إخباراً عن الحكم مع أنّه ربما لا يكون المخبر عالماً بوجود رسالة لمن يخبر عن اجتهاده ، فضلا عن الأحكام الموجودة فيها؟ فالإنصاف أنّ إقامة الدليل على اعتبار خبر الثقة في الموضوعات الخارجيّة من هذا الطريق مشكلة لو لم تكن ممنوعة ، كما عرفت .
الأمر الثاني : الظاهر أنّ حجّية البيّنة إنّما هي بعنوان كونها من الأمارات الشرعيّة ; لأنّ اعتبارها عند العقلاء إنّما يكون بهذا العنوان ، والظاهر أنّ الشارع قد عامل معها معاملة العقلاء ، فاعتبارها في الشرع أيضاً يكون بعنوان الأمارة .
وعلى هذا ، فلو وقع التعارض بين البيّنة وبين الاُصول الموضوعيّة ; كما إذا كان مقتضى الاستصحاب بقاء خمريّة المائع المشكوك ، وقامت البيّنة على كونه خلاًّ ، أو كان مقتضى قاعدة الفراغ ـ بناءً على كونها من الاُصول ـ البناء على الصّحة مع الشك في الإتيان بالجزء أو الشرط أو ترك المانع أو القاطع ، ولكن قامت البيّنة على الإخلال بما يعتبر وجوده ، وعلى إتيان ما يعتبر عدمه ، ولم يكن هناك ما يدلّ على الصحّة كذلك ، مثل قاعدة : «لا تعاد» في الصلاة ، فمقتضى تقدّم الأمارات على الاُصول وحكومة الاُولى على الثانية ـ كما قد حقّق في الاُصول ـ لزوم الأخذ بالبيّنة والحكم بالخلّية في المثال الأوّل ، وبالبطلان في الثاني .
وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنة وبين اليد ، فلا إشكال في تقديمها على اليد ; لأنّ عمدة تشريعها في باب التنازع والتخاصم إنّما هو لإبطال التمسّك باليد ; فإنّ العمدة في تشخيص المدّعي إنّما هي لأجل كونه مدّعياً في مقابل ذي اليد ومريداً لأخذ ما في يده منه ، وصاحب اليد ينكر ويدّعي كونه مال نفسه ، فالأخذ بالبيّنة ابتداءً ـ لقوله (صلى الله عليه وآله) : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1) ـ إنّما هو لأجل تقدّم البيّنة على اليد ، وإلاّ فلو كانت البيّنة في عرض اليد أو متأخّرة عنها ، لايبقى مجال
(1) تقدم في ص 381 .
الصفحة 502
لتقديم البيّنة والقضاء بنفع المدّعي إذا كانت له بيّنة .
وأمّا تعارضها مع سوق المسلم الذي هو أمارة على التذكية والحلية ; كما إذا اشترى لحماً من سوق المسلمين وقامت البيّنة على عدم كونه مذكّى ، وأنّه محرّم ، فربما يقال : إنّ تقديم البيّنة على السّوق من الواضحات والمسلّمات ، ولعلّ الوجه فيه أنّ ملاحظة أدلّة اعتبار السّوق وأماريّته تقضي بأنّ موردها ما إذا لم يكن هناك أمارة على خلافه ، وكانت التذكية مشكوكة من رأس . وأمّا أدلّة اعتبار البيّنة فلا تكون كذلك ، فراجع .
وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنة وبين الإقرار ، كما إذا أقرّ بأنّ ما في يده لزيد مثلا ، وقامت البيّنة على كونه للمقرّ دون زيد ، فمقتضى القاعدة تساقط الأمارتين ، ولكنّ الظاهر أنّ بناء العرف والعقلاء على تقديم الإقرار ، ولعلّ الوجه فيه اختصاص كاشفية البيّنة عندهم بصورة عدم الإقرار ، وأنّه مع وجوده لا يرون الكاشف إلاّ الإقرار ، فالإقرار عندهم بمنزلة العلم الذي لا مجال للبيّنة مع وجوده على خلافها .
ولكن وردت روايات في باب القتل في أنّه إذا قامت البيّنة على أنّ زيداً مثلا قاتل ، ثمّ أقرّ عمرو بأنّه القاتل ، يكون للوليّ الأخذ بأيّة واحدة مع الأمارتين ، وقتل أيّ واحد منهما(1) ، وقد عملوا بها وأفتوا على طبقها(2) ، ولكنّ الظاهر أنّه خلاف القاعدة يجب الأخذ به لوجود النصّ .
