(الصفحة41)
عَلَى النَّاسِ} .
يقول (عليه السلام): «فالرسول شهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى» . أي أنه (صلى الله عليه وآله) شاهدٌ عليهم على المستوى التبليغي وعلى المستوى العملي لما بلغهم ، ثمّ يقول (عليه السلام): «ونحن الشّهداء على النّاس» ثمّ يفرع على ذلك فيقول: «فمن صدق يوم القيامة صدقناه وإن كذب كذبناه»(1) .
وهذا يعني أن أعمال النّاس كافّة عند الأئمّة (عليهم السلام) ، وهم مطّلعون عليها لكونهم شهداء . وميزة الشهيد هو إمّا التصديق أو التكذيب ، كلاهما يتفرّعان عن العلم والإطلاع ، وفي فرض عدم الإطلاع لايبقي للتصديق أو التكذيب أيّ معنى . ويبدو أنّنا قد خرجنا عن إطار البحث ، لكن لايخلو خروجنا هذا عن فائدة ، وسنبحث فيما بعد عن وجه العلاقة بين هذه المواضيع التي أشرنا إليها وبين أصل البحث .
وعلى أي حال ، فقد اتضح من التدقيق في هذه الآيات أن لدينا مسألتان:
أحداهما: إمامة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) لكونهم من بني هاشم وذرّية إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).
والاُخرى: كونهم شهداء على الناس ، وهذا يعني أنّهم مطلعون على أعمال الاُمّة كافّة ، وأنهم يعلمون الغيب وهذا مقتضى الآية بغضّ النظر عن الروايات والتي بدورها تؤيّد هذا المعنى .
نتيجة البحث
في بداية البحث ذكرنا الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} للاستدلال بها في موضوع الحرج ، فهي من جهة تصلح لأن تكون خير دليل على
1 . الكافي 1: 189 ، في أ نّ الأئمّة شهداء الله عزّوجلّ على خلقه ، الحديث 4 .
(الصفحة42)
هذا الموضوع ، ومن جهة اُخرى فإنّ الخطاب في هذه الآية غير موجّه لكافّة الناس . وبناءً على هاتين المقدّمتين توصلنا بعد البحث والمناقشة إلى أن المخاطبين في الآية: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} هم الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) خاصّة . والآن هل يحقّ لنا أن نقول: إن الآية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} لاتفيد الحصر؟ أيّ إننا بعد أن أثبتنا بالشواهد والقرائن أ نّ المخاطبين هم خصوص الأئمّة (عليهم السلام) . هل نستطيع الاستدلال على أن هذا الحكم هو حكم كلّي وعام ، ولايتنافى مع قولنا: إن الله لم يجعل على الأئمّة من حرج ، ولم يجعل على سائر النّاس أيضاً في الدين من حرج؟
والصحيح أن توجيه الخطاب إلى المعصومين (عليهم السلام) لايعني أن الحكم يختصّ بالأئمّة (عليهم السلام) ، بل يكون نفي الحرج حكماً عامّاً ، ولكنّه ورد في خصوص الأئمّة لوجود مناسبة إقتضت ذلك .
وبعبارة أوضح: إن مسألة رفع الحرج في الدين الإسلامي مسألة عامّة ، وكما سيتضح هذا المعنى فيما بعد من الروايات والآيات ، فإنّ الآية هذه في مقام الامتنان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهي بالإضافة إلى الجوانب الاُخرى التي يمكن الكشف عنها من خلال الرّوايات تبيّن لنا العناية الربانية التي إختصها الله تبارك وتعالى باُمّة الرسول (صلى الله عليه وآله) دون سائر الاُمم والأديان السالفة ، وبالطبع فإنّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) بما أنّهم اُمّة النّبي (صلى الله عليه وآله) بالمعنى الأعمّ مشمولين بهذه المنّة والعناية الرّبانية .
عود إلى قاعدة الحرج
نعود إلى أصل الموضوع ، فنقول: أن موضوع نفي الحرج الذي تحدثت عنه الآية الشّريفة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} موجّه بالدّرجة الاُولى إلى الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) إلاّ أن كون الخطاب القرآني موجّهة إلى الأئمّة ، لايعني أن
(الصفحة43)
الحكم يقتصر على الأئمّة فقط ، بل هم كسائر المسلمين قد شملتهم العناية الإلهيّة ، ولكننا إذا أردنا أن نثبت أن دليل نفي الحرج هو دليل عام يشمل الأئمّة (عليهم السلام) وكذلك سائر النّاس ، لابدّ لنا أن نستمد العون من الخارج ، أي من الأحاديث والرّوايات .
والسّؤال هو: هل يمكننا أن نستفيد من نفس الآية الشّريفة شمول الحكم لسائر النّاس وعدم اختصاصه بالمعصومين (عليهم السلام) ، أو لايمكننا ذلك؟
وللإجابة على هذا التساؤل نقول: إن عبارة {في الدين} في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} تشعر بأن نفي الحرج أنما يتعلّق في أحكام الدين الإسلامي ، فتكون قرينة على أن هذه الميزة متأصّلة في هذا الدين ، فلا تختص بأفراد معينين .
