الصفحة 461
قاعدة حرمة الإعانة على الإثم
وهي أيضاً من القواعد الفقهية التي يتمسّك بها الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم في جملة من الفروع الفقهية ، ويستدلّ بها في مثل مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، والخشب ممّن يعلم أنّه يجعله صنماً ، والموارد الكثيرة الاُخرى ، وتحقيق الحال فيها يقتضي التكلّم في جهات :
الجهة الاُولى : مدركها ومستندها ، وهو اُمور :
الأوّل : الكتاب ، قال الله تعالى في سورة المائدة : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(1) ولولا كون الجملة الثانية واقعة عقيب الجملة الاُولى معطوفة عليها ، لكانت دلالتها على حرمة التعاون على الإثم والعدوان ممّا لا مناقشة فيها ; لظهور النهي في التحريم على ما هو المحقّق في الاُصول ، ولكن وقوعها عقيبها وعطفها عليها صارت موجباً لتوهّم لزوم حمل النهي على الكراهة ; نظراً إلى أنّه يعلم من الخارج عدم وجوب مطلق التعاون على
(1) سورة المائدة 5 : 2 .
الصفحة 462
البرّ والتقوى .
نعم ، يجب التعاون في بعض الموارد ممّا يكون التعاون لأجل حفظ نفس محترمة ، كإنقاذ غريق أو حريق ، أو يكون من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأمّا التعاون في جميع موارد البرّ والتقوى فليس بواجب ، ومقتضى وحدة السياق بعد حمل الأمر على الاستحباب حمل النهي على الكراهة أيضاً . فلا دلالة للآية على حرمة التعاون على الإثم والعدوان .
ولكنّ الظّاهر ـ بعد تسلّم لزوم حمل الأمر على الاستحباب ـ أنّه لا وجه لحمل النهي على الكراهة بعد كون الآية مشتملة على حكمين مستقلين ، سيّما بعد كون أحدهما أمراً والآخر نهياً ، ومجرّد تتابع الجملتين في الذكر لا يقتضي وحدة السّياق ، وهذا غير ما ذكروه في مثل حديث الرفع(1) من كون وحدة السياق مقتضية لحمل «ما» الموصولة على الموضوع ; لكون معناها في بعض الفقرات ذلك ، فيجب أن يكون في الجميع كذلك .
وذلك ـ مضافاً إلى منع الاقتضاء في الحديث أيضاً ، والتحقيق في محلّه ـ لأجل الفرق بين المقام وبين الحديث ، من جهة أنّ الأشياء والاُمور التسعة المذكورة كلّها مرفوعة بعبارة واحدة وبرفع واحد ، ولم يستعمل في الجميع إلاّ كلمة رفع واحدة ، فهي مشتركة في المرفوعية وفي إسناد الرفع اليها ، وهذا بخلاف المقام الذي يشتمل على حكمين مستقلّين غير مرتبطين : أحدهما أمر ، والآخر نهي ، ولا ارتباط لأحدهما بالآخر أصلا ، فلا مجال فيه لدعوى وحدة السياق ، كما لا يخفى .
نعم ، يجري في الاستدلال بالآية للقاعدة ، المناقشة من جهة اُخرى ; وهي أنّ المأخوذ في القاعدة إنّما هو عنوان الإعانة التي مرجعها إلى كون أحد الشخصين مباشراً وفاعلا ، والآخر عوناً له ومساعداً في إيجاد بعض مقدّمات فعله ،
(1) تقدم في ص 296 .
الصفحة 463
والمأخوذ في الآية الشريفة إنّما هو عنوان التعاون الذي هو من باب التفاعل ، ومعناه اشتراك شخصين وتعاونهما في جهة صدور الفعل عنهما ، فلا ينطبق الدليل على المدّعى .
واُجيب عن ذلك بأنّ أمره تبارك وتعالى بالتعاون على البرّ والتقوى ، وكذلك نهيه عن التعاون على الإثم والعدوان ليس باعتبار فعل واحد وقضيّة واحدة وفي واقعة واحدة ، بل الخطاب إلى عموم المؤمنين والمسلمين ; بأن يكون كلّ واحد منهم عوناً للآخر في البرّ والتقوى ، ولا يكون عوناً لأحد في الإثم والعدوان ، فإطلاق لفظ التعاون باعتبار مجموع القضايا لا باعتبار قضية واحدة وفعل واحد ، فالمأمور به في الآية الشريفة إعانة كلّ مسلم لكلّ مسلم في ما يصدر عنه من فعل الخير والبرّ والتقوى ، والمنهيّ عنه إعانة كلّ شخص في فعله الذي هو إثم أو عدوان ، فينطبق الدليل على المدّعى .