ولو وقع التعارض بين البينتين ، فمقتضى القاعدة تساقط الأمارتين وعدم ثبوت حجّة في البين ، من دون فرق بين أن تكون هناك مزيّة من جهة الكمية أو
(1) الكافي : 7 / 289 ح 1 ، تهذيب الأحكام : 10 / 172 ح 677 ، الفقيه : 4 / 78 ح 244 ، وعنها وسائل الشيعة : 29 / 141 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 3 ح 1 ، وانظر وسائل الشيعة : 29 / 142 ب 4 ومستدرك الوسائل : 18 / 264 ، كتاب القصاص ، أبواب دعوى القتل ب 3 و 4 .
(2) رياض المسائل : 14 / 105 ـ 106 ، جواهر الكلام : 42 / 206 .
الصفحة 503
الكيفيّة ; كما إذا كان العدد في أحد الطرفين زائداً على اثنين ، أو كان أحدهما أعدل من الآخر ; وذلك لعدم دليل على ثبوت الترجيح . نعم ، لو احتمل الثبوت لكان مقتضى القاعدة الأخذ بذي الترجيح ; لدوران الأمر بين التعيين والتخيير . وأمّا مع عدم الاحتمال فالقاعدة تقتضي التساقط .
هذا تمام الكلام في قاعدة حجّية البيّنة.
16 شهر صفر 1409
الصفحة 507
قاعدة حجيّة سوق المسلمين
وهي أيضاً من القواعد المشهورة المبتلى بها لأكثر الناس ، والكلام فيها يقع في مقامات :
المقام الأوّل : في مدركها ومستندها ، وهو اُمور :
الأوّل : استقرار سيرة المتشرّعة والمؤمنين على دخول السوق واشتراء اللحوم والجلود من دون الفحص عن كونها ميتة أو مذكّاة ، حتى أنّ الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم ووكلاءهم كانوا كذلك ; فإنّهم كانوا يستفيدون ممّا يشترى من السوق من دون تفحّص عن كيفية زهاق روح حيوانه ، كما أنّهم يدخلون السّوق ويشترون العبيد والإماء من دون سؤال وتفتيش عن كونهم مملوكين أو أحراراً مقهورين ، ولا شبهة في ثبوت هذه السيرة وكونها ممضاة عند صاحب الشريعة والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين .
هذا مع قطع النظر عن الروايات المتكثّرة الآتية الواردة في السوق الدالّة على اعتبارها ، وقد وقع في بعضها التعليل بأنّه «لو لم يجز هذا لما قام للمسلمين
الصفحة 508
سوق»(1) ، وإلاّ فمع ملاحظتها لا مجال للارتياب في المسألة بوجه .
الثاني : الإجماع(2) على اعتبار السوق ، ولا شبهة في تحقّق الإتّفاق والإجماع ، ولكنّه لا أصالة له بعد ظهور مستند المجمعين وتماميّته كما مرّ مراراً .
الثالث : الروايات المتعدّدة الّتي :
منها : صحيحة الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم ، أنّهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون ، فقال : كُل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه(3) .
ومنها : صحيحة الحلبي قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السّوق . فقال : اشتر وصلّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه(4) . والظاهر أ نَّ السوق فيها إشارة إلى المعهود ; وهو سوق المدينة الذي كان سوق المسلمين .
ومنها : صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية أيصلّي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك(5) .
ومنها : صحيحته الاُخرى عن الرّضا (عليه السلام) قال : سألته عن الخفاف يأتي
(1) الكافي : 7 / 387 ح 1 ، الفقيه : 3/31 ح 92 ، تهذيب الأحكام : 6 / 261 ح 695 ، وعنها وسائل الشيعة : 27/292 ، كتاب القضاء ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 2 .
(2) القواعد الفقهيّة للمحقّق البجنوردي : 4 / 156 .
(3) الكافي : 6 / 237 ح 2 ، الفقيه : 3 / 211 ح 976 : تهذيب الأحكام : 9 / 72 ح 307 و 306 ، وعنها وسائل الشيعة : 24 / 70 ، كتاب الصيد والذبائح ، أبواب الذبائح ب 29 ح 1 .
(4) تهذيب الأحكام : 2 / 234 ح 920 ، الكافي : 3 / 43 ح 28 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 490 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 2 .
(5) تهذيب الأحكام : 3 / 368 ح 1529 ، الفقيه : 1 / 167 ح 787 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 491 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 3 .
الصفحة 509
السوق فيشتري الخفّ ، لا يدري أذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال : نعم ، أنا أشتري الخفّ من السّوق ويصنع لي واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة(1) .
والظاهر إتّحاد هذه الرواية مع الرّواية السابقة وإن جعلهما في الوسائل متعدّدة ، والاختلاف في بعض الاُمور لا يضرّ بالإتحاد ، كما هو غير خفيّ .
