(الصفحة181)
بالاعتقاد بعلم الإمام للغيب حتّى رآه أفضل من النبي (صلى الله عليه وآله) وبلغوا به حدّ الأُلوهية ، على الرغم من أنّ محور الإمامة كان يهدف إلى تحقيق التوحيد وإيصال الأُمّة إلى العبودية الحقّة ، فالإمام بمثّل العبودية الخالصة لله ، وجلّ سعيه هو ربط الأُمّة بمعبودها الأوحد وتطهيرها ممّا علق بها من الأوهام والخرافات ، وإلاّ فلو قدر للاُمّة أن تضلّ طريقها في تعاملها مع الإمام فإنّ جهوده ستذهب أدراج الرياح ، وهو الأمر الذي يأخذ مأخذه من الإمام ويجعل الغضب والتوتّر يسيطر على جميع كيانه ، فيبدو أنّ دافع الإمام من نفيه لعلم الغيب عن نفسه وحصره بالقادر العليم ، إنّما يهدف إلى تثبيت الهدف المقدّس المُتبلور في التوحيد وإزالة الأفكار المنحرفة تجاه شخصية الإمام .
ولم يكن هناك من سبيل أمام الإمام سوى التنازل عن واقعه ليعلم الجميع بأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) إنسان كسائر الناس الذين نشأوا وترعرعوا في المدينة ، فهو ليس بملك هبط من السماء أو عيسى (عليه السلام) الذي حلّ فيه روح القدس ليصبح ابن الله!!!
وقد اعتمد الإمام الأسلوب العلمي في سبيل تهذيب أفكار الأُمّة ، فينفي عن نفسه العلم بالغيب ويقتصر بهذا الأمر على الله تبارك وتعالى . والأمر ليس ببدعة فهو يقتدي بالأُسلوب الذي نهجه القرآن ، الذي يقتصر علم الغيب بذات الله تعالى ، بينما يتوصّل إليه النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال الوحي ، والإمام من خلال تعليم الرسول له إلى جانب الإلهامات الربانيّة والفيوضات الرحمانية التي توصله إليه .
ولا يستبعد أن يكون الإمام قد استهلّ كلماته بنفي علم الغيب الذاتي تقيّة ، في حين أوكل الحديث عن علمه بالغيب العرضي إلى مجلسه الذي يضمّ خواصّه وحملة أسراره ، فقد كشف لهم النقاب عن مدى علمه وقدرته ، ثمّ يسند ذلك لعلمه بالكتاب ، ومن المفروغ منه أنّ العلم بالكتاب لا يتسنّى دون المعلّم .
(الصفحة182)
وبناءً على هذا التعليم والتعلّم من مصادر الغيب قد بلغ الإمام تلك الذروة من السموّ والكمال ، وعليه فليس هنالك من تناقض بين صدر الرواية وذيلها .
روايتان :
1 ـ قال جابر: قال الإمام الباقر (عليه السلام) : ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء(1) .
2 ـ قال عبدالأعلى مولى آل سام: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: «والله إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره ، كأنّه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن . قال الله عزّوجل: «فيه تبيان كلّ شيء(2)»(3) .
ملاحظة :
لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن بأنّ القرآن المتداول غير ذلك القرآن الذي كان آنذاك بيد الأئـمّة (عليهم السلام) ، وأنّ الروايات تؤيّد مسألة التحريف ، بل المقصود هذا القرآن مع كافّة التفسيرات والتأويلات والأسرار والمكنونات ، وقد كان ذلك القرآن الذي بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فالروايتان تُشيران إلى مطلبين ، هما:
1 ـ معنى أنّ علم الكتاب عند الأئمّة ، هو أنّ الأئـمّة (عليهم السلام) محيطون بالكتاب السماوي بجميع ما ينطوي عليه من حقائق وتأويل وتفسير .
2 ـ ما تتناقله الألسن وتؤيّده الروايات من أنّ الإمام عالم بما كان وما يكون ،
(1) الكافي 1: 228 ح2 .
(2) اقتباس من سورة النحل: الآية: 89 .
(3) الكافي 1: 229 ح4 .
(الصفحة183)
إنّما يعني أنّ الكتاب الذي يعتمده الأئـمّة (عليهم السلام) ينطوي على كافّة الحوادث الماضية والآتية وجميع الحقائق ، وأنّ علم الأئـمّة إنّما يستند في بعض عناصره إلى الإحاطة بهذا القرآن المفصّل .
تكرار وتذكير :
لقد تعرّفنا من خلال الأبحاث التي أوردناها في الروايات والآيات على علم الإمام (عليه السلام) ، ولعلّ تكرار الدليل ـ بصفته فهرسة للأُمور المذكورة سابقاًـ يمكنه أن يوضّح الجوانب العلمية للإمام بصورة أفضل . وإليك هذه الأدلّة:
الدليل الأوّل :
الدليل الأوّل على علم الإمام وإحاطته بالمغيّبات هو أنّ الزعيم الإسلامي ـ الإمام ـ هو الفرد الذي يستند إلى الغيب في زعامته ، فلابدّ أن تكون هناك صلة مباشرة له بمكنونات العالم وخفاياه وإفاضة الحقائق عليه ، فإن كان الزعيم هو النبيّ فالإفاضة بواسطة الوحي ، وإن كان الزعيم هو الإمام فبتعليم النبي أو الطرق الاُخرى كالإلهام والعلم بتفصيلات الكتاب السماوي ، والذي سيأتي بيانه قريباً . ويمكن الاستشهاد ببعض الآيات لإثبات هذا الأمر:
1 ـ {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}(1) .