ويؤيّد هذا الجواب : أنّه ـ مع وضوح كون حكم الإثم والعدوان متوجّهاً بالفاعل الذي يسند إليه الفعل ـ يكون مفاد الآية بيان حكم زائد ; وهو التحريم المتعلّق بالعون من آخر على ذلك ، ولو كان مفاد الآية بيان حكم متعلّق بعنوان التعاون الذي مرجعه إلى إسناد الفعل الى شخصين وصدوره منهما ، فلا يكون بياناً لحكم زائد ; لأنّ مرجع ثبوت الحكم لعنوان التعاون عدم ثبوت الحرمة للفعل الصادر من واحد منهما ; لأنّه لا يكاد يجتمع ثبوت الحرمة للواحد مع ثبوتها للمشترك ، كما لا يخفى .
نعم ، يمكن ثبوت الحكم للمشترك في بعض الموارد ، كما إذا توقّف حفظ نفس محترمة على عمل شخصين واشتراك رجلين مثلا ، لكنّه لا يكون في هذه الصورة إلاّ حكم واحد . وأمّا في المقام فلا يجتمع الحكم الذي يتحقّق بمخالفته الإثم ، مع كون المنهيّ عنه هو التعاون المتقوّم بشخصين مثلا ، فتدبّر .
الصفحة 464
ثمّ إنّ الظاهر أنّ «الإثم» بمعنى مطلق المعصية ، و«العدوان» بمعنى الظلم ، فإن كان معناه مطلق الظلم الشامل للظلم على النفس ، المتحقّق في كلّ معصية يكونان مترادفين ، وان كان معناه خصوص الظلم على الغير والعدوان عليه ، يكون عطفه على الإثم من قبيل عطف الخاصّ على العام ، ولعلّ النكتة فيه أهميّته وكونه من حقوق الناس . ويظهر من مجمع البيان حاكياً عن ابن عباس وأبي العالية وغيرهما من المفسّرين ، أنّ «الإثم» هو ترك ما امرهم الله تعالى به ، و«العدوان» ارتكاب ما نهاهم عنه ; لأنّه مجاوزة ما حدّ الله لعباده في دينهم وفرض لهم في أنفسهم(1) .
وعليه : فالإثم والعدوان كلاهما بمعنى العصيان . غاية الأمر أنّ الأوّل عدميّ والثاني وجوديّ ، ثمّ إنّه يظهر منه أيضاً أنّ قوله تعالى : {وَتَعَاوَنُوا . . .} وإن كان جزءاً من الآية الثانية ، إلاّ أنّه كلام مستقلّ وليس بعطف على ما قبله ، وعليه : فشأن نزول أصل الآية أيّاً ما كان لا يرتبط بهذا الذيل الذي هو كلام مستأنف ، فلا مجال للبحث في أنّ شأن نزول الآية هل يضرّ بحجيّة عموم مفاد الآية أم لا ، كما لا يخفى .
الثاني : الروايات الورادة في الموارد الخاصّة التي تدلّ على حرمة الإعانة على الإثم فيها ، أو على حرمة مصاديق الإعانة وأفرادها ، ولكنّه يستظهر من مجموعها أنّ الملاك هي نفس الإعانة على الإثم بعنوانها الكلّي ، سيّما بالإضافة إلى المعاصي الكبيرة ، وهي كثيرة :
منها : قوله (صلى الله عليه وآله) : من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة الله(2) ، ولا شبهة في أنّ الإيعاد سيّـما بهذا النحو يكشف عن الحرمة ، إنّـما الكلام في أنّ المستفاد منه هل هو كون الإعانة على القتل
(1) مجمع البيان : 3 / 257 ـ 258 .
(2) المبسوط : 6 / 285 ، عوالي اللئالي : 2 / 333 ح 48 .
الصفحة 465
خصوصاً مع أهميّته حرام ، أو أنّ الملاك مطلق الإعانة على الإثم؟ لا يبعد الاوّل ، وذلك لأنّه لو كان المحمول هي الحرمة ، لأمكن أن يقال بعدم الخصوصية ، ولكنّ المحمول هو الإيعاد الخاصّ الذي لا يثبت في غير القتل ظاهراً ; فإنّ مطلق الإعانة على الحرام لا يكون موضوعاً لمثل هذا الوعيد ، وعليه فالمحمول الكاشف عن الحرمة مختصّ بالموضوع ، ولا يتجاوز عنه ، فكيف يمكن استفادة العموم منه؟
ومنها : قول النبي (صلى الله عليه وآله) في ما حكاه عنه أبو عبد الله (عليه السلام) على ما رواه في الكافي : من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه(1) ، فإنّه يستفاد منه مفروغية حرمة الإعانة على النفس وكونها موجبة لاستحقاق العقوبة ، لكنّه لا يستفاد منها أنّ حرمة الإعانة على نفسه هل هي من جهة كون المحرّم مطلق الإعانة على الإثم ، أو أنّ للإعانة على النفس خصوصية موجبة لحرمتها؟
ومنها : الروايات الكثيرة الواردة في معونة الظالمين في ظلمهم ، وهي من المكاسب المحرّمة المعنونة فيها ، وقد تعرّض لها الشيخ الأعظم (قدس سره) وفصّل الكلام فيها ، ومن جملة الروايات التي أوردها ما عن كتاب الشيخ ورّام بن أبي فراس قال :
قال (عليه السلام) : من مشى الى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام(2) .