وكيف كان ، فالأمر سهل بعد الرّجوع إلى الرّوايات الشّريفة الناظرة إلى هذه الآية الكريمة ، والتي سنذكرها بالتفصيل فيما بعد ، وفي أحدها ، أن أحد الرواة عثرت قدمه فأنقطع أظفر القدم ، فغطاها بشيء ، فسأل الإمام (عليه السلام) ، إذا توضّأ كيف يمسح؟ فأجابه (عليه السلام) بقوله: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أي إنّك لو لم تكن تسألني فاجيبك ، لكان من الممكن لك أن تستفيد هذا المعنى من نفس الآية .
إذن هناك ثمّة اختلاف بين عمومية الخطاب وعمومية الحكم . نحن بامكاننا أن نستفيد من ظهور الآية فقط ـ وبغض النظر عن الروايات ـ عمومية هذا الحكم ، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الحكم العامّ في هذه الآية قد تمّ تطبيقه في خصوص الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) يظهر من سياق الآية ، فالله عزّوجلّ يخاطب الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) بأن يجاهدوا فيه [ أي في الله] حق جهاده ، وهذا أعلى مراتب الجهاد ، ومع ذلك فأنّ للجهاد هذا مهما بلغت درجته حدوداً ، وحدوده هي قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} أن عليكم أن
(الصفحة44)
تجاهدوا ، ولكن لا بالشكل الذي يسبب حكم الحرج والمشقة المجهدة الخارجة عن حدود المتعارف .
الآية الثّانية:
وهناك آية اُخرى ذكرت فيها كلمة «الحرج» وهي في سورة المائدة التي تتضمّن أحكام الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، وتبدأ الآية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}(1) .
وفي قوله تعالى: {جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} أشارة إلى الوضوء ، وفي قوله: {لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ} يشير إلى الغسل ، وتختم الآية لحديثها بالكلام عن التيمم .
وهنا توجد نقطة هامة والتي تشكل بحثاً تفسيرياً بالإضافة إلى كونها بحثاً فقهياً في الطهارة ، وهي أنّ الآية قرنت بين المريض الذي يضر الماء به ، وبين المسافر والمحدث ، مع العلم أن المريض لايحتاج إلى التيمم إلاّ إذا كان محدثاً .
وقد بحثنا هذه النقطة بشكل موسع في كتاب الطهارة وفي غيره ، ولا نريد أن نخوض في هذا الموضوع . ولكن نقول بإجمال: إن الآية تشير إلى ثلاث موارد يجب فيها التيمم ، أحد هذه الموارد هو المريض ، والآخر هو المسافر الذي لايجد ماءً ، والثالث هو المحدث الذي لايجد ماءً . وبعد أن تذكر الآية الموارد الثّلاثة تقول:
1 . المائدة: 6 .
(الصفحة45)
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وإذا تتبعنا سياق الآية نجد أن الآية تشير إلى موضوع التيمم .
بعد ذلك كلّه تتابع الآية سياقها القرآني بقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ، وهنا بامكاننا أن نعتبر هذه العبارة تعليلاً لما سبق ، حينئذ يواجهنا هذا السّؤال وهو: هل أنّ هذا التعليل شامل لكلّ الأحكام التي ذكرتها الآية ، أي لهذه الطّهارات الثلاث ، أم أ نّ التعليل هو في خصوص التيمّم فقط ، وذلك لأ نّ التيمّم فيه جانبان: جانب عدم ، ونفي حيث ينتفي مع التيمّم كلّ من الوضوء والغسل ، وهناك جانب إثبات ووجوب ، وهو وجوب التيمّم . فمعنى أن يتيمّم المكلّف بدل الوضوء ، أ نّ المكلف إذا سقط عنه الوضوء لايبقى بدون تكليف ، ولايسقط عنه الواجب الذي وجب الوضوء كمقدّمة له .
وبناءً على ذلك ، فإنّ ما جاء في مقام التعليل إذا قصرناه على التيمم ، أي قلنا : إنّ السّبب في أ نّ المريض لا وضوء عليه والمسافر يسقط عنه الوضوء ، والغسل ، وكذا الحال بالنّسبة لمن لايجد ماءً وهو قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إنّما يريد أن ينفي سقوط التكليف لتفادي المشقّة والكلفة في نفس الوقت ، لأ نّ استعمال الماء إذا كان مضرّاً بالمريض ، فإنّه سيوقعه في حرج شديد عند الوضوء .
سؤال: وهنا قد يسأل البعض: ماهي مدخليّة قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} بالنسبة لمن لايجد ماءً ؟ أي لا معنى للحرج بأعتبار أ نّ المكلف لا ماء لديه ، ولايمكنه أن يتوضأ بالتراب ، أو يغسل بغير الماء؟
الجواب: كما ورد في الفقه هو أ نّ قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يدلّ على أ نّ الملاك ليس افتقاد الماء بالمرّة ، وإنّما عدم الوجدان ، وهذا يقع في حدود معيّنة . ولذلك يقال: إنّ على المكلف أن يقطع كذا مسافة بحثاً عن الماء في المناطق الرخوة ،
(الصفحة46)
وكذا مسافة في الأراضي الصلبة . إذن عدم وجود الماء لا يراد به الإطلاق ، أو المعنى الحقيقي للكلمة ، لأ نّه لو لم يكن هناك ماء حقيقة ، لما كان باستطاعة المكلّف أن يتوضّأ ، أو أن يغتسل .