2 ـ {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(2) .
3 ـ {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(3) .
(1) سورة النساء : الآية 105 .
(2) سورة يوسف : الآية 101 .
(3) سورة البقرة : الآية 251 .
(الصفحة184)
4 ـ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الْصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(1) .
لقد أفادت هذه الآيات أنّ الزعيم هو صاحب الملك المصطفى من الله والذي يحظى بعنايته الخاصّة وإرشاده وتوجيهه من أجل الإحاطة والعلم بالمغيّبات ، وحيث ثبت في محلّه أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زُعماء الأُمّة إلى الأبد ، فلابدّ من الإذعان بأنّهم مشمولون بلطف الله وفضله ; ليتمكّنوا بزعامتهم من الأخذ بيد الناس إلى السعادة والفلاح ، ويزيلوا بقدرتهم العلمية ما يعترض سبيلهم من مشاكل وصعوبات وأزمات .
الدليل الثاني:
دلّ القرآن الكريم على أنّ زعماء الدين المنصّبون يسلكون الصراط المستقيم ويهدون إليه {أَفَمَنْ يَهدِى . . .} وأنّهم يهدون إلى الواقع الذي لا يتسلّل إليه الخطأ والزلل ، وأنّ استهلال الآية الكريمة بالاستفهام هو تقرير واضح بأنّ هداية هؤلاء الزعماء مطابقة للواقع وتامّة كاملة لا يشوبها الخطأ ، واستنتجنا أنّ من لوازم الهداية الواقعية الصائبة استناد الزعماء إلى العلم الغيبي والإحاطة بالحوادث الخفيّة المحجوبة عن أنظار الناس ، وعليه : فالأئـمّة الأطهار زعماء كِرام من وجهة نظر القرآن ، والصواب ما يقولونه وليس للخطأ من سبيل إلى زعامتهم ، ولمـّا كانت زعامتهم أبديّة فإنّهم مطّلعون على جميع الأحداث إلى الأبد .
وعلى ضوء ذلك بحثنا رواية الإمام الباقر (عليه السلام) ـ التي قال فيها: «الإمام يسمع الصوت ولا يرى ولايعاين الملك»(2) ـ التي تفيد استناد الإمام إلى الغيب في زعامته .
(1) سورة الأنبياء : الآية 73 .
(2) تقدمت في ص 167 .
(الصفحة185)
الدليل الثالث :
ويدور حول محور الاستنباط القرآني أيضاً ، حيث يفيد القرآن وجود صفوة مجتباة من الناس تتمتّع برؤية وبصيرة ثاقبة لآفاق العلم ، وأنّ الله قد أفاض عليهم من فضله ورحمته ما نوّر به قلوبهم ، بحيث خرقوا الحُجب وأحاطوا بجميع الأحداث والأسرار .
وكانت أهمّ آية طالعتنا في هذا الفصل هي الآية الأخيرة من سورة الحجّ {لِيَكُونَ الْرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الْنَّاسِ}(1) فقد كانت هذه الآية إلى جانب القرائن الثلاث القطعية صريحة في أنّ الُمخاطب بها صفوة من أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) أبناء إبراهيم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) وقد مرّ شرح ذلك . فالآية تفيد إبلاغ الوحي للنبي بآفاق الغيب ، وهو ينقلها بدوره إلى الأئـمّة بما لا يدع مجالا للشكّ بعلمهم بأعمال الخلائق والإدلاء بالشهادة عليهم في محكمة العدل الإلهي .
وقد تعرّضنا(2) لرواية الإمام الباقر (عليه السلام) التي تناولت الآية الشريفة ، والرواية سالمة السند ولا بأس بذكر رجالها: علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عُمير ، عن ابن أذينة ، عن بريد العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) . . . فالرواية موثوقة السند والرواة من الثقات ، ونوكل الخوض في التفاصيل ـ الخارجة عن بحث الكتاب ـ إلى اُصول الكافي باب «إنّ الأئـمّة شُهداء على خلقه» .
فقد جاء في الرواية: قلت قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} ، قال: إيّانا عنى ونحن المجتبون {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} إيّانا عنى خاصّة و {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} الله سمّانا المسلمين {مِن قَبْلُ} في الكتب التي مضت {وَفِى هَذَا}
(1) سورة الحجّ، الآية: 78 .
(2) في ص 168 .
(الصفحة186)
القرآن {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(1) فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهيد علينا بما بلّغنا عن الله تبارك وتعالى ، ونحن الشُهداء على الناس ، فمن صدّق يوم القيامة صدّقناه ، ومن كذّب كذّبناه (2).
فالأئـمة (عليهم السلام) على رؤية واسعة وبصيرة ثاقبة بحيث لا تخفى عليهم خافية من أعمال الناس ، وما هذه إلاّ عناية ورحمة إلهية .