قال : وقال (عليه السلام) : إذا كان يوم القيامة ينادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلماً ، ولاق لهم دواة ، فيجتمعون في تابوت من حديد ، ثمّ يرمى به في جهنّم(3) .
وفي النبوي : من علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر جعله الله حيّة طولها
(1) الكافي : 6 / 266 ح 8 ، تهذيب الأحكام : 9 / 89 ح 376 ، المحاسن : 2 / 387 ح2370 ، وعنها وسائل الشيعة : 24 / 222 ، كتاب الأطعمة والأشرب ، أبواب الأطعمة المحرّمة ب 58 ح 7 ، وفي البحار : 60 / 154 ح 15 عن المحاسن .
(2 ، 3) تنبيه الخواطر : 54 ـ 55 ، وعنه وسائل الشيعة : 17 / 182 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 42 ح15 و 16 .
الصفحة 466
سبعون ألف ذراع ، فيسلّطها الله عليه في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً(1)(2) .
وهذه الروايات وإن وردت في إعانة الظالم في ظلمه ، ولا دلالة لها في نفسها على كون حرمة هذه الإعانة لأجل كونها من مصاديق الإعانة على الإثم حتّى يستفاد منها العموم ، إلاّ أنّه يمكن أن يقال : بأنّ ضمّ الآية المتقدّمة إليها ، لعلّه يوجب دلالتها على التعميم أيضاً ، وذلك لدلالة الآية على تساوي الإثم والعدوان من هذه الجهة ، فاذا كان المراد بالعدوان هو الظلم كما هو المحتمل ، يكون مقتضى تساويه مع الإثم ثبوت هذا الحكم في مطلق الإثم أيضاً ، فتدبّر .
ومنها : ما ورد في مورد إجارة داره لأن يباع فيها الخمر ، مثل خبر جابر قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال : حرام أجره(3) ، ولكن حرمة الاُجرة كاشفة عن بطلان الإجارة ، وهو لا يستلزم حرمتها كما لا يخفى ، والتحقيق في محلّه .
ومنها : ما رواه الكليني بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخمر عشرة : غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها ومشتريها ، وآكل ثمنها(4) ، مع أنّ ما عدا الشارب لا ينطبق عليه إلاّ عنوان الإعانة والمعين على الإثم وتحقّق المعصية . نعم ، قد عرفت في الرواية المتقدّمة أنّ حرمة أكل الثمن إنّما هي من أجل بطلان المعاملة ; لإلغاء الشارع مالية الخمر ، فأكل الثمن أكل للمال بالباطل .
(1) عقاب الأعمال : 335 ، وعنه وسائل الشيعة : 17 / 181 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 42 ح 14 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 53 ـ 54 .
(3) الكافي : 5 / 227 ح 8 ، تهذيب الأحكام : 7 / 134 ح 593 و ج 6 / 371 ح 1077 ، الاستبصار : 3 / 55 ح 179 ، وعنها وسائل الشيعة : 17 / 174 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 39 ح 1 .
(4) الكافي : 6 / 429 ح 4 ، الخصال : 444 ح 41 ، عقاب الأعمال : 291 ح 11 ، وعنها وسائل الشيعة : 25 / 375 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ب 34 ح 1 .
الصفحة 467
ومنها : غير ذلك من الروايات التي لا يبعد أن يستفاد من المجموع حرمة الإعانة على الإثم بعنوانها(1) ، كما لا يخفى .
الثالث : حكم العقل بقبح الإعانة على الإثم ; لأنّها مساعدة على إتيان ما هو مبغوض للمولى ، كحكمه بقبح نفس المخالفة والمعصية ; لكونها مبغوضة للمولى ومشتملة على المفسدة اللازمة الترك ، غاية الأمر أنّ دائرة الإعانة والمساعدة لا تشمل ما إذا هيّأ له مقدّمات بعيدة ، لا بقصد ترتّب المعصية وصدور ما هو المبغوض ، بل كما سيأتي إن شاء الله تعالى في معنى الإعانة ومفهومها اختصاص ذلك بالمقدّمات القريبة ، أو البعيدة التي تكون مقرونة بقصد ترتّب المعصية وتحقّقها ، فانتظر . وفي هذه الدائرة لا مجال لإنكار حكم العقل بالقبح الكاشف عن الحرمة الشرعية ; لقاعدة الملازمة وإن كان حكمه بقبح نفس المعصية ، والمخالفة لا تكون كاشفة عن ثبوت الحرمة الشرعية لها ، كما لا يخفى وجهه .
الرّابع : الإجماع واتّفاق الأصحاب على حرمة الإعانة على الإثم(2) ، وهذا الأمر مفروغ عنه عندهم ويرسلونه إرسال المسلّمات ، ولكنّا قد ذكرنا مراراً أنّه لا أصالة لمثل هذا الإجماع بعد دلالة الكتاب والسنّة ، بل وحكم العقل على ما عرفت ، فلا يكون دليلا مستقلاًّ في مقابلها .
