فيه المسلمون ، تسألني البيّنة على ما في يدي ، وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده ، ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم ؟ ـ إلى أن قال : ـ وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر . ورواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا(1) .
ويمكن أن يقال بإشعار هذه الرواية بل دلالتها على أماريّة اليد وكاشفيتها ; نظراً إلى قوله (عليه السلام) : «فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه» فإنّ توصيفهم بكونهم مالكين ليس إلاّ من جهة مجرّد اليد الكاشفة عن الملكية ، لا أنّه كان هناك طريق آخر عليها ، كما لا يخفى . نعم ، قوله (عليه السلام) بعده : «وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده» ربما ينافي ذلك ، فتدبّر .
الطائفة الثالثة : ما يدلّ على اعتبار اليد أيضاً ، ولكن ربما تتوهّم دلالتها أيضاً على كونها أصلا ، كرواية حفص بن غياث عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : قال له رجل : إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم ، قال الرّجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أفيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله اليك؟
ثمّ قال أبو عبدالله (عليه السلام) : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق(2) .
(1) تفسير القمّي : 2 / 155 ـ 157 ، الاحتجاج : 1 / 237 ـ 238 ، وعنهما وسائل الشيعة : 27 / 293 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 3 ، وفي مستدرك الوسائل : 17 / 369 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 5 عن الاستغاثة : 16 .
(2) الكافي : 7 / 387 ح 1 ، الفقيه : 3 / 31 ح 92 ، تهذيب الأحكام : 6 / 261 ح 695 ، وعنها وسائل الشيعة : 27 / 292 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 2 .
الصفحة 382
وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة من حيث السّند بقاسم بن يحيى ، إلاّ أنّها مجمع على العمل بها ، ووجه توهّم دلالتها على كون اليد أصلا لا أمارة قوله (عليه السلام) في الذيل : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» وذلك ; لأنّه يستفاد منه أنّ اعتبار اليد وجعلها حجّة إنّما هو لأجل اختلال سوق المسلمين بدونه ، لا لأجل كونها كاشفة وطريقاً .
ولكن يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ قوله (عليه السلام) : «فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟» ظاهر في أنّ صيرورته ملكاً له إنّما هي لأجل كونه تحت استيلاء البائع ويده الكاشفة عن ملكه ثمّ انتقاله إليه بالبيع ، ولو لم تكن اليد أمارة على ثبوتها لما جاز الحلف على الملكية المترتّبة على الشراء بعد عدم ثبوتها للبائع ـ أنّ التعليل في الذيل لا يدلّ على الأصليّة ، لاحتمال أن يكون ذلك حكمة لعدم ردع الشارع عن اعتبارها ، لا لأصل اعتبارها .
وبعبارة أوضح : حيث إنّ الأمارات العقلائية المعتبرة عند العقلاء يحتاج اعتبارها شرعاً إلى عدم ردع الشارع عنها ، وإلاّ فلا أثر لها بنظر الشرع ، ومن المعلوم أنّ الرّدع وعدمه لا يكون إلاّ لأجل وجود المصلحة وعدمها ; ضرورة أنّه لا يكون جزافاً ومن غير جهة ، فلا محالة لابدّ وأن يكون عدم ردع الشارع في المقام عن أمارية اليد مسبّباً عن أمر ، وقد بيّن في الرواية ذلك الأمر ، وهو اختلال سوق المسلمين بدونه ، فهذه حكمة لعدم الرّدع عمّا هو المعروف بين العقلاء ، لا بيان لقاعدة مخترعة للشارع في قبال العقلاء .
وبالجملة : لو كان هذا تعليلا لأصل اعتبار اليد لكان لتوهّم دلالته على كون اليد أصلا وجه ، وإلاّ فمع ظهوره في كونه تعليلا لعدم الرّدع عمّا هو المعروف بين العقلاء ، أو مع احتماله ، لا يبقى للتوهّم المزبور مجال أصلا ، فتدبّر .
الصفحة 383
ورواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة(1) .
وهذه الرواية هي العمدة في التوهّم المذكور ، ووجه استفادة الأصلية منها أنّ قوله (عليه السلام) «كلّ شيء هو لك حلال» الخ ظاهر في أنّ الحكم بالحليّة مترتّب على الشيء الذي شك في حليته وحرمته ، فموضوع الحكم الشيء المشكوك بوصف كونه مشكوكاً ، ومن المعلوم أنّ هذا شأن الأحكام الظاهريّة والاُصول العملية ; حيث إنّها قواعد مجعولة للشاك بما هو شاك . وأمّا الأمارات فمرجع اعتبارها إلى إلغاء احتمال الخلاف وجعله كالعدم . وبالجملة : لا إشكال في أنّ هذه العبارة تدلّ على أصالة الحلية في مورد مشكوك الحلية .
وحينئذ نقول : إنّه بعد بيان هذه القاعدة الكلية قد بيّن في الرواية بعض مصاديقها التي من جملتها : الثوب المشترى الذي يحتمل أن يكون سرقة ، والعبد المبتاع الذي يحتمل أن يكون خدع فبيع ، ومن المعلوم أنّ انطباق تلك القاعدة على هذا القبيل من الأمثلة لا يكاد يتمّ إلاّ مع اعتبار اليد أصلا ، وإلاّ فلو كانت أمارة معتبرة عند الشارع لا تكاد تنطبق القاعدة المذكورة في الصدر عليه أصلا ، كما هو أوضح من أن يخفى .
ويرد عليه : أنّه لابدّ وأنّ تحمل الأمثلة المذكورة في الذيل على أنّها إنّما اُتي بها بعنوان التنظير والتمثيل ، لا بعنوان بيان بعض المصاديق ، وإلاّ فلو كانت تلك
(1) الكافي : 5 / 313 ح 40 ، تهذيب الأحكام : 7 / 226 ح 989 ، وعنهما وسائل الشيعة : 17 / 89 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 ، ومرآة العقول 19 / 432 ح 40 وملاذ الأخيار : 11 / 434 ح 9 .
