذه الخصائص لا ينافي عدم الاستقلال بل ربما يؤيّده ويثبته لأنّ هذه الامتيازات من شؤون كونه رسولاً نبيّاً مبلِّغاً عن الله تعالى ومرتبطاً بمبدأ الوحي فكيف يجتمع مع الاستقلال فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر .
الطائفة الخامسة:
الروايات الدالّة على وقوع النقيصة في القرآن بتعبيرات مختلفة ومضامين متعدّدة ، فقسم منها يدلّ على أنّ عدد آيات الكتاب أزيد من العدد الموجود ، وقسم آخر على أنّ السورة الفلانية كان عدد آياتها أزيد ممّا هي عليه من العدد فعلاً ، وقسم ثالث على نقص الكلمة الفلانية عن الآية الفلانية ، أو الآية الفلانية عن السورة الفلانية ، في موارد كثيرة ومواضع متعدّدة .
فمن القسم الأوّل: ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إنّ القرآن الذي جاء به جبرئيل إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعة عشر ألف آية .
(الصفحة323)
ومن القسم الثاني: ما ذكره السيوطي في «الاتقان» ونقله عن أبي عبيد قال: حدّثنا ابن أبي مريم عن أبي لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مأتي آية فلمّا كتب عثمان المصحف لم يقدر منها إلاّ ما هو الآن .
وما رواه أبو علي الفارسي في كتاب الحجّة كما نقله عنه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان عن زر بن حبيش أنّ أُبيّاً قال له: كم تقرأون الأحزاب؟ قال: بضعاً وسبعين آية ، قال: قد قرأتها ونحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطول من سورة البقرة .
ومن القسم الثالث: ما رواه الكليني ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عليّ بن اسباط ، عن عليّ بن حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ: (واتبعوا ما تتلو الشياطين) بولاية الشياطين على ملك سليمان .
وما رواه السيّاري ، عن محمّد بن عليّ بن سنان ، عن عمّار بن مروان ، عن عليّ بن يزيد ، عن جابر الجعفي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله عزّوجلّ: وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله في عليّ قالوا نؤمن بما أنزل علينا .
وما رواه الكليني أيضاً ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمّد البرقي ، عن أبيه ، عن محمّد بن سنان ، عن عمّار بن مروان ، عن منخل ، عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزل جبرئيل بهذه الآية على محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هكذا: «بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله في عليّ بغياً» .
وما رواه السيّاري أيضاً عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجلّ: إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى في عليّ من بعدما بيّناه للناس ، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .
(الصفحة324)
وما رواه العيّاشي عن أبي إسحاق ، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل بظلمه وسوء سريرته والله لا يحبّ الفساد .
وما رواه السيّد الأجلّ عليّ بن طاووس في «فلاح السائل»: رويت عن محمّدبن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كتبت امرأة الحسن (عليهما السلام) مصحفاً فقال الحسن (عليه السلام) للكاتب لمّا بلغ هذه الآية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا قانتين .
وما رواه الشيخ الطوسي (قدس سره) في «التهذيب» بإسناده عن يونس بن عبدالرحمن ، عن عبدالله بن سنان قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : الرجم في القرآن قوله تعالى: إذا زنيا الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة فانّهما قضيا الشهوة .
وما ذكره الراغب الاصبهاني في «المحاضرات» من أنّه روى أنّ عمر قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لاثبتّ في المصحف فقد نزلت: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالاً لأمر الله والله شديد العقاب .
وغير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا القسم .
مناقشة الطائفة الخامسة:
أوّلاً: انّها بجميع أقسامها مخالفة للكتاب وقد أمرنا بالإعراض عنها وضربها على الجدار لأنّها زخرف وباطلة وقد تقدّم تقريب ذلك في الجواب عن الاستدلال بالطائفة الثانية فراجع .
مضافاً إلى ما ذكرنا في الجواب عن الاستدلال بالروايات الدالّة على اشتمال الكتاب على اسم عليّ والأئمّة من ولده ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ من
(الصفحة325)
وجود قرائن قطعيّة كثيرة على عدم وقوع التصريح بأسمائهم المقدّسة في ألفاظ القرآن الكريم وآياته العزيزة وكلماته الشريفة .
وإلى ما ذكرناه في أوائل بحث التحريف في مقام الجواب عن توهّم كون حكم الرجم مذكوراً في الكتاب وانّه كانت هناك آية معروفة بآية الرجم رواها من لا حجّية لقوله ولا اعتبار لفعله إلاّ من جهة دلالتها على كون الحقّ في جانب الخلاف ، وفقدان الرشد والصواب في ناحية الوفاق .