الجهة الثانية : في المراد من القاعدة ، فنقول :
أمّا الإثم ، فهو في القاعدة بمعنى مطلق المخالفة والمعصية ; سواء كان في التكليف الوجوبي أو التحريمي وإن كان المراد به في الآية بلحاظ عطف العدوان عليه معصية ، خاصّة على ما عرفت من مجمع البيان ، إلاّ أنّه لا مجال للإشكال في أنّ المراد به في القاعدة هو مطلق المخالفة .
(1) وسائل الشيعة : 17 / 223 ـ 225 ب 55 و ج 25 / 375 ـ 377 ب 34 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 2 / 53 ، مفتاح الكرامة : 4 / 60 عوائد الأيّام : 75 ، العناوين : 565 .
الصفحة 468
وأمّا الإعانة التي هي العمدة ، فهي لغة بمعنى المساعدة ، يقال : أعانه على ذلك ، أي : ساعده عليه ، وعليه : فالمُعِين للإنسان هو المساعد له في جهة خاصّة أو سائر الجهات . ولكنّ الظاهر عدم اختصاص المساعدة بالمساعدة العملية ، بل تعمّ المساعدة الفكرية ، وإراءة الطريق والإرشاد إلى ما هو مطلوبه ومقصده ، وعليه : فالإعانة على الإثم معناها مساعدة الآثم وإعانته في جهة تحقّق الإثم وصدور المعصية ; سواء كانت مساعدة عملية ، أم مساعدة فكرية إرشاديّة ، والظاهر أنّه لا كلام في ذلك ، إنّما الكلام في أمرين :
أحدهما : أنّه هل يتوقّف صدق الإعانة على الإثم على قصد ترتّب الإثم وتحقّق المعصية ، بحيث لو لم يكن المُعِين قاصداً لترتّبها وصدورها من الآثم لم تتحقّق الإعانة أصلا ، أو لا يتوقّف صدقها على قصد صدور المعصية منه بوجه؟
ثانيهما : هل يتوقّف الصدق المذكور على تحقّق الحرام في الخارج وصدور الإثم من الآثم ، أم يتحقّق ولو لم يصدر المعصية منه في الخارج أصلا؟
قد يقال بلزوم كلا الأمرين من القصد وتحقّق الحرام في الخارج ، وقد يقال بعدم لزوم شيء من الأمرين ، بل بمحض إيجاد المقدّمة تتحقّق الإعانة ; سواء قصد ترتّب الحرام أم لا ، وسواء تحقّق الحرام في الخارج أم لا ، وقد يقال بالتفصيل بين الأمرين ; نظراً إلى اعتبار الأمر الأوّل دون الثاني ، أو العكس ، فيتحصّل أربعة احتمالات ، بل أقوال ، واللاّزم البحث في كلّ واحدة من الصّور الأربع ، فنقول :
أمّا الصورة الاُولى : وهي التي كانت مقرونة بالقصد وترتّب الحرام عليها خارجاً ، فلا إشكال في صدق الإعانة على الإثم فيها وإن كان العمل الصّادر من المعِين مقدّمة بعيدة ، كالغرس في الرواية النبوية المتقدّمة ، فإنّ غرس شجر العنب إن كان بقصد أن يصنع الخمر من عنبه ، وترتّب هذا القصد عليه في الخارج ، يكون
الصفحة 469
إعانة على الإثم ، ويصير الغارس ملعوناً كما في الرواية .
كما أنّ الصورة الثانية ـ وهي عكس الصورة الاُولى ـ تكون فاقدة للقصد والترتّب معاً ، فلا ينبغي الإشكال في عدم كونها إعانة وإن قيل بالصدق فيها أيضاً . ولعلّ مستنده إطلاق الغارس في الرواية النبويّة ، حيث لم يقيّد بالقصد أو الترتّب أصلا ، ولكنّ الظاهر أنّه لامجال للالتزام به ، وإلاّ يلزم أن يكون أكثر الأفعال محرّمة بعنوان الإعانة ; لصلاحيتها لاستفادة المعصية منها وترتّب الحرام عليها .
ويمكن أن يقال : إنّ إضافة الغارس إلى الخمر في الرّواية ـ مع عدم قابليّة الخمر للمغروسية ، وإنّما القابل هو النخل وشجر العنب ـ إنّما تصحّ على تقدير كون الغرض من الغرس ذلك ، وإلاّ فمطلق غرس النخل لا يصحّح إطلاق غرس الخمر ، فالرواية حينئذ لا دلالة لها ولو بظاهرها على حرمة مطلق الغرس واللّعن عليه ، كما لا يخفى .