الصفحة 384
الأمثلة من مصاديق أصالة الحلية التي دلّ على اعتبارها قوله (عليه السلام) في الصدر : «كلّ شيء هو لك حلال . . .» لأمكن المناقشة في الكلّ بعدم كون شيء منها مجرى أصالة الحلية ; لوجود أصل حاكم عليها مخالف لها أو موافق ، كاستصحاب عدم تحقّق الملكية بالإضافة إلى الثوب والمملوك في المثالين الأوّلين ، وعدم تحقّق الرضاع أو عدم تحقق الاُختيّة بناءً على قول من يقول بجريان الاستصحاب في مثله ، أو عدم تحقّق الزوجية بناءً على قول من يقول بخلافه كما هو الحقّ .
وقد حققناه بما لا مزيد عليه في استصحاب عدم القرشية ، وكذا استصحاب عدم التذكية ، أي عدم قبولها كما في المثالين الأخيرين ، ومن المعلوم أنّه لا مجال للأصل المحكوم مع وجود الأصل الحاكم موافقاً كان أو مخالفاً ، وحينئذ لا محيص عن حمل الأمثلة على بيان التنظير لا الأفراد والمصاديق ، فلا دلالة للرواية بناءً عليه إلاّ على مجرّد اعتبار اليد ، من غير دلالة ولا إشعار على أنّ اعتبارها من باب الأصل .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا معارض للطائفة الاُولى من الأخبار الدالّة على أمارية اليد وكونها كاشفة ، فلا محيص عن الالتزام به .
نعم ، ذكر المحقّق البجنوردي (قدس سره) أنّه لا دلالة لشيء من الأخبار على الأمارية ، وأنّ غاية مفادها ترتيب آثار الملكية لما تحت يد شخص ، من دون تعرّض إلى أنّ اليد طريق إلى الملكية أم لا . فقوله (عليه السلام) : «من استولى على شيء منه فهو له» لا يدلّ إلاّ على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه ، وهذا المعنى أعمّ من الأمارية والأصلية ، ويجتمع مع كلّ واحد منهما ، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها ، حتى أنّ جواز الحلف والشهادة الّذي اُخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقية مستنداً إليها لا ينافي أصليّتها ; لأنّ الاُصول التنزيلية أيضاً مثل الأمارات تقوم
الصفحة 385
مقام العلم الذي اُخذ في الموضوع على نحو الطريقية ، فمن هذه الجهة أيضاً لا فرق بينهما(1) .
ولكن يرد عليه : أنّ تشخيص المراد من الروايات موكول إلى العرف ، فإنّه الحاكم في هذا الباب ، ومن الواضح أنّه لو كان شيء عند العقلاء يعامل معه معاملة الطريقية ، فإذا ورد في كلام الشارع ترتيب الأثر عليه فلا محالة يفهم العرف من ذلك الكلام أنّ الشارع اعتبره على النحو الذي يعتبره أنفسهم ، فإذا كان الاستيلاء على شيء موضوعاً عند العقلاء للحكم بالملكية وترتيب آثارها عليه بنحو يكون الاستيلاء كاشفا عنها وأمارة لها ، فإذا وقع موضوعاً للحكم بالملكية في كلام الشارع الملقى إلى العرف ، لا مجال للمناقشة بأنّ الحكم بالملكية يمكن أن يكون من سنخ الاُصول دون الأمارات ، والكلام يحتمل وجهين ، بل الظاهر ظهوره في الأمارية والكاشفية بنحو يكون عند العرف .
وعليه : فدلالة الرواية بهذه الملاحظة ظاهرة ، ويؤيّده جواز الحلف والشهادة ; فإنّ الاكتفاء فيه بالاُصول التنزيلية على حسب اصطلاحه محلّ كلام واختلاف كما بيّن في محلّه ، مع أنّه لم يختلف أحد في جواز الحلف والشهادة في المقام ، وهذا يكشف عن عدم كونه من تلك الاُصول ، بل من الأمارات .
الجهة الثالثة : في مفاد القاعدة ، وقد ظهر من المباحث السّابقة أنّ مفاد القاعدة اعتبار اليد والاستيلاء على شيء والحكم بترتّب آثار الملكية على ما تحتها ; من جواز الاشتراء والحلف والشهادة وسائر الآثار في مورد يكون مبدأ الاستيلاء والسيطرة مشكوكاً ، وأنّ منشأه هل هو الملكية الاختيارية أو القهرية ، كالإرث أو الإذن من المالك ، أو أنّه العدوان والقهر على المالك ، أو مع عدم الإذن منه؟ ففي صورة الشك تجري هذه القاعدة وتحكم بملكية المستولي وصاحب اليد .
(1) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 1 / 140 ـ 141 .
الصفحة 386
وبهذا يتحقّق الفرق بين مورد هذه القاعدة ، وبين مورد قاعدة ضمان اليد التي تقدّم البحث فيها مفصّلا ; فإنّ مورد تلك القاعدة صورة العلم بكون الاستيلاء واقعاً عدواناً وبدون إذن المالك ورضاه ، ومورد هذه القاعدة صورة الشك في ذلك ، فتفترق القاعدتان من حيث المورد كافتراقهما من حيث الحكم والمُفاد .
الجهة الرابعة : في مقدار حجيّة القاعدة وموارد جريانها ; فإنّه قد وقع الخلاف في جملة من الموارد بعد الإتّفاق على أصل الاعتبار في الجملة .
فنقول : لا شبهة في جريانها في الأعيان المملوكة إذا كانت العين في حدّ نفسها قابلة للنقل والانتقال ، ولم تكن من قبيل الأعيان الموقوفة ، بل ولا من الأراضي المفتوحة عنوة العامرة حال الفتح ; حيث إنّ جواز النقل والانتقال في الوقف يحتاج إلى عروض بعض العناوين المجوّزة ـ كالخراب ومثله ـ المذكورة في محلّه ، وفي الأراضي المفتوحة يحتاج إلى أن يرى وليّ المسلمين المصلحة في نقلها .
