(الصفحة 401)
وأنت خبير : بأنّ هنا ظهورين :
أحدهما : ظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة في تأثير ا لشرط مستقلاّ في ا لجزاء .
وثانيهما : ظهور الجزاء في كون متعلّقه هو نفس الطبيعة بلامدخلية شيء آخر.
ومن ا لمعلوم أنّ هذين ا لظهورين في كلّ قضيّـة شرطيّـة مع قطع ا لنظر عن ا لاُخرى ، لايكونان متعارضين أصلاً ; لوضوح أ نّـه لا مانع من أن يكون ا لنوم ـ مثلاً ـ سبباً مستقلاّ لإيجاب نفس طبيعـة ا لوضوء ، وكذا ا لبول سبباً مستقلاّ لإيجاب نفس طبيعتـه ، فإنّ كلّ واحد من هاتين ا لقضيّتين من حيث هي ـ مع قطع ا لنظر عن ا لاُخرى ـ لا تعارض بين ظهور نفسها وظهور جزائها أصلاً ، نعم بعد ملاحظتهما معاً لايعقل اجتماعهما ; لأ نّـه يستحيل أن يؤثّر سببان مستقلاّن في إيجاد حكمين على طبيعـة واحدة ، فا للازم إمّا رفع ا ليد عن ظهور ا لشرطيـة في تأثير ا لشرط مستقلاّ ; وا لقول بأنّ ا لسبب هو ا لأمر ا لجامع بين ا لشرطين ، وإمّا رفع ا ليد عن ظهور ا لجزاء في إطلاق متعلّقـه ; وا لقول بأنّ ا لواجب هي ا لطبيعـة ا لمقيّدة بغير ا لفرد ا لمأتي بـه أوّلاً .
ومنـه تظهر ا لمناقشـة في كلامـه (قدس سره) : لأنّ ا لمراد بإطلاق ا لجزاء ليس ظهوره في ا لاكتفاء با لمرّة ; حتّى يورد عليـه : بأ نّـه ليس من باب ا لإطلاق ، وإنّما هو حكم ا لعقل بعد ما تعلّق ا لطلب بصرف وجود ا لطبيعـة ، بل ا لمراد بـه إطلاقـه من حيث ا لمتعلّق ; وأنّ ا لطلب إنّما تعلّق بنفس ا لطبيعـة ا لمطلقـة من دون أن تكون مقيّدة بشيء ; إذ قد عرفت أ نّـه لايعقل اجتماع حكمين على طبيعـة مهملـة ، فهذا ا لإطلاق غير حكم ا لعقل بالاكتفاء با لمرّة ، وقد عرفت ا لتعارض بينـه وبين ظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة ; وأنّ ا لتخلّص لاينحصر برفع ا ليد عنـه ، فتدبّر جيّداً .
ومنها : ما يظهر من ا لشيخ (قدس سره) ومن تبعـه : من أنّ مقتضى إطلاق ا لجزاء وإن كان كفايـة ما يصدق عليـه ا لطبيعـة ; من غير تقييد بغير ا لفرد ا لمأتي بـه أوّلاً ، إلاّ
(الصفحة 402)
أنّ ظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة في ا لسببيّـة ا لمستقلّـة مقدّم عليـه ; لأنّ ا لظهور في ا لأوّل إطلاقيّ يتوقّف على مقدّماتـه ا لتي منها عدم ا لبيان ، ومن ا لمعلوم أنّ إطلاق ا لسبب منضمّاً إ لى حكم ا لعقل : بأنّ تعدّد ا لمؤثّر يستلزم تعدّد ا لأثر ، يكون بياناً للجزاء ، ومعـه لا مجا ل للتمسّك بإطلاقـه ، وليس ا لمقام من قبيل تحكيم أحد ا لظاهرين على ا لآخر حتّى يطا لب با لدليل ، بل لأنّ وجوب ا لجزاء با لسبب ا لثاني يتوقّف على إطلاق سببيّتـه ، ومعـه يمتنع إطلاق ا لجزاء بحكم ا لعقل ، فوجوبـه ملزوم لعدم إطلاقـه ، نعم ا لتمسّك بالإطلاق إنّما يحسن في ا لأوامر الابتدائيّـة ا لمتعلّقـة بطبيعـة واحدة ، لا في ذوات ا لأسباب ، فإنّ مقتضى إطلاق ا لجميع كون ما عدا ا لأوّل تأكيداً لـه ، واحتما ل ا لتأسيس ينفيـه أصا لـة ا لإطلاق(1) .
ويرد عليـه : ما عرفت آنفاً من أنّ إطلاق ا لجزاء في كلّ قضيّـة ، لاينافي ظهور تلك ا لقضيّـة في ا لسببيّـة ا لمستقلّـة أصلاً ; لأ نّـه لا مانع من أن يكون ا لنوم ـ مثلاً ـ علّـة مستقلّـة لوجوب طبيعـة ا لوضوء غير مقيّدة بشيء ، بل ا لعقل بعد ملاحظـة ا لقضيّتين أو ا لقضايا ، يحكم بعدم إمكان ا لاجتماع ; لأ نّـه لايُعقل أن يؤثّر سببان مستقلاّن أو أزيد في إيجاد حكمين أو أحكام على طبيعـة واحدة ، فعدم ا لاجتماع حكم عقليّ بعد ملاحظـة مجموع ا لقضيّتين معاً .
وحينئذ فمجـرّد كـون ا لظهـور فـي ا لجـزاء إطلاقيّاً ـ يتوقّف على عـدم ا لبيان ـ لايوجب تـرجيح ا لظهـور ا لأوّل عليـه ; إذ لا فـرق في نظـر ا لعقل بين رفع ا ليد عن ظهـور ا لصـدر أو ظهـور ا لذيل .
وهل يتوهّم أحـد فيما لو حكم ا لعقل ـ مثلاً ـ بامتناع اجتماع ا لحكمين ا للّذين أحدهما عامّ وا لآخر مطلق ترجيحَ ا لأوّل على ا لثاني ; لكونـه أظهـر في
1 ـ مطارح ا لأنظار : 179 / ا لسطر 8 ـ 24 ، مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 261 .
(الصفحة 403)
ا لدلالـة منـه ؟ ! فإنّ قـوّة ا لظهور وضعفـه خارجان عمّا هو ملاك ا لرجحان وا لمرجوحيّـة بنظر ا لعقل .