وأمّا الصورة الثالثة : فهي ما إذا كان هناك قصد ، ولكنّه لا يكون ترتّب وصدور إثم وعدوان ، والظاهر أنّه لا مجال لتوهّم صدق الإعانة على الإثم والعدوان هنا ، بعد عدم تحقّق إثم ومعصية في الخارج حتّى يعان عليها . نعم ، لو كان المعِين قاطعاً بتحقّق الحرام وترتّبه عليه بالقطع الوجداني أو الحكمي ، يصدق عليه عنوان المتجرّي ; لقطعه بأنّ عمله إعانة على الإثم مع عدم كونه في الواقع كذلك ، كما أنّه يمكن أن يقال بالحرمة لا من جهة الإعانة بل من جهة اُخرى غيرها ، وأمّا الإعانة فلا مجال لتوهّمها بوجه .
والعجب من الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) ، حيث إنّه يظهر منه في مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، بل يصرّح بتقوّم الإعانة بالقصد والإتيان بالفعل بقصد حصول المعان عليه ; سواء حصل أم لم يحصل ، حيث إنّه ذكر في مقام الجواب عن بعض المعاصرين ، القائل باعتبار القصد وباعتبار وقوع المعان عليه في تحقّق
الصفحة 470
مفهوم الإعانة في الخارج ، وتخيّله أنّه لو فعل فعلا بقصد تحقّق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقّق منه ، لم يحرم من جهة صدق الإعانة ، بل من جهة قصدها ، بناءً على ما حرّره من حرمة الاشتغال بمقدّمات الحرام بقصد تحقّقه ، وأنّه لو تحقّق الفعل كان حراماً من جهة القصد إلى المحرّم ، ومن جهة الإعانة(1) ، أنّ فيه تأمّلا ، قال :
فإنّ حقيقة الإعانة على الشيء هو الفعل بقصد حصول الشيء ; سواء حصل أم لا ، ومن اشتغل ببعض مقدّمات الحرام الصادر عن الغير بقصد التوصّل إليه ، فهو داخل في الإعانة على الإثم ، ولو تحقّق الحرام لم يتعدّد العقاب(2) .
وجه التعجّب أنّ كون المعان عليه إثماً ومعصية لا يوجب التغيير في معنى الإعانة ، ومن الواضح أنّه مع عدم تحقّق المعان عليه في الخارج كيف يعقل تحقّق الإعانة عليه؟ فاذا لم يتحقّق التزويج مثلا لمانع ، هل يجوز دعوى أنّ زيداً أعان عمراً على التزويج ، ولو كان هناك إطلاق فهو مبنيّ على التسامح ، وإلاّ فالإطلاق الحقيقي لا يكون له وجه أصلا .
وأمّا الصورة الرّابعة : فهي عكس الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان هناك ترتّب وصدور معصية ، ولكنّه لم يكن في البين قصد ، والظاهر أ نّ المسألة خلافية ، فقد استظهر الشيخ من الأكثر عدم اعتبار القصد ، وحكى عن الشيخ في المبسوط الاستدلال على وجوب بذل الطّعام لمن يخاف تلفه بقوله (صلى الله عليه وآله) : من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيس من رحمة الله(3) .
وعن العلاّمة في التذكرة : أنّه استدلّ على حرمة بيع السّلاح من أعداء الدين بأنّ فيه إعانة على الظّلم(4) . وعن المحقّق الثاني : أنّه استدلّ على حرمة بيع العصير
(1) عوائد الأيّام : 79 .
(2) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 133 .
(3) المبسوط : 6 / 285 .
(4) تذكرة الفقهاء : 12 / 139 .
الصفحة 471
المتنجّس ممّن يستحلّه بأنّ فيه إعانة على الإثم(1) . وعن المحكي عن المحقّق الأردبيلي : أنّه استدلّ على حرمة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً بأنّ فيه إعانة على الإثم(2) . وعن الحدائق : أنّه قرّره على ذلك(3) . وعن الرياض : أنّه بعد ذكر الأخبار الدالّة على الجواز في مسألة بيع العنب قال : وهذه النصوص وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها ، بل وربما كان بعضها صريحاً ، لكن في مقابلتها للاُصول والنصوص المعتضدة بالعقول إشكال(4) .
ثمّ استظهر أنّ مراده بالاُصول قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم» ، ومن العقول حكم العقل بوجوب التوصّل الى دفع المنكر مهما أمكن ، ثمّ أيّد الشيخ ما ذكروه ـ من صدق الإعانة بدون القصد ـ بإطلاقها في غير واحد من الأخبار ، مع عدم تحقّق القصد في مواردها ، مثل النبويّ المتقدّم(5) «من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه»، وغيره من الرّوايات(6) .
ولكن يظهر من المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد اعتبار القصد في تحقّق مفهوم الإعانة(7) ، ووافقه جماعة من متأخّري المتأخّرين ، منهم : صاحب الكفاية(8)وصاحب الجواهر(9) .
وهنا قول ثالث ; وهو التفصيل بين ما إذا كانت تلك المقدّمة بعد إرادة الآثم
(1) حاشية الإرشاد للمحقّق الثاني المطبوع مع حياة المحقّق الكركي وآثاره: 9 / 317 .