وهذا الذي ذكرنا إنّما هو من جهة كونها عيناً، ومن جهة القابليّة للنقل والانتقال . وأمّا من الجهات الاُخر ; كعدم كون اليد من أوّل حدوثها مجهولة العنوان ، وعدم كون ذي اليد معترفاً بأنّها ليست له ، وغير ذلك، فهو محلّ خلاف كما سيأتي .
وبالجملة : فموارد الخلاف كثيرة :
الأوّل : المنافع ; فإنّه وقع الإشكال في جريان قاعدة اليد فيها ، ولكنّ الظاهر هو الجريان ; لإطلاق قوله (عليه السلام) في موثّقة يونس المتقدّمة(1) : «من استولى على شيء منه فهو له» ; لأنّ المنافع من جملة الأشياء ، مضافاً إلى ظاهر الرواية المتقدّمة(2)الواردة في الرّحى التي كانت لرجل على نهر قرية ، فأراد صاحب القرية أن يسوق
(1) تقدمت في ص 377 .
(2) تقدمت في ص 380.
الصفحة 387
إلى قريته الماء في غير هذا النهر ، المستلزم ذلك لتعطيل الرّحى ; حيث حكم (عليه السلام) بوجوب الاتّقاء من الله ، والعمل بالمعروف وعدم إضرار أخيه المؤمن .
هذا ، وقد صرّح المحقّق النراقي (قدس سره) في العوائد بعدم الشمول للمنافع ، بل مقتضى ذيل كلامه عدم تحقّق اليد والاستيلاء موضوعاً بالنسبة إلى المنافع ، فإنّه (قدس سره) بعد الاستدلال لعدم الشمول بالأصل ، وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان ، واختصاص الأخبار بها على اختلافها من حيث ظهورها في خصوص الأعيان ، أو إجمالها ، أو عدم دلالتها على ما هو المطلوب من الأمارية ، وبعد دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان ; لأنّها المتبادرة عرفاً من لفظ اليد والاستيلاء ، قال :
بل وهنا كلام آخر ; وهو أنّ اليد والاستيلاء إنّما هو فى الأشياء الموجودة في الخارج ، القارّة . وأمّا الاُمور التدريجيّة الوجود غير القارّة كالمنافع ، فلو سلّم صدق اليد والاستيلاء عليها ، فإنّما هو فيما تحقّق ومضى لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هاهنا(1) .
والجواب عنه أوّلا : بالنقض بأصل الملكية ; فإنّه لو لم تكن المنفعة التي وجودها تدريجيّ قابلة لأن يتعلّق بها الاستيلاء ـ وتقع مورداً للسّلطة واليد باعتبار كون وجودها غير قارّ ـ لا تكون قابلة لأن تقع مملوكة أيضاً ; لعدم الفرق بين الملكية والاستيلاء من هذه الجهة أصلا ، مع أنّ تعلّق الملك بها مضافاً إلى بداهته لا يلتزم القائل باستحالته ، كما هو ظاهر .
وثانياً : بالحلّ ، وهو أنّ المراد بالاستيلاء المساوق لليد ليس هو الاستيلاء الحقيقي حتى يمنع تعلّقه بالأمر غير الموجود ، بل الاستيلاء الاعتباري الذي يعتبره العقلاء في موارده ، ويستتبعه الاختصاص ، وهذا لا مانع من أن يتعلّق بالأمر الذي لا يكون موجوداً بالفعل ، كما أنّ الملكية المتعلّقة به أمر اعتباري ، وإضافة معتبرة
(1) عوائد الايام : 745 .
الصفحة 388
عند العقلاء بين المالك والمملوك ، فالظاهر إمكان تحقّق الاستيلاء واليد بالإضافة إلى المنافع ، كما في الملكيّة ، بل قد عرفت شمول الأدلّة وعدم اختصاصها بالأعيان ، فالإشكال في هذه الجهة ممّا لا مجال له .
وأمّا ما قيل من أنّ المراد باليد هي السيطرة والاستيلاء الخارجي ; سواء كان هناك معتبر في العالم أم لا؟ إذ اليد بالمعنى المذكور من الاُمور التكوينيّة الخارجيّة ، وليست من الاُمور الاعتباريّة ، ولذلك تتحقّق اليد من الغاصب مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع ولا من طرف العقلاء ، والقول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام ، فيدفعه أنّ الاعتبار المفقود في الغاصب هو اعتبار الملكيّة ، لا اعتبار كونه في يده وهو مستول عليه .
كيف؟ وقد حكم الشارع بضمانه بقوله (صلى الله عليه وآله) : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1) فإنّه مع عدم اعتبار كونه مأخوذاً لليد وهي آخذته ، لا معنى للحكم بضمانه ، والإنصاف أنّها ليست من الاُمور التكوينيّة المتحقّقة مع قطع النظر عن الاعتبار ، بل أمر متحقّق به ، ولذا يختلف مواردها كما ذكرنا في أوّل بحث القاعدة .
نعم ، يبقى الإشكال في أنّ الاستيلاء المتعلّق بالمنافع هل هو استيلاء مستقلّ في قبال الاستيلاء المتعلّق بالأعيان ، بحيث يكون لمالك العين والمنفعة استيلاءان في عرض واحد ، يكشف كلّ منهما عن ملكيّة المستولي بالنسبة إلى المستولى عليه ، الذي هو العين في أحدهما والمنفعة في الآخر ، أو أنّ يد صاحب المنافع عليها تبعيّة في طول الاستيلاء المتعلّق بالأعيان ، أو أنّه لا يكون هنا إلاّ استيلاء واحد متعلّق بالأعيان ، غاية الأمر أنّه يكشف عن ملكيّة العين والمنفعة جميعاً ، أو أنّه لا يكشف إلاّ عن ملكيّة العين ، غاية الأمر أنّ ملكية العين تكشف عن ملكية المنافع ، فهي
(1) تقدم في ص 28 .
