(الصفحة161)
لولادته من الاُمّ دون وجود الأب ، أي الولادة من غير المسير الطبيعي الإنساني ، وقد ركّز القرآن الكريم على أنّ الولادة الطبيعية خاضعة لإرادة الله تابعة لقدرته ، وإن كان هناك من وليد دون أب ; فإنّه لا يعني أنّه خارج عن الولادة الإنسانية الطبيعية وأ نّه فوق الإنسان الطبيعي ، وذلك لأنّ القدرة والإرادة الإلهية أعظم من هذه الأُمور ، فالله هو الذي يخلق من العدم ، كما يخلق آدم من تراب ، وعليه : فعيسى (عليه السلام) ليس خارجاً عن دائرة الإمكان ، فهو كسائر المخلوقات التي اكتسبتها المشيئة الإلهية حقيقة الوجود .
هدف الآيات النافية لعلم الغيب :
لا يبدو مستبعداً على ضوء الآيات التي وردت بشان علم النبيّ وأئمّة المسلمين أن يكون الهدف من نفي علم الغيب عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو الأمر المهمّ الذي ذكرناه سابقاً ، فقد ترعرع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بيئة تتّصف بالجهل والخرافة وآلاف العيوب وعدم التعرّف على العالم الإنساني ، وقد سطع نوره في ظلمات القلوب ، فلعلّ هناك بعض الأفراد الذين يفقدون باصرتهم إثر تركيزهم على رؤية الشمس ، فقد كانت لشخصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقدرته العلمية وسموّه ورفعته أثرها في نفوس البعض الذي يخشى عليه من الاضطراب ، كما يمكن أن يصل بعض المؤمنين إلى المغالاة في الحقّ بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله) ; وبالتالي يُصابون بما اُصيب به النصارى فيقولون باُلوهية محمّد (صلى الله عليه وآله) ، ولهذا جهد القرآن على إضفاء حالة الاعتدال لدى المسلمين وعدم الانحراف عن الصراط .
ولذلك نرى القرآن الكريم لا ينفك يؤكّد ما معناه أنّ محمّداً ليس إلاّ بشراً مثل سائر الأفراد ، كما أنّ شعار الإسلام الذي يكمن في الشهادة قد تضمّن التأكيد على عبودية محمّد لله «وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله» ، فالقرآن سعى من خلال نفيه
(الصفحة162)
علم النبي (صلى الله عليه وآله) بالغيب لإبعاد التصوّر الذي قد يسود الأذهان بأنّه فوق البشر ، ولا يغفلوا عن كونه عبداً من عبيد الله ليبلغ الوحي والرسالة .
ومن هنا لابدّ من القول بأنّ الآيات النافية لعلم الغيب إنّما تجرّده من العلم الذاتي للغيب ، فهو ليس بذاته محيط بالأسرار والخفايا ، ليتصوّر بأنّه إله في الأرض ، وأنّ الله سبحانه بعنايته ولطفه وفيضه إنّما يرفع عنه حجب الغيب ويطلعه على المكنونات ، فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) كالمرآة التي تعكس نور الله سبحانه .
ولذلك تطالعنا أيضاً ـ وفي إطار الهدف المذكور ـ بعض الآيات التي تسلبه القدرة الذاتيّة على هداية الاُمّة ، بل أبعد من ذلك أنّ بعض الآيات سلبته بعض الأفعال الاختيارية {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(1) ، كما سلبته الهداية إلى الصراط المُستقيم تحقيقاً لذلك الهدف {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ}(2) .
نعم ، لقد تنوّعت الأساليب والخطابات القرآنية التي تروم تفادي الانحراف الفكري والغلوّفي شخص النبي (صلى الله عليه وآله) بفعل الكمالات العالية التي اشتملت عليها شخصيته ، وأحياناً ترد بعض الآيات القرآنية على لسانه {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ}(3) ، وكلّ ذلك بالطبع يهدف إلى عدم ضلالة القوم وتورّطهم كتورّط النصرانية في نسبتها المسيح للربوبية ، وإلاّ فمحمد (صلى الله عليه وآله) لم يسلك وادياً ولم يهد إلى سبيل إلاّ من خلال الغيب ، أو هناك تفسير سوى الغيب لهذه الفصاحة القرآنية والمعارف العلمية والحقائق الاجتماعيّة والسياسية والمدنية والبلاغية التي أتى بها بشر اُمّي؟
(1) سورة الأنفال : الآية 17 .
(2) سورة القصص : الآية 56 .
(3) سورة الكهف: الآية 110 .
(الصفحة163)
إذن ، فحديثه عن الغيب وكشفه الحجب إنّما يستند فيها إلى الحقّ سبحانه نور السموات والأرض ، وأمّا الآيات التي نفت علم الغيب عنه {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ}(1) إنّما تنفي الغيب الذاتي للنبي (صلى الله عليه وآله) ، وكأنّه يريد أن يقول بأنّي لا أعلم شيئاً إلاّ ما أفاض عليّ الحكيم المطلق .
آيات أُخرى :
نذكر هنا طائفة من الآيات التي تؤيّد ما ذهبنا إليه سابقاً:
1 ـ {قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}(2) .
2 ـ {إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهِ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً}(3) .
3 ـ {قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً}(4) .
4 ـ {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(5) .