هذا كلّـه ، مضافاً إ لى أ نّـه لانسلّم ظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة في ا لسببيّـة ، فضلاً عن ا لسببيّـة ا لمستقلّـة ، فإنّ معنى ا لسببيـة هو ا لتأثير في إيجاد ا لمسبّب .
تحقيق المقام
وحينئذ فنقول : إنّ ا لسبب في ا لمقام هل هو طبيعـة ا لشرط ، أو ا لشرط بوجوده ا لخارجي ؟ وا لمسبّب هل هو وجوب ا لوضوء ـ مثلاً ـ أو إيجابـه ، أو نفس ا لوضوء بطبيعتـه ، أو بوجوده ا لخارجي ؟ وكلّها غير صحيح ; لأ نّا نرى با لوجدان أنّ ا لنوم ـ مثلاً ـ لايكون سبباً للوضوء خارجاً بحيث يوجد عند وجوده ، وسببيّـة طبيعـة لطبيعـة اُخرى غير معقولـة ، وإيجاب ا لوضوء أيضاً لايكون مسبَّباً عن ا لنوم ، بل عن إرادة ا لشارع ا لناشئـة من ا لعلم بمصلحـة ا لوضوء عقيب ا لنوم ، وا لوجوب ينتزع من ا لبعث ، ولا معنى لأن يكون مسبّباً عن ا لنوم ، فظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة في ا لتشريعيّات في ا لسببيـة لا مجا ل لادّعائـه .
نعم لها ظهور في كون ا لشرط تمام ا لموضوع لترتّب ا لجزاء من دون مدخليّـة شيء آخر ، وهذا ا لظهور ليس من باب دلالـة ا للفظ ، بل إنّما هو حكم ا لعقل : بأنّ ا لمتكلّم ا لفاعل ا لمختار ـ بعد كونـه بصدد بيان تمام ما هو ا لموضوع لحكمـه ـ إذا لم يأخذ إلاّ نفس ا لطبيعـة يستفاد من ذلك عدم مدخليّـة شيء آخر في ترتّب حكمـه ، فقولـه : «إذا نمت فتوضّأ» بمنزلـة قولـه : «ا لنائم يتوضّأ» ، وحينئذ فا لظهور في ا لصدر إنّما هو من باب ا لإطلاق ، كظهور ا لجزاء ، لا من باب ظهور ا للفظ في ا لسببيّـة .
ونحن وإن اخترنا في ا لاُصول إمكان تعلّق ا لجعل با لسببيّـة في ا لاُمور
(الصفحة 404)
ا لاعتباريّـة ، كجعل عقد ا لبيع سبباً لحصول ا لنقل وا لانتقا ل(1) ، إلاّ أنّ ذلك خلاف ظاهر ا لقضيّـة ا لشرطيّـة ، فيدور ا لأمر في ا لمقام بين رفع ا ليد عن إطلاق ا لشرط في كلٍّ من ا لقضيّتين ، وبين تقييد إطلاق ا لجزاء فيهما ، ولعلّ ا لترجيح مع ا لثاني ، لا ترجيحـه على ا لأوّل من حيث هو ، بل لأنّ ا لعرف إذا اُلقي عليـه هذا ا لنحو من ا لقضايا ا لشرطيّـة ، يفهم منـه عدم ا لتداخل ; وأنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب واحد ; من غير ا لتفات إ لى إطلاق متعلّق ا لجزاء ولزوم تقييده لو قيل با لتعدّد ، وهذا ا لمقدار من ا لظهور ا لعرفي كاف في ا لمقام ، ومنشؤه : إمّا قياس تلك ا لقضايا ا لشرطيّـة ا لواردة في ا لشريعـة على ا لقضايا ا لعرفيّـة ، ا لمتداولـة بينهم ا لتي يفهمون منها ا لتعدّد ، وإمّا فهمهم ثبوت ا لارتباط بين ا لشرط ومتعلّق ا لجزاء ; بحيث يكون كلّ شرط مستحقّاً لجزاء على حدة ، وإ مّا غير ذلك ممّا لانعلمـه ، فإنّ ا لعمدة هي أصل ثبوت ا لظهور ا لعرفي ، لا ا لاطّلاع على منشئـه ، كما هو ظاهر .
ثمّ إنّـه قد يقا ل : بأ نّـه لايمكن تقييد إطلاق ا لجزاء في أمثا ل ا لمقام ممّا لاترتّب بين ا لأسباب ، بل يمكن أن يوجد كلّ واحد منهما قبل ا لآخر وبعده ; لأ نّـه لايمكن تقييد ا لوضوء في قولـه : «إذا بلت فتوضّأ» ، بكلمـة «ا لآخر» ونحوها ; لأ نّـه يمكن أن يوجد ا لبول قبل ا لنوم ، وكذا لايمكن تقييد ا لوضوء في قولـه : «إذا نمت فتوضّأ» بمثل كلمـة «ا لآخر» لإمكان أن يوجد ا لنوم قبل ا لبول .
ومن هنا يظهر : أ نّـه لايمكن تقييد كلّ منهما ، وهذا بخلاف ما إذا أمر با لوضوءين دفعـة من دون ا لتعليق على شيء ، أو جمع بين ا لسببين ، فقا ل : إذا نمت وبلت فتوضّأ وضوءين ، أو كان ا لسبب ا لثاني مترتّباً على ا لسبب ا لأوّل دائماً ، كما إذا فرض أن يكون ا لبول مترتّباً على ا لنوم كذلك ، فإنّـه يجوز ذلك ، ولايلزم
1 ـ ا لاستصحاب ، ا لإمام ا لخميني(قدس سره) : 69 ـ 71 .
(الصفحة 405)
إشكا ل من تقييد ا لقضيّـة ا لتي فيها ا لسبب ـ ا لذي يوجد بعد ا لسبب ا لأوّل دائماً ـ بمثل كلمـة «ا لآخر» ، كما لايخفى(1) .
وأنت خبير : بأ نّـه يمكن ا لتقييد بما لايرد عليـه هذا ا لإشكا ل ، مثل تقييد ا لوضوء في ا لقضيّـة ا لاُولى با لوضوء لأجل ا لبول ، وفي ا لثانيـة با لوضوء لأجل ا لنوم ، وما يستلزم ذلك أن يكون ما يجيء من قِبَل ا لعلّـة مأخوذاً في ا لمعلول ، وهو محا ل ; إذ لايعقل أن تكون ا لشمس علّـة للحرارة ا لجائيـة من قِبَلها ; بحيث يكون هذا ا لقيد مأخوذاً في ا لمعلول . وذلك ـ أي وجـه عدم ا لاستلزام ـ أنّ ما ذكر إنّما هو في ا لعلل وا لمعلولات ا لتكوينيّة ، لا في مثل ا لمقام .