الصفحة 389
مكشوفة لا بأصل الاستيلاء المتعلّق بالعين ، بل بالملكية المتعلّقة بالعين المنكشفة بسبب الاستيلاء المتعلق بها؟ وجوه واحتمالات متصوّرة بحسب التصوّر الابتدائي والنظر البدوي .
ولكنّ الظاهر هو الاحتمال الثاني ; لابتناء الأخيرين على عدم تعلّق الاستيلاء بالمنافع ، وقد عرفت وقوعه فضلا عن إمكانه ، وأمّا الاحتمال الأوّل فهو أيضاً خلاف ما هو المعتبر عند العقلاء ; فإنّهم لا يعتبرون الاستيلاء بالنسبة إلى المنافع إلاّ تبعاً للاستيلاء المتعلّق بالأعيان ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّه فصّل المحقق البجنوردي (قدس سره) في المنافع من جهة جريان القاعدة فيها بما حاصله : أنّه تارة يكون المدّعي هو المالك باعتراف ذي اليد ، بأن يقول مثلا : يا زيد المدّعي هذه الدار التي الآن في يدي ملكك ، ولكن في إجارتي إلى سنة مثلا ، واُخرى يكون المدّعي أجنبيّاً ، أي ليس بمالك ، مثل أن يدّعي شخص آخر ويقول : في إجارتي لا في إجارتك ، ففي الثاني تكون اليد حجّة في مقابل الأجنبي دون الأوّل ، أي في مقابل المالك ; نظراً إلى أنّ المدّعي لو كان هو المالك ، فحيث إنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أمانيّة ومن قبل المالك ، ففي الحقيقة يده يد المالك ، فلا مجال للمخاصمة مع المالك بمثل هذه اليد ; لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالإضافة إلى المالك باعترافه أنّ يده أمانيّة .
وأمّا بالنسبة إلى الأجنبي فلا ، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض ، ولم يصدر عن ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبي . نعم ، يبقى مطالبة الدليل على اعتبار مثل هذه اليد التبعية ، ثمّ اختار أنّه لو كان المدرك هو الأخبار أو الإجماع ، فاثبات الاعتبار مشكل في الأوّل ، ومعلوم العدم في الثاني ، ولو كان المدرك هو بناء العقلاء يتعيّن التفصيل المذكور(1) .
(1) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 1 / 150 ـ 152 .
الصفحة 390
أقول : قد مرّ(1) أنّ يد المستأجر إنّما هي يد المؤجر ، كما أنّه قد مرّ(2) أنّ اليد على المنافع والاستيلاء عليها إنّما هو بتبع اليد على العين وفي طولها ، لكنّ المراد بالأوّل هو ما إذا كانت اليد ملحوظة بالإضافة إلى أصل ملكية العين ; بمعنى أنّ يد المستأجر كاشفة عن ملكيّة المؤجر للعين المستأجرة ، كما أنّ يد المؤجر كاشفة عنها .
وأمّا بالإضافة إلى المنفعة التي هي ملك للمستأجر بسبب الإجارة ، فلا مجال لتوهّم كون يده يده كما هو ظاهر ، كما أنّ المراد بالثاني ما إذا كانت العين تحت يد المالك ; فإنّه حينئذ يكون الاستيلاء على المنافع بتبع الاستيلاء على العين وفي طولها ، وأمّا إذا كانت العين تحت يد المستأجر فلا تكون هذه التبعية ، بل تصير مثل أصل الملكية ; فإنّ تبعيّة ملكية المنافع لملكية العين إنّما هي فى مورد المالك للعين .
وأمّا بالإضافة إلى المستأجر ، فالملكية متحقّقة من دون أن يكون هناك تبعيّة أصلا ، وعلى ما ذكرنا لا يبقى مجال للتفصيل المذكور ; فإنّ اليد كاشفة عن ملكية المنافع ; سواء كانت المخاصمة مع المالك أو مع الأجنبي ، وأمّا الإشكال في شمول الأخبار لليد على المنافع فقد عرفت الجواب عنه ، وأنّ بعض الروايات واردة في خصوص المنفعة ، فلا فرق بين أن يكون المدرك هي الأخبار أو بناء العقلاء .
نعم ، قد عرفت المناقشة(3) في أصل اعتبار الإجماع في القاعدة ، بأنّه لا أصالة له ولا يكشف عن موافقة المعصوم (عليه السلام) بوجه ، فراجع .
الثاني من موارد الخلاف : جريان القاعدة بالإضافة إلى نفس صاحب اليد إذا شك في أنّ ما بيده ملك له أو لغيره ، ولم يكن في مقابله مدّع أصلا ، والظاهر هو
(1) في ص 41 .
(2) في ص 113 ـ 114 .
(3) في ص 376 ـ 377 .
الصفحة 391
الجريان ; لإطلاق قوله (عليه السلام) في موثّقة يونس المتقدّمة (1): «ومن استولى على شيء منه فهو له»، ولكنّه ربما يناقش في الاستدلال بها بأنّ الظاهر من هذه الرواية أ نّه (عليه السلام) في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة حكم بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستولياً على شيء من متاع البيت فهو له ، فلا إطلاق لها يشمل صورة عدم التنازع وعدم وجود مدّع في البين .
ويدفع هذه المناقشة ـ مضافاً إلى أنّ المفروض فيها موت أحد الزوجين ، فلا معنى للمخاصمة بينهما ـ : أنّه على تقدير التصحيح بأنّ المراد مخاصمة ورثة الميّت مع أحد الزوجين لم يفرض في الرواية التخاصم والتنازع بوجه ، بل قد عرفت(2) أنّ ذيل الرواية إنّما هو في مقام إفادة قاعدة كلّية وضابطة عامّة ، وهي تشمل صاحب اليد أيضاً كما لا يخفى .