فالآيات تكشف عن عدم قدرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) على النهوض بالإنسان وإيصاله إلى مراحل الكمال بالاستناد إلى نفسه دون الاستمداد من الغيب الإلهي .
إذن ، لاشكّ في أنّه ليس له من وسيلة إلى تربية الأُمّة وإرشادها وإبلاغها رسالات السماء وقيمها سوى الاستناد إلى الغيب ، وكلّ ما يأتي به إنّما هو الغيب ،
(1) سورة الأعراف : الآية 188 .
(2) سورة الجنّ : الآية 21 .
(3) سورة الجنّ : الآية 23 .
(4) سورة الجنّ : الآية 25 .
(5) سورة الجنّ : الآيتان 26 ـ 27 .
(الصفحة164)
وليس هنالك إلاّ بعض النوادر التي لم يطّلع عليها النبيّ (صلى الله عليه وآله) من قبيل الساعة ، ولعلّ مثل هذا الأمر خارج عن طاقة العقل البشري مهما كانت قوّته ، وليس ذلك إلاّ إلى علاّم الغيوب .
نعم ، إنّ هذه الآيات هي الأُخرى واضحة في نفي علم الغيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، في الوقت الذي تصرّح فيه بأنّه إنّما يستند إلى الغيب الإلهي في مسيرته الدينية التربوية .
هدف الأئمّة من نفي العلم بالغيب:
هذا هو الأمر الذي واجه الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) أيضاً ، فقد كانوا يحدّثون بالأخبار الغيبيّة; ممّا حدا بالبعض إلى المغالاة ، ولذلك نراهُم أحياناً ينفون وقوفهم على مثل هذا العلم . ونرى من الأفضل أن نورد بعض النماذج التي ذكرها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الأئـمّة (عليهم السلام) والتي تكشف عن مدى كمالهم وعلمهم ، ثمّ نتطرّق بعدها إلى تلك الأخبار التي تضمّنت نفيهم الانطواء على ذلك العلم ، ولا نرى من حاجة للخوض في المزيد من الأخبار التي وردت عنهم ، فنوكل هذا الأمر إلى الكتب الروائية والتأريخية التي شحنت بهذه الأخبار ، ونكتفي بذكر بعض الأخبار التي وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ثمّ نورد عباراته بهذا الشأن بصفته متتبّعاً لا غرض له ، إذ ليس هو من علي (عليه السلام) .
إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) :
«أيُّها الناس فإنّي فقأتُ عين الفتنة . . . فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ،
(الصفحة165)
ومَن يُقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتاً»(1) .
يقول ابن أبي الحديد: «روى أبو عمر محمّد بن عبدالبرّ في كتابه الاستيعاب عن جماعة من الرواة المحدّثين قالوا: لم يقل أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) : سلوني قبل أن تفقدوني إلاّ عليّ بن أبي طالب.
وقال: «روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتابه نقض العثمانية ، عن علي بن الجعد ، عن ابن شبرمة قال: ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر: «سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » .
ثمّ خاض ابن أبي الحديد في الاُمور الغيبية التي أوردها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «لقد أقسم علي بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلاّ أخبرهم به ، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة ، وتضلّ بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم ـ إن سألوه ـ برعاتها وقائدها وسائقها ، ومواضع نزول ركّابها وخيولها ، ومَن يقتل منها قتلاً ، ومَن يموت منها موتاً ، وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادّعاء الربوبيّة ، ولا ادّعاء النبوّة ، ولكنّه كان يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بذلك» .
ثمّ أراد أن يؤكّد أ نّ ما قاله عليّ في ادّعائه علم الغيب إنّما هو عين الصواب فقال: «ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة»(2) .
ثمّ قال: لقد حدث كلّ ما أُخبر عنه ، فقد قال قبل موته بسنوات: كأنّي بالشقي وقد خضّب هذه بهذه ، أي ضربة ابن ملجم ، ثمّ أخبر عن قتل ابنه الحسين في
(1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 233 ـ 234 .
(2) طبعاً لا نحتاج إلى اختبار ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) ويشاركنا في ذلك السنّة ونفس ابن أبي الحديد ، ولكن ليس هنالك من سبيل لمن لا يعتقد بمقام علي سوى وقوع الحوادث طبقاً لما أخبر عنها .
(الصفحة166)
كربلاء واستشهاد تلك العصابة معه(1) ، وما أحرانا أن نورد بعض الأخبار الغيبية كما ذكرها ابن أبي الحديد ، والأفضل في ذكر وصف المحبوب أن يأتي على لسان الآخرين لا على لسان المحبّ .
الأخبار الغيبية لعلي (عليه السلام) :
1 ـ الإخبار عن حكومة معاوية .
2 ـ حكومة الحجّاج بن يوسف الثقفي .
3 ـ قصّة الخوارج ومعركة النهروان .
4 ـ إخبار بعض أصحابه بالقتل والصلب .
5 ـ قتاله للناكثين والقاسطين والمارقين .
6 ـ عدد أصحابه الذين يهبّون لنصرته من الكوفة في قتال أهل البصرة .
7 ـ إخباره عن صلب عبدالله بن الزبير ووصفه بأنّه رجل مخادع لا يظفر بما يريد ويتشبّث بالدين من أجل الدنيا .