واستناداً لما تقدّم يمكن الجزم بأنّ الأئـمّة (عليهم السلام) عالمون بالغيب ، محيطون بخفايا الحوادث ، بصيرون بشؤون الأُمّة ، وهذا ما يستشفّ بوضوح من دلالة الآية ولا سيّما من خلال تأييدها بقول الإمام .
أمّا الآية الأُخرى التي تدلّ على أنّ هذه الصفوة مشمولة بلطف الله وعنايته فهي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(3) .
لقد مررنا سابقاً مرور الكِرام على هذه الآية ، وهي تكشف بعمق عن مدى عظمة الإمام ، بحيث خشينا من كثرة الاستعراض فيها أن نكون في زمرة «فمنهم ظالم لنفسه» .
دراسة الآية :
سبقت هذه الآية بقوله سبحانه: {وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(4) . نفهم من الآية أنّ المُراد بالكتاب هو «القرآن» ; لأنّ
(1) سورة الحجّ: الآية 78 .
(2) الكافي 1: 191 ح 4 .
(3) سورة فاطر: الآية 32 .
(4) سورة فاطر : الآيتان 31 ـ 32 .
(الصفحة187)
الخطاب للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والكتاب الذي أوحي إليه هو القرآن ، ثمّ شرعت الآية الثانية بقوله : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} ، فالكتاب هو القرآن ، والتعريف إشارة إلى ذلك الكتاب العزيز ، ثمّ حرف عطف يفيد التراخي وظهور الثاني بعد الأوّل ، فالمعنى ثمّ أودعنا القرآن تلك الطائفة المصطفاة من العباد ، وبناءً على هذا فإنّ وارثي الكتاب وحافظي الوحي السماوي هم صفوة مختارة من عباد الله .
عباد ، أم صفوة مصطفاة من العباد ؟
هل أودع الكتاب صفوة مصطفاة من العباد ، أم كافّة العباد؟ بعبارة اُخرى: هل الكتاب إرث عامّ تتولّى جميع الأُمّة مسؤولية حفظه وتطبيق تعاليمه وأحكامه فهو وديعة عامّة ، أم تقتصر هذه الوظيفة والمسؤولية على صفوة خاصّة مصطفاة من بين خلّص العِباد؟ ما الذي نفهمه من قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}؟ لا نشكّ أنّ هذه الوظيفة الخطيرة إنّما ينهض بها المصطفون ; لأنّ الآية تفيد نقل الكتاب إلى نخبة من العباد لا جميعهم .
مَنْ هُم المصطفون من العباد ؟
ذكرنا سابقاً أنّ {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هم صفوة مختارة من بين العباد لإخلاصهم وتسليمهم وعبوديتهم المحضة لله وخلوّهم من كلّ عيب ونقص ، وقلنا في حينه: إنّ هذه الصفوة هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) . ولا يسعنا إلاّ أن نذكر دليلا واضحاً في إثبات هذا الأمر بغية طمأنة الآخرين .
الدليل الدامغ :
تبيّن ممّا أوردناه بشأن الآية 32 و33 من سورة آل عمران {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
(الصفحة188)
آدَمَ وَنُوحَاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} أ نّ الذي يكون على رأس سلسلة آل إبراهيم في آخر الزمان من التأريخ البشري هو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن بعده الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فالآية كاشفة عن الصفوة المختارة «المصطَفين» ولابدّ من القول على ضوء هذا المصداق: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أنّها لا تعني سوى أئـمّة الدين ، وأنّ هذه الآية هي المفسّرة والحاكمة علمياً على الآية التي نحن بصددها ، أي أنّها تفصح عن أنّ مصداق {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) . وهنا لابدّ من التأكيد على أنّها خاصّة في الأئـمّة (عليهم السلام) فقط ; لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن كان من ذرّية آل إبراهيم ، إلاّ أنّ الآية 30 قد حدّدت وضعه ، والآية اللاحقة تعيّن الصفوة المختارة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) .
سؤال:
إذا كان الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فما مناسبة اختتام الآية بقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي أنّ بعض هؤلاء المصطفين ظلمة ، فهل يظلم الأئـمّة أنفسهم؟
جواب:
الضمير في «منهم» يعود إلى العباد لا إلى المصطفين ، ويؤيّده كلام المحقّق الطوسي في تفسيره للآية في إطار إثباته لرجوع الضمير «منهم» إلى العباد ، حيث قال: «لأنّ من اصطفاه الله لا يكون ظالماً لنفسه» (1)، إذن فهل من الممكن فرض كون المصطفين ظالمين لأنفسهم؟(2) .
(1) تفسير التبيان 8: 394.
(2) قد تبدو كلمة «عبادنا» واسعة تشمل كافّة عباد الحق تعالى ، إلاّ أنّ إضافة العباد إلى ضمير الجمع «نا» تفيد خصوصية معيّنة: «عبادنا» ، فلا يستبعد القول بأنّها طائفة واسعة من أهل الرسالة والتي تستوعب «أهل البيت» ، ومن ينكر ذلك فلا يسعه أن ينكر روايتين بل عدّة روايات بهذا الشأن . فمعنى الآية بتفسير الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) : أورثنا الكتاب صفوة من عبادنا من أهل البيت ، إلاّ أنّ أهل البيت على ثلاث طوائف: طائفة تظلم نفسها وهي التي تتجاهل نسبها وتقلّد نخبتها من هذه الطائفة ، فهذه لا تكون من الأئمّة الأطهار ، وطائفة معتدلة ، وثالثة سابقة بالخيرات هادية في حركتها وهي تلك النخبة .