ومنها : مرسلة الحسن بن الجهم قال : قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : أعترض السّوق فأشتري خفّاً لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال : صلّ فيه ، قلت : فالنعل؟ قال : مثل ذلك ، قلت : إني أضيق من هذا ، قال : أترغب عمّا كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله(2)؟! .
ومنها : غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب ، وبملاحظة المجموع لا يبقى ارتياب في اعتبار السّوق في الجملة .
المقام الثاني : في مفاد الروايات ، فنقول :
لا إشكال في أنّ المستفاد منها هو اعتبار «سوق المسلمين» لا مطلق السّوق ، ويشهد له إضافة السوق إليهم في رواية الفضلاء الثلاثة المتقدّمة الظاهرة في الاختصاص ، خصوصاً مع ملاحظة كون مورد السؤال فيها أيضاً ذلك ; فإنّ الظاهر أنّ المراد من الأسواق فيه هي الأسواق المعهودة الموجودة في المدينة ، ومثلها من البلاد الإسلاميّة ، ومع ذلك لم يكتف الإمام (عليه السلام) في الجواب بهذا الظهور ، بل صرّح بإضافة «السوق» إلى «المسلمين» ، وعلّق الحكم بجواز الأكل عليه .
وأمّا إطلاق السّوق في سائر الروايات أو ترك الاستفصال ، فمضافاً إلى ما عرفت من كونه إشارة إلى الأسواق المعهودة ، يلزم تقييده بسبب رواية الفضلاء ،
(1) تهذيب الأحكام : 2 / 371 ح 1545 ، قرب الإسناد : 385 ح 1375 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 492 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 6 .
(2) الكافي : 3 / 404 ح 31 ، تهذيب الأحكام : 2 / 234 ح 921 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 /493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 9 .
الصفحة 510
فيصير المستفاد من المجموع اعتبار «سوق المسلمين» . والظاهر أنّ المراد من «سوق المسلمين» هو السوق الذي كان أكثر أهله مسلماً ، وإن كان منعقداً في بلد الكفر ـ لا السوق المنعقد في البلد الذي يكون تحت سلطة الإسلام وحكومة المسلمين ـ ولو كان جميع أهله أو أكثره مشركاً ، فالمراد به هو مركز التجمّع للكسب والتجارة ، وكان أكثر أهله مسلماً .
المقام الثالث : الظاهر بملاحظة ما ذكرنا من المراد من «سوق المسلمين» ـ وأنّه عبارة عن السوق الذي يكون أكثر أهله مسلماً ـ أنّ المستفاد من أدلّة اعتبار السّوق أنّ السّوق بنفسه لا يكون أمارة على التذكية وكاشفة عن الطهارة والحلّية ، بل هو كاشف عن الأمارة الأصليّة وهي يد المسلم ، فالسوق أمارة على الأمارة ; نظراً إلى أنّ الغالب في أسواق المسلمين إنّما هم المسلمون ، وقد جعل الشارع هذه الغلبة معتبرة وحكم بإلحاق من شك في إسلامه في أسواقهم بالمسلمين ، فالسوق إنّما هو كاشف عن كون البائع مسلماً .
وبهذا يظهر ما في كلام بعض من الاكتفاء بمجرّد الأخذ من سوق المسلمين ، ولو أخذ من يد الكافر ، في قبال الأخذ من يد الكافر .(1)
وبعبارة اُخرى : الظاهر أنّ اعتبار السوق إنّما هو بالنسبة إلى من كان مجهول الحال ولا يعلم أنّه مسلم أو كافر ، فإنّه يبنى على إسلامه لمكان غلبة المسلمين فيه ، ويكون إسلامه أمارة على وقوع التذكية الشرعية على الحيوان ، وإلاّ فلو علم بكفر البائع والذابح ، أو بكفر الأوّل فقط ، مع الشك في كفر الثاني ، فلا يؤثّر في حلّية اللحم المشترى منه كون أكثر أهل السوق مسلماً ، وعليه : فيرجع اعتبار السّوق إلى اعتبار يد المسلم ، غاية الأمر أنّه لا فرق بين ما إذا اُحرز إسلامه بالقطع ، أو بني عليه للغلبة ونحوها .
(1) راجع مستند الشيعة: 1/351 ـ 353، جواهر: 6/347، تعليقة السيد الگلپايگاني على العروة: 1/130.
الصفحة 511
كما أنّه ممّا ذكرنا ظهر الخلل فيما أفاده في «المستمسك» من أنّ الظاهر منه خصوص ما لو كان البائع مسلماً ـ أي كان إسلامه محرزاً ـ وأنّ الداعي لذكر السوق كونه الموضع المعتاد لوقوع المعاملة فيه ، لا لخصوصية فيه في قبال الدار والصحراء ونحوهما ، فالمراد من الشراء من السوق الشراء من المسلم الذي هو أحد التصرّفات الدالّة على التذكية ، ولا خصوصية له ، فهو راجع إلى الاستعمال المناسب للتذكية(1) .