8 ـ الإخبار عن خروج الرايات السود من خراسان ، والتصريح بأسماء بني زريق من خراسان الذين يوالون حكومة بني العباس .
9 ـ إخباره عن بعض الزعماء من ذرّيته في طبرستان ، مثل الناصر والداعي وغيرهما .
10 ـ إخباره عن قتل النفس الزكيّة في المدينة قرب موضع أحجار الزيت والإخبار عن قتل أخيه عند باب حمزة بعد أن يظهر ثمّ يفشل .
11 ـ قصّة إسماعيل بن جعفربن محمّد (عليهم السلام) ووصفه بذي البداء والمسجّى بالرداء .
وتوضيح ذلك: أنّ بعض الروايات صرّحت بالبداء في إمامة إسماعيل حيث
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 46 ـ 48 .
(الصفحة167)
شاء الله أن يتغيّر مسار الإمامة التي كانت إليه ـ طبعاً ذكرنا مسألة البداء في محلّهاـ ولمّا حضرت إسماعيل الوفاة طرح أبو عبدالله جعفر بن محمّد (عليهم السلام) عليه رداءً ، ثمّ وضعه في لحده مع عدد من كِبار الشيعة ليوقن الجميع بموت إسماعيل .
12 ـ إشارته إلى حكومة بني بويه بقوله: يخرج من الديلم من «بني صيّاد» ، يذكر أنّ والده كان يصيد السمك ويبيعه ، كما أخبر بأنّ بني بويه يسيطرون على الزوراء ويعزل الوزراء ، وهنا قام له رجل فسأله: ما مدّة حكومتهم؟ فقال (عليه السلام) : مائة عام أو أقلّ بقليل .
13 ـ إخباره عبدالله بن العباس بأنّ الحكومة ستؤول إلى ولده ، فقد ولد لابن عباس ولد يُدعى «علي» فأتى به إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فجعل شيئاً من لعابه في فمه ومضغ تمرة فجعلها في فمه وقال: خذه فإنّه أبو الملوك (1).
الروايات وعلم غيب الأئمّة (عليهم السلام) :
تتّضح بجلاء الشخصية العلمية للإمام من خلال البحث في الأخبار والآيات القرآنية في أنّه لا ينطق سوى عن الغيب ، وأنّ ذلك ممّا علّمه إيّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أفاضه عليه الحقّ تبارك وتعالى .
فأدنى نظرة إلى القرآن تفيد أنّ أهل البيت صفوة حظيت بعناية الله ، الأمر الذي جعل بصيرتهم تخترق حجب الحوادث الكونية ، بل تقف على كنه العالم وتحيط بأسرار القرآن وخفايا الحوادث والقصص المُستقبلية ، وأنّ القرآن قد رسم صورتهم العلمية الحقيقيّة .
ورد في الخبر أنّ زرارة سأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن الآية: {وَكَانَ رَسُولا نَبِيّاً}(2)الإمام مامنزلته ؟قال:«يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك» ثمّ استدلّ (عليه السلام) بقوله
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 48 ـ 50.
(2) سورة مريم: الآيتان 51 و 54.
(الصفحة168)
تبارك وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُول وَلاَ نَبِىٍّ وَلاَ مُحدَّث»(1)،(2) .
وروى الحسن بن محبوب ، عن الأحول ، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث قال: «أمّا المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ، ولا يعاين ولا يرى في منامه»(3) .
وأجاب الإمام الرضا (عليه السلام) الحسن بن العباس قائلا: «والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص»(4) .
فمضمون هذه الروايات المتواترة يفيد أنّ للإمام (عليه السلام) أُذُناً تجعله يطّلع على الأسرار والإحاطة العلمية ، وهذه غير ظواهر الكتاب وتعليم رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
أجل ، فالقرآن يعتبر الأئـمّة (عليهم السلام) شُهداء على الناس يوم القيامة ، وأنّى لهم الشهادة على الآخرين ما لم يطّلعوا على أعمالهم؟ فقد روى بريدة العجلي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه تلا: {لِيَكُونَ الْرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فقال: فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك وتعالى ، ونحن الشُهداء على الناس ، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه ومن كذّب كذّبناه»(5) . فما الذي يفيده هذا الخبر؟ فالإمام شاهد على الأعمال ، والنبيّ شاهد على الأئـمّة (عليهم السلام) ، النبيّ يشهد أنّه علّم الأئـمّة الغيب وأوامر الله ، فالنبيّ شاهد والأئـمّة شهداء على الناس في محكمة العدل الإلهي ، وأنّ أعمال الاُمّة ليست بخافية عليهم ، وعلى هذا أفلا ينبغي التصديق بعلمهم بالغيب وكافّة الحوادث وأعمال الاُمّة؟
(1) اقتباس من سورة الحج: الآية 52.
(2) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث ح1 . لم ترد في القرآن كلمة «ولا محدّث» . الأمر الذي يلزم أن يقال: إنّ هذا من باب تأويل الآية .
(3) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث ح3 .
(4) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث ح2 .
(5) الكافي 1: 191 الرواية الرابعة : باب أنّ الأئمّة شُهداء الله على خلقه ذ ح 4 .
(الصفحة169)
بحث مختصر حول آية قرآنية :
صرّحت آخر آية من سورة الحج قائلة: {وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْوَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(1) .