هذا هو المراد من الآية بالاستناد إلى الأحاديث المُعتبرة ، ولكن نظرة اُخرى إلى القرآن تفيد أنّ الآية الكريمة دراسة لجماعة واسعة باسم «عبادنا» وهم أهل البيت ، وأنّ الكتاب ورّث فيهم ، وهم على طائفتين: 1ـ النخبة 2ـ سائر الطائفة ، فالنخبة هُم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وجميع بني هاشم هم سائر الطائفة ، فهم قد يظلمون أنفسهم ولكن ليس على الدوام والشاهد هو الآية اللاحقة {جَنَّاتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
وعلى فرض أنّ هذا الكلام خلاف ظاهر الآية وأنّ كلمة «عبادنا» تشمل جميع المسلمين ، لكن مع هذا الفرض وهو أنّ «المصطفين من عبادنا» ليس سوى أهل بيت الرسالة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وقد لاحظتم شرح ذلك ، حيث كان الاستدلال مبتنياً على كلمة «المصطَفين من العباد» لا كلمة عبادنا .
(الصفحة189)
إذن ، فالمقصود «بالعباد» جماعة أشمل وأوسع من أهل البيت ، لا المصطفين من أهل البيت ، ويؤيّد ذلك عدّة روايات .
وارث الكتاب الكريم :
أئـمّة الدين هم وارثو الكتاب ، وأئـمّة الإسلام هم صفوة العباد ، المبرّأون من كلّ عيب ونقص ودنس ، الذين خصّهم الله بعنايته ولطفه ، فأودعهم القرآن بأسراره ومكنوناته وخفيّاته ، إلى جانب تعليمهم من قبل ربيب الوحي النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، فهم يرون الحقائق كما يراها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقد أفاض عليهم نوره ، فهو معلّم أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي علّمه ألف باب من العلم ، فكان (عليه السلام) هو الأُذن الواعية التي لا يعزب عنها شيء حتّى قال فيه: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ»(1) .
(1) نهج البلاغة لمحمّد عبده : 437 .
(الصفحة190)
الآية الأُخرى التي كشفت عن علم الإمام بالغيب هي: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) .
كيف يعلم الجميع ؟!
كيف يعلم جميع المسلمين بسيرة المنافقين أو خفايا بعض الناس؟ الله عالم الغيب والشهادة والذي يكشف الأعمال ويريها من يقوم بها فيضعها نصب أعينهم ، فالأعمال التي تصدر من الناس ـ وعلى ضوء ذيل الآية ـ لابدّ أن تكون الأعمال والأفعال الخفيّة ، إلاّ أنّنا نعلم أنّه لا يمكن للجميع الإطّلاع على هذه الخفايا ، وهنا لابدّ من القول بوجود عدّة معدودة من المؤمنين ـ مضافاً إلى الله ورسوله ـ تمتلك رؤية ثاقبة تجعلها تخترق الحُجب وتطّلع على الخفاء ، فلابدّ أن نعرف من هي هذه العدّة المعدودة من المؤمنين؟
قال المحقّق الطوسي في تفسيره التبيان: هؤلاء هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وقد جاء في الخبر أنّ أعمال الاُمّة تعرض كلّ يوم اثنين وخميس على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة (عليهم السلام) (2)، وهذا ما أشار إليه الإمام الرضا (عليه السلام) لابن الزيّات (3).
إذن ، فالآية الكريمة ترى للأئمة رؤية ثاقبة كالتي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي تمكّنهم من الإحاطة بالخفيات . وأدنى تأمّل في صدر الآية وذيلها يقود إلى أنّ تلك العدّة المعيّنة من المؤمنين عالمة بالغيب والشهادة أيضاً ، فقد ورد لفظ الجلالة في أوّل الآية دون قيد ثمّ أردف بالرسول ، وهؤلاء المؤمنين في طول لفظ الجلالة في الاطّلاع على
(1) سورة التوبة: الآية 105 .
(2) تفسير التبيان: 5 / 295 .
(3) تقدّم في ص 173 .
(الصفحة191)
خفايا الناس ، أمّا ذيل الآية فقد ورد لفظ الجلالة متّصفاً بعالم الغيب والشهادة ، وهذا العالم هو الله الذي ذكر في صدر الآية ، وعليه : فكما أنّ الله عالم الغيب فإنّ رسول الله وبعناية الحقّ سبحانه في طول هذه المزية الإلهية الذاتية ـ لأنّها وردت في طول الله في الآية ـ يتمتّع بإفاضة علم الغيب عليه ، وليست هنالك من الأعمال مايخفى عليه ، ثمّ كان المؤمنون في طول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، الأئـمّة الأطهار الذين يطّلعون الخفاء بلطف الله فيقفون على أعمال العِباد ، والله أعلم .
الشواهد الحيّة !!!