وجه الخلل : أنّ مقتضى ما أفاده خروج عنوان السوق عن المدخلية رأساً ، وهو خلاف ظاهر أدلّة اعتباره جدّاً .
وما أبعد ما بينه ، وبين كلام البعض المتقدّم ، وأقلّ بعداً منه ما أفاده المحقّق البجنوردي من كون السوق أمارة برأسه ، وأنّه أقوى من يد المسلم ، قال في وجهه ما ملخّصه : أنّه بعد العلم بأنّ المسلمين يجتنبون عن لحم غير المذكّى ، فتعاطي اللحم بالبيع والشراء في أسواق المسلمين يوجب الظنّ القويّ بأنّه مذكّى ، وهذا الظنّ أقوى بكثير من الظنّ الحاصل عن كونه في يد مسلم خارج السوق ; لأنّ احتمال الخلاف فيه أكثر ممّا يباع في سوق المسلمين علناً .
هذا بناءً على كون المستند هي السيرة . وأمّا بناءً على كون المدرك هو الأخبار ، فلعلّ الأمر أوضح ; لأنّ قوله (عليه السلام) : «أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة» ، ظاهر في أنّ مراده (عليه السلام) من نفي لزوم السؤال ، نفي السؤال عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، لا نفي السؤال عن أنّ البائع مسلم أو لا .
ومرجع هذا إلى أنّ كونه في السوق كاف في إثبات أنّه مذكّى ، فلا يحتاج إلى السؤال والفحص . وكون المراد منه أنّ السّوق كاف في إثبات أنّ اليد يد المسلم ،
(1) مستمسك العروة الوثقى : 1 / 328 .
الصفحة 512
وأنّها تثبت أنّ اللحم مذكّى ، يكون من قبيل الأكل من القفا .
وأمّا قوله (عليه السلام) في خبر إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(1) لا يدلّ على عدم اعتبار السّوق بالإضافة إلى كشفه عن التذكية ، نظراً إلى أنّه لو كان السّوق كاشفاً ، فلا معنى للسؤال إذا رأوا أنّ المشركين يبيعونه ، وأيضاً لم يكن معنى لتعليق عدم السؤال على صلاتهم فيه .
وذلك ـ أي وجه عدم الدّلالة ـ أنّ كلامه (عليه السلام) ظاهر في أنّ السّوق أمارة على التذكية فيما كان السوق مخصوصاً بالمسلمين . وأمّا لو كان السوق مشتركاً أو كان مخصوصاً بالمشركين ، فعند ذلك يجب عليكم المسألة والفحص ، ولا أثر لكون البائع وحده في ذلك السوق مسلماً في عدم وجوب السؤال . وعليه : فيمكن أن تعدّ هذه الرواية شاهدة على أنّ دلالة السوق إذا كان مخصوصاً بالمسلمين أهمّ من دلالة يد المسلم ، خصوصاً إذا كان ذلك المسلم في السوق المخصوص بالكفّار ، بل وفي السوق المشترك أيضاً .
وأمّا قوله (عليه السلام) بعد ذلك : «وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» ، فمن جهة أنّ صلاتهم فيه بمنزلة شهادتهم عملا بأنّه مذكّى ، فهو أيضاً طريق إلى أنّه صار مذكّى ، إلى آخر ما ذكره من المؤيّدات ; لكون سوق المسلم بنفسه طريقاً إلى أنّه مذكّى(2) .
أقول : الظاهر عدم كون سوق المسلمين أمارة على التذكية مستقلاًّ في قبال يد
(1) تهذيب الأحكام : 2 / 371 ح 1544 ، الفقيه : 1 / 167 ح 788 ، وعنهما وسائل الشيعة : 3 / 492 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 7 .
(2) القواعد الفقهيّة : 4 / 160 ـ 165 .
الصفحة 513
المسلم ، بحيث لو كان البائع في سوق المسلمين محرز الإسلام كان هناك أمارتان على التذكية : السوق ، ويد المسلم . وما أفاده من الوجه في ذلك غير تامّ ; لأنّ سيرة المتديّنين على معاملة ما تقع عليه المعاملة في سوق المسلمين معاملة المذكّى ، لا دليل على أنّ وجهها كون السوق والتعاطي بالبيع والشراء فيه أمارة على التذكية مستقلاًّ ، بل يحتمل قويّاً أن يكون الوجه فيها ما ذكرنا ، خصوصاً مع أنّ السّوق بنفسه لا يكون كاشفاً وأمارة عليها ; فإنّ المهمّ في ذلك هو البائع ، وإلاّ فمع قطع النظر عنه لا يكون مجرّد سوق المسلمين كاشفاً عنها بوجه ، كما لا يخفى .