أمّا لو فسّرنا عدم وجدان الماء بما هو متعارف عليه في الفقه ، حينئذ سنصل إلى هذا الحكم ، وهو أنّ المكلف الذي لم يجد ماءً في المنطقة التي يتواجد فيها ، لايجب عليه أن يقطع مسافات بعيدة بسيّارته مثلاً بحثاً عن الماء ، وان كان يحتمل الوصول إلى الماء ، ولكن هذا ليس هو الملاك ، لأ نّه لو كان الملاك هو عدم وجدان الماء حقيقة ، لانتفى وجوب الوضوء والغسل من الأصل ، ولايوجد حينها أيّ مبرّر للحديث عن الحرج .
وأمّا عدم الوجدان بمعناه الفقهي ، فيمكن معه أن نتصوّر هذا المعنى ، وهو أن يكون واجباً على المكلّف أن يحصل الماء بأيّ شكل من الأشكال ، وبأيّ طريقة ، ومن أيّ مكان كان ، سواء من البحر أو من الصحراء للوضوء والاغتسال ، وهنا يأتي قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} ، فيسقط عن المكلّف الوضوء والغسل للحرج والمشقّة .
إذن ، محصّلة الحديث أ نّ الآية: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} إذا خصّصناها بالتيمم ، يكون فيها جانبان:
الجانب الأوّل: هو نفي وجوب الوضوء والغسل ، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} فيه إشارة إلى هذا الجانب ، فالمريض لا وضوء عليه ، والمسافر لا وضوء ولا غسل عليه ، وكذا الحال بالنسبة لمن لايجد ماءً ، وأمّا تتمّة الآية وهي قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فهي ناظرة للجانب الإثباتي للتيمّم . أي أ نّه بعد ما ارتفع وجوب الوضوء والغسل نظراً للحرج ، وجب التيمّم ، لماذا؟
(الصفحة47)
هنا يأتي التعليل ، وهو: لأ نّ الله يريد أن يطهّرنا ، والتراب أحد الطهورين ومن ثمّ يقول تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} ، وبناءاً على ذلك فإنّ هذه الآية الشّريفة يمكن أن تكون من الأدلّة على قاعدة نفي الحرج .
وهنا لابدّ من الأشارة إلى نقطة هامّة ، وهي أ نّ الله سبحانه وتعالى عندما يقرّر بأ نّ المريض لايجب عليه الوضوء ، لأ نّه لم يرد أن يجعل عليه من حرج ، هنا المريض أحد موارد نفي الحرج ، ولا خصوصيّة بحيث تجعل الحكم يختصّ به ، فمسألة عدم وجوب الوضوء ، وعدم وجوب حكم الغسل ليس فيها أيّة خصوصيّة معيّنة ، وإنّما هي موارد ومصاديق للموضوع الأساسي ، وذلك لأ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} جاء بمثابة التعليل ، وكما تعلمون فإنّ المورد لا يكون مخصّصاً ، فالتعليل معنى عامّ يصدق في هذه الموارد وفي غيرها . وبذلك تصبح هذه الآية أحد الأدلّة القرآنية على قاعدة الحرج ، خاصّة وأ نّ كلمة الحرج قد وردت في الآية نصّاً .
التعليل ورجوعه إلى الطهارات الثلاث
أمّا على مستوى الاحتمال الآخر ، وهو أ نّ قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} له علاقة بالآية بكاملها ، وليس من باب نفي الحرج في خصوص التيمم الذي أشرنا إليه في الاحتمال السابق ، أي أ نّه مرتبط بالطهارات الثلاثة ، هنا قد يطرح هذا التساؤل ، وهو ما معنى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}؟ هذا أوّلاً .
وثانياً: إذا أخذنا بهذا الاحتمال ، فهل يبقى هناك مجال للحديث عن قاعدة (نفي الحرج) والاستدلال عليها بالآية الشّريفة؟
إذن علينا أوّلاً أن نرى ما هو معنى الآية في ضوء هذا الاحتمال؟ لا شك أ نّ
(الصفحة48)
الآية وبناءً على هذا الاحتمال أيضاً تبقى في مقام التعليل ، فلا فرق بين هذا الاحتمال والاحتمال الأوّل ، ولكن السؤال: ما هو وجه التعليل في هذا الاحتمال؟
التعليل هنا لبيان العلّة في وجوب الوضوء ، أي للجواب على هذا السّؤال وهو: لماذا إذا قمتم إلى الصلاة عليكم أن تغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق؟ ولماذا {إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}؟ وما هي العلّة في أ نّكم لو كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماءً عليكم أن تيمّموا صعيداً طيّباً؟ ففي جميع هذه الموارد يأتي التعليل في خصوص الجانب الإثباتي للحكم .
ولنا أن نتساءل هنا كيف يمكن للتعليل أن يكون في الجانب الإثباتي للحكم؟
والجواب: أ نّ الله تبارك وتعالى يريد أ نّ يبيّن أن ما ألزمكم به عند الصلاة من الوضوء أو الغسل أو التيمّم ، فلا اُريد بذلك أن أشقّ عليكم أو أثقل كاهلكم ، إنّما أقصد بذلك هدفاً أسمى وأعلى . وهذا الهدف الذي أبتغيه يخصّكم أنتم ، ويعود عليكم بالمنفعة ، وهو تطهيركم ، أي اُريد بذلك أن تحصلوا على طهارة النفس وطهارة البدن أيضاً . بناءً على ذلك ولتحقيق هذا الهدف السامي هل يعتبر الوضوء أمراً حرجيّاً؟ وهل يعدّ الغسل عملاً صعباً؟ وهل التيمّم شاقاً؟
ومثال ذلك ، أن يقول الأب لابنه : يابنيّ إنّما أوجب عليك الذهاب إلى المدرسة صبيحة كلّ يوم ، لا لكي أشقّ عليك ، أو أزيد في عنائك ، بل أريد بذلك أن تتعلّم وتحصل على مكانة علمية سامية في المجتمع .