وإلى معارضة ما دلّ منها على كون آيات الكتاب زائدة على المقدار الذي هو الآن ـ وهو القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة من هذه الطائفة ـ بما رواه الطبرسي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) انّه قال: سألت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء إلى أن قال: ثمّ قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): جميع سور القرآن مائة وأربع عشر سورة ، وجميع آيات القرآن ستّة آلاف آية ومائتا آية وست وثلاثون آية وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف وواحد وعشرون ألف ومائتا وخمسون حرفاً .
وثانياً: اشتمال سند كثير من روايت هذه الطائفة على أحمد بن محمّد السيّاري الذي اتّفق على فساد مذهبه وكونه كاذباً جاعلاً ، وقد ادّعى بعض المتتبّعين انّه تتبّع روايات التحريف التي جمعها المحدّث المعاصر في كتابه الموضوع في هذا الباب فوجد اشتمال سند مائة وثمانين وثمانية منها على هذا الرجل الفاسد ، ومنه يمكن أن يقال بحصول الاطمئنان للإنسان بكون الرجل معانداً منافقاً أو مأموراً من قبل المعاندين على أن يجعل روايات كاذبة ويفتري على كتاب الله الذي هو المعجزة الوحيدة الخالدة لغرض تنقيصه وإسقاطه عن الاعتبار وإردافه بالإنجيل والتوراة
(الصفحة326)
المحرّفين لئلا يبقى للمسلمين امتياز وخصوصيّة ولم يكن لهم لسان على اليهود والنصارى بكون كتابيهم غير معتبرين سيّما مع ملاحظة قلّة روايات الرجل في غير هذه المسألة من المسائل الفقهيّة والأحكام العمليّة ، ولا بأس بنقل عبارة بعض أئمّة علم الرجال في حقّ الرجل فنقول:
قال الشيخ (قدس سره) في محكيّ «الفهرست»: أحمد بن محمّد بن سيّار أبو عبدالله الكاتب بصري كان من كتّاب الطاهر في زمن أبي محمّد (عليه السلام) ويعرف بالسيّاري ، ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ، مجفوّ الرواية ، كثير المراسيل وصنّف كتباً منها كتاب ثواب القرآن ، كتاب الطب ، كتاب القراءات ، كتاب النوادر ، أخبرنا بالنوادر خاصّة الحسين بن عبيدالله ، عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا السيّاري إلاّ بما كان فيه من غلوّ أو تخليط ، وأخبرنا بالنوادر وغيره جماعة من أصحابنا منهم الثلاثة الذين ذكرناهم عن محمد بن أحمد بن داود قال: حدّثنا سلامة بن محمّد قال: حدّثنا عليّ بن محمّد الحنائي قال: حدّثنا السيّاري .
وقال النجاشي: أحمد بن محمّد بن سيّار أبو عبدالله الكاتب بصري كان من كتّاب آل طاهر في زمن أبي محمّد (عليه السلام) ويعرف بالسيّاري ضعيف الحديث ، فاسد المذهب ذكر ذلك لنا الحسين بن عبيدالله ، مجفوّ الرواية كثير المراسيل له كتب وقع إلينا منها كتاب ثواب القرآن ، كتاب الطبّ ، كتاب القراءات ، كتاب النوادر ، كتاب الغارات ، أخبرنا الحسين بن عبيدالله قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى ، وأخبرنا أبو عبدالله القزويني قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى عن أبيه قال: حدّثنا السيّاري إلاّ ما كان من غلوّ أو تخليط .
ومع ذلك فقد رام المحدّث المعاصر إصلاح حاله واعتبار مقاله وحجّية روايته
(الصفحة327)
نظراً:
إلى أنّ مستند التضعيف هو تضعيف الغضائري والمعروف ضعف تضعيفاته .
وإلى رواية شيخ القمّيين محمّد بن يحيى العطّار الثقة الجليل عنه .
وإلى اعتماد الكليني عليه حيث عبّر عنه ببعض أصحابنا الظاهر في مشايخ الإماميّة أو مشايخ أرباب الرواية والحديث المعتبرة رواياتهم .
وإلى ما ذكره الشيخ محمّد بن إدريس في آخر كتاب السرائر ممّا لفظه: «باب الزيادات وهو آخر أبواب هذا الكتاب ممّا استنزعته واستطرفته من كتب المشيخة المصنّفين والرواة المخلصين وستقف على أسمائهم إلى أن قال: ومن ذلك ما استطرفته من كتاب السيّاري واسمه أبو عبدالله صاحب موسى والرضا (عليهما السلام)» .