وأمّا قوله (عليه السلام) : «أنا أشتري الخفّ من السوق . . .» فهو وإن كان المراد من المسألة غير اللازمة فيه هي التفحّص والتفتيش عن كونه مذكّى أو غير مذكّى ، إلاّ أنّ دلالته على هذا التقدير على اعتبار السّوق بنفسه ممنوعة ; فإنّه حيث لا دليل على اعتبار إسلام البائع ولا كاشف عنه ، جعل الشارع الغلبة معتبرة وكاشفة عن إسلام البائع الذي هو الطريق إلى التذكية والأمارة عليها ، ولم يعلم وجه كونه أكلا من القفا .
وأمّا خبر إسماعيل ، فمع أنّه مضطرب المتن ـ لأنّه بعد كون مفروض السؤال هو ما إذا كان البائع مسلماً ، غاية الأمر كونه غير عارف لا يلائم الجواب بأنّه «إذا رأيتم المشركين . . .» إلاّ أن يكون المراد منه بيان المفهوم ; وهو اختصاص وجوب السؤال بما إذا كان البائع مشركاً ـ يكون مفاده ملاحظة حال البائع ، وأنّه إذا كان مشركاً تجب المسألة ، وإذا كان مسلماً ـ والكاشف عنه هي صلاته فيه ـ لا تجب المسألة ، وبقرينة الروايات الاُخر يستفاد عدم كون السوق المذكور في السؤال سوق المسلمين ، وإلاّ لا يحتاج إلى الصلاة فيه ; سواء كان سوق المسلمين أمارة بنفسه أو أمارة على الأمارة .
وبالجملة : لم يثبت أنّ الشارع جعل للتذكية طريقين : سوق المسلمين ، ويد
الصفحة 514
المسلم ، بل الظاهر أنّ الثاني أمارة عليها ، والأوّل أمارة على الثاني .
المقام الرّابع : أنّه لا فرق في المسلم الذي يؤخذ من يده ويكون السوق أمارة على إسلامه ، بين من كان عارفاً بالإمامة ، ومن لم يكن ; لأنّه ـ مضافاً إلى كون أكثر المسلمين في تلك الأزمنة غير عارفين ، وإلى أنّ الجمع المحلّى باللاّم في «المسلمين» الذي اُضيف إليه «السوق» في رواية الفضلاء المتقدّمة يقتضي العموم لكلّ مسلم على ما هو المشهور(1) ـ يدلّ عليه رواية إسماعيل بن عيسى قال :
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف ؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(2) .
وعليه : فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونها أمارة شرعيّة على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف ; وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ، كاجتزائهم في الصيد بإرسال غير الكلب المعلّم(3) ، وكذلك في بعض الفروع ، كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ(4) ، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب(5) ، وغير ذلك من الموارد ، فلا يكون مجرّد كونه في يده أو مع ترتيبه
(1) كفاية الاُصول : 254 ، فوائد الاُصول : 1 / 515 ، أجود التقريرات : 2 / 295 ـ 299 ، نهاية الأفكار : 2 / 510 ، محاضرات في اُصول الفقه : 5 / 159 ، مناهج الوصول : 2 / 230 .
(2) تقدم في ص 512 .
(3) البيان في مذهب الشافعي : 4 / 535 ، بدائع الصنائع : 4 / 177 ، المغني لابن قدامة : 11 /11 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 88 .
(4) البيان في فقه الشافعي : 1 / 69 ـ 70 ، بدائع الصنائع : 1 / 243 ـ 245 ، المغني لابن قدامة : 1 / 55 ـ 56 ، المجموع شرح المهذّب : 1 / 268 ـ 280 .
(5) البيان في فقه الشافعي : 4 / 526 ـ 529 ، بدائع الصنائع : 4 / 164 ـ 165 ، المغني لابن قدامة : 11 / 35 ، المجموع شرح المهذّب : 9 / 75 ، الشرح الكبير : 11 / 46 .
الصفحة 515
آثار المذكّى عليه أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه .
فالحكم باعتبار يد المسلم حينئذ ليس لأماريتها ، بل لأجل أنّ الحكم بعدم الاعتبار ـ مع أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ـ مستلزم للعسر ، فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبّداً فيما إذا لم يكن بائعه مشركاً .