هل يمكن أن نحصر علم الأئـمّة في دائرة أحكام وتعاليم القرآن رغم هذه الشواهد الحيّة والدلالات القرآنية بعلمهم المطلق وإحاطتهم بالخفايا والأسرار ، فلا نراهم أبعد شأناً من المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن؟! أم لابدّ أن نذعن إلى سعة علمهم وإحاطتهم بكافّة الحوادث ; لأنّ الزمان والمكان ليس من شأنهما أن يكونا حجاباً يحول دون رؤيتهم لباطن الاُمور ، وهل يصعب على هؤلاء الزعماء الخالدين المطهّرين من الرجس والدنس والعلماء بالكتاب والشهداء على أعمال العباد وحفظة القرآن وأمناء الوحي ، أن يتكهّنوا بالحوادث والوقائع التي تهدّد بالخطر كيان الإسلام والمسلمين؟ وهل كان الإمام الحسين (عليه السلام) المظلوم الذي هبّ للدفاع عن الرسالة غافلا عمّا ستؤول إليه الاُمور في كربلاء ، ولم يكن يمتلك رؤية واضحة لحركته وانطلاقته التأريخية من المدينة إلى كربلاء! لا ننوي الإجابة على هذه الأسئلة ونترك ذلك للإخوة القرّاء الأعزّاء ، ليتحفونا بجوابهم على ضوء ما واكبناه من أحداث سابقة .
طرق الأئمّة (عليهم السلام) في الحصول على العلم :
لقد اتّضح من الأبحاث السابقة أنّ الإمام عالم بالغيب ، وأنّه يستمد علمه
(الصفحة192)
الغيبي من خلال المدد الإلهي الذي يدعى بالإفاضة الرحمانية ، كما اتّضح لدينا أيضاً أنّ الزعامة الدائمة الهادية إلى الصراط المستقيم لا يمكنها أن تكون غير محيطة بالحوادث والوقائع التي يواجهها المسلمون والإسلام طيلة التأريخ ، وذلك لأنّها إذا كانت جاهلة بهذه الحوادث فإنّها ستشقّ عصا المسلمين وتفرّق صفوفهم وتعرّض الكيان الإسلامي للتصدّع والانهيار ، وتحيل القرآن الكريم ـ هذا الكتاب الذي يتضمّن سعادة الاُمم والشعوب على مرّ العصور ـ إلى كتاب لا يبقى منه سوى شكله ورسمه ، بينما وعد الحقّ بخلود هذا الكتاب العزيز وأنّه محفوظ حتّى عن سقوط أحد حروفه ، فكيف يتعامل أئـمّة الدين وزعماء المسلمين مع الأحداث بما يقود إلى تلك النتيجة المؤسفة! أو لا يتعرّض الإسلام إلى الإبادة والزوال من قِبل الأعداء الذين يتربّصون به الدوائر ، والذين لا يرقبون في المسلمين إلاًّ ولا ذِمَّة؟
لاشكّ أنّ هذا السقوط والزوال حتمي وتصدّع القرآن قطعي لو لم يكن الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمين بحوادث الدهر ، في حين قطع القرآن على نفسه قضية بقائه وديمومته {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) ، وبشّر من جانب آخر بانتصار حكومة العدل الإلهي التي ستنشر قيم العدل والفضيلة في كافّة أرجاء المعمورة ، فقال عزّ من قائل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(2) .
وهنا يُطالعنا هذا السؤال: إذا كانت زعامة الأُمّة من قِبل هؤلاء الأئـمّة الذين لهم مثل هذا العلم والدراية وأنّهم يبلغون بالاُمّة كمالها المنشود ، فكيف يتّجه الإسلام نحو الضعف والاُفول؟ وقد قال القرآن {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الاَْرْضِ} أو يدبّ الضعف في صفوف المسلمين في ظلّ زعامة اُولئك الأئـمّة؟ وناهيك عمّا
(1) سورة الحجر : الآية 9 .
(2) سورة القصص : الآية 5 .
(الصفحة193)
تقدّم ; فإنّ الله هو الذي أنزل القرآن وتكفّل بحفظه ، فهو لن يصبح كتاباً عادياً أبداً؟
ونقول في الجواب: إنّ الإسلام لا يتّجه إلى الضعف والاُفول لو كان الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم الذين ينهضون بالأمر ،فهم عالمون بصيرون ،وهدايتهم ـ لو امتثلت ـ فسوف تؤدّي إلى قوّة شوكة الإسلام والمسلمين ، غير أنّ الخطّة التي رسمها القرآن الحكيم لم تطبَّق ، وانحطاط المسلمين كان نتيجة طبيعية لتنحية أولئك الزعماء ، وهذا ما أرادت أن تُشير إليه الآية في أنّ هذا الضعف ناشئ عن إقصاء الأئـمّة ، وأنّ الإسلام سيستعيد قوّته مستقبلا ، وهذا لا يتسنّى إلاّ في ظلّ حكومة أتقياء الدهر وعلى رأسهم إمام العصر والزمان ـ أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء ـ الذي سيبعث الحياة من جديد حين تكون السيادة في حكومته للقرآن وتعاليمه الحقّة ، ستكون الدنيا آنذاك متعطّشة لحكومة العدل القرآني ، والتفاصيل في المجلّد الثاني .