فظاهر الآية يفيد أنّها خطاب لصفوة من زُعماء الدين ، ويؤيّد ذلك:
1 ) عبارة {هَوَ اجْتَبَيكمْ} التي تدلّ على الاختيار والامتياز .
2 ) كلمة {أَبِيكُمْ} لأ نّ إبراهيم هو أب الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) لا جميع المسلمين .
3 ) عبارة {هَوَ سَمَّيكُمُ الْمُسْلِمِينَ} وذلك لأنّ إبراهيم سأل الله صفوة من ذرّيّته مسلمة منقادة لله ، وقد تناولنا ذلك مسبقاً خلال شرح الآية الكريمة {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسِلمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(2) .
وبناءً على هذا فإنّ العبارة: {لَيَكُونَ الْرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} خطاب لزعماء الدين ولا سيّما الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، مضافاً إلى أنّ «الشاهد» غير المدّعي والمنكر ، فالمنكر أو المدّعي هم «الناس» . وحقّاً لابدّ أن يكون الشاهد أُناساً آخرين عالمين بأعمال كافّة الناس ، وإذا تعاملنا مع كلمة «الناس» على ظهورها فإنّها تعني جميع العالمين ، فنستطيع القول بأنّه ليس هنالك عمل لأيّ فرد يخفى على زعماء الدين وأئـمّة المسلمين . وهكذا يتّضح ـ على ضوء هذا الاستدلال ـ قول الإمام الباقر (عليه السلام) : «ونحن الشُهداء على الناس» .
نعم ، فالأئمة الأطهار (عليهم السلام) هم الصفوة من وجهة نظر القرآن التي اُختيرت من أجل زعامة الأُمّة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (3). قال سورة
(1) سورة الحجّ: الآية 78 .
(2) سورة البقرة: الآية 128 .
(3) سورة فاطر: الآية 32.
(الصفحة170)
بن كليب: قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) : «والله إنّا لخزّان الله في سمائه وأرضه ، لا على ذهب ولا على فضّة إلاّ على علمه»(1) .
تسند هذه الرواية المعتبرة ـ التي تؤيّدها عشرات الروايات ـ إلى أبي جعفر الذي أسماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالباقر ; لأنّه يبقر علم الأوّلين والآخرين ، ونرى كيف أنّه يقسم ثمّ يؤكّد قسمه بحرف (إن) وحرف اللام: إنّا لخُزّان العلم! فهل علم الله محدود؟ وعليه : فعلم الأئـمّة (عليهم السلام) هو الآخر ليس بمحدود ، فلو قلنا: إنّ جميع الحوادث وما خلف الحُجب معلومة عند أئـمّة المسلمين ، لما كان ذلك جزافاً ، ولكن ينبغي التعامل مع هذا الأمر ببصيرة القلب للتعرّف على خاصة عباد الله .
لقد جعل الله الأئـمّة (عليهم السلام) أنواراً وطهّر قلوبهم وأرواحهم ، فهل من اجتماع بين الظلمة والنور؟ وهل لمن كان نوراً محضاً أن يكون جاهلا؟ نعم ، إنّما هم نور من ذلك النور ، ولذلك أوجب القرآن الاقتداء بشعاع هذا النور: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْنُّورِ الَّذِى أَنْزَلْنَا}(2) .
لقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) ـ طبقاً لرواية أبي خالد الكابلي ـ : «النور والله الأئـمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة ، وهم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في السموات وفي الأرض ، والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار ، وهم والله ينوّرون قلوب المؤمنين ، ويحجب الله ـ عزّوجلّ ـ نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم ، والله يا أبا خالد لا يحبّنا عبد ويتولاّنا حتّى يطهّر الله قلبه ، ولا يطهّر الله قلب عبد حتّى يسلّم لنا ويكون سلماً لنا ، فإذا كان سلماً لنا سلّمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر»(3) .
(1) الكافي 1: 192 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) ولاة أمر الله ح2 .
(2) سورة التغابن : الآية 8 .
(3) الكافي 1: 194 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) نور الله عزّوجلّ ح1 .
(الصفحة171)
علل الزعامة :
لقد تعرّضت الرواية السابقة إلى الفصول المميّزة للإمامة في الإسلام ، كما أشارت إلى علل اتّباع زعامتهم وإمرتهم وأنّ زعامتهم نور إلى يوم القيامة ، فهم زعماء إلى الأبد ، والاُمّة تستضيء بنور علمهم على الدوام ، والزعيم من يستطيع التغلّب على المشاكل والصعوبات ويبعث الأمل في قلوب أفراد الاُمّة .
فمثل الذين ينكرون علم الإمام التام كمثل خفافيش الليل التي لا تطيق رؤية الشمس ، فليس للقلوب المدنّسة والنفوس المريضة أن تدرك شأن الإمام ، فمعرفة الإمام تتطلّب قلباً طاهراً ، ولا يطهر القلب إلاّ بتسليمه واستسلامه لهذه الزعامة ، والتسليم لهم لا يتمّ إلاّ من خلال الإقبال عليهم والاستفادة من أفكارهم العظيمة ونهجهم القويم ، الأمر الذي يبعث على سعة الصدر وانشراح القلب ، وهذا بدوره يميط عن الإنسان رذائل الأخلاق ويحلّ عقد الحياة ويبعث الأمل في النفوس .