وأمّا ما أفاده المحقّق البجنوردي (قدس سره) من أنّ كونه أصلا غير تنزيلي أمر لا ينبغي أن يحتمل ; لأنّه لو كان أصلا غير تنزيلي لكانت أصالة عدم التذكية حاكمة عليه ، وكان لا يبقى مورد لجريانه ، كما هو الشأن في كل أصل حاكم مع محكومه(1) .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ جريان أصالة عدم التذكية محلّ خلاف وإشكال ـ : أنّه على هذا التقدير تكون الحكومة ممنوعة ، بل تكون أدلّة اعتبار السّوق مخصّصة لدليل اعتبار الاستصحاب ، وقاضية بعدم جريان أصالة عدم التذكية في مورد جريان أدلّة اعتبار السّوق .
وقد استدلّ هو على الأماريّة بأنّ قيام السيرة على دخول المتديّنين في الأسواق الإسلامية وشرائهم مشكوك التذكية ، ومعاملتهم معه معاملة المزكّى ـ مع أنّهم يرون أنّ الصلاة في غير المذكّى ليست بجائزة ـ دليل على أنّهم يرون أسواق المسلمين طريقاً وكاشفاً عن كونه مذكّى ; لأنّ الأماريّة متقوّمة بأمرين :
أحدهما : كون ذلك الشيء فيه جهة كشف عن مؤدّاه ولو كان كشفاً ناقصاً .
ثانيهما : كون نظر الجاعل في مقام جعل الحجّية إلى تلك الجهة من الكشف الموجود فيه في حدّ نفسه ، فالأماريّة متوقّفة على أن يكون جعل حجّيته بلحاظ تتميم ذلك الكشف الناقص الموجود فيه تكويناً في عالم التشريع والاعتبار ، ومن المعلوم في المقام وجود كلا الأمرين ; لأنّه لا شك في كون اللحم أو الجلد المشترى
(1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 .
الصفحة 516
في سوق المسلمين فيه جهة كشف عن أنّه مذكّى ; لأنّهم غالباً لا يقدمون على بيع لحم الميتة أو جلدها ، كما أنّه لا شك في أنّ سيرة المتديّنين على دخولهم الأسواق واشترائهم اللحوم والجلود باللحاظ المذكور ، وسيرة المتديّنين لا تحتاج إلى الإمضاء ; فإنّها كاشف مثل الإجماع عن موافقته لرأي المعصوم (عليه السلام) (1) .
ويظهر الجواب عن هذا الدليل ممّا ذكرنا من أنّ شمول أدلّة اعتبار السوق لسوق المسلمين غير العارفين ـ مع وضوح اختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية ـ يكشف عن عدم الأماريّة ; لأنّ المسلمين غالباً لا يقدمون على بيع لحم ما هو ميتة بنظرهم ولا جلده ، لا بيع لحم ما هو ميتة بنظر الإماميّة العارفين بالإمامة ، كما لايخفى .
وعليه : فالأمر الأوّل من الأمرين اللذين يتقوّم بهما حجّية الأمارة غير متحقّق في المقام ; لعدم وجود الكشف ولو بنحو ناقص على ما عرفت .
وأمّا الرّوايات ، فسيأتي البحث عنها في المقامات الآتية إن شاء الله تعالى .
المقام الخامس : أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في السّوق اعتبار ضمان البائع وإخباره بكون مبيعه مذكّى ، وهي رواية محمد بن الحسين الأشعري قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السّوق؟ فقال : إذا كان مضموناً فلا بأس(2) .
ولكنّ الظاهر أنّه يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة رواية الفضلاء الدالّة على النهي عن السّؤال عنه(3) ; فإنّ المراد من النهي هو عدم الوجوب ; لأنّه في مقام توهّمه ، فالمراد عدم وجوب السؤال ، ومن الواضح أنّ المراد من السؤال هو السؤال
(1) القواعد الفقهيّة : 4 / 165 ـ 167 .
(2) الكافي : 3 / 398 ح 7 ، وعنه وسائل الشيعة : 3 / 493 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ب 50 ح 10 .
(3) تقدمت في ص 508 .
الصفحة 517
الذي يتعقّبه الجواب بوقوع التذكية ، فمرجع ذلك إلى عدم اعتبار الإخبار بوقوعها في جواز الأكل من اللحوم . وكذا يدلّ على عدم اعتبار السؤال صحيحتا البزنطي ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمة ، فلابدّ من حمل هذه الرواية على الاستحباب .
المقام السادس : الظاهر أنّ يد المسلم المبحوث عنها في المقام أخصّ من اليد التي تكون أمارة على الملكية ، لا من جهة اعتبار إسلام ذي اليد هنا دونه ، بل من جهة أنّه لا يعتبر في الأمارية هناك سوى أصل ثبوت اليد وكون المال تحت استيلاء ذي اليد وسلطنته ، ولا يلزم فيه أن يتصرّف فيه تصرّفاً متوقّفاً على الملكية .