هذا كلّه في ا لأنواع ا لمختلفة .
حول عدم تداخل الأسباب في الأفراد من نوع واحد
وأ مّا في ا لأفراد من نوع واحد ، فهل ا لقاعدة تقتضي ا لتداخل با لنسبـة إ ليها ، أو عدم ا لتداخل ؟
صرّح في تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني (قدس سره) با لثاني ; نظراً إ لى أنّ ا لقضيّـة ا لشرطيّـة كا لقضيّـة ا لحقيقيّـة ، فكما أنّ قولـه : «ا لمستطيع يحجّ» ، عامّ لمن استطاع في أيّ وقت ، فكذلك قولـه : «إن استطعت فحجّ» ; لأنّ كلّ قضيّـة حقيقيّـة راجعـة إ لى ا لشرطيّـة وبا لعكس ، غايـة ا لأمر أ نّهما متعاكستان ، فا لشرطيّـة صريحـة في ا لاشتراط ، وتتضمّن عنوان ا لموضوع ، وا لحقيقيّـة صريحـة في عنوان ا لموضوع ، وتتضمّن ا لاشتراط ، ولازم ا لانحلال أن يترتّب على كلّ شرط جزاء غير ما رُتّب على ا لآخر ، فعلى هذا لا إشكا ل في عدم ا لتداخل في مورد تعدّد ا لشرط من جنس واحد ، فضلاً عمّا إذا تعدّد من أجناس مختلفـة فيصير هذا
1 ـ نهايـة ا لاُصول : 308 .
(الصفحة 406)
ا لظهور قرينـة للجزاء ، ويصير بمنزلـة أن يقا ل : إذا بلت فتوضّأ ، وإذا بلت ثانياً فتوضّأ وضوءً آخر .
ثمّ إنّ طريق استفادة ا لانحلال : إمّا ا لوضع كا لعموم ا لاُصولي ا لمستفاد من نحو «متى» ، و«أ نّى» ، و«أين» ، و«إذا» ، و«مهما» ، و«حيثما» ، وإمّا ا لإطلاق كـ «إن» وأخواتها ، وإمّا قيام ا لإجماع ، أو دلالـة ا لعقل عليـه(1) . انتهى ملخّصاً .
ويرد عليـه : أنّ قياس ا لقضيّـة ا لشرطيّـة با لقضيّـة ا لحقيقيّـة ـ ا لظاهر في ثبوت ا لمغايرة بينهما ـ ممّا لايصحّ ، فإنّ ا لقضيّـة ا لشرطيّـة قد تكون قضيّـة حقيقيّـة ، كما إذا قا ل : يجب على ا لناس ا لحجّ إذا استطاعوا ، وقد تكون غيرها ، كما إذا قا ل : إذا استطاع زيد يجب عليـه ا لحجّ .
ثمّ إنّ انحلال ا لقضايا ا لحقيقيّـة إنّما هو با لنسبـة إ لى مصاديق ا لموضوع ، كزيد ا لمستطيع ، وعمرو ا لمستطيع ، وأ مّا با لنسبـة إ لى مصداق واحـد كزيد ، فلا انحلال أصلاً ، فتأ مّل .
وكيف كان فإثبات عدم ا لتداخل من هذا ا لطريق مشكل .
التحقيق في المقام
فا لتحقيق : ابتناء ا لمسأ لـة ـ كما أفاده في «ا لمصباح»(2) ـ على أنّ ا لشرط هل هو ا لطبيعـة أو ا لأفراد وا لوجودات ؟
فإن كان هو ا لأوّل فا للازم ا لقول با لتداخل ; لأنّ ا لطبيعـة بحسب نظر ا لعرف لاتتكرّر ، فزيد وعمرو فردان من طبيعـة ا لإنسان عند ا لعرف ، لا إنسانان ، كما هو كذلك بنظرا لعقل .
1 ـ فوائد ا لاُصول (تقريرات ا لمحقّق ا لنائيني) ا لكاظمي 1 : 494 ـ 495 . 2 ـ اُنظر مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 264 ـ 266 .
(الصفحة 407)
وإن كان هو ا لثاني فا للازم ا لقول بعدم ا لتداخل .
ولايخفى أنّ مثل كلمـة «كلّما» ظاهر في ا لثاني ، ومثل «إنْ» و«إذا» ظاهر في ا لأوّل .
ثمّ إنّه مع فرض كون الشرط هو الأفراد ، لايبقى مجال لظهور الجزاء في إطلاق متعلّقـه ; لأ نّـه لايعقل اجتماعهما ، فبعد فرض وجود ا لأوّل يستحيل تحقّق ا لثاني .
ومن هنا يظهر : أنّ ا لقول بعدم ا لتداخل في ا لأفراد من جنس واحد ، لايستلزم ا لقول بـه في ا لأفراد من أجناس مختلفـة ـ كما عرفت في كلام ا لنائيني (قدس سره) (1) ـ وذلك لما عرفت : من أنّ ا لتعارض بين إطلاق متعلّق ا لجزاء وظهور ا لقضيّـة ا لشرطيّـة في ا لأوّل ، إنّما يكون تعارضاً بين صدر ا لقضيّـة وذيلها ، ومع ترجيح ا لأوّل لكونـه ظهوراً وضعيّاً لايبقى مجا ل للثاني ، وفي ا لثاني قد عرفت أ نّـه لا تعارض بين صدر كلّ قضيّـة وذيلها ، بل ا لعقل يحكم بعدم إمكان اجتماع ا لإطلاقين في كلّ قضيّـة معهما في ا لاُخرى ، ولا ترجيح لإطلاق ا لشرط فيهما على إطلاق ا لجزاء مع قطع ا لنظر عن حكم ا لعرف ، فأولويّـة ا لثاني با لنسبـة إ لى ا لأوّل ممنوعـة جدّاً .
الكلام في تداخل المسبّبات
ثمّ إنّـه لو قيل با لتداخل في ا لأسباب ، لايبقى مجا ل للنزاع في تداخل ا لمسبّبات ضرورة .
وأ مّا لو قيل بعدم ا لتداخل فا لظاهر أ نّـه لا وجه للنزاع فيه أيضاً ; لأنّ تداخل المسبّبات ، إنّما هو فيما إذا كانت العناوين الموضوعة للأحكام ، قابلة للانطباق على موجود واحد ، كاجتماع عناوين «ا لعالم» و«الهاشمي» و«المؤمن» على زيد مثلاً
1 ـ تقدّم في ا لصفحـة 405 .