ولا يرتجى من الزعيم سوى إيصال الأُمّة إلى كمالها المنشود وإزالة المشاكل عن طريقها ، وطالما كانت هذه الاُمور متوفّرة في الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فهم قادة الدين وأئـمّة الخلق لا محالة .
وبناءً على هذا فإنّ الإمام الباقر (عليه السلام) وبذكره للعلل السابقة قد لفت الانتباه إلى ضرورة زعامة آل محمّد (صلى الله عليه وآله) . وهو ذات الأمر الذي قاله الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضّل بن عمر: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) باب الله الذي لا يؤتى إلاّ منه ، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئـمة الهدى واحداً بعد واحد(1) .
(1) الكافي 1: 196 باب أ نّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض ح 1 . هذه الرواية ضعيفة السند ، غير أنّه هنالك عدّة روايات وردت بهذا المضمون فهي مؤيدة لهذه الرواية .
(الصفحة172)
وحدة الموضوع:
كان البحث بشأن الأخبار والآيات التي كشفت عن المرتبة العلمية للأئمة (عليهم السلام) ، وقد اتّضح لدينا خلال الأبحاث أنّ أئـمّة المسلمين هم الصفوة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين حظوا بلطف الله وعنايته ببصيرة ثاقبة جعلتهم يقفون على جميع أسرار القرآن وخفايا الحوادث ومكنونات قصص الماضين ومصير المسلمين ، وللوقوف أكثر على منزلتهم العلمية نتابع ما ورد في الخبر عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) أنّهما قالا: قال أمير ألمؤمنين (عليه السلام) : «علمتُ علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب ، فلم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي»(1) .
ولا تقتصر هذه المنزلة على علي (عليه السلام) ، بل هي لجميع الأئمّة (عليهم السلام) ، فقد قال الإمام الرضا (عليهم السلام) : «عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام»(2) .
الذهول والدهشة!!
لعلّ مثل هذه الكلمات أثارت اضطراب البعض وجعلته يشعر بالدهشة والذهول ، ولا غرو ولا عجب!
إنّنا نرى العجائب في العالم ونشاهد الغرائب ، إلاّ أنّنا نمرّ مرّ الكِرام ، فنرى المرتاضين الذين جعلهم الارتياض يصيبون في بعض ما يتكهّنون ومن خلف الحجب والكواليس يتحدّثون ، أو نلتقي بعض الأفراد الورعين الذين يتحدّثون أحياناً عن أسرار حياتنا فلا نتعجّب ممّا يقولون . فقد فتحت بعض نوافذ العلم بوجه تلك الطائفة من المرتاضين إثر رياضتهم ولو كانت بالباطل . وهذه الطائفة من العارفين السالكين حصلوا على ذلك إثر اتّباعهم الحقّ وهجرهم الشهوات ، في
(1) الكافي 1: 197 ـ 198 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض ح 2 و 3 .
(2) الكافي 1: 223 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) ورثوا علم النبيّ . . . ح1 .
(الصفحة173)
حين تتلمذ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) في مدرسة الرسالة ، وقد نالوا الإخلاص في العبودية بدعوة إبراهيم (عليه السلام) ، ثمّ جدّوا في الورع والتقوى والتسليم والرضا والجهاد في الحقّ وطهارة المولد ، حتّى حظوا بعناية واهب العلم والعقل والنور ، فهم تلامذة الوحي ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة .
أفمن العجب أن تكون للأئمة مثل تلك الرؤية والبصيرة بحيث يرون جميع الأشياء ويحيطون بكافّة أسرار القرآن ومكنونات الخلقة ومصير المسلمين؟ فإن كان القرآن صرّح بأنّهم شُهداء على الناس ، فمن الطبيعي أن يفيض عليهم الرحمن بحارالعلم ومحيطات الحلم ويزوّدهم بالبصر والبصيرة ، بحيث لا يخفى عليهم شيء .
لقد ذهل عبدالله بن أبان الزيّات ـ الذي يتمتّع بمكانة خاصّة عند الإمام الرضا (عليه السلام) ـ حين قال له الإمام (عليه السلام) : «والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كلّ يوم وليلة»(1) .
فلمّا أحسّ الإمام (عليه السلام) منه ذلك قال له: ألم تقرأ الآية {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2) . وهنا التفت ابن الزيّات ليدرك القيمة الحقيقية للإمام ، وأن ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة والعجب في أن يفيض الله على عالم الوجود بمثل هؤلاء العِباد فيلبسهم من حلل الكرامة والعلم ، والقرآن يقود إلى هذه الحقيقة . وقد ورد عن أمير المؤمنين ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، وجعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام) ، أنّهم قالوا: نحن شجرة النبوّة ، وبيت الرحمة ، ومفاتيح الحكمة ، ومعدن العلم ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سرّ الله(3) .
(1) الكافي 1: 219 باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) ح4 .
(2) سورة التوبة : الآية 105 .
(3) الكافي 1: 221 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) معدن العلم وشجرة النبوّة ح 1 ـ 3 .