أقول: امّا كون مستند التضعيف هو قول الغضائري فقط فيردّه ما قاله المتتبّع الخبير في كتابه «قاموس الرجال» من أنّ هذا الرجل قد طعن فيه غير الكشّي والغضائري والفهرست والنجاشي: الشيخ في استبصاره ومحمّد بن عليّ بن محبوب على نقل الغضائري ، والحسين بن عبيدالله وأحمد بن محمّد بن يحيى ، ومحمّد بن يحيى على نقل الفهرست والنجاشي عنهم ، ونصر بن الصباح على نقل الكشّي وكذا باقي من في اسناده من طاهر الورّاق ، وجعفر بن أيّوب والشجاعي وإبراهيم بن حاجب ، وكذا القمّيون وهم ابن الوليد وابن بابويه وابن نوح على نقل الغضائري هنا ونقل النجاشي والفهرست في محمّد بن أحمد بن يحيى .
وامّا رواية مثل شيخ القمّيين عنه فالجواب انّ روايته منحصرة بما كان خالياً من غلوّ وتخليط وكان هذا دأب القدماء في روايات الضعفاء حيث يعملون بسليمها ويعرضون عن سقيمها لوجود القرائن الكثيرة عندهم .
(الصفحة328)
وامّا اعتماد الكليني عليه فيردّه:
أوّلاً: انّ التعبير بـ «بعض أصحابنا» ليس إلاّ في قبال كونه عامّياً ولا دلالة فيه على المدح واعتبار الرواية بوجه .
وثانياً: انّ الاعتماد إنّما هو بالإضافة إلى ما كان خالياً من الغلوّ والتخليط .
وثالثاً: انّه لا يقام تلك التصريحات الكثيرة الدالّة على قدح الرجل وضعف روايته وفساد مذهبه .
وامّا ما ذكره الحلّي في «المستطرفات» فيردّه ـ مضافاً إلى عدم دلالة عبارته على كون من يروي عنه فيها من الثقات والممدوحين:
أوّلاً: انّ هذا الرجل اسمه أحمد لا أبو عبدالله ، وبعض الناس وإن كانت كنيتهم اسمهم إلاّ انّ هذا الرجل ليس منهم .
وثانياً: انّه كان في زمن أبي محمّد (عليه السلام) كما عرفت التصريح به من الفهرست والنجاشي ولم يكن معاصراً لموسى والرضا (عليهما السلام) أصلاً .
وثالثاً: انّه على تقدير المعاصرة ، توصيفه بأنّه من أصحابهما واضح الفساد لأنّ الرجل مذموم قطعاً فكيف يكون صاحباً لهما (عليهما السلام)؟ وإذن فلا يبقى ارتياب في عدم جواز الاعتماد على رواية الرجل بوجه لو لم نقل بقيام القرينة التي عرفتها على كذبها .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا بطلان الاستدلال بالروايات الذي كان هو العمدة للقول بالتحريف لعدم تمامية الدلالة وعدم الاعتبار والحجّية .
(الصفحة329)
الشبهة الخامس
للقائل بالتحريف ما سمّى ـ كما في كلام بعض ـ بدليل الاعتبار ، والغرض منه انّ الاعتبار يساعد على التحريف نظراً إلى أنّ ملاحظة بعض الآيات وعدم ارتباط أجزائها ـ صدرها وذيلها ، أو شرطها وجزائها ـ تشعر بل تدلّ على وقوع التحريف وتحقّق النقص بين الأجزاء لوضوح انّه لا يمكن الالتزام بعدم الارتباط بين أجزاء آية واحدة فعدمه يكشف ـ لا محالة ـ عن نقص كلمة أو جملة مصحّحة للارتباط ومكمّلة للتناسب بين الأجزاء والتلائم بين الصدر والذيل أو الشرط والجزاء .
ومن ذلك قوله تعالى في سورة النساء: (وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم الاّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم ذلك أدنى الاّ تعولوا) فإنّ خوف عدم رعاية القسط في اليتامى لا يرتبط بنكاح النساء وتعدّد الأزواج بوجه فلابدّ من الالتزام بوقوع السقط بين هذا الشرط والجزاء .