(الصفحة 408)
وأ مّا إذا كانت ا لعناوين متباينـة فلايعقل فيهما ا لاجتماع ; حتّى ينازع في ا لتداخل وعدمـه ، وما نحن فيـه من هذا ا لقبيل ، فإنّ مرجع ا لقول بعدم تداخل ا لأسباب إ لى تقييد إطلاق متعلّق ا لجزاء بقيد مثل كلمـة «ا لآخر» ، ومن ا لواضح أ نّـه لايعقل اجتماع عنوان ا لوضوء وا لوضوء ا لآخر على وضوء واحد ، كما هو واضح .
هذا كلّـه في أصل مسأ لـة ا لتداخل ا لتي هي مسأ لـة اُصوليّـة .
رجع إلى أصل الفرع
وأ مّا مسأ لـة ا لوضوء ـ ا لتي هي مورد ا لبحث في ا لمقام ـ فهي خارجـة عن ا لنزاع في ذلك ا لباب ; للإجماع على ا لاكتفاء بوضوء واحد عقيب ا لأسباب ا لمختلفـة(1) ، وعلى أنّ ا لسبب إنّما هو ا لحدث ، وا لبول وا لغائط وغيرهما من ا لنواقض من مصاديق عنوان ا لحدث ، لا أنّ كلّ واحد سبب مستقلّ .
وبا لجملـة:فا لضرورة وا لإجماع قائمان على إجزاء وضوء واحد ، عقيب ا لأجناس ا لمختلفة أو ا لأفراد من جنس واحد من ا لنواقض ، فلاينبغي ا لبحث فيه .
وإنّما ا لكلام في مسأ لـة ا لغسل ، فنقول :
كفاية غسل واحد عن أسباب متعدّدة
لو قلنا بأنّ ا لحدث ا لأكبر طبيعـة واحدة غير قابلـة للشدّة وا لضعف ، نظير ا لحدث ا لأصغر ، لكان ا للازم الاكتفاء بغسل واحد فيما لو اجتمعت أسباب مختلفـة ، كما أ نّـه لو كان طبائع مختلفـة ـ كا لسواد وا لبياض ـ فإن قلنا بتغاير ا لأغسا ل ; بمعنى أنّ ا لغسل ا لرافع لحدث ا لحيض مغاير لما هو ا لرافع لحدث
1 ـ مدارك ا لأحكام 1 : 193 ، جواهر ا لكلام 2 : 110 ، ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 2 : 123 ، مستمسك ا لعروة ا لوثقى 2 : 305 .
(الصفحة 409)
ا لجنابـة ، فلا إشكا ل في وجوب ا لتعدّد حسب تعدّد ا لأسباب ، وإن قلنا بأنّ ا لغسل إنّما يرفع جنس ا لحدث فلا إشكا ل في ا لاكتفاء با لواحد .
ولو قلنا بأنّ ا لحدث ا لأكبر طبيعـة واحدة قابلـة للشدّة وا لضعف : فتارة يكون كلّ سبب مؤثّراً في حصول مرتبـة واحدة من مراتبـه ، واُخرى يكون بعض أسبابـه مؤثّراً في حصول ا لمرتبـة ا لشديدة مع وحدتـه ، فعلى ا لأوّل يجب ا لغسل متعدّداً حسب كثرتها ; على ا لقول بتغاير ا لأغسا ل ، وعلى ا لثاني يكفي ا لغسل لذلك ا لسبب عن ا لباقي ، ولايكفي ا لغسل للباقي عنـه ; بناءً على ذلك ا لقول أيضاً .
وكيف كان ، فلو اُحرز شيء من ا لصور ا لمتقدّمـة فا لحكم هو ما ذكرنا ، وإلاّ فمقتضى ا لقاعدة ا لتعدّد ; لعدم ا لتداخل كما عرفت .
دلالة الأخبار على كفاية غسل واحد عن الأغسال المتعدّدة
إلاّ أ نّـه ورد في ا لمقام بعض ا لأخبار ا لدالّـة على كفايـة غسل واحد عن ا لأغسا ل ا لمتعدّدة :
منها :صحيحـة زرارة ـ ا لتي هي ا لعمدة في ا لباب ; لصحّـة سندها وقوّة دلالتها ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) : «إذا اغتسلتَ بعد طلوع ا لفجر ، أجزأك غُسلُك ذلك للجنابـة وا لجمعـة وعرفـة وا لنحر وا لحلق وا لذبح وا لزيارة ، فإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد» . ثمّ قا ل : «وكذلك ا لمرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجُمعتها وغُسلها من حيضها وعيدها»(1) .
وقد ورد في بعض النسخ بدل «ا لجمعة» «ا لحجامة»(2) ، والظاهر أ نّه اشتباه
1 ـ ا لكافي 3 : 41 / 1 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 107 / 279 ، ا لمستطرفات ، ضمن ا لسرائر 3 : 588 ، وسائل ا لشيعـة 2 : 261 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لجنابـة ، ا لباب 43 ، ا لحديث 1 . 2 ـ وسائل ا لشيعة 2 : 261 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لجنابة ، ا لباب 43 ، ا لحديث 1 .
(الصفحة 410)
مـن ا لنُّسّاخ نشأ مـن تشابههما فـي ا لكتابـة ; لأ نّهم لم يكـونوا يكتبـون ا لألف فـي مثلها .
ثمّ إنّـه يحتمل ـ قوياً ـ أن يكون ا لمراد با لغسل في قولـه عليـه ا لسلام : «إذا اغتسلت بعد طلوع ا لفجر» هو غسل ا لجنابـة ; لأنّ مفاده : أنّ ا لغسل ا لذي يمكن ا لإتيان بـه قبل طلوع ا لفجر إذا أخّرتـه إ لى بعده ، أجزأك إ لى آخره ، وا لمتبادر من ا لغُسل ا لكذائي هو غسل ا لجنابـة ، وا لتقييد بقولـه : «بعد ا لفجر» إنّما هو لتحقّق ا لأسباب ا لاُخر وحينئذ يصير حاصل مدلول ا لجملـة ا لاُولى كفايـة ا لغسل للجنابـة عنها وعن غيرها من ا لأسباب ، وا لتفريع بقولـه : «فإذا اجتمعت» ، للدلالـة على عدم اختصاص ا لإجزاء عن ا لجميع بخصوص غسل ا لجنابـة ، بل يتحقّق ذلك بكلّ غسل مستحبّاً كان أو واجباً ، فإذا اغتسل للجمعـة ـ مثلاً ـ يكفي عنها وعن ا لجنابـة وعن غيرهما من ا لأسباب .