(الصفحة174)
لقد شاء الله لهذا البيت أن يرتفع ، فقد رفع إبراهيم بيت الله فسأله أن يرفع مقابل ذلك بيته بأن يُظهر تلك الصفوة التي تعيش التسليم والانقياد والطاعة والعبودية لله ، وقد استجاب الله دعوته . وقد قال القرآن بهذا الشأن: {فِى بُيُوت أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}(1) .
وقال الصادق (عليه السلام) : «إنّ الله لا يجعل حجّة في أرضه يُسأل عن شيء فيقول: لا أدري»(2) .
خلاصة هذا الفصل :
1 ـ اعترف ابن أبي الحديد بعلم أمير المؤمنين (عليه السلام) بحوادث المستقبل حتّى قال: «ولقد امتحنّا إخباره فوجدناها موافقة ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة» (3).
2 ـ تبيّن من مجموع الآيات والروايات أنّ للأئمة (عليهم السلام) شخصية بارزة في العِلم لدرجة الإحاطة بالغيب والحوادث إلى جانب التبحّر في علم الكتاب وأسرار الدين ، بحيث إنّ الله جعلهم شهوداً على أعمال الناس بنصّ القرآن ، ولم يصطفيهم الله إلاّ لإخلاصهم وتسليمهم وعبوديتهم له سبحانه ، وهم عيبة علم الله ونوره ، الأمر الذي برّأهم من كلّ عيب ونقص وجهل ، وهذا ما جعلهم يلهمون العلم بكافّة الحوادث وخفايا الخليقة والإحاطة بما كان ويكون ، كما وقفنا على حديث الإمام الرضا (عليه السلام) حين قال: إنّ أعمال الناس تُعرض عليّ في اليوم والليلة ،
(1) سورة النور : الآيتان 36 ـ 37 .
(2) الكافي 1: 227 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) عندهم جميع الكُتب ح1 .
(3) تقدّم في ص 165 .
(الصفحة175)
مستدلاًّ بجوابه لابن الزيّات بالآية الشريفة: {وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .
ثمرة هذه الخلاصة :
ليست هنالك من ثمرة لهذه الخلاصة سوى أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) إنّما ينظرون بنور خاص إلى العالم وبصيرة ثاقبة بالغيب وخبرة بمتطلّبات الأُمّة الإسلامية والمسلمين إلى الأبد . ولعلّ هذه الاُمور قد تبادرت إلى أصحاب الأئـمّة (عليهم السلام) ليؤمنوا بأنّ أئـمّة الإسلام عالمون بالغيب ، ويسرّنا هنا أن نستشهد على ذلك بشاهد حيّ لترى كيف يفصح الإمام عن وقوفه على علم الغيب في الوقت الذي ينفيه عن نفسه .
رواية عميقة :
وردت هذه الرواية في أُصول الكافي في باب «نادر فيه ذكر الغيب» عن سدير ، قد يبدو تردّد البعض في سندها ، إلاّ أنّ متنها يشهد بصحّة صدورها ، فقد قال: كنت أنا وأبو بصير ويحيى البزّاز وداود بن كثير في مجلس أبي عبدالله (عليه السلام) ، إذ خرج إلينا وهو مغضب ، فلمّا أخذ مجلسه قال: «يا عجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب ، لا يعلم الغيب إلاّ الله عزّوجل ، لقد هممتُ بضرب جاريتي فلانة فهربت منّي ، فما علمت في أيّ بيوت الدار هي .
قال سدير: فلمّا أن قام من مجلسه وصار في منزله دخلت أنا وأبو بصير وميسّر وقلنا له: جعلنا فداك سمعناك وأنت تقول كذا وكذا في أمر جاريتك ونحن نعلم أنّك تعلم علماً كثيراً ولا ننسبك إلى علم الغيب؟
قال: فقال: يا سدير ألم تقرأ القرآن؟ قلت: بلى ، قال: فهل وجدت فيما قرأت
(الصفحة176)
من كتاب الله عزّوجلّ: {قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} (1)، قال: قلت: جعلت فداك قد قرأته ، قال: فهل عرفت الرجل ، وهل علمت ما كان عنده من علم الكتاب؟ قال: قلت: أخبرني به ، قال: قدر قطرة من الماء في البحر الأخضر ، فما يكون ذلك من علم الكتاب؟ قال: قلت: جعلت فداك ما أقلّ هذا .
فقال: يا سدير ما أكثر هذا أن ينسبه الله ـ عزّوجلّ ـ إلى العلم اُخبرك به ، يا سدير فهل وجدت فيما قرأت من كتاب الله عزّوجل أيضاً {قُل كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ، قال: قلت: قد قرأته جعلت فداك ، قال: أفمن عنده علم الكتاب كلّه أفهم ، أَم من عنده علم الكتاب بعضه؟ قلت: لا ، بل من عنده علم الكتاب كلّه . قال: فأومأ بيده إلى صدره وقال: علم الكتاب والله كلّه عندنا ، علم الكتاب والله كلّه عندنا»(2) .
سدير : هو سدير بن حكيم المُكنّى بأبي الفضل من أصحاب الإمام السجّاد والباقر والصادق (عليهم السلام) ، وقد اعتبرته كتب الرجال ثقة (3)، وكانت له منزلة عند الإمام (عليه السلام) . وقد حُبس فدعا له الإمام (عليه السلام) فخرج من السجن ببركة الدعاء (4).