نعم ، لا مجال للاستدلال بموثّقة مسعدة بن صدقة المتقدّمة(3) ، لا لأنّ مساق تلك الرواية في بيان قاعدة الحلّ ولا ربط لها بباب اليد أصلا ; فإنّك عرفت(4) تماميّة دلالتها على قاعدة اليد ، بل لأجل أنّ موردها اعتبار يد الغير بالنسبة إلى ملكيّة ما في يده ، ولا دلالة لها على اعتبار اليد في حقّ نفس ذي اليد .
وربما يستدلّ على(5) الخلاف بصحيحة جميل بن صالح المتقدمة(6) ; حيث إنّه (عليه السلام) حكم فيها في ما وجده الرجل في داره من الدينار مع دخول الغير فيها أحياناً ، بأنّه ليس له مع ثبوت اليد والاستيلاء عليه ، وأيضاً علّل (عليه السلام) كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره من عدم إدخال غيره يده فيه أصلا .
(1، 2) في ص 377 ـ 378 .
(3، 4) في ص 383 ـ 385 .
(5) المستدلّ هو المولى أحمد النراقي في عوائد الأيّام : 743 .
(6) في ص 379 .
الصفحة 392
وبموثّقة إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة ، فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة ، كيف يصنع؟ قال : يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ، قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال يتصدّق بها(1) ; نظراً إلى أنّه لا شك في أنّ الدّراهم كانت في تصرّف أهل المنزل وتحت أيديهم ، ولو كانت يدهم حجّة بالنسبة إليهم ، لكان اللازم مع عدم المعرفة الردّ إليهم لا التصدّق بالدّراهم كما هو ظاهر .
أقول : أمّا الصحيحة ، فالظاهر عدم دلالتها على ما رامه المستدلّ بوجه ; فإنّ الظاهر أنّ سؤال الإمام (عليه السلام) عن أنّه هل يدخل منزله غيره أم لا؟ كان لأجل افتراق الصّورتين في الحكم ; ضرورة أنّه لا مجال للاستفصال والسؤال مع اشتراك الحكم وعدم الاختصاص ، وحينئذ يستفاد من الرّواية أنّ دخول الغير منزل الرجل له دخل في الحكم بكون الدينار الذي وجده الرجل لقطة ، وأنّه لو لم يكن كذلك لا يكون لقطة ، بل هو لصاحب المنزل المستولي عليه .
والحكم بكونه لقطة في ذلك المورد إنّما هو لأجل أنّه مع دخول الغير في المنزل ، خصوصاً إذا كان كثيراً ، لا يكون للرجل استيلاء على الدّراهم ، خصوصاً مع كون المتعارف في الدراهم والدّنانير أنّ لهما موضعاً مخصوصاً بعيداً عن أيدي الداخلين وأنظارهم .
كما أنّ التفصيل فيما لو وجد في صندوقه ديناراً بين ما يدخل أحد غيره يده فيه ، وبين غيره ليس لأجل أنّه مع عدم إدخال الغير يده فيه يحصل له العلم بكونه مالكاً له ; ضرورة أنّه قد يحصل له الشك فيه ولو مع العلم بعدم إدخال الغير يده فيه ، كيف ؟ ولا مجال مع العلم للسؤال في الرواية ، بل لأجل أنّه مع انحصار التصرّف في الصندوق به نفسه يكون هو المستولي فقط على ما فيه ، وأمّا مع إدخال
(1) تهذيب الأحكام : 6 / 391 ح 1171 ، وعنه وسائل الشيعة : 25 / 448 ، كتاب اللقطة ب 5 ح 3 .
الصفحة 393
الغير يده فيه ، الذي يكون كناية عن استيلاء الغير أيضاً لا يكون الاستيلاء له فقط .
وأمّا الموثّقة ، فالظاهر أيضاً عدم تمامية الاستدلال بها ; لأنّ بيوت مكّة في الموسم يكون أكثرها منزلا للحجّاج على ما هو المتعارف في هذه الأزمنة ، مع شدّة وكثرة عددها ، فكيف بالأزمنة السّالفة؟ ومن المعلوم أنّه في تلك الأيام لا يبقى لصاحب المنزل استيلاء على ما في منزله ، خصوصاً بالنسبة إلى الدراهم التي وجدها الرجل مدفونة ، فإنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالدفن إلاّ كونها مستورة تحت رماد ونحوه ممّا هو من آثار من دخل في المنزل قبل هذا الرجل ممّن هو مثله ; لأنّ الرجل المسافر لا يكون من شأنه الإقدام على حفر منزل غيره .
وبالجملة : فالحكم بالتصدّق مع عدم معرفة أهل تلك البيوت ليس لأجل عدم اعتبار يد المستولي بالنسبة إلى نفسه ، بل لأجل عدم تحقّق استيلاء في أمثال مورد الرواية ، فتدبّر .
الثالث من موارد الخلاف : ما لو كان حال اليد في السابق معلوماً ، وبعبارة اُخرى : كان حال حدوثها معلوم العنوان ، وفيه صور ; فإنّه تارة : يعلم بأنّها كانت في السابق يداً عادية ، وكان ذو اليد غاصباً لما تحت يده ، غاية الأمر أنّه يحتمل فعلا أن يكون مالكاً له بالانتقال إليه بناقل شرعيّ اختياري أو قهري كالإرث ، واُخرى : يعلم بكون اليد السابقة يد عارية أو إجارة أو وكالة ونحوها ، والآن يحتمل كونه مالكاً للعين كذلك ، وثالثة : يعلم بكون العين التي بيده موقوفة ، والآن يشك في ملكيّة ذي اليد باعتبار احتمال عروض بعض الاُمور المسوّغة لنقلها وتحقّق النقل والانتقال بعده .