فحاصل مدلول ا لروايـة : كفايـة غسل واحد ـ لجنابـة كان أو لغيرها ـ عن ا لأغسا ل ا لمتعدّدة ، وحينئذ فلايبقى مجا ل للنزاع في أنّ كفايـة ا لغسل ا لواحد عن ا لأغسا ل ا لمتعدّدة ، هل تختصّ بما إذا نوى جميع ا لأسباب ، أو يعمّ ما إذا نوى سبباً واحداً أيضاً ؟ وذلك لأنّ ا لروايـة ظاهرة في أنّ ا لغسل لخصوص ا لجنابـة يكفي عن ا لجميع ، وكذا كلّ غسل لسبب مخصوص .
ثمّ إنّـه لو قلنا بأنّ ظهور صدر ا لروايـة في غسل ا لجنابـة ليس ظهوراً عرفيّاً ، بل غايتـه حصول ا لظنّ بذلك ، ولا اعتبار بـه في فهم ا لروايـة ، فا للازم ا لحكم بشمولها لجميع ا لأغسا ل .
نعم يبقى حينئـذ دعـوى أنّ الـروايـة مسـوقـة لمجـرّد بيان : أنّ الغسل الواحـد يكفـي عـن الأغسال المتعـدّدة فـي الجملـة وأ مّا أنّ كفايتـه عنها ، هل هـي بنحـو ا لإطلاق أو تخـتصّ بخـصوص إذا نـوى ا لجـميع فـلا تكون ا لروايـة
(الصفحة 411)
متعرضـة له أصلاً(1).
ولكن ا لدعوى مدفوعـة : بأنّ ظاهر ا لصدر يأبى عن ذلك ـ وإن كانت ا لجملـة ا لثانيـة غير منافيـة لـه ـ لأنّ مفاده أنّ ا لغسل ا لذي يمكن أن توقعـه قبل ا لفجر ، إذا أوقعتـه بعده أجزأك إ لى آخره ، ومن ا لواضح أنّ ا لغسل قبل ا لفجر إنّما يؤتى بـه لخصوص بعض ا لأسباب ; إذ لايعقل ا لإتيان بـه بنيّـة جميعها مع عدم تحقّق بعضها ، كما هو ظاهر .
وتوهّم : أ نّـه يمكن أن يكون قولـه (عليه السلام) : «للجنابـة وا لجمعـة . . .» إ لى آخره في ا لصدر ، و «ولجنابتها وإحرامها . . .» إ لى آخره في ا لذيل ، متعلّقاً بقولـه : «غسلك ذلك» في ا لأوّل ، و«غسل واحد» في ا لثاني ، لا بقولـه : «أجزأك» و«يجزيها» .
مندفع : بأ نّـه وإن كان ممكناً ، إلاّ أنّ ا لفهم ا لعرفي ـ ا لذي هو ا لكاشف عن ا لظهور ـ على خلافـه ، كما يشهد بـه سياق ا لروايـة ، مضافاً إ لى أنّ في ا لذيل قرينـة على خلافـه ، وهي قولـه : «غسلها من حيضها» ا لذي هو معطوف على قولـه : «لجنابتها» ; إذ لا معنى لتعلّقـه با لغسل ، كما لايخفى .
فا لروايـة تدلّ على كفايـة ا لغسل بنيّـة بعض ا لأسباب ـ جنابـة كان أو غيرها ـ عن ا لجميع ، ولا حاجـة إ لى نيّتها بأجمعها .
ثمّ إنّـه استشكل في إطلاق ا لروايـة ـ بناء على ا لقول بـه ، كما استفدناه من ا لروايـة ـ : بأنّ ظهور قولـه : «يجزيك» في كون ا لكفايـة رُخصـة ـ لا عزيمـة ـ ينافي ا لإطلاق ; إذ لايُعقل مع الاكتفاء بغسل ا لجنابـة ـ مثلاً ـ عن ا لأغسا ل ا لاُخر ـ ا لمستلزم لحصول أغراضها ـ ا لترخيصُ في ا لإتيان بها بعده ، كما هو ظاهر(2) .
1 ـ مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 271 ـ 272 . 2 ـ مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 271 .
(الصفحة 412)
وأنت خبير بما فيـه : أ مّا أوّلاً : فلأ نّا لا نسلّم ظهور ا لإجزاء في كون ا لكفايـة رُخصـة ، كما يشهد لـه ملاحظـة موارد استعما ل كلمـة «ا لإجزاء» ; ألا ترى أنّ ا لاُصوليّين يعنونون في ا لاُصول مسأ لـة ا لإجزاء ، ا لراجعـة إ لى أنّ ا لإتيان با لمأمور بـه على وجهـه يقتضي ا لإجزاء ، ومن ا لمعلوم أ نّـه ليس ا لمراد بـه ا لكفايـة بنحوا لرُخصـة ; إذ لايعقل تبديل ا لامتثا ل بامتثا ل آخر ، كما حُقّق في محلّـه(1) . ودعوى كون مثلـه من ا لاستعمالات استعمالاً مسامحيّاً مجازيّاً ، لايُصغى إ ليها .
وأ مّا ثانياً : فلأ نّـه على تقدير تسليم ظهور ا لإجزاء في كون ا لكفايـة رُخصـة نقول :
إنّـه لا مانع عقلاً من أن يكون للطهارة مراتب ، ويكون ا لغسل بعنوان مخصوص ، مؤثّراً في حصول ا لمرتبـة ا لتي يؤثّر سائر ا لأغسا ل في حصولها أيضاً ، وبسببـه يسقط ا لأمر ا لوجوبي أو الاستحبابي ا لمتعلّق بها ; لحصول غرضها ، ويكون ا لإتيان بها بعده ، مؤثّراً في حصول مرتبـة أقوى من تلك ا لمرتبـة يستحبّ تحصيلها ، نظير ا لوضوء على ا لوضوء ا لذي هو نور على نور ، فكما أ نّـه لا مانع ـ عقلاً ـ من ا لأمر ا لوجوبي بغسل ا لجنابـة مرّة وا لأمر الاستحبابي بـه اُخرى ; لأ نّـه يستكشف منـه أنّ ا لإتيان بـه ثانياً ، يوجب حصول مرتبـة قويّـة من ا لطهارة مطلوبـة للمولى استحباباً ، كذلك لا إشكا ل أصلاً في ا لاكتفاء بغسل واحد عن ا لأغسا ل ا لمتعدّدة ، وكون ا لإتيان بها ثانياً مطلوباً استحبابيّاً للمولى ، مستفاداً ذلك من ا لتعبير بالإجزاء .