وأمّا في المقام : فيعتبر في اليد التصرّف المتوقّف على التذكية . وذلك ; لأنّ مورد أخبار الاشتراء من السوق وجود هذا التصرّف ; لأنّ نفس المعرضية للبيع كاشفة عن معاملته معه معاملة المذكّى ; لعدم صدورها من المسلم إذا كانت ميتة ، وكذلك رواية إسماعيل ظاهرة في تعليق الجواز على رؤية الصلاة فيه ، فمجرّد كونه تحت يد المسلم أو استعماله في شيء ما ولو لم يكن مقتضى الدواعي النوعية طهارته ـ مثل أن يتّخذ ظرفاً للنجاسة ـ لا دليل على جواز المعاملة معه معاملة المذكّى .
والظاهر أنّه لا فرق في هذا المقام بين ما إذا قلنا بأنّ يد المسلم أمارة على التذكية شرعاً ، أو قلنا بأنّ المجعول في السوق هو الأصل ، كما لا يخفى .
المقام السابع : أنّ اعتبار يد المسلم هل يكون بنحو الإطلاق ، حتى فيما لو علم بمسبوقيتها بيد الكافر ، بل وبعدم فحص المسلم ; لكونه ممّن لا يبالي بكونه من ميتة أو مذكّى ، أو يكون اعتباره في خصوص ما إذا لم يكن كذلك ; سواء علم بالمسبوقية بيد مسلم آخر ، أم لم تعلم الحالة السّابقة ، وجهان بل قولان ، إختار المحقّق النائيني (قدس سره) بعد قوله بالأمارية وجماعة الثاني(1) ; نظراً إلى منع الإطلاق في
(1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني : 178 ـ 179 ، العروة الوثقى : 1 / 130 ـ 131 طبع مؤسّسة النشر الإسلامي .
الصفحة 518
دليل الاعتبار ، لا من جهة اللفظ ولا من ناحية ترك الاستفصال :
أمّا الأوّل : فلكونها قضايا خارجية وردت في محلّ الحاجة ; وهي الجواب عمّا وقع عنه السؤال من الأيدي والأسواق الخارجية في تلك الأزمنة ، وليست من قبيل القضايا الحقيقية التي حكم فيها بالأفراد مطلقاً ولو كانت مقدّرة الوجود غير محقّقة ، ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق لها ، ولذا لا تكون متعارفة في العلوم ، ولا يكون شأن العلوم هو البحث عنها ; لكونها في قوّة الجزئية ، وإن كانت مسوّرة بكلمة «كلّ» مثل : كلّ من في البلد مات .
وأمّا الثاني : فلأنّ منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى هو غلبة العامّة على أسواق المسلمين ، لا كون أيديهم مسبوقة بأيدي الكفّار ; إذ لم يكن جلب الجلود من بلاد الشرك معمولا في ذلك الزمان ، وإنّما هو أمر حدث في هذه الأعصار ، فهذه الجهة مغفول عنها بالكلية عند أذهان السّائلين ، وفي مثله لا مجال لترك الاستفصال وجعله دليلا على الإطلاق ; لظهور الحال .
ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى منع كون أدلّة اعتبار السّوق بأجمعها قضايا خارجية ، فإنّ مثل حكم الإمام (عليه السلام) في رواية الفضلاء المتقدّمة بجواز الأكل إذا كان ذلك في سوق المسلمين قضيّة حقيقيّة يكون موضوعها سوق المسلم أعمّ من الأفراد المتحقّقة والمقدّرة ، ولذا لا نحتاج في التمسك به إلى دليل الاشتراك من ضرورة أو إجماع ـ بأنّه لو سلّم كون ذلك على نحو القضايا الخارجية ، نقول : منشأ الشك في كون المأخوذ مذكّى لا ينحصر بغلبة العامّة على أسواق المسلمين ، بل كما اعترف به قبل ذلك ربما كان المنشأ اختلاط أهل الذمّة بالمسلمين من اليهود والنصارى وغيرهما المقيمين في البلاد الإسلامية .
ومن الواضح أنّ هذه الجهة لا تكون بمثابة موجبة للغفلة عنها ، خصوصاً مع التصريح في رواية إسماعيل المتقدّمة ، بأنّه إذا «رأيتم المشركين يبيعون . . .» حيث
الصفحة 519
فرض كون البائع مشركاً ، بل لو بني على كفر الخوارج والنواصب والغلاة يتحقّق منشأ آخر ; لتداول ذبحهم للحيوانات وأكلهم لها وبيع جلودها ، فاحتمال سبق يد الكافر على يد المسلم من الاحتمالات العقلائية غير المغفول عنها في مورد الروايات ، وعليه : فلا مانع من استكشاف الإطلاق من جهة ترك الاستفصال ، فتدبّر .