أمّا في الصورة الاُولى : فالظاهر عدم اعتبار اليد ; لأنّ العقلاء لا يكون بناؤهم في هذه الصورة على المعاملة فيه ذي اليد معاملة المالك ، ولا تكون يده
الصفحة 394
حينئذ أمارة على الملكية وكاشفة عنها ، مضافاً إلى بعض ما يجيء في الصورة الثانية .
وأمّا في الصورة الثانية : فقد لا يكون في مقابل ذي اليد مدّع لملكية العين أصلا ، وقد يكون ، وعلى التقدير الثاني قد يكون المدّعي هو الذي كان مالكاً للعين سابقاً ، وكان ذو اليد مستأجراً له أو مستعيراً منه ، وقد يكون المدّعي أجنبيّاً ; كما أنّه على هذا التقدير قد يقع الكلام في حكم اليد الكذائية ، وأنّه كيف يعامل معها؟ وقد يقع الكلام في حكم الحاكم وأنّه كيف يحكم؟
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مقتضى إطلاق كلام المحقّق النائيني (قدس سره) سقوط اليد في جميع التقادير ، ولزوم العمل على ما يقتضيه استصحاب حال اليد ; نظراً إلى أنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة والغصب ونحوهما ، واستصحاب حال اليد يوجب تعنونها بعنوان الإجارة أو الغصب ، فلا تكون كاشفة عن الملكية .
ولا مجال لدعوى حكومة اليد على الاستصحاب بتوهّم أنّ اليد أمارة على الملكية ، فيرتفع بها موضوع الاستصحاب ; لأنّ موضوعه اليد العادية ، واليد تقتضي الملكية ، فلا يبقى موضوع للاستصحاب ; وذلك لأنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملكية إذا لم يعلم حالها ، والاستصحاب يرفع موضوع اليد كما هو واضح(1) .
واُورد عليه بوجهين :
أحدهما : ما أفاده المحقّق العراقي (قدس سره) من أنّ هذا الكلام له وجه لو قلنا بأنّ الجهل بالحالة السّابقة مأخوذ في موضوع دليل اعتبار اليد وحجيّته ، لا أن يكون الجهل بالحالة السّابقة مورداً للقاعدة كما هو كذلك ، وإلاّ لو كان الجهل موضوعاً لها يلزم أن تكون القاعدة أصلا عمليّاً ; وذلك لأنّ الفرق بين الأصل والأمارة هو أنّ
(1) فوائد الاُصول : 4 / 604 ـ 605 .
الصفحة 395
الشك والجهل مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة . نعم ، حجّية الأمارة واعتبارها في مورد الجهل واستتار الواقع ، وإلاّ فمع العلم على وفاقه أو خلافه لا يبقى مورد لجعل الأمارة(1) .
وقد أجاب عنه تلميذهما المحقق البجنوردي (قدس سره) بأنّه يمكن أن يقال : إنّ بناء العقلاء على أمارية اليد لا يثبت الملكية شرعاً إلاّ بإمضاء الشارع لذلك البناء ، فإذا قال الشارع : لا تنقض اليقين بكونها يد عادية أو يد أمانة مالكية أو شرعية بالشك في بقاء تلك الحالة السابقة ، وابن على بقاء تلك الحالة ، فهذا ردع لتلك السيرة وذلك البناء(2) .
ثانيهما : ما أفاده سيدنا الاُستاذ الأعظم الخميني مدّ ظلّه العالي من أنّ اليد المسبوقة بكونها عارية أو إجارة ، إمّا أن تكون عند العقلاء معتبرة وكاشفة عن الملكية ، وإمّا أن لا تكون كذلك ، فعلى الأوّل لا مجال للاستصحاب بعد اختصاص اعتباره بشريعة الإسلام ، وعدم اختصاص بناء العقلاء في اعتبار اليد بخصوص المتديّنين منهم ، كما هو ظاهر ، وعلى الثاني لا حاجة إلى الاستصحاب ; لأنّ نفس وجود تلك الحالة السابقة كافية في عدم الاعتبار على ما هو المفروض .
ثمّ قال : ويمكن أن يقال ـ كما هو ظاهر العبارة ـ بأنّ اليد التي هي مورد بناء العقلاء هي اليد الموصوفة بكونها مجهولة الحال غير معنونة بعنوان الإجارة وغيرها ، وعليه : فالرجوع إلى الاستصحاب إنّما هو من باب تشخيص مورد البناء وتمييزه عن غيره ، فباستصحاب حال اليد الحاكم بكونها معنونة بعنوان الإجارة أو العارية يعرف عدم كون اليدالمسبوقة بذلك مورداًلبناءالعقلاءوحكمهم بالاعتبار(3) .
(1) تعليقات فوائد الاُصول : 4 / 604 ـ 605 ، ونهاية الأفكار : 4 ، القسم الثاني : 22 ـ 24 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 1 / 145 ـ 146 .
(3) الرسائل في الاُصول : 1 / 281 ـ 282 .
الصفحة 396
ويرد عليه حينئذ ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم جواز تشخيص المورد بالاستصحاب الذي يختصّ اعتباره بطائفة خاصّة من العقلاء وهم المتديّنون بدين الإسلام ، بعد كون المناط في حجّيتها هو بناء مطلق العقلاء بما هم عقلاء ـ : أنّه مع قطع النظر عن ذلك نقول بأنّ هذا الاستصحاب ليس واجداً لشرائط الحجيّة ; لأنّه يشترط في حجيّته أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لأثر شرعيّ ، واستصحاب حال اليد وكونها معنونة بعنوان الإجارة أو العارية لا يكون واجداً لهذا الشرط ; لأنّه لم يرد في دليل شرعيّ ترتّب أثر على اليد المعنونة بغير عنوان الإجارة والعارية حتى يحرز بالاستصحاب عدم تحقّق الموضوع ، فيترتّب عليه نفي ذلك الأثر ، كما لا يخفى .