هذا ، مضافاً إ لى أنّ ا لإشكا ل لاينحصر با لقول بكفايـة ا لغسل بعنوان
1 ـ مناهج ا لوصول 1 : 304 ـ 309 ، تهذيب ا لاُصول 1 : 182 .
(الصفحة 413)
مخصوص عن ا لأغسا ل ا لكثيرة ، بل يجري على ا لقول بكفايـة ا لغسل مع نيّـة جميع ا لأغسا ل عنها .
ولكن ا لحقّ : ما عرفت من عدم ا لمانع عقلاً ، وكيف يمكن دعوى ذلك مع ذهاب ا لمشهور إ لى ا لاكتفاء بغسل ا لجنابـة عن ا لجميع ؟ ! وقد قوّاه ا لمستشكل في ذيل كلامـه(1) ، فراجع .
ثمّ إنّ هنا شبهـة اُخرى : وهي أ نّـه كيف يعقل أن يكفي غسل واحد عن ا لواجب وا لمستحبّ ؟ ! وهل هذا إلاّ اجتماع ا لوجوب وا لاستحباب في شيء واحد شخصيّ ؟ ! وكذا لايعقل اجتماع ا لوجوبين أو ا لاستحبابين ; لاستحا لـة اجتماع ا لمِثْلين كاجتماع ا لضدّين .
ولايخفى عدم اختصاص هذه ا لشبهـة با لقول بكفايـة ا لغسل بعنوان واحد عن ا لأغسا ل ا لمتعدّدة ، بل تجري على ا لقول بكفايـة ا لغسل بنيّـة ا لجميع عنها ، بل جريانها على ا لقول ا لثاني أولى ، كما لايخفى .
وقد أجاب عنها في «ا لمصباح» بما حاصلـه : أنّ في أمثا ل ا لمسأ لـة يكون ا لمجتمع هي جهات ا لطلب لانفسها ، غايـة ا لأمر أ نّـه يتولّد منها حكم عقليّ متأكّد ، فإن كان فيـه جهـة ملزمـة يتبعها ا لطلب ا لعقلي ، ويكون ا لفرد لأجل اشتما لـه على جهات اُخر راجحـة أفضل أفراد ا لواجب ، وإن لم يكن فيـه جهـة ملزمـة يكون ا لإتيان بهذا ا لفرد مستحبّاً مؤكّداً(2) .
ونحن قد حقّقنا في ا لاُصول ـ في مبحث اجتماع ا لأمر وا لنهي ـ : أنّ متعلّق ا لأحكام هي نفس ا لطبائع وا لعناوين ، وأ نّـه لايُعقل أن يكون ا لموجود ا لخارجي متعلَّقاً لها ; لأ نّـه قبل وجوده لايكون متحقّقاً ثابتاً حتّى يتعلّق بـه ا لحكم ، وبعده
1 ـ مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 282 . 2 ـ مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 287 .
(الصفحة 414)
يحصل ا لمطلوب أو ا لمزجور عنـه ، ولايعقل تعلّق ا لطلب أو ا لزجر بـه حينئذ ، فلامانع على هذا ا لتقدير من أن يكون متعلّق ا لأمر ا لوجوبي ، هو غسل ا لجنابـة بعنوانـه ، ومتعلّق ا لأمر الاستحبابي هو غسل ا لجمعـة بعنوانـه ، واجتماعهما على موجود واحد شخصيّ ، لايوجب تعلّق حكمين بشيء واحد ، وتفصيل ا لكلام موكول إ لى ذلك ا لمبحث(1) .
ثمّ إنّ هنا روايات اُخر بعضها يدلّ على بعض ا لمطلوب ، وبعضها يُتوهّم منـه ا لتعارض مع صحيحـة زرارة ا لمتقدّمـة ، ولكن أكثرها لايخلو من ضعف أو إرسا ل ، وتوهّم ا لتعارض فـي بعضها ناشئ مـن عـدم ا لتأ مّل فيها ، وقـد جمعـها صـاحب ا لوسائل في ا لباب ا لثا لث وا لأربعين من أبواب ا لجنابـة ، من كتاب «ا لوسائل» ، فراجعها وتأ مّل فيها(2) .
1 ـ مناهج ا لوصول 2 : 130 ـ 131 ، تهذيب ا لاُصول 1 : 392 ـ 394 . 2 ـ وسائل ا لشيعـة 2 : 261 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لجنابـة ، ا لباب 43 .
(الصفحة 415)
الفرض الثاني: غسل الوجه
حول تعريف الوجه
وقد عرّف ا لوجـه ا لمحقّق في «ا لشرائع» بقولـه :
«وهو ما بين منابت ا لشعر في مقدّم ا لرأس إ لى طرف ا لذقن طولاً ، وما اشتملت عليـه ا لإبهام وا لوسطى عرضاً»(1) .
أقول : ا لمستند في ذلك صحيحـة زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، أ نّـه قا ل لأبي جعفر ا لباقر (عليه السلام) : أخبرني عن حدّ ا لوجـه ا لذي ينبغي أن يوضّأ ا لذي قا ل الله عزّوجلّ . فقا ل : «ا لوجـه ا لذي قا ل الله وأمر الله عزّ وجلّ بغسلـه ، ا لذي لاينبغي لأحد أن يزيد عليـه ولاينقص منـه ، إن زاد عليـه لم يؤجر ، وإن نقص منـه أثِم ، ما دارت عليـه ا لوسطى وا لإبهام من قصاص شعر ا لرأس إ لى ا لذقن ، وما جرت عليـه ا لأصبعان من ا لوجـه مستديراً فهو من ا لوجـه ، وما سوى ذلك فليس من ا لوجـه» . فقا ل لـه : ا لصدغ من ا لوجـه ؟ قا ل : «لا»(2) .
1 ـ شرائع ا لإسلام 1 : 13 . 2 ـ ا لكافي 3 : 27 / 1 ، ا لفقيـه 1 : 28 / 88 ، تهذيب ا لأحكام 1 : 54 / 154 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 403 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 17 ، ا لحديث 1 .