(2) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 50 .
(3) الحدائق الناضرة : 18 / 205 .
(4) رياض المسائل : 8 / 55 .
(5) في ص 465 .
(6) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 133 ـ 135 .
(7) حاشية الإرشاد : 318 .
(8) كفاية الأحكام: 85.
(9) جواهر الكلام : 22 / 30 ـ 33 .
الصفحة 472
لذلك الإثم وعزمه على ذلك الفعل ، ولكن يتوقّف إيجاده على تلك المقدّمة ، كما إذا أراد ضرب شخص وعزم على ذلك ، ولكن يتوقّف وقوع الضرب في الخارج على وصول عصا بيده ، فأعطاه العصا بيده في هذه الحالة مع علمه بإرادته وعزمه ، فإنّ إعطاء العصا في هذه الحالة مع العلم المذكور يكون إعانة على الإثم وإن لم يقصد ترتّب الضرب ، بل يرجو أن لا يضرب ، وبين ما إذا كانت تلك المقدّمة من مبادئ الإرادة على الإثم .
وبعبارة اُخرى : التفصيل بين ما إذا كانت المقدّمة جزءاً أخيراً من العلّة التامّة لتحقّق الإثم ، وبين ما إذا لم تكن كذلك ، ففي الصورة الاُولى تتحقّق الإعانة ولو لم تكن المقدّمة مقرونة بقصد المعِين ، وفي الصورة الثانية يتوقّف تحقّق الإعانة على القصد وترتّب المحرّم والمعصية . أمّا توقّف الصورة الثانية على القصد فواضح ، وقد عرفت أنّ رواية لعن الغارس ناظرة إلى هذا الفرض(1) .
وأمّا عدم توقّف الصورة الاُولى على القصد ; فلأنّ المفروض تماميّة مقدّمات وقوع الحرام وتحقّق الإثم ونقصان هذه المقدّمة ، فإذا علم أنّه بإيجادها يتحقّق الحرام في الخارج ، فهو إعانة لا محالة وإن لم يكن قاصداً لتحقّقه ، بل كان الغرض من إعطاء العصا في المثال المذكور أنّه لا يريد مخالفة الآثم والإباء عن إيجاد مطلوبه ; وهو التمكّن من العصا . وقد اختار هذا القول جماعة ، منهم : المحقّق البجنوردي(2) ، وقبله الشيخ الأنصاري في آخر كلامه(3) ، وقبله المحقّق الأردبيلي في آيات أحكامه . قال في كتاب الحجّ منه عند بيان آية : {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(4) :
(1) في ص 468 .
(2) القواعد الفقهية للمحقق البجنوردي : 1 / 368 ـ 369 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 140 ـ 141 .
(4) سورة المائدة 5 : 2 .
الصفحة 473
والظاهر أنّ المراد الإعانة على المعاصي مع القصد ، أو على الوجه الذي يقال عرفاً أنّه كذلك ، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم فيعطيه إيّاها ، أو يطلب منه القلم لكتابة ظلم فيعطيه إيّاه ، ونحو ذلك ممّا يعدّ ذلك معاونة عرفاً ، فلا يصدق على التاجر الذي يتّجر لتحصيل غرضه أنّه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور ، ولا على الحاجّ الذي يؤخذ منه بعض المال في طريقه ظلماً ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، فلا يعلم صدقها على شراء من لم يحرم عليه شراء السلعة من الذي يحرم عليه البيع ، ولا على بيع العنب ممّن يعمل خمراً ، والخشب ممّن يعمل صنماً ، ولهذا ورد في الروايات الكثيرة الصحيحة جوازه(1) ، وعليه الأكثر(2) ، ونحو ذلك ممّا لا يحصى(3) .
قال صاحب العوائد بعد نقل العبارة المذكورة : وهو جيّد في غاية الجودة(4) .
ولكن الشيخ الأعظم (قدس سره) أورد على المحقّق الأردبيلي بعد جعل مورد الإشكال في بحث الإعانة ما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدّمة مشتركة بين المعصية وغيرها . مع العلم بصرف الغير إيّاها في المعصية . وبعبارة اُخرى : ما إذا كان هناك إعانة على شرط الحرام مع العلم بصرفه في الحرام ، بأنّ الفرق بين إعطاء السّوط للظالم ، وبين بيع العنب لاوجه له ; فإنّ إعطاءالسوط إذاكان إعانة ـ كما اعترف به في آيات الأحكام ـ كان بيع العنب كذلك ، كما اعترف به في شرح الإرشاد(5) ،(6) .
(1) وسائل الشيعة : 17 / 176 ، كتاب التجارة ، أبواب ما يكتسب به ب 41 و ص 229 ب 59 .