أمير المؤمنين (عليه السلام) والآية الكريمة :
قال علي (عليه السلام) «لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها» ، وتلا عقب ذلك {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ . . .} (1).
لقد أبان الإمام بهذه العبارة منزلة الإمام ، كما أفصح عن دافع ظهور حكومة العدل القرآني ، في حين اتّضحت دلالة الآية في حلول اليوم الذي سيشهد حاكمية الإسلام بزعامة الإمام .
ما أشقى الاُمّة حين ولّت ظهرها لهذه الصفوة وأبعدتها عن الزعامة! ولكن سوف لن يكون بوسعها إقصاء مُعزّها الذي سيأخذ بيدها ويفيض عليها بركات الدنيا والآخرة حين تعلن وفاءها ووقوفها إلى جانبه .
نعم ، انحطاط المسلمين كان معلولا لعدم انصياعهم لزعامة أولياء الله من تلك
(1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 704 حكم 210 .
(الصفحة194)
الصفوة ، لا إلى عدم العلم بحوادث التأريخ . وكأنّ السائل أراد بالسؤال أن يشير إلى علّة الضعف التي أفرزتها افتقار الزعامة لمقوّماتها وشرائطها .
وعوداً على بدء فقد اتّضح أيضاً أنّ الإمام بصفته الزعيم الأبدي ، عالم بكافّة الوقائع والحقائق والأسرار والسير نحو الجمال والكمال .
وهنا لابدّ من الإذعان بأنّ بصيرتهم هي عين الواقع التي تأبى الخطأ والانحراف ، فقد شعّت أنوار قلوبهم بالله {نُورُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ} الذي لم يجعل للظلمة من سبيل إلى قلوبهم ، فقد طهرت حتّى لم تتمكّن هذه الحُجب من الوقوف بوجهها .
واتّضح أيضاً بأنّ الإمام طالما كان الحاكم الإسلامي والزعيم المطلق ; فإنّ حكومته متقوّمة بالغيب الذي يشمل حتّى الحوادث الشخصية البسيطة ، كما تبيّن أنّ الكتاب السماوي ـ القرآن ـ قد استودعه الله الأئـمّة {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} .
وقد تكفّل القرآن ببيان أنّ المراد من هذا الإرث هو استنارة قلوب الأئـمّة بنور القرآن: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الِكَتابِ}(1) ، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) : «وعندنا والله علم الكتاب كلّه»(2) ، كما فهمنا أنّ آصف بن برخيا بنصّ الآية الكريمة قد أوتي بعض العلم بالكتاب ، فانطوى على تلك القدرة والقوّة العلمية ، فما بالك بمن اُوتي العلم بالكتاب كلّه! في حين لا زال البعض يعيش القلق الفكري ويتساءل: هل يتجاوز علم الإمام حدّ استنباط آيات الأحكام؟
وأخيراً وقفنا على إحاطتهم بأعمال العباد ، وأنّه لا يعزب عن علمهم مثقال ذرّة من تلك الأفعال ، وأنّهم الشهداء على الناس يوم القيامة في محكمة العدل «فمن
(1) سورة الرعد: الآية 43 .
(2) الكافي 1: 229 باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة ، وأنّهم يعلمون علمه كلّه ح5 .
(الصفحة195)
صدّق صدّقناه يوم القيامة ، ومن كذّب كذّبناه يوم القيامة»(1) ، فإذا أنكر منكر عمله ، نادوه: صه فقد كنّا مطّلعين على عملك ، كما علمنا بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربيب الوحي قد أفاض عليهم علومه مضافاً إلى ما خصّهم الله به من عنايته وفضله وأفاض عليهم من لطفه ورحمته .
كانت هذه نماذج من علم الإمام ، والقرآن هو الشاهد على هذه العلوم ، ولنا الآن أن نلتمس سبل هذه العلوم دون اللجوء إلى أقوال تلامذة الوحي ، فما مصدر علم الإمام؟
المعلّم الأوّل :
لقد ذكرنا خلال الأبحاث السابقة أنّ النبيّ أو الإمام لا يدرك جميع الأشياء بنبوّته أو إمامته ، بل هم لا يستغنون في كلّ آن عن الفيض الإلهي ، فالنبوّة والإمامة لا تجعله بمجرّدها عالماً بكلّ شيء .
إذن ، فهذا العلم الجمّ الذي يملكه الإمام لابدّ أن يكون قد تعلّمه في مدرسة ، وقد مرّ علينا أنّ الإفاضة هي وسيلة الإمام في علمه ، فالله هو الذي يفيض ويتلطّف بأئمة الدين زعماء المسلمين ، وقد قلنا بأنّه يحكم بما يريه الله {لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}(2) ، وأنّهم بعناية الله صفوة عابدة مخلصة عالمة بالكتاب {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا . . .}(3) ، وبيّنا أيضاً بأنّ يوسف كان مُنَصَّباً من قِبَل الله رغم نهوضه بأمر دون الزعامة العامّة ، وأنّه معلَّم منه: {وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ}(4) .
(1) الكافي 1: 190 باب أنّ الأئمّة شهداء الله عزّوجلّ على خلقه ح2 .