داود بن كثير : هو ابن خالد الرقّي ، ومن ثقات الأصحاب (5)، وقد قال الصادق (عليه السلام) : «أنزلوا داود الرقّي منّي منزلة المقداد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) »(6) وعدّه الشيخ المفيد في إرشاده من ثقات أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) ، وقال: هو من خاصّته
(1) سورة النمل، الآية: 40.
(2) الكافي 1: 257 باب نادر فيه ذكر الغيب ح3 .
(3) معجم رجال الحديث: 8 / 34 ـ 37 .
(4) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ«رجال الكشي»: 210 رقم 372 .
(5) معجم رجال الحديث: 7 / 123 .
(6) مشيخة الفقيه، طريقه إلى داود الرقي، الاختصاص: 216 .
(الصفحة177)
وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته (1).
أبو بصير: هو ليث بن البُختري المرادي المُكنّى بأبي بصير ، وهو ممّن لا نقاش في وثاقته ، وهو من أصحاب الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) ، فإنّه وإن طعن فيه علماء الرجال باجتهاداتهم إلاّ أنّه في جلالة قدره رواية ذكرها محمّد بن قولويه القمي بسند معتبر عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، أنّ الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ أصحاب أبي كانوا زيناً أحياءً وأمواتاً ، أعني زرارة ومحمّدبن مسلم ، ومنهم ليث المرادي وبريد العجلي ، هؤلاء القوّامون بالقسط ، هؤلاء القوّامون بالقسط ، هؤلاء السابقون السابقون أولئك المقربون(2) .
كان هؤلاء ثلاثة نفر ممّن حضر مجلس الإمام . أمّا الرابع وهو يحيى البزّاز فلم نعرفه ، و يحتمل أن يكون الخزّاز ، وهو من أصحاب الصادق و الكاظم (عليهما السلام) (3).
فهؤلاء الرجال الذين حضروا مجلس الإمام الصادق (عليه السلام) هُم من كِبار الفُقهاء والعُلماء ، وقد قارن الإمام منزلة داود بن كثير بمنزلة المقداد لدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، والحال أنّ المقداد من كِبار صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) . وهم ممّن وقف على منزلة الإمام والإذعان له بعلم الغيب ، وهذا ما يفيده صدر الرواية .
شرح الرواية :
لقد تحاشى الإمام (عليه السلام) في بداية الرواية علمه بالغيب ، وقد تنزّل عن مكانته بحيث صعب عليه العثور على الجارية في إحدى غُرف الدار . ونعلم أنّ دار الإمام (عليه السلام) لم تكن من قَبيل ناطحات السحاب أو قصر الكرملن ، بحيث إذا اختفى
(1) الإرشاد للمفيد: 2 / 247 ـ 248.
(2) اختيار معرفة الرجال المعروف بـ«رجال الكشي»: 170 رقم 287 و ص 239 رقم 433 .
(3) رجال الشيخ الطوسي: 322 رقم 4807، معجم رجال الحديث: 20 / 99 رقم 13614 .
(الصفحة178)
فيه فرد تعذّر حتّى على جهاز المباحث العثور عليه ، فقد كانت داراً مُتواضعة لا تضمّ إلاّ عدّة غُرف . وكيف لا يقف الإمام على مكانها إذا ما بحث عنها؟!
إذن ، فالعثور عليها على ضوء المجاري الطبيعية لم يكن قضية صعبة ، إلاّ أنّ الإمام يعرب عن عجزه عن العثور عليها ، فالقضية طبق الظواهر لا تبدو مقبولة ، وهذا هو الأمر الذي أذهل خواص الأصحاب .
أمّا ذيل الرواية ، فقد كان دليلا قاطعاً على قدرة الإمام اللامتناهية ، فقد قال: إنّ آصف بن برخيا قد أتى سليمانَ بعرش بلقيس بتلك المسافة في طرفة عين ولم يؤت من العلم إلاّ قطرة من بحر ، فهو عالم ببعض الكتاب ، أو ليس لمن أوتى علم الكتاب كلّه أن يعثر على تلك الجارية التي لا تبعد عنه سوى بضعة أمتار؟ قطعاً هنالك مصلحة جعلت الإمام يصدّر الرواية بذلك العجز عن العثور على الجارية ، وأنّى لداود أن يصدّق عجز الإمام (عليه السلام) عن العثور على الجارية ; وهو الذي وصل ابن عمّه في المدينة بذلك البعد الشاسع عن الإمام (عليه السلام) وقد أحسن إليه خفية ، فلمّا حضر استقبله الإمام وأشاد بعمله!(1)
وكيف يصدّق أبو بصير عدم استطاعة الإمام العثور على تلك الجارية وقد بشّره حين دخوله الكوفة بولادة ابنه عيسى ، وأنّ الله سيرزقه ولَدين وبنتين غيره(2)!
أجل هذه الشواهد وما شابهها تؤكّد وجود بعض العلل والدوافع التي جعلت الإمام (عليه السلام) ينفي عن نفسه في صدر الرواية العلم بالغيب ، ويكفي ذيل الرواية شاهداً على ما نقول في دحض صدرها . وعليه فلابدّ من تحرّي الدوافع .
(1) بصائر الدرجات: 429 ح 3 أمالي الطوسي: 3 / 4 ح 929، الخرائج والجرائح: 2 / 612 ح 8، مناقب آل أبي طالب (عليه السلام) لابن شهر آشوب: 4 / 227، وسائل الشيعة: 16 / 111، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 101 ح 15 .