ويؤيّده ما رواه في الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب الزنديق الذي سأله عن ذلك قال (عليه السلام): وامّا ظهورك على تناكر قوله: فإن خفتم ألا تقسطوا الآية وليس يشبه القسط في اليتامى بنكاح النساء ، ولا كلّ النساء أيتاماً فهو ممّا قدّمنا ذكره من إسقاط المانعين من القرآن بين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من
(الصفحة330)
الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن .
والجواب:
عن هذه الشبهة يظهر بالمراجعة إلى التفاسير فإنّه بسببها يظهر انّه لم ينقل عن أحد من المفسِّرين من الصدر الأوّل إلى الأزمنة المتأخّرة إنكار الارتباط في مثل الآية المذكورة ، وينبغي نقل ما أفاده الطبرسي في «مجمع البيان» في شأن نزول الآية وكيفيّة الارتباط بين صدرها وذيلها وشرطها وجزائها ممّا نقله عن أعلام المفسّرين فنقول: قال فيه:
«اختلف في سبب نزوله وكيفيّة نظم محصوله واتّصال فصوله على أقوال:
أحدها: انّها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها فنهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسّطوا لهنّ في إكمال مهور أمثالهنّ ، وأمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء إلى أربع ، عن عائشة ، وروى ذلك في تفسير أصحابنا وقالوا: إنّها متّصلة بقوله: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاّئي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ وترغبون أن تنكحوهنّ فإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى) الخ ، وبه قال الحسن والجبائي والمبرّد .
ثانيها: انّها نزلت في الرجل منهم كان يتزوّج الأربع أو الخمس أو الستّ والعشر ويقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما يتزوّج فلان فإذا فنى ماله مالَ على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه ، فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلاّ يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ، وإن خافوا ذلك مع الأربع أيضاً اقتصروا على واحدة ، عن ابن عبّاس وعكرمة .
(الصفحة331)
ثالثها: انّهم كانوا يشدّدون في أموال اليتامى ولا يشدّدون في النساء ينكح أحدهم النسوة فلا يعدل بينهنّ فقال تعالى كما تخافون ألاّ تعدلوا في اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا واحدة إلى أربع ، عن سعيد بن جبير والسدّي وقتادة والربيع والضحّاك ، وفي إحدى الروايتين عن ابن عبّاس .
رابعها: انّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم إيماناً وتصديقاً فقال سبحانه: إن تحرّجتم من ذلك فكذلك تحرّجوا من الزناء وانكحوا النكاح المباح من واحدة إلى أربع ، عن مجاهد .
خامسها: ما قاله الحسن: إن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء ممّا أحلّ لكم من يتامى قرباتكم مثنى وثلاث ورباع ، وبه قال الجبائي وقال: الخطاب متوجّه إلى وليّ اليتيمة إذا أراد أن يتزوّجها .
سادسها: ما قاله الفرّاء: إن كنتم تتحرّجون عن مواكلة اليتامى فتحرّجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بين النساء ، ولا تتزوّجوا منهنّ إلاّ من تأمنون معه الجور . قال القاضي أبو عاصم: القول الأوّل أولى وأقرب إلى نظم الآية ولفظها» انتهى ما في مجمع البيان .
وقد ظهر لك من ذلك اتّفاق المفسِّرين من الصدر الأوّل على تحقّق الارتباط والاتّصال بين الشرط والجزاء في الآية الكريمة وإن اختلفوا في وجهه وبيان كيفيّته ولكن أصله مفروغ عنه عندهم .
ثمّ لو سلّم عدم إحاطتنا على الارتباط بينهما فهو لا يلازم القول بالتحريف فلِمَ لا تكون الآية حينئذ من المتشابهات التي يكون علمها عند أهلها الذين هم
(الصفحة332)
الراسخون في العلم لعدم قيام دليل على كون الآية من المحكمات التي تتّضح دلالتها ويفهم مرادها كما لا يخفى .
فانقدح من جميع ذلك بطلان هذا الدليل الذي سُمّي بدليل الاعتبار بل الاعتبار يساعد بل يدلّ على عدم التحريف لما مرّ مراراً من أنّ القرآن هو المعجزة الخالدة الوحيدة ، وكان من حين النزول متّصفاً بهذه الصفة ، معروفاً بين المسلمين بهذه الجهة ، للتناسب بين استمرار الشريعة إلى يوم القيامة وبين كون المعجزة هو الكتاب الصالح للبقاء والقابل للدوام ، ومن الواضح في مثل ذلك الذي ليس له مثل ، اهتمام المسلمين بحفظه في الصدور والكتب ليبقى الدين ببقائه ، وتحفظ الشريعة في ظلِّه ، فكيف يمكن مع ذلك وصول يد التحريف إلى مقامه الشامخ وبلوغ الجناية إلى محلّه الرفيع ، بل وكيف يمكن مع حفظ الله الذي نزّله لغرض الهداية إلى يوم القيامة لجميع الاُمّة ، وكيف يرتضي المسلمون بذلك؟ فالاعتبار دليل قطعي على عدم التحريف .