(2) سورة النساء: الآية 105 .
(3) سورة فاطر: الآية 32 .
(4) سورة يوسف: الآية 101 .
(الصفحة196)
والذي نريد أن نخلص إليه هو أنّ المعلّم الأوّل للإمام هو العليم المطلق ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وتسليمه وانقياده المطلق للحقّ ، فيحظى بالعناية الإلهية و الفضل الربّاني ليتغلّب على ما يعترضه في مسيرته من حوادث وأحداث .
المعلّم الثاني:
المعلّم الثاني للإمام هورسول الله (صلى الله عليه وآله) ،فقدقلناسابقاًبأنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل كانت لأجل ظهورصفوة صالحة في ذرّيّتهم تتربّى في مدرسة الرسالة ، وكانت نتيجة الدعوة أن تولّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشخصه تعليم علي (عليه السلام) وتربيته منذ نعومة أظفاره . وقد صرّحت بذلك آيات سورة البقرة {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبرَاهِيمُ . . . .} (1). وهو ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) استناداً إلى الآية ، فقال: «لم يعلّم الله محمّداً (صلى الله عليه وآله) علماً إلاّ وأمره أن يعلّمه علياً (عليه السلام) »(2) . وبناءً على ما تقدّم فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو المعلّم الثاني للإمام .
الإمام الصادق (عليه السلام) وعلم الإمام:
سأل الحارث بن المغيرة الإمام الصادق (عليه السلام) عن مصدر علم الإمام ، فأجاب (عليه السلام) : «وراثة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن عليّ (عليه السلام) » . فقال الحارث: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم (صلى الله عليه وآله) ، قال (عليه السلام) : «أو ذاك»(3) .
أي أنّ الإمام ملهم وتلميذ مدرسة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) ، وقد مرّ(4) علينا قول الباقر (عليه السلام) أنّ الإمام يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك»(5) .
(1) سورة البقرة: الآية 127 .
(2) الكافي 1: 263 باب أنّ الله عزّوجلّ لم يعلّم نبيّه علماً إلاّ أمره . . . ح1 .
(3) الكافي 1: 264 باب جهات علوم الأئمّة (عليهم السلام) ح2 .
(4) في ص 167 .
(5) الكافي 1: 176 باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدّث ، ح1 .
(الصفحة197)
القرآن وعلم الإمام (عليه السلام) :
أمّا أفضل طرق علم الإمام فالقرآن الكريم ، وقلنا: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكلّف بتعليم أئـمّة الإسلام ، وبالطبع فقد اقتصر هذا التعليم المباشر على أمير المؤمنين (عليه السلام) ، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ القرآن الذي جمعه الإمام (عليه السلام) لم يقتصر على الكتاب المُنزل ، بل ضمّ إليه جميع الأسرار القرآنية والتفسير والتأويل وأسباب النزول وكافّة الأحكام ، فقد كان علي (عليه السلام) يسطّر ما يتلو عليه النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأنّ هذا القرآن كانت تتناقله الأئـمّة دون أن تصل إليه يد الآخرين ، وهو الآن بيد قائم آلم محمّد (صلى الله عليه وآله) إمام العصر والزمان .
ومن هنا تتبيّن أهمّية وعظمة هذا الكتاب الذي انطوى على جميع الحقائق والأحكام وأسرار القرآن ـ الأعم من التأويل والتنزيل ـ والذي أملاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم تصل إليه يد عامّة الأُمّة ، وكيف أنّه يتجاوز المكنونات والمجهولات ؟!
هذه نبذة من الطرق التي تكشف عن علم الإمام وإحاطته بالمجاهيل ، ومن أراد المزيد فليراجع كتاب أصول الكافي لثقة الإسلام الكليني ، أو كتب عُلماء الكلام بهذا المجال ليقف من خلال الأحاديث والأخبار على مصادر علم الإمام (عليه السلام) .
أسئلة وأجوبة :
طرحت عدّة أسئلة في المباحث السابقة من قبيل :
1 ـ هل للإمام (عليه السلام) علم بالغيب أم لا؟
الجواب: نعم ، هو عالم بالغيب ، ولكن من خلال الوحي أو الإلهام أو شرح الله لصدرهم بما يزيل عنهم الحُجب فينظرون إلى حقائق الأشياء ، وهذا العلم الجمّ من
(الصفحة198)
لوازم الزعامة الخالدة ، ولابدّ للحاكم الإسلامي من الإستناد إلى الغيب في حكومته .
2 ـ هل مجرّد بلوغ النبوّة أو الإمامة يجعلهم يدركون الغيب؟
الجواب : كلاّ ، فانّ مجرّد الإمامة لا تستلزم هذا الأمر ، فهم مقيّدون لا يعلمون دون عناية الحقّ ولطفه ، إلاّ أنّ سنّة الله جرت في أنّ أئـمّة الإسلام أن يحيطوا بكافّة الأسرار بفضل الإفاضة الرحمانية .