(الصفحة 416)
وا لمراد أنّ ا لوجـه هو ما يُحيط بـه ا لأصبعان ا لمذكوران في ا لروايـة ، ويدوران عليـه ; مبتدئاً من ا لقصاص ومنتهياً إ لى ا لذقن ; بمعنى وضعهما على ا لقصاص وفتحهما ثمّ إدارتهما ; بحيث تنتهي ا لدورة إ لى ا لذقن ، ويحصل من ذلك شكل هندسي شبيـه با لدائرة ، وا لظاهر أنّ ا لمراد بقولـه (عليه السلام) : «مستديراً» ، هو فتح ا ليدين بنحو يحصل منـه شكل شبيـه بنصف ا لدائرة ، وا لوجـه فيـه : أنّ ا لوجـه ليس جسماً مسطّحاً ، بل لـه نوع من ا لانحناء ، ففتح ا ليدين إ لى ا لغايـة مستلزم لعدم إمكان اتّصا لهما بسطح ا لوجـه ، كما هو غير خفيّ .
حول كلام الشيخ البهائي في تفسير الرواية
ثمّ إنّ ما ذكره شيخنا ا لبهائي (قدس سره) في تفسير ا لروايـة : من أنّ كلاّ من طول ا لوجـه وعرضـه هو ما اشتمل عليـه ا لأصبعان ; إذا ثبت وسطـه واُدير على نفسـه حتّى يحصل شبـه ا لدائرة(1) .
فيـه : أنّ ذلك خلاف ما هو ا لمتفاهم من ا لروايـة بنظر ا لعرف ; لأنّ ا لوجـه لايكون مستديراً عرفاً ، بل ولا لغـة ، مضافاً إ لى استلزام ذلك لعدم وجوب غسل بعض ما يكون غسلـه واجباً ، ولوجوب غسل بعض ما لايجب غسلـه اتّفاقاً .
ثمّ إنّـه ـ بناءً على ما ذكرنا ـ لا مجا ل لتوهّم وجوب غسل ما هو خارج عن ا لوجـه ; نظراً إ لى أنّ فتح ا لأصبعين إ لى طرف ا لذقن مستلزم لدخول مقدار ممّا وقع تحتـه ; وذلك لوضوح أنّ ا لمراد من ا لتحديد ليس إدخا ل ما هو خارج عن ا لوجـه قطعاً ، بل ا لمراد بيان ا لحدود ا لمشتبهـة ا لتي يحتمل أن تكون داخلـة في ا لحدّ ، كما لايخفى .
1 ـ ا لحبل ا لمتين : 14 / ا لسطر 15 ـ 16 ، ا لأربعون حديثاً ، ا لشيخ ا لبهائي : 102 .
(الصفحة 417)
التحديد في الروايات بحسب الخِلْقة المتعارفة
ثمّ إنّـه من ا لواضح أنّ ا لتحديد في ا لروايات ، إنّما يكون ا لملحوظ فيـه هو ا لأشخاص ا لمتناسبـة ا لأعضاء ا لتي تتعارف خلقتهم بحسبها ، فلو فُرض خروج شخص عن ا لخِلْقـة ا لمتعارفـة ـ إمّا لكِبَر وجهـه ، أو صِغَره ، أو طول أصابعـه ، أو قِصَرها مثلاً ـ فا لواجب عليـه ا لرجوع إ لى ا لمتعارف ; لا بمعنى جعل أصابع ا لناس ملاكاً لمعرفـة حدود وجهـه ، فإنّـه قد تكون أصابعـه كأصابعهم ، ولكن ا لتفاوت وعدم ا لتناسب بملاحظـة كبر وجهـه ، فيلزم ـ حينئذ ـ غسل مقدار من وجهـه فقط ، مع أنّ من ا لواضح وجوب غسل جميع ا لوجـه على جميع ا لمكلّفين .
بل بمعنى مقايسـة نفسـه مع ا لناس ; وملاحظـة أنّ ا لمقدار ا لمحاط بالأصبعين ا لمتعارفين إذا اُجريا على ا لوجـه ا لمناسب معهما ـ أيّ مقدار ـ فيغسل من وجهـه بنسبـة ذلك ا لمقدار ، وا لظاهر أنّ هذا هو ا لمراد من ا لرجوع إ لى ا لمتعارف ا لمذكور في كتاب «ا لعروة»(1) وغيره(2) .
ثمّ إنّـه بعد كون حدّ ا لوجـه عبارة عمّا تقدّم ، لا جدوى للنزاع في غسل بعض ا لموارد ا لتي اختلفوا فيها ، فإنّ ا لمناط هو إحاطـة ا لأصبعين ، فكلّ ما يحيطان بـه فا لواجب غسلـه ، وما لايحيطان بـه لايجب غسلـه .
ودعوى وجوب غسل مقدار يسير من ا لأطراف ا لخارجـة عن ا لحدود بحكم ا لعقل ; مقدّمـة لحصول ا لواجب(3) .
1 ـ ا لعروة ا لوثقى 1 : 202 ، فصل في أفعا ل ا لوضوء . 2 ـ ا لطهارة ، ضمن تراث ا لشيخ ا لأعظم 2 : 170 . 3 ـ مسا لك ا لأفهام 1 : 36 ، مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 294 .
(الصفحة 418)
مدفوعـة : بأنّ ذلك إنّما هو في غير ا لمقام ممّا لايحصل ا لجزم إلاّ بذلك ، وأ مّا في أمثا ل ا لمقام ممّا كان ا لتحديد بمثل ا لأصبعين ـ ا لذي لايكاد يعرض لـه الاشتباه بعد جريهما با لنحو ا لمتقدّم ـ فلا ، إلاّ أن يكون منشؤه احتما ل اختلاف ا لمقدار ا لواقع منهما في أحد طرفي ا لوجـه ، مع ا لمقدار ا لآخر ا لواقع في ا لطرف ا لآخر .
حول وجوب الغسل من الأعلى إلى الأسفل
ثمّ إ نّـه حُكي(1) عن ا لمشهور ـ بل ربما ادُّعي ا لإجماع(2) ـ على أنّ ا لواجب في غسل ا لوجـه هو أن يغسل من أعلى ا لوجـه إ لى ا لذقن ، وأ نّـه لو غسل منكوساً لم يُجْزِهِ .
ونحن نقول : ينبغي أوّلاً ا لنظر في ا لإطلاقات ا لواردة في ا لوضوء ; وأ نّـه هل يستفاد منها ا لإطلاق با لنسبـة إ لى ا لمقام ، أم لا ؟
ا لظاهر دلالـة ا لآيـة ا لشريفـة(3) على أنّ ا لواجب مجرّد ا لغسل ; للأمر بـه مطلقاً مع كونها في مقام ا لبيان ، كما يظهر من تحديدها ا لأيدي وا لأرجل .