وقد ظهر ـ بحمد الله ـ من جميع ما ذكرنا في هذا البحث انّ دعوى التحريف ـ بالمعنى الذي عرفت انّه محلّ البحث ومورد الكلام ـ مع أنّها مجرّد خيال ناش عن الاغترار بظواهر بعض الروايات من دون التأمّل في الدلالة والتتبّع والتفحّص في السند أو عن بعض الجهات الاُخر الذي مرّت الإشارة إليه ، قد قامت الأدلّة القاطعة والحجج الواضحة والبراهين الساطعة على بطلانها .
وهنا نختم البحث في هذه المسألة مع الاطمئنان بأنّه مع ملاحظة ما ذكرنا والدقّة فيه خالياً عن العناد والتعصّب مراعياً للمنطق والإنصاف لا يبقى شكّ ولا ارتياب وذلك لما عرفت من الأجوبة المتعدّدة الشافية الكافية عن الشبهات
(الصفحة333)
الخمسة المتقدّمة ، مضافاً إلى الأدلّة السبعة القاطعة القائمة على عدم التحريف وبطلان هذا القول السخيف الذي يوجب تزلزل أساس الدين وتضعيف المسلمين من جهة وابتلاء الطائفة المحقّة والفرقة الناجية من الفرق المتعدّدة منهم بالافتراء والبهتان من جهة اُخرى ، وبتمام هذا البحث يتمّ البحث في باب ظواهر الكتاب وبتمام البحث فيها يتمّ البحث في الأمر الأوّل من الاُمور التي يبتني عليها التفسير ، وتعدّ اُصولاً له ، كما سبق البحث في الأمرين الآخرين .
وقد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق بعد أن كانت النسخة الأصليّة باقية في السواد سنين بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغنيّ محمّد الموحّدي اللنكراني الشهير بالفاضل ابن العلاّمة الفقيه الفقيد آية الله فاضل الموحّدي اللنكراني قدّس سرّه الشريف في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب المرجب من شهور سنة 1394 من الهجرة النبوية المصادف لمبعثه الشريف وتناسب المصادفة له لا يكاد يخفى فإنّ غرض هذا الكتاب إثبات إعجاز الكتاب العزيز وكونه هو المعجزة الوحيدة الباقية المحفوظة على ما كان من دون حدوث تغيير فيه وتحريف عليه وبقائه على غرضه من إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة وصلاحيّته للاستناد إليه والاستضاءة بنوره والاهتداء بهدايته وذلك كلّه هو الغرض من البعثة وثبوت النعمة العظيمة التي منَّ الله بها على المؤمنين ، مع أنّ الكريم لا يمنّ بإنعامه والعظيم لا ينظر إلى إعطائه ولكن الاعتناء بشأن هذه النعمة والاهتمام بها أوجب المنّة ، وفي الحقيقة المنّة بيان لعظمة النعمة ومفيدة لأهمّية العطيّة ولأجله نرجو من المنعم لها والمُعطي إيّاها أن يوفّقنا للاستفادة منها والشكر في مقابلها وأن يهدينا بكتابه العزيز الذي هو الطريق لثبوت هذه النعمة والدليل على
(الصفحة334)
صدق هذه العطيّة وهو الثقل الأكبر الذي أمرنا بالتمسّك به مع الثقل الأصغر الذي عرفت انّه أحد الاُمور الثلاثة التي يبتني عليها التفسير وكشف مراد الله تعالى من الكتاب ، وأن يعجِّل في فرج مولانا وصاحبنا وليّ العصر وصاحب الزمان أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء وكان ذلك ـ أي الفراغ من كتابته في بلدة «يزد» المعروفة بدار العبادة وأنا مقيم فيها بالإقامة المؤقّتة الإجباريّة ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً ، اللّهم انّا نشكو إليك فقد نبيّنا وغيبة وليّنا وكثرة عدوّنا وتظاهر الزمان علينا .
فإليك ياربّ المشتكى وعليك المعوّل في الشدّة والرّخاء .
ويا إلهي فإنّه عظم البلاء وبرح الخفاء وضاقت الأرض ومُنعت السماء
والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً .
|