3 ـ هل تنحصر علوم زعماء الدين وأئـمّة المسلمين في إطار القرآن وأحكام الإسلام دون الحوادث الواقعة ومصير المسلمين ومستقبل الإسلام؟
الجواب : أفادت الدراسات والأبحاث السابقة أنّ علم الإمام لا ينحصر بالقرآن وأحكام الإسلام ، ولابدّ أن يحيط الزعيم بالحوادث ولاسيّما تلك المرتبطة بكيان الإسلام والمجتمع الإسلامي .
4 ـ هل الأئـمّة (عليهم السلام) عالمون بما كان وما يكون؟
الجواب : أشرنا باختصار إلى هذا الأمر ، وقد أوضحته الروايات التي صرّحت بأنّ عندهم المصحف بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والذي يحتوي على جميع الحقائق والأسرار واُمور التأويل والتنزيل كما ورد في القرآن الكريم: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْء}(1) فلابدّ من الإذعان بأنّهم عالمون بما كان وما يكون . ولا نرى المقام يسع للخوض في بيان المقصود بما كان وما يكون .
5 ـ هل علم الإمام (عليه السلام) بالأشياء حضوريّ ، أم حصولي؟
الجواب : لا نرى من جدوى في إطالة الكلام بهذا الشأن رغم إصرار البعض في مؤلّفاتهم على أنّ علم الإمام حضوري ، فما عند الإمام من العلم هو الإفاضة والعناية ،ومايهمّناهوالتأكّدمن علمه مهماكانت كيفيّته ما لم يستلزم أمراً غير معقول .
(1) سورة النحل : الآية 89 .
(الصفحة199)
العلم الشائي :
هذا اصطلاح أورده علماء الكلام في أنّ الإمام (عليه السلام) عالم بكلّ شيء ولكن بالعلم الشائي ، أي متى شاء علم وإلاّ فلا . وبعبارة اُخرى : فإنّ عنان العلم بيد الإمام بمجرّد أن يريد العلم يعلمه .
ولا ندري من أين لعلماء الكلام هذا الاعتقاد ، وكيف يستدلّون عليه؟ فإن كان الدليل الأخبار ، فإنّنا تتبّعنا الأخبار التي اعتبرت العلم متوقّفاً على المشيئة ، فإذا هي ثلاثة أخبار في اُصول الكافي ـ التي تهتمّ بمثل هذه الأحاديث والأخبار ـ وهي لا تنفع المتكلّمين بهذا الشأن .
إيضاح :
هنالك أمران ينبغي توفّرهما من أجل صحّة الاحتجاج والاستدلال بأيّة رواية ، وهما:
1 ـ الوثوق بصدور الرواية عن الإمام (عليه السلام) .
2 ـ دلالة نصّ الحديث على المُراد بصورة واضحة ولو من بعض القرائن .
وممّا يؤسف له أنّ الروايات الواردة بهذا الشأن في باب «أنّ الأئـمّة عليهم السلام إذا شاؤوا أن يعلموا علموا» ليست أكثر من ثلاث ، وهي تفتقر إلى السند وإلى الدلالة التي قال بها بعض المتكلّمين ، بل يمكن القول بأنّها روايتان ; لأنّ رجال السند بعد ابن مسكان متحد في روايتين ، وينتهي السند إلى أبي ربيع الشامي الذي روى عن الصادق (عليه السلام) .
عبارة الرواية الأُولى: «إنّ الإمام إذا شاء أن يعلم علم»(1) بينما عبارة الرواية
(1) الكافي 1: 258 ح1 .
(الصفحة200)
الثانية التي متحدّ في السند مع الأُولى «إنّ الإمام إذا شاء أن يعلم أُعلم»(1) وعبارة الرواية الثالثة «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك»(2) .
وبالتمعّن في نصّ الرواية الثالثة والثانية ترى أنّ كلمة «علم» في الرواية الأُولى بضمّ العين وتشديد اللاّم فهي صيغة مجهولة من باب التفعيل لا بمعنى «يعلم» ، ولذلك فمفادها واحد ، وهو أنّ الإمام (عليه السلام) متى شاء أن يعلم يعلّمه الله ويفيض عليه «أعلمه الله ذلك» .
وعليه : فإن كان مستند هذا البعض من المتكلّمين بالعلم الشائي هذه الرواية ، كان لابدّ من القول بأنّ الروايات الثلاث لا تنطبق على العنوان المذكور في كلام المُتكلّمين ، وإن كانت هناك روايات اُخرى فإنّنا لم نعثر عليها . وبغض النظر عمّا مضى فإنّ سند الرواية ضعيف ، ويمكن القول بأنّ الروايات الثلاث دالّة على أنّ علم الإمام إفاضته ، ومتى غاب عنهم شيء تلطّف الله عليهم وكشفه لهم .
وهنا نأتي إلى اختتام البحث والتحقيق بشأن الإمامة وشرائطها ولا سيّما علم الإمام . وهنا لابدّ من القول بأنّ بحث الإمامة ليس من الأبحاث السهلة ، فمعرفة الإمام تتطلّب رؤية ثاقبة واُفق واسع ، وأنّى للقلوب الملوّثة أن تدرك شأن الإمام ، فقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) : «إنّ الإمامة أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم»(3) .
(1) الكافي 1: 258 ح2 .
(2) الكافي 1: 258 ح3 .
(3) الكافي 1: 199 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح1 .
|