المقام الثامن : المشهور أنّ يد المسلم أمارة على التذكية مطلقاً ، حتى مع العلم بكونه مستحلاًّ للميتة بالدباغ(1) ، وقيل باختصاص الأماريّة بما إذا علم بكونه غير مستحلّ لها به(2) . وعن جملة من الكتب كالمنتهى(3) ونهاية(4) الإحكام التفصيل بين ما لم يعلم باستحلاله فتكون يده أمارة ، وما علم بكونه مستحلا فلا تكون كذلك .
وهنا قول رابع ; وهو التفصيل بين ما إذا أخبر بالتذكية ولو كان مستحلاًّ ، وبين ما إذا لم يخبر بها ، فتكون يده أمارة في الأوّل دون الثاني(5) .
ويدلّ على المشهور المطلقات المتقدّمة في السّوق الناظرة إلى هذه الجهة ; وهي كون المسلم غير عارف مستحلاًّ للميتة نوعاً ، وهي كالصريحة في الشمول لذلك ، خصوصاً بعد ملاحظة كون منشأ الشك للسائل الباعث له على السؤال ذلك . ومرسلة ابن الجهم المتقدّمة ناظرة إلى هذه الجهة ، وأنّ الضيق الواقع فيه السائل وحكمه (عليه السلام) بأنّه يرغب عمّا كان يفعله إمامه (عليه السلام) ، إنّما هو لأجل ذلك ، مضافاً إلى التصريح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة في رواية إسماعيل المتقدّمة .
فالإنصاف أنّه مع ملاحظة الروايات والتأمّل فيها لا يبقى ارتياب في أنّ
(1) روض الجنان : 2 / 570 ، جواهر الكلام : 6 / 346 ، مستمسك العروة الوثقى : 1 / 330 .
(2) تذكرة الفقهاء : 2 / 464 ، حاشية الشرائع للمحقّق الثاني : 1 / 201 ، مسالك الأفهام : 1 / 285 .
(3) منتهى المطالب : 4 / 204 ـ 206 .
(4) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام : 1 / 373 .
(5) ذكرى الشيعة : 3 / 29 ، الدروس الشرعيّة : 1 / 149 ـ 150 .
الصفحة 520
أماريّة يد المسلم أمارية تعبديّة مجعولة لغرض التسهيل والتوسعة ، وعمدة النظر فيها كون البائع مسلماً غير عارف ، خصوصاً في زمن الصادقين (عليهما السلام) الذي شاع فيه فتوى أبي حنيفة واستحلاله للميتة وكثر متابعوه(1) ، ومع ذلك حكم في الروايات بالأماريّة والاعتبار .
هذا ، ولكن قد عرفت في بعض المقامات السابقة أنّ الظّاهر أن يجعل الحكم بذلك في الروايات دليلا على عدم كون يد المسلم أمارة أصلا ; لعدم وجود الكشف فيها ولو بالنحو الناقص ، بل المجعول إنّما هو أصل تعبّدي لغرض التسهيل والتوسعة ، فجعل ذلك دليلا على عدم الأماريّة أولى من الحكم بثبوت الأمارية بنحو الإطلاق ، كما لا يخفى .
وأمّا القول الثاني : فيدلّ عليه رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء؟ فقال : كان علي بن الحسين (عليهما السلام) رجلا صرداً(2) لا تدفأه فراء الحجاز ; لأنّ دباغها بالقرظ(3) ، فكان يبعث إلى العراق ، فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس جلود الميتة ، ويزعمون أنّ دباغه زكاته(4) .
وتقريب الاستدلال بها : أنّ موردها صورة الشك في كون البائع مستحلاًّ ; لظهور عدم اعتماده (عليه السلام) في هذه الجهة على علم الغيب الثابت له ، ومن الواضح عدم
(1) بدائع الصنائع : 1 / 243 ـ 245 ، المغني لابن قدامة : 1 / 55 ، المجموع : 1 / 268 ـ 280 .
(2) الصرد : بفتح الصاد وكسر الراء المهملة : من يجد البرد سريعاً . مجمع البحرين .
(3) القرظ : بالتحريك ورق السلم يدبغ به الأديم . وفي الخبر : اُتي بهديّة في أديم مقروظ ; أي مدبوغ بالقرض . مجمع البحرين .
(4) الكافي : 3 / 397 ح 2 ، وعنه وسائل الشيعة : 4 / 462 ، كتاب الصلاة ، أبواب لباس المصلّي ب 61 ح 2 .
|