(2) دلائل الإمامة:263ح193، الخرائجوالجرائح: 2/636ح37، كشف الغمّة: 2/190، المحجّة البيضاء:4 /261.
(الصفحة179)
دوافع نفي الإمام علمه بالغيب
الدافع الأوّل :
إنّ أهمّ دافع جعل الإمام (عليه السلام) يسلب عن نفسه العلم بالغيب ، هو الظرف الخاصّ الذي عاشه الإمام في ذلك الزمان والذي شهد تفتّح آفاق العلم ، لينهمك الإمام في بيان أحكام الإسلام وحقائق القرآن ونشر العلم وتفادي كلّ ما من شأنه أن يحول دون القيام بهذه الوظائف .
كان خليفة زمانه الطاغية السفّاح المنصور الدوانيقي الذي كان يتحيّن الفُرَص لقتل الإمام وإزالة هذه العقبة عن طريقه . كان الإمام شديد الحرض على عدم اِثارة مثل هذه المواضيع التي تؤلّب ذلك الجبّار الغاشم من أجل تصفيته والقضاء عليه ، الأمر الذي يعني الحيلولة دون نشر معارف الدين والأحكام . فلو قال الإمام: أنا عالم بالغيب جدير بالإمامة والخلافة ، لكان ذلك كافياً لسلّ المنصور سيفه وقتله ، وعليه فلا ينبغي أن يشيع هذا الأمر بين الأوساط الاجتماعيّة ، ويكفي أن يعلم ذلك بعض خواصّه وحملة أسراره ، وسوف لن تستطيع الغربان أن تحجب الشمس إلى الأبد ، فلابدّ للّيل أن ينجلي ولابدّ للطوق أن ينكسر . ولنعد ثانية إلى مجلس الإمام:
لقد اجتمعت أُمّة عظيمة في مجلس الإمام (عليه السلام) ، وكلام الإمام يفيد أنّ علمه بالغيب قد شاع في المدينة ، وأنّ الألسن تتناقل علم الإمام بالغيب ، وقطعاً كان الأمر قد بلغ المنصور . فما أحسن هذه الفرصة التي تجعل الإمام يتصدّى للدفاع عن نفسه فيستدلّ بمثل بسيط يقنعهم بعدم علمه بالغيب ، ولم يكن هنالك أعمق من ذلك المثال الذي اعتمده الإمام للقضاء على تلك الشائعة . أنّى للإمام العلم بالغيب وهو الذي عجز عن العثور على جارية في غرفة من غرف داره؟!
لاشكّ أنّ ذلك الكلام سيؤثّر كثيراً ويؤتي أُكله ، كما لاشكّ أنّ جلاوزة المنصور ـ الذين لم ينفكّوا عن تفتيش دار الإمام ـ سينقلون كلامه إلى المنصور
(الصفحة180)
وسيسكن روعه وتهدأ فورته ، ثمّ يتاح المجال من جديد أمام الإمام لمواصلة دروسه ونشر علمه .
وبناءً على ما تقدّم فلم يبق لصدور تلك الرواية من محمل سوى التقيّة ، ولكن لم يبق لدى الإمام سوى الخواصّ من أصحابه وهم ليسوا بالمذاييع ، فلم يعد للخوف من سبيل ، فأبو بصير وصحبه ليسوا من أعوان المنصور ، بل هم من حملة العلم ورواة الحديث وفقهاء الإسلام ، والتحدّث إليهم وظيفة شرعية تأريخية لا تدع للتقيّة من شأن ، فيعمد الإمام هنا إلى إظهار مكنون علمه والإفصاح عن مقامه على ضوء القرآن ، فحقيقة علمه لا يعزب عنها صغير ولا كبير في هذا العالم فضلاً عن مكان تلك الجارية . وهو لا يستطيع الإتيان بتلك الجارية بحركة فحسب بل يسخّر العالم بأسره ، ما نفهمه من كلمات الإمام (عليه السلام) أنّه مطّلع على كافّة أصناف العلم ، وكيف لآصف بن برخيا الذي تجرّع قطرة من بحر علم الكتاب أن يفعل ما فعل ، ويغيب عن علم الإمام شيء وهو الذي يعوم في بحر علوم الكتاب ومحيطاته؟
وعلى ضوء هذا التحقيق والتأمّل في هذه الرواية التي تصرّح بعلم الإمام بكافّة الحوادث وتمتّعه بالقوّة والقدرة التامّة على فعل الأفاعيل ، فهل هنالك من ماء عكر يمهّد السبيل أمام بعض السذّج ممّن تأثروا بالوهابية للاصطياد فيه؟ وهل يسع أحد أن يقول لنا بعد ذلك: إنّكم من المغالين في شخصية الإمام؟ فهذا الإمام وقد عجز عن العثور على جاريته!
الدافع الثاني :
أمّا الدافع الثاني الذي أغضب الإمام وجعله ينفي عنه علم الغيب فهو قضية الإفراط أو التفريط والغلوّ أو الإنكار ، التي سيطرت على أغلب الأفراد تجاه الإمام ، وهذا ما يتوصّل إليه بسهولة من سياق الرواية ، في أنّ البعض قد أفرط
|