هذا كلّه فيما لو استند في اعتبار اليد إلى بناء العقلاء بما هم عقلاء. وأمّا لو استند فيه إلى قوله (عليه السلام) في موثّقة يونس بن يعقوب المتقدّمة(1) : «ومن استولى على شيء منه فهو له»، فإن اُخذ بظاهره فمقتضى إطلاقه اعتبار اليد هنا ، وإن ادّعي فيه التقييد ، فإن كان القيد هو الملكيّة وكان المراد هو الاستيلاء الملكي ، يلزم كون القضيّة ضرورية بشرط المحمول كما هو ظاهر . وإن كان القيد هو عدم العلم بكونها ملكاً أو إجارة أو عارية أو غيرها ، فمقتضاه اعتبار اليد في المقام ; لأنّ المفروض الشك في كون اليد الفعليّة بعنوان الإجارة أو العارية أو غيرهما .
وبعبارة اُخرى : إن كان القيد هو إحراز كونه استيلاءً ملكيّاً لا إجارة ولا عارية ولا غيرهما ، فالشك في ذلك يوجب عدم اعتبار اليد ، ولا يحتاج إلى استصحاب بقائها على الحالة السّابقة ، وإن كان القيد هو الشك في ذلك ، فمجرّد الشك يوجب اعتبار اليد بمقتضى الرّواية ، ولا مجال للاستصحاب بعد حكومة الإمارة عليه ، ومنه ظهر الخلل في ما أفاده .
(1) في ص 377 .
الصفحة 397
وإن قلنا بأنّ المستند هو بناء العقلاء ; وذلك لأنّ المراد من قوله في صدر العبارة : إنّ اليد إنّما تكون أمارة على الملك إذا كانت مجهولة الحال ، إن كان هو مجرّد الجهل بحال اليد وعدم العلم به ، فلازمه اعتبار اليد في المقام ; لأنّ المفروض جهالة حال اليد وعدم العلم به ، وإن كان المراد هو عدم تعنونها بعنوان الإجارة والعارية ونظائرهما ، فاللازم إحراز ذلك ، ولا يكاد يحرز عند العقلاء بما هم عقلاء بالاستصحاب الذي يختصّ جريانه بشريعة الإسلام ، كما عرفت .
والحقّ أن يقال : إنّه لا ريب في اعتبار اليد فيما لو لم يكن في مقابل ذي اليد مدّع أصلا ، وكان هو المدّعي للملكية ; لبناء العقلاء على ذلك كما يظهر بالمراجعة إليهم . نعم ، يحتمل أن يكون الوجه في بنائهم هو كون ذي اليد في المقام مدّعياً بلا معارض ، فالأخذ بقوله إنّما هو لهذه الجهة ، لا لأجل كونه ذا اليد ، ويحتمل أن يكون من باب كونه إدّعاءً من ذي اليد ، أو من باب اليد المقرونة بالإدّعاء .
وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما لو كان في مقابله مدّع آخر أجنبيّ ، فإن قلنا : بأنّ الأخذ بقوله من باب كونه من قبيل المدّعي بلا معارض ، فلا وجه حينئذ لتقديم دعواه على دعوى الآخر بعد خروجه عن ذلك العنوان وصيرورته مدّعياً مع المعارض .
وإن قلنا بأنّ الأخذ بقوله من جهة كون إدّعائه دعوى صادرة من ذي اليد ، أو كون يده يداً مقرونة بالإدّعاء ، فالظاهر حينئذ تقديم قوله ولو مع وجود معارض في مقابله ، لترجيح دعواه على دعواه ; لكونه ذا اليد دونه ، وحيث إنّ الظاهر أنّ الأخذ بقوله يكون عند العقلاء من جهة الاحتمال الثاني دون الأوّل كما يظهر بالمراجعة إليهم ، فيظهر حكم ما لو كان في مقابله مدّع أجنبيّ ، وأنّه في كلتا الصورتين يجب الأخذ بقوله وترتيب الأثر على يده ، والمعاملة مع ما في يده معاملة الملك .
الصفحة 398
وأمّا لو كان في مقابله مدّع هو مالك العين سابقاً ، وكان ذو اليد مستأجراً له أو مستعيراً منه ، فالظاهر عدم اعتبار اليد هنا عند العقلاء ، حيث إنّهم لا يعتبرونها في مقابل إدّعاء المالك للعين ، ولا تكون في نظرهم كاشفة وأمارة على ملكيّة العين بالإضافة إلى ذي اليد الذي كان مستأجراً أو مستعيراً . هذا مع عدم رفع الأمر إلى الحاكم ، وأمّا مع رفعه إليه فالظاهر بعد عدم اعتبار يد ذي اليد أنّه يقدّم دعوى المالك ; لأنّه بنظر العرف هو المنكر ، كما أنّ قوله موافق للأصل الذي هو استصحاب بقاء ملكيّته وعدم حدوث الملكيّة لذي اليد ، فمع عدم البيّنة له على دعواه يتوجّه الحلف إلى المالك ، وبه يرتفع التخاصم .
كما أنّه فيما لو كان في مقابل ذي اليد مدّع أجنبيّ ، ورفع الأمر إلى الحاكم ، يكون تقديم قول ذي اليد متفرّعاً على كون الأخذ بقوله فيما لو لم يكن في مقابله مدّع أصلا ، من باب كون دعواه دعوى صادرة من ذي اليد ، أو يده يداً مقرونة بالإدّعاء . وأمّا لو قلنا هناك بأنّ الأخذ بقوله إنّما هو من باب كونه مدّعياً بلا معارض ، فلا وجه لتقديم قوله هنا مع الترافع أيضاً ، كما هو واضح .
هذا كلّه فيما لو كان ذو اليد مدّعياً لملكية العين وكانت يده مقرونة بالإدّعاء . وأمّا مع خلوّها عنه فلا ريب في عدم اعتبارها ; لعدم بناء العقلاء على الأخذ بها ، كما هو ظاهر .
وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما كانت العين في السابق موقوفة ، والآن يحتمل كونها ملكاً لذي اليد باعتبار عروض بعض المسوّغات لنقلها ، فهي على قسمين ; لأنّه تارة : كانت يده عليها في السابق يداً على العين الموقوفة ، والآن يحتمل أن تكون يده يداً على ملك نفسه ، وبعبارة اُخرى : كان حدوث يده بعنوان اليد على العين الموقوفة وبقاؤها محتملا لأن يكون بعنوان الملكية ، واُخرى : كانت العين في السابق موقوفة ، ويحتمل صيرورتها ملكاً لذي اليد عند حدوث يده ; بأن كان
الصفحة 399
انتقالها إليه وصيرورتها في يده بعنوان الملكية .
وحكي عن السيّد الطباطبائي (قدس سره) في ملحقات العروة : أنّه فصّل بين الصّورتين ، وحكم باعتبار اليد في الصورة الثانية دون الاُولى ; نظراً إلى أنّ استصحاب حال اليد وأنّها يد على العين الموقوفة حاكم عليها ، بخلاف ماإذا لم يعلم ذلك ، واحتمل أن تكون اليد حدثت بعد بطلان الوقف ; فإنّه لا يكون في البين ما يقتضي سقوط اعتبار اليد وأماريّتها(1) .
والظاهر عدم اعتبار اليد في الصّورتين ; لعدم بناء العقلاء على ملاحظتها وترتيب الاثر عليها ; وذلك لأنّ الوقف الذي مرجعه إلى تحبيس المال وإن كان لا يختصّ بالمتشرّعة ، ضرورة ثبوته بين العقلاء غير المنتحلين إلى الشريعة ، كما نراه بالوجدان ، إلاّ أنّ المسوّغ لنقل العين الموقوفة عند العقلاء إمّا أن يكون منتفياً رأساً ، كما لعلّه الظاهر ، أو يكون على تقدير وجوده نادراً جدّاً ، بحيث لو تصرف ذو اليد في العين الموقوفة تصرّفاً كاشفاً عن الملك وعامل معها معاملة الملك لا يرونه إلاّ عادياً ، ولا يخطر ببالهم احتمال عروض المسوّغ لنقلها وصيرورتها ملكاً له .
كما أنّ الأمر في نظر المتشرعة أيضاً كذلك ، مع أنّه يجوز بيع الوقف في شريعة الإسلام في موارد كثيرة على ما قيل ، وإن كان بعضها بل جلّها لا يخلو عن نظر وإشكال ; فإنّهم أيضاً ينكرون على من في يده العين الموقوفة ويعامل معها معاملة الملك ، ويتّـهمونه بالتصرّف فيها تصرّفاً عدوانيّاً .
وبالجملة : حيث إنّ المناط والملاك في اعتبار اليد هو بناء العقلاء ، وقد عرفت أنّ المسوّغ لبيع الوقف عندهم أمره دائر بين أن يكون منتفياً رأساً ، وبين أن يكون ثابتاً مع ندرته جدّاً ، فالظاهر أنّهم لا يعتبرون اليد في الصورتين ; لأنّ الغلبة
(1) ملحقات العروة الوثقى : 401 مسألة 64 .
الصفحة 400
المورّثة للظنّ بكون ما في اليد ملكاً لذيها لا تكون ثابتة في العين التي كانت موقوفة لو لم نقل بأنّ الغلبة الموجبة للظنّ ببقائها على الحالة السّابقة ثابتة ، كما هو الظاهر ، فالتفصيل المذكور لا وجه له .
ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه إنّمـا هو فيما لو علم بكون العين في السّابق موقوفة ، وأمّا لو لم يعلم ذلك ، بل احتمل أن تكون العين التي تحت يد المستولي موقوفة ، فلا ريب في اعتبار اليد هنا وعدم اعتناء العقلاء بهذا الاحتمال ، وإن كان كلام المحقّق النائيني (قدس سره) على ما في التقريرات يوهم عدم اعتبارها هنا أيضاً ; حيث إنّه يستفاد من بعض كلماته في هذا المقام أنّ اليد إنّما تكون أمارة بعد الفراغ عن أنّ المال قابل للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، فإنّ ظاهره أنّه يعتبر في أمارية اليد إحراز كونه قابلا للنقل والانتقال .
وبعبارة اُخرى : إحراز عدم كونه وقفاً مع أنّه ليس كذلك ; لما عرفت من ثبوت بناء العقلاء في موارد الاحتمال ـ كما اعترف به (قدس سره) في ذيل كلامه ـ فيما لو احتمل كون المبيع حرّاً ; نظراً إلى ادّعائه ولم يعلم بكونه حرّاً قبل استيلاء ذي اليد عليه وإن استند في ذلك إلى ما ورد من الرّواية(1) ، إلاّ أنّ الظاهر عدم الاحتياج إليها ، مضافاً إلى عدم دلالتها ; لورودها فيمن كان عبداً سابقاً أو جارية كذلك ، والآن يدّعي الحرّية أو تدّعيها كما يظهر لمن راجعها(2) .
ثم إنّه ربما يمكن أن يقال بابتناء ما ذكر على كون المدرك للقاعدة منحصراً ببناء العقلاء ، وأمّا لو قيل بدلالة الروايات مستقلّة على ذلك ، فيمكن الاستدلال بإطلاق بعضها على الأمارية ولو كانت العين موقوفة في أوّل حدوث اليد ; فإنّ
(1) فوائد الاُصول : 4 / 606 ـ 609 ، القسم الثاني .
(2) تهذيب الأحكام : 7 / 74 ح 317 و 318 ، الفقيه : 3 / 140 ح 613 و 614 ، الكافي : 5 / 211 ح 13 ، وعنها وسائل الشيعة : 18 / 250 ، كتاب التجارة ، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 1 و 2 .
|