إذن، إذا قلنا بأنّ الآية: {ومَايُرِيدُاللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تتعلّق بالأحكام الثلاثة ، وبالجانب الإثباتي لهذه الأحكام ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول: إنّي ما أوجبت الوضوء ولا التيمّم ولا الغسل لكي أشقّ عليكم ، أو أجعلكم في حرج ، وإنّما أردت أن أطهّركم ، وهذا المعنى يتطابق مع تعبيراتنا العرفيّة الشائعة ، ولكنّه خارج عن إطار بحثنا ، ولا علاقة له بقاعدة نفي الحرج ، والسبب في ذلك هو
(الصفحة49)
أ نّ قاعدة نفي الحرج إنّما تستخدم عندما تكون لدينا إطلاقات وعمومات في الجانب الإثباتي للحكم ، ونريد أن ننفي بعض هذه الأحكام بواسطة هذه القاعدة .
فمثلاً ، إذا كان الصوم يشكل حرجاً بالنسبة لأحد المكلّفين ، هنا يسقط وجوب الصيام الذي يفهم من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وتأتي قاعدة نفي الحرج هنا لتنفي بعض الأحكام التي تفهم بمقتضى الإطلاقات الموجودة في الآية ، ولو لم تكن هذه القاعدة ، لاقتضت الإطلاقات وجوب الصوم على الإنسان ولو كان في مرض الموت ، كالصلاة التي تجب حتّى على الغريق الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وعليه أن يؤدّيها في لحظة أو لحظات ، إذن قاعدة نفي الحرج في الحقيقة هي قاعدة نفي الحكم ، حيث تواجه الدليل الذي يريد أن يثبت الحكم من خلال الإطلاق في كلّ الموارد حتّى في موارد الحرج ، فتنتفي ذلك الحكم . لذا يعبّر عنها بالنفي [ ما جعل عليكم من حرج] فهناك إشارة إلى أ نّ الأحكام المستلزمة للحرج غير مرادة للشارع . وجعل الجاعل وإرادته الجديّة لم تبتن على أساسها ، حتّى ولو كان مقتضى الإطلاق يفيد الثبوت في موارد الحرج .
ومن هنا نتوصّل إلى هذه النتيجة ، وهي أ نّ مجرّد وجود كلمة (الحرج) في هذه الآية: {ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} لايعني أ نّها من أدلّة نفي الحرج ، بل يجب علينا أن نبحث هل أ نّ التعليل ناظر إلى التيمّم ، أو لا؟
وكما أشرنا سابقاً هناك جانبان في التيمّم: جانب نفي ، وهو عدم وجوب الوضوء والغسل ، وجانب إثباتي وهو التيمّم ، فإذا كان هذا التعليل فيما يخصّ التيمّم في جانب النفي ، حينئذ يمكن أن نعدّه من الأدلّة على بحثنا هذا . وإذا كان يتعلّق بكلّ الأحكام الموجودة في الآية وفي جانبها الإثباتي ، أي ذكر السبب والعلّة في وجوب الوضوء ووجوب الغسل والتيمّم ، حينذاك تكون الآية خارجة عن إطار بحث قاعدة نفي الحرج .
(الصفحة50)
مساعدة الظهور للاحتمال الأوّل
وهنا قد يقال: هل إنّ ظاهر الآية يفيد الاحتمال الأوّل ، وبذلك تكون الآية من أدلّة نفي الحرج ، أو أ نّ ظاهرها يدلّ على الاحتمال الثاني فتخرج الآية عن إطار بحثنا هذا؟
لقائل أن يقول: إنّ الآية فيها إجمال من جهة متعلّق التعليل ، فلا يمكن إستظهار عود التعليل إلى التيمّم فقط ليصحّ الاستدلال بالآية الشّريفة .
والتحقيق أ نّه بالإمكان العثور على ما يرجّح الاحتمال الأوّل . لأ نّ الله سبحانه وتعالى ذكر في باب الغسل: {إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، فعبّر عن الغسل بالتطهير . وعلاقة الوضوء والغسل بالتطهير علاقة واضحة ، خاصّةً وأ نّ التطهير يتضمّن طهارة الجسم أيضاً ، إذن الماء مطهّر ، وهذا معلوم ومفروغ عنه ، أمّا بالنسبة للصعيد ـ سواء كان المراد منه التراب الخالص ، أو مطلق وجه الأرض ـ [هذا ينبغي أن نبحثه في التيمم] ، فهو مالا يستأنس به ، إذ لا علاقة للتمسّح بالتراب بالطهارة ، بل يمكن اعتبارها ضدّ الطّهارة ، وأ نّها عمليّة مشفوعة بالقذارة .
هنا احتمل [ولا أقول أقطع] أ نّ قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يتعلّق بنفس التيمّم خاصّة ، أي أ نّ الله سبحانه وتعالى في صدد الإجابة على الإستفهام الذي قد يتبادر إلى الذهن عن طبيعة الأمر بالتيمّم وعلاقة التراب بالطهارة ، فيقول : يطهّركم به .