(2) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع : 2 / 9 ، والكركي في جامع المقاصد : 4 / 18 و ج 7/ 122 ، والشهيد الثاني في روضة البهيّة : 3 / 211 ، ومسالك الأفهام : 3 / 124 ، والسبزواري في كفاية الأحكام : 85 ، والسيّد علي الطباطبائي في رياض المسائل : 8 / 50 ـ 55 ، والعاملي في مفتاح الكرامة : 12 / 123 ـ 131 وغيرها .
(3) زبدة البيان : 382 ـ 383 .
(4) عوائد الأيّام : 78 .
(5) مجمع الفائدة والبرهان : 8 / 50 .
(6) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 136 ـ 138 .
الصفحة 474
ويرد عليه ما أفاده في ذيل كلامه من الفرق من جهة انحصار فائدة الشرط عرفاً في الحالة الخاصّة في الضّرب ، بخلاف تمليك الخمّـار ; فإنّه لا تنحصر فائدته عرفاً في التخمير ، ولو مع العلم بترتّبه عليه ، فالانحصار وعدمه هو الفارق بين المسألتين(1) .
فحاصل الكلام يرجع إلى أنّ العرف هو الفارق بين الفرضين ، وملاكه الانحصار العرفي وعدمه ، كما أنّ ثبوت الإعانة مع فرض القصد في غير هذه الصورة إنّـما هو لحكم العرف بذلك ; فإنّه يرى الفرق بين غارس النخل لأجل استفادة الخمر ، وبين الغارس لا لذلك . نعم ، يبقى الكلام في مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه(2) ، واللازم أن يقال ـ بعد ظهور عدم كونه في مقام الإخبار عن تحقّق الإعانة العرفية بذلك ـ : إنّ المراد هو تحقّق الإعانة تعبّداً وترتّب آثارها عليه كذلك ، ولا مانع من الالتزام به بعد دلالة الرّواية عليه ، ويمكن أن يقال بأنّه حيث يترتّب الموت غالباً على أكل الطين ، فآكل الطين لا يكاد ينفكّ عن القصد ، والإعانة إنّما هي بلحاظ ثبوت القصد، فتدبّر .
ثمّ إنّ الموارد المرتبطة بهذه القاعدة في الفقه كثيرة : مثل مسألة بيع العنب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً ، وبيع الخشب ممّن يعلم أنّه يجعله صنماً ، وإجارة الدكّان لبيع الخمر ، أو الدار لصنعها ، وإجارة الدابّة أو السفينة لحمل الخمر ، وبيع السلاح من أعداء الدين ، وإن كان يحتمل فيه أن لا تكون حرمته من باب الإعانة ، بل من حيث نفسه .
والضابط في الموارد الخالية عن النصّ جوازاً أو منعاً مراعاة ما ذكرناه في معنى الإعانة من اعتبار أحد أمرين على سبيل منع الخلوّ ، إمّا القصد إلى ترتّب
(1) المكاسب (تراث الشيخ الاعظم) : 1 / 140 .
(2) في ص 465 .
الصفحة 475
فعل الحرام عليه ; بمعنى كون الغرض من الفعل وإيجاد المقدّمة ترتّب الحرام عليه ووجوده في الخارج . وإمّا كون الفعل قريباً إلى الحرام وجزءاً أخيراً من العلّة التامّة ، الذي يوجب صدق الإعانة بنظر العرف وإن لم يكن في البين قصد أصلا .
الجهة الثالثة : في أنّه لا إشكال في صدق الإعانة فيما إذا كان هناك شخصان : أحدهما المعِين ، والآخر : المعان ، وأمّا بالإضافة إلى شخص واحد ، فهل تتحقّق الإعانة أم لا؟ فالمشتري في مثال بيع العنب إذا كان قاصداً باشترائه تخمير العنب المشترى ، وكان غرضه من الشراء ذلك ، هل يكون عمله حراماً بعنوان الإعانة أم لا؟ يظهر من الشيخ الأعظم (قدس سره) الثاني ، حيث إنّه ذكر أنّ محلّ الكلام فيما يعدّ شرطاً للمعصية الصادرة عن الغير ، فما تقدّم(1) من المبسوط من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستنداً إلى قوله (عليه السلام) : «من أعان على قتل مسلم . . .»(2) محلّ تأمّل ، إلاّ أن يريد الفحوى(3) .
ويؤيّد التعميم الرواية الواردة في لعن الغارس ; فإنّ حملها على كون المراد من الغرس تخمير الغير ، وعدم شمولها لما إذا كان المراد تخميره بنفسه في غاية البعد ، وكذا الرواية الواردة في أكل الطين ، الدالّة على أنّه إعانة على نفسه ولو بالمعنى الذي ذكرناه في معنى الرواية .
وبالجملة : إن كان مراد الشيخ (قدس سره) مدخليّة وجود الغير في معنى الإعانة عرفاً ، بحيث لا يكاد يتحقّق عندهم بدونه ، فالظاهر أنّه لا دليل عليه ، خصوصاً بعد ما عرفت من الإطلاق في النصوص وبعض الفتاوى ، وإن كان مراده مدخليّته زائداً على المعنى العرفي ، فلا مجال له كما هو ظاهر .