ودعوى : انصراف ا لغسل إ لى ا لغسل على ا لوجـه ا لمتعارف في باب ا لوضوء ; وهو ا لغسل من ا لأعلى إ لى ا لأسفل(4) .
مدفوعـة : بمنعها ; فإنّ منشأها مجرّد ا لتعارف وغلبـة ا لوجود ، وا لوجـه
1 ـ مدارك ا لأحكام 1 : 199 ، ا لحدائق ا لناضرة 2 : 230 ، مفتاح ا لكرامـة 1 : 240 / ا لسطر13 . 2 ـ جواهر ا لكلام 2 : 148 ، مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 296 . 3 ـ ا لمائدة (5) : 6 . 4 ـ ا لحبل ا لمتين : 12 / ا لسطر 16 ـ 17 ، جواهر ا لكلام 2 : 150 .
(الصفحة 419)
فيـه : أنّ ا لغسل بهذا ا لنحو أسهل من ا لعكس ، وذلك لايوجب ا لانصراف ، مع أنّ تعارف ا لغسل من أعلى ا لوجـه غير ثابت .
الاستدلال بالروايات على لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل
وأ مّا ا لروايات فيستفاد من بعضها ا لإطلاق أيضاً ; حيث إنّـه اُمر فيها بمجرّد غسل ا لوجـه مع كونها في مقام ا لبيان ، فا للازم ـ حينئذ ـ ملاحظـة ا لأخبار ا لتي تُوهِّم دلالتها على ذلك ، فنقول :
عمدتها : ما رواه في «قُرب ا لإسناد» عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن أبي جرير ا لرقاشي ، قا ل : قلت لأبي ا لحسن موسى (عليه السلام) : كيف أتوضّأ للصلاة ؟ فقا ل : «لاتعمّق في ا لوضوء ، ولا تلطم وجهك با لماء لطماً ، ولكن اغسلـه من أعلى وجهك إ لى أسفلـه با لماء مسحاً ، وكذلك فامسح ا لماء على ذراعيك ورأسك وقدميك»(1) .
وأنت خبير : بأنّ ا لاستدلال با لروايـة على ذلك ممنوع :
أ مّا أوّلاً : فلضعف سندها ; لأنّ أبا جرير ا لرقاشي مجهول .
ودعوى : انجبار ضعف ا لسند بعمل ا لمشهور وفتواهم على طبقها(2) .
مدفوعـة : بأنّ ذلك إنّما يُجدي فيما لو علم استناد ا لمشهور إ ليها ، وأ مّا مع احتما ل استنادهم إ لى اُمور اُخر ـ كالانصراف ، أو قاعدة ا لشغل ، أو ا لأخبار ا لبيانيّـة ا لتي ستجيء إن شاء الله تعا لى ـ فلا مجا ل لدعوى ا لانجبار بوجـه .
1 ـ قرب ا لإسناد : 312 / 1215 ، وسائل ا لشيعـة 1 : 398 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 15 ، ا لحديث 22 . 2 ـ مستند ا لشيعـة 2 : 95 ، جواهر ا لكلام 2 : 150 .
(الصفحة 420)
وأ مّا ثانياً : فلأ نّـه على تقدير تسليم خلوّها عن ا لمناقشـة من حيث ا لصدور ، فدلالتها على ما ذكروه ممنوعـة ; لأنّ ظاهر ا لسؤال وإن كان راجعاً إ لى ا لسؤال عن كيفيّـة ا لوضوء ، إلاّ أنّ ا لجواب بمثل ذلك لايناسبـه ، فا للازم حملـه على ما يناسب ا لجواب ، وا لتأ مّل فيـه يقضي بأنّ محطّ ا لنظر إنّما هو عدم لزوم ا لغسل بنحو ا لتعمّق وا للطم ، بل يكفي ا لغسل بنحو ا لمسح ، فقولـه (عليه السلام) : «ولكن اغسلـه . . .» إ لى آخره ، إنّما سيق لبيان ذلك ، لا أن يكون ا لمقصود منـه هو ا لغسل من ا لأعلى إ لى ا لأسفل ، وكونـه با لماء وكونـه بنحو ا لمسح ; حتّى يقا ل : إنّ حمل ا لأمر على الاستحباب في ا لأخير ، لاينافي ا لوجوب با لنسبـة إ لى الأوّلين ، فإنّ ا لظاهر كونـه مسوقاً لبيان حكم واحد ، وهو ا لغسل با لمسح ، كما يدلّ عليـه قولـه (عليه السلام) : «وكذلك فامسح على ذراعيك . . .» إ لى آخره ، وحينئذ فا لواجب حملـه على ا لاستحباب ، وذكر «من أعلى وجهك إ لى أسفلـه» إنّما هو لبيان كفايـة ا لغسل با لمسح في جميع ا لوجـه ، وعدم لزوم ا لغسل با لنسبـة إ لى بعضـه وكفايـة ا لمسح في خصوص ا لبعض ا لآخر ، بل يكفي ا لمسح في ا لجميع .
ويؤيّد ا لحمل على ا لاستحباب : كون ا لنهي ا لمتعلّق با لتعمّق وا للطم نهياً تنزيهيّاً ، وا لمراد بالأوّل ما هو ا لمتداول بين ا لوسواسيين وبا لثاني إمّا ذلك ، وإمّا ما هو عادة ا لمتسامحين .
وكيف كان ، فالإنصاف : أنّ ا لروايـة لاتدلّ على مطلوبهم أصلاً .
وقد يستدلّ لذلك(1) بالأخبار ا لكثيرة(2) ا لحاكيـة لفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووضوءه ، ففي كثير منها ـ على اختلاف تعبيراتها ـ قد ذكر ذلك ; أي ا لغسل من أعلى ا لوجـه ، ومن ا لمعلوم أنّ ذكر ا لرواة ا لحاكين لفعل ا لإمام (عليه السلام) ، ا لذي صدر
1 ـ جواهر ا لكلام 2 : 148 ـ 149 ، اُنظر مصباح ا لفقيـه ، ا لطهارة 2 : 296 . 2 ـ اُنظر وسائل ا لشيعـة 1 : 387 ، كتاب ا لطهارة ، أبواب ا لوضوء ، ا لباب 15 .
|