وبناءً على ذلك يستبعد أن يكون قوله تعالى: {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} عائداً على قوله فيما سبق {فَاطَّهَّرُوا} في باب الغسل وفي باب الوضوء ، وهذا يؤيّد أن يكون قوله: {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} إنّما هو في خصوص التيمّم . فالله عزّوجلّ يريد أن ينبّه الإنسان إلى أ نّ مسألة التيمّم لا تتلخّص بالصورة الظاهريّة للتيمّم ، بل يريد ليطهّركم بذلك .
(الصفحة51)
وفي تتمّة الآية يقول تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} فهنا إشارة إلى مسألة التيمّم ، فالإتمام لايمكن أن يتصوّر إلاّ إذا كان أصل النعمة موجوداً . فما هو أصل النعمة؟
أصل النعمة الطهارة ، سواء بالوضوء أو الغسل ، فإذا لم تتحقّق الطهارة بالوضوء ولا بالغسل بالمعنى الذي تصوّره الآية الكريمة ، وبالتالي إذا لم تتحقّق أصل النعمة فإنّ التيمم كفيل بإتمام النعمة .
محصلّة القول: إنّ هذه المؤيّدات التي ذكرناها بالإضافة إلى القرائن الاُخرى من قبيل أ نّ مسألة التيمّم جاءت في آخر الآية وتبعها قوله تعالى: {ومَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج} تشكّل ظهوراً في الآية الشريفة على أ نّ قوله: {ومَا يُرِيدُ اللهُ} تتعلّق بالتيمّم ، وحينئذ تكون الآية صالحة للاستدلال بها على قاعدة نفي الحرج .
ولكن قد يدّعي البعض أ نّ الآية في ظهورها تشمل الطهارات الثلاث ، أو أ نّها مجملة من هذه الناحية . وفي هذه الحالة تخرج الآية من كونها دليلاً على قاعدة الحرج .
الآية الثالثة:
من الآيات التي استدلّ بها على هذه القاعدة هي الآية الشريفة في سورة البقرة الواردة في سياق الحديث عن مسألة الصوم ، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}(1) .
فقوله: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وردت في مقام
1 . البقرة: 180 .
(الصفحة52)
التعليل . والآية الشّريفة في البداية تذكر التكليف الشرعي ، وهو صوم شهر رمضان ، مدّته وطبيعته ، ثمّ بعد ذلك تستثني الآية طائفتين من الناس: أحدهما المريض ، والآخر المسافر ، حيث يقول تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّام أُخَرَ} ، أي على المريض أن يصوم هذه المّدة المقرّرة في غير شهر رمضان ، وكذا المسافر .
وما نلاحظه هنا هو وجود نوع من التناسب . أو إن شئت فقل نوع من السنخيّة بين الحكم والتعليل ، ففي هذه الآية هناك حكمان ثبوتيّان ، يخصّ أحدهما غير المريض وغير المسافر في شهر رمضان ، والحكم الآخر هو للمريض والمسافر في غير شهر رمضان ، إذن هذان حكمان ثبوتيان ذكرتها الآية ، ويعلّل الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} هذا التعليل يخصّ جانب النفي ، والذي يستفاد من الحكم الثبوتي الثاني .
وكما قلنا في باب التيمّم من وجود حكمين:
أحدهما: عدم وجوب الوضوء والغسل .
والآخر: وجوب التيمّم .
هنا أيضاً يوجد حكمين في خصوص المريض والمسافر ، أحدهما: أ نّ المريض والمسافر لايجب عليهما الصيام في شهر رمضان . والآخر: تعيّن الصيام عليهما في غير شهر رمضان .
إذن ، الآية كأ نّها تدلّ على أنّ المريض والمسافر لا يجب عليهما الصوم في شهر رمضان ، لأنّ الله تعالى قال: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فمن البديهي أ نّ صوم شهر رمضان بالنسبة للمريض فيه عسر ومشقّة ، وكذا الحال بالنسبة للمسافر خصوصاً في الأزمنة السابقة ، ما نريد أن نؤكّد عليه هو أ نّ قوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} يخصّ جانب النفي لا الجانب الإثباتي ، لأ نّ الجانب الإثباتي لايتناسب
(الصفحة53)
مع قوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وبذلك تكون النتيجة: أ نّ الله عزّوجلّ أسقط حكم الصيام في شهر رمضان على المريض والمسافر ، فالعسر سبب في إسقاط وجوب الصوم ، مع ما في الصوم من أهميّة وخطورة التي تعلم من خلال وجوب الكفّارة التي تترتّب على المكلّف إذا أفطر في شهر رمضان .
وما نحن بصدد إثباته الآن هو أصل قاعدة نفي الحرج . وبيان المعنى الإجمالي لهذه القاعدة من خلال الاستدلال بهذه الآيات الشريفة ، في قبال من أنكر قاعدة نفي الحرج من الأساس ، وأنكر وجودها كأصل فقهي وإسلامي .
هل أ نّ العسر مختصّ بالصوم؟
في هذه الآية طرحت مسألة العسر ، ومن هنا لقائل أن يقول: لعلّ هذا المعنى يختصّ بالصوم فقط لخصوصيّات موجودة في الصوم ، ولذا فإنّ قاعدة نفي الحرج لاتكون عامّة ، ولا يمكن الاستفادة منها في إثبات المدّعى .
وللردّ على هذه الشّبهة هناك نقول: بأ نّ هذا التعبير جاء في مقام التعليل ، والألف واللام في قوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} تدلّ على العسر المترتّب إثر وجوب الصوم على المريض والمسافر ، أي أ نّ (ال) هنا العهدية ، كما أ نّه قد يفهم من ظاهر الآية أ نّ الألف واللام هي لبيان الجنس والماهيّة ، فقوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} يعني طبيعة العسر ، جنس العسر ، وبذلك لايوجد أي مبرّر للقول بأ نّ الحكم يختص بالصوم لوحده ، فإذا استلزم الصوم العسر يسقط . صحيح أ نّ موضوع الآية هو الصوم ، لكن لو كنّا نحن والآية لأمكن استنباط شموليّة القاعدة المذكورة لجميع موارد العسر والحرج .
إذن مسألة العسر هي من العناوين المذكورة في الآيات والتي يرتفع بها التكليف عن عهدة المكلّف .
(الصفحة54)
الآية الرّابعة
والآية الاُخرى هي قوله تعالى في آخر سورة البقرة: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(1) واستناداً إلى المتون الروائية فإنّ الله سبحانه وتعالى يحكي في هذه الآية جملة من الأدعية التي دعا بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربّه ليلة المعراج وتوجد هناك رواية في هذا الباب قد نتطرّق إليها في بحثنا الروائي ، ومجمل القول إنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) دعا الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ويفهم من قوله هذا أ نّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) طلب من الله سبحانه وتعالى أن يمنَّ على اُمّته بمزيّة ، وهي أن يرفع عن اُمّته الأصر الذي حمله على الاُمم الماضية . هنا لابدّ وأن نحدّد معنى «الإصر» بدّقة .
المعنى الإجمالي للإصر هو العبء الثقيل جدّاً والشّاق . إذن ، الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يدعو الله عزّوجلّ بأن يرفع هذه العبّ الثقيل عنه وعن اُمّته ، وورد في الرّوايات نماذج وصور متعدّدة عن طبيعة التكاليف الشاقّة التي كانت على الاُمم السالفة والتي دفعها الله سبحانه وتعالى عن هذه الاُمّة رحمة منه وامتناناً . ومنها الرواية المأثورة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»(2) .
ولقائل أن يقول: ماهي المزيّة التي منّ الله بها على رسوله وعلى اُمّته في هذا الحديث الشريف؟
والجواب: إنّ قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) : «جعلت لي الأرض مسجداً» يعني أ نّ كلّ الأرض جعلت محلاًّ للعبادة ، وإن كانت هناك أفضليّة في بعض الأماكن على
1 . البقرة: 286 .
2 . صحيح البخاري ج 1 ، الصفحة 91 ، باب التيمّم .
(الصفحة55)
غيرها ، فالمساجد أفضل من غيرها من الأمكنة ، والمساجد نفسها تتفاوت من حيث الأفضلية ، والمشاهد المشرفة أيضاً لها أفضليتها ، إلاّ أنّه لا يشترط في صحّة الصلاة أن تؤدّى في المسجد ، مع أ نّ الوارد في الرّوايات أ نّ الاُمم السالفة كانت لها أماكن مخصّصة للعبادة بحيث لو أ نّهم أرادوا أن يعبدوا الله عزّوجلّ خارج هذه الأماكن لما صحّت عبادتهم . لذا كان البعض منهم يضطر أن يقطع المسافات الشاسعة للوصول إلى هذه البقاع المخصّصة للعبادة بغية أن يحرز جانب الصحّة في عبادته .
وفي المقابل نجد أ نّ الأرض جعلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجداً . لذلك جاز للمسلم أن يقيم الصلاة في أيّ مكان شاء ، فكلّ مكان يصدق عليه إسم الأرض ، يصلح لأن يكون مسجداً وكذا الحال بالنسبة لطهوريّة الأرض ، حيث أ نّ التيمّم هو من المزايا التي أمتازت بها هذه الاُمّة المرحومة . وكان العنوان العامّ الذي يفيد التيمم هو أ نّ «التراب أحد الطهورين» . أمّا في الاُمم السالفة فلا يوجد شيء من هذا القبيل .
فمن التكاليف الشاقّة التي كانت مفروضة على الاُمم السابقة هو أنّهم إذا أصابت أجسامهم نجاسة ، وخاصّة إذا كانت النجاسة بولاً فلا يطهرون إلاّ إذا اقتطعوا تلك القطعة المتنجسة من الجسم بالمقاريض(1) . وظاهر عبارة الرواية يتعيّن من خلالها قصّ الجلد بالمقراض بالقدر المتنجّس حتّى يطهر . أمّا بالنسبة للاُمّة الإسلامية فقد جعل الله الماء مطهراً ، بحيث إذا تنجّس المكلّف من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه فبإمكانه أن يتطهّر بالماء .
وتذكر الرواية بعض الواجبات والتكاليف التي قد تبدو بعضها شديدة
1 . الوسائل 1: 133 ، الباب الأوّل من أبواب الماء المطلق ، الحديث 4 ، والرواية وإن كانت صحيحة إلاّ أنّ العقل لا يساعد مضمونها ، ولابدّ من التأويل فيها . ومن البعيد أن يكون المراد ظاهرها .
(الصفحة56)
الغرابة ، والآية الكريمة: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} تؤيّد هذا المعنى . وكما أشرنا سابقاً في خصوص دعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، فإن الله عزّ شأنه عندما يحكي دعاء أحد الأنبياء ثمّ يسكت ، فهذا يعني ، أن الدّعاء قد اُستجيب ، وإلاّ لكان من غير المناسب نقل هذا الدعاء ، ومع نقله وعدم إجابته يتحتّم على الله عزّوجلّ أن يردّ بالنفي عليه .
إذن ، المنظور في الآية ليس مجرّد دعاء الرسول ، وإنّما دعاء يستتبعه إستجابة . وهنا كلمة «إصراً» جاءت في سياق النفي ، وهي تفيد العموم ، أي: لا تحمّلنا أيّ إصر في أيّ من التكاليف . إذن الآية تطرح معنىً عامّاً وكليّاً .
الاستدلال بصدر الآية وبيان المراد من «الوسع»
بعد ذلك تأتي فقرة جديدة من الدعاء وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، والمتتبع لسياق الآية يجد أ نّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين صدر الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وبين الفقرة من الدعاء ، وهي {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وقد عدّ المحقّق النراقي (رحمه الله) في كتابه العوائد قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} من الأدلّة التي يستدلّ بها على قاعدة نفي الحرج ، وأ نّها دليل مستقل عن هذا المضمار ، وتبعه في ذلك المحقّق البجنوردي (رحمه الله) في كتابه «القواعد الفقهية» .
والآن لنرى هل هي كذلك ، أم لا؟ هنا لابدّ أن نبحث المسألة من جهتين:
الجهة الاُولى:
هو أ نّنا نعلم مسبقاً أ نّ القدرة العقليّة تعتبر شرطاً عقلياً في تعيّن التكليف بالنسبة للإنسان ، فلو أمر رجلٌ إبنه بالقيام بعمل لايقدر على إنجازه بالمرّة ، لأستقبح العقلاء منه ذلك . لأ نّ العقل يقرّر هذه الحقيقة ، وهي أ نّه لا معنى أن تأمر
(الصفحة57)
وتنهي أو تزجر شخصاً لا حول ولا قوّة له على القيام بعمل معيّن أو تركه . وهذا أمرٌ بيّن وواضح ، وفي باب الاُصول هناك بحث بحثه سيّدنا الأستاذ الأعظم الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ وبحثناه أيضاً تبعاً للسيّد الاُستاذ ، ومفاده أ نّ التكاليف العامّة هل يشترط فيها القدرة؟
وأمّا كون العجز عن القيام بالتكليف هل هو معذّر ، أم لا؟ فهذا بحث آخر .
المسألة هي: أ نّ التكليف حتّى لو كان تكليفاً غير عامّ ، فإنّه يشترط فيه القدرة على أدائه ، فإذا لم تتوفّر القدرة ، يفقد التكليف معناه ، والسيّد الإمام ـ مدّ ظلّه العالي ـ يرى هذا المعنى .
بعد أ نّ اتّضح لنا هذا المعنى ، ننتقل إلى الآية الشريفة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل المقصود من الآية هو القدرة العقليّة؟ نستبعد ذلك ، لأ نّ ظاهر قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في مقام الامتنان على كافّة المكلّفين في جميع الملل والأديان . فالآية لا تقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} في هذه الاُمّة وفي هذه الشريعة ، بل معناها أ نّ المكلّف يكلّف بقدر وسعه دائماً .
وكما أ نّ الظّلم ممتنع الصدور منه تعالى ، كذلك تكليف الإنسان بما لايطاق . فالمسألة مسألة إمتنان ، بالإضافة إلى الشرط الذي يستقلّ به العقل . وفحوى إشتراط القدرة هي أ نّه مع عدم وجود القدرة لايبقى هناك أيّ معنى للتكليف .
ومن هنا نفهم أ نّ الوسع ليس بمعنى القدرة العقليّة ، ولا يعني الوسع ما يشترط العقل في مسألة التكليف . إذن ماذا يريد بالوسع؟ هل من الممكن أن نضع مسألة الوسع مقابل مسألة الحرج فنقول: لايكلّف الله نفساً إلاّ مالا يكون حرجيّاً عليها؟
الفقهاء الذين استدلّوا بهذه الآية استندوا إلى هذا الرأي ، ومنهم المحقّق النراقي (رحمه الله) في العوائد والمحقّق البجنوردي (قدس سره) في القواعد الفقهية ، ويفهم موقفهم هذا من خلال إستدلالهم بهذه الآيات ، علماً أ نّ هذين العلمين لم يعلّقا على هذه الآية ،
(الصفحة58)
ولكن من الطبيعي أن يكون رأيهم هو أ نّ الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}يعني إلاّ مالا يكون حرجياً عليها . وإذا حملنا هذه الآية على هذه المعنى فستدرج ضمن أدلّة نفي الحرج .
ولكن هذه الآية لا تدلّ على هذا المعنى ، والدليل على ذلك هو الفقرة التي تبعت قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً . . .} وهي قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} هذه الفقرة من الآية تعرّض مسألة اُخرى غير مسألة الإصر وغير مسألة الحرج ، فمسألة الحرج ومسألة الإصر صيغتا بصورة دعاء .
والسؤال الآن: ماذا يريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعائه هذا: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}؟ هل يريد أن يقول: لا تحمّلنا ما تقصر عنه قدرتنا العقلية؟ هذا الأمر يقرّ العقل بقبحه ، وهو قبيح بالنسبة للأشخاص العاديّين ، فكيف لايكون قبيحاً بالنسبة لله تعالى؟
وإذا أراد الله أن يكلّف الإنسان بما لايقدر عليه ، فما هو المبرّر لهذا الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} بعد بيان مسألة الحرج ومسألة الإصر؟
ومن جهة اُخرى لايمكن أن تطرح مسألة القدرة العقليّة وعدّها في هذا الخصوص ، لأ نّها لا تشكّل دليلاً محكماً لوجود معنى جديد يقع برزخاً بين الحرج وعدم القدرة الفعليّة ، أو فقل درجة تتوسّط بينهما .
وسأذكر العنوان الذي يدخل هذا المعنى في إطاره ، كما سأذكر الشواهد التي تؤيّده فيما بعد . والآن نتساءل هل يمكن أن نستفيد من نفس الآية على أ نّ قوله تعالى: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} وكذا كلمة {وُسْعَهَا} التي طرحت في صدر الآية ، لايدلاّن على مسألة الحرج ، بدليل أ نّ هذه الفقرة من الدعاء {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً} بعيدة عن مفهوم الحرج؟ هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى فإنّ الدعاء: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} غير ناظر
(الصفحة59)
إلى مسألة عدم القدرة ، لأ نّه كما قلنا سابقاً ـ إذا عدم المكلّف القدرة على القيام بالتكليف سقط التكليف ، ولا داعي حينئذ للدعاء ، وأمّا قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهذا في مقام الإمتنان .
وهناك نقطة اُخرى لابدّ من الإشارة إليها ، وهي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن قال في دعائه : {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لم يقل بعده «كما حملته على الذين من قبلنا» كما قالها في دعائه بخصوص الإصر . والظاهر أ نّ الدعاء {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} يدخل ضمن قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} وحيث يقرّر حقيقة عامّة تشمل كافّة الأديان والملل والمذاهب .
إذن ، ماهو ذاك المعنى الذي قد يكون هو الصحيح والذي عبرّنا عنه بأ نّه برزخ بين الحرج وبين مسألة القدرة العقلية؟
إنّه عبارة عن القدرة العرفيّة ، أي القدرة على القيام بالعمل أو عدم القدرة بالمنظور العرفي . فقد يوجد هناك عملٌ لا يستحيل على الإنسان فعله عقلاً . ولكنّ العرف يرى ذلك العمل من المستحيلات . وهذا يشبه تماماً الموارد التي يختلف فيها حكم العرف عن حكم العقل ، والشواهد في هذا المجال كثيرة وواضحة .
ولقائل أن يقول: لماذا اخترت هذا المعنى؟
الجواب: إنّكم تلاحظون أنّ كل مسألة قائمة على الدليل يجب أن يرجع فيها إلى العرف ; فمثلاً إذا قام الدليل على أ نّ الدم نجسٌ ، فهذا يعني أ نّ كلّ ما يراه العرف دماً يكون نجساً . وإذا قال الدليل : إنّ البول نجس ، فمعناه أ نّ ما يراه العرف بولاً يكون نجساً . ولمّا كانت كلّ من كلمتي: «الوسع ، وعدم الطاقة» قد اخذتا بنظر الإعتبار في الدليل ، إذن فالعرف هو الذي يحدّد معنى الوسع . وعدم الطاقة .
إنّ العرف إذا أراد أن يفسّر قوله تعالى: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ومعنى
(الصفحة60)
الوسع ، فإنّه يشرحه من وجهة نظره ، لا من وجهة نظر العقل وهذا هو الصحيح . لأ نّ معنى الوسع في قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يجب أن يرجع فيه إلى العرف .
وكذلك بالنسبة إلى تحديد دلالة قوله: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لابدّ من الرّجوع إلى العرف ، وللعرف ملاكاته الخاصّة في تحديد معنى الوسع ، ومعنى عدم الطاقة والتي قد لاتتفق مع ملاكات العقل . وبناءً على ذلك يتقوّم معنى الآية ، وتأخذ الآية نسقها الصحيح .
ومع الأخذ بنظر الإعتبار السياق الطبيعي للآية على ضوء المعنى الذي قررناه يتضح أن ما أشرنا إليه ـ وهو أنّه قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} جاء في مقام الإمتنان ـ صحيح جدّاً ، كما أنّ قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}أيضاً كدعاء صحيح هو الآخر .
ومن جهة اُخرى لايبقى أيّ مبرّر لأن نربط مفهوم الوسع وعدم الطاقة بمسألة الإصر والحرج ، أي أ نّه ليس من الأدلّة التي يستدلّ بها على قاعدة لا حرج .
بناءً على ذلك ، فإنّ ما ورد في الحديث الشريف «رفع عن اُمّتي مالا يطيقون» هو من باب الامتنان ، ويدلّ على نفس المعنى هذا ، وإلاّ لو كان المقصود من قوله «مالا يطيقون» هو مالا يطيقون عقلاً ، لما بقي معنى للحديث ، أي لا معنى لأن يمنّ الله على الاُمّة الإسلامية خاصّة بأن يرفع عنها ما هو خارج عن تكليفها ، ومالم يؤمر به في أيّ من الأديان أو المذاهب .
محصّلة القول: إنّ هذه الفقرة من الآية: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والتي إستدلّ بها بعض العلماء على قاعدة نفي الحرج ، لا تصلح لأن يستدلّ بها على هذه القاعدة .
|