(1، 2) في ص 470 .
(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) : 1 / 139 .
الصفحة 476
الجهة الرّابعة : في أنّه إذا صارت المعاملة محرّمة لأجل الإعانة على الإثم ـ كبيع العنب لأجل صرفه في التخمير ـ لا يوجب ذلك بطلان المعاملة وإن قلنا بأنّ النهي والتحريم المتعلّق بالمعاملة يوجب فسادها على خلاف ما هو مقتضى التحقيق ، كما بيّـن في محلّه ; وذلك لأنّ التحريم بمقتضى النصوص والفتاوى إنّـما تعلّق بعنوان الإعانة على الإثم والعدوان ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يعقل أن يسري الحكم من متعلّقه إلى شيء آخر ، ولو كان بينهما اتّحاد في الخارج(1) .
وعلى هذا المبنى قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة الاُصولية ، وفي المقام بيع العنب في المثال المذكور وإن كان منطبقاً عليه عنوان الإعانة على الإثم ، إلاّ أنّه لا يكاد يسري الحكم من عنوان الإعانة إلى عنوان البيع ، فالمحرّم في جميع الحالات وفي جميع المقامات هو نفس هذا العنوان ، وأمّا عنوان البيع فهو محكوم بحكمه الأوّلي وهو الجواز ، فلا مجال لأن يصير باطلا لأجل الحرمة بعد كون متعلّقها هو عنوان الإعانة دون المعاملة .
هذا تمام الكلام في قاعدة حرمة الإعانة على الإثم .
28 محرم الحرام 1409 هـ
(1) اُصول فقه الشيعة : 5 / 349 .
الصفحة 479
قاعدة حجيّة البيّنة
وهي من القواعد الفقهية المعروفة والمبتلى بها في كثير من أبواب الفقه ، والكلام فيها يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في ما يدلّ أو يستدلّ به على اعتبار البيّنة ، وهو اُمور :
الأوّل : دعوى الإجماع(1) على اعتبارها في الموضوعات الخارجية التي يترتّب عليها حكم أو أحكام في الشريعة المقدّسة كالنجاسة ، والغصبيّة ، والملكية ، والعدالة ، والقبلة ، والاجتهاد وأشباهها .
وقد أورد على هذه الدّعوى بأنّ هذا الاجماع على تقدير تحقّقه لايكون واجداً لملاك الحجّية ولا كاشفاً عن موافقة المعصوم (عليه السلام) ; لاحتمال أن يكون مستند المجمعين شيئاً من الوجوه الآتية ، وعليه لا يبقى للإجماع أصالة ، بل اللازم النظر في تلك الوجوه واستفادة حكم البيّنة منها(2) ، كما لا يخفى .
(1) غنية النزوع : 438 ، جواهر الكلام : 6 / 173 ، العناوين : 2 / 650 .
(2) عوائد الأيّام : 812 ، التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الطهارة : 2 / 260 ، القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي : 3 / 16 .
الصفحة 480
ويمكن الجواب عن الإيراد بأنّه حيث لا تكون الوجوه الآتية ظاهرة الدلالة على حجّية البيّنة ، بل اكثرها أو كلّها مخدوشة ، فالاجماع على اعتبارها بنحو يكون كإرسال المسلّمات لا يبعد أن يقال بكشفه عن موافقة المعصوم (عليه السلام) ، لعدم التلاؤم بين هذا النحو من الإرسال ، وبين الوجوه التي لا تكون دلالتها على حجيّة البيّنة ظاهرة ، كما هو ظاهر .
الثاني : أنّه لا إشكال في اعتبار البيّنة في مورد الترافع والخصومة وتقدّمها على غير الإقرار مثل اليمين ونحوها ، فإذا كانت معتبرة في ذلك الباب مع وجود المعارض وثبوت المكذّب ـ حيث إنّ المنكر بإنكاره يكذب البيّنة ويعارضها ـ ففيما إذا لم يكن لها معارض تكون معتبرة بطريق أولى ، فالدليل على حجّية البيّنة في ذلك الباب يدلّ بمفهوم الموافقة على الحجيّة في غيره ممّا لا يكون لها معارض .
واُورد عليه بأنّ اعتبار شيء في باب المرافعات والخصومات ، لا دلالة له على اعتباره في غيرها أصلا ، فضلا عن أن يكون بطريق أولى ; لأنّ بقاء التنازع والتخاصم ينجرّ إلى اختلال النظام ، وهو مبغوض للشارع ، وغرضه رفعها بأيّ نحو كان ، فاعتبار شيء في ذلك الباب لا يلازم الاعتبار في غيره ، كما أنّ اليمين مع اعتبارها في فصل الخصومة لا تكون معتبرة في غيره(1) .
الثالث : الروايات الواردة في هذا الباب ، وعمدتها رواية مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ،
(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الطهارة : 2 